المجموع : 155
أينَ منْ عَينيَّ هاتيكَ المجالي
أينَ منْ عَينيَّ هاتيكَ المجالي / يا عروسَ البحرِ يا حُلْمَ الخيالِ
أينَ عُشاقُك سُمَّار الليَالي / أينَ من واديكِ يا مهدَ الجمالِ
موكبُ الغيدِ وعيدُ الكرنفالِ / وَسُرَى الجُنْدولِ في عرض القنالِ
بين كأسٍ يتشهى الكرمُ خمرَهْ /
وحبيبٍ يتمنَّى الكأسُ ثَغْرَهْ /
إلتقتْ عيني بهِ أوَّلَ مرَّهْ /
فعرفتُ الحبَّ من أوَّلِ نظرَهْ /
أينَ منْ عَينيَّ هاتيكَ المجالي / يا عروسَ البحرِ يا حُلْمَ الخيالِ
مرَّ بي مُستضحكاً في قربِ ساقي / يمْزُجُ الراحَ بأقداحٍ رِقاقِ
قد قصدناهُ على غيرِ اتفاقِ / فنَظرنا وابتسمنا للتَّلاقي
وهوَ يَستهدِي على المفْرِقِ زهرَهْ /
ويُسوِّي بيدِ الفتنةِ شَعْرَهْ /
حين مسَّتْ شَفتي أوَّل قطرَهْ /
خِلْتُهُ ذوَّبَ في كأسيَ عِطرَهْ /
أينَ منْ عَينيَّ هاتيكَ المجالي / يا عروسَ البحرِ يا حُلْمَ الخيالِ
ذَهبيُّ الشَّعرِ شَرقيُّ السِّماتِ / مرِحُ الأعْطافِ حلوُ اللَّفتاتِ
كُلَّما قلتُ لهُ خُذْ قالَ هاتِ / يا حبيبَ الرُّوحِ يا أُنسَ الحياةِ
أنا من ضيَّعَ في الأوهامِ عُمْرَهْ /
نسيَ التاريخَ أو أُنسيَ ذِكرَهْ /
غيرَ يومٍ لم يَعُدْ يذكرُ غيرَهْ /
يومَ أنْ قابلته أوَّلَ مرَّهْ /
أينَ منْ عَينيَّ هاتيكَ المجالي / يا عروسَ البحرِ يا حُلْمَ الخيالِ
قالَ من أينَ وأصغى ورَنا / قلتُ من مصرَ غريبٌ ههُنا
قالَ إن كنتَ غريباً فأنا / لم تكنْ فينيسيا لي مَوْطنا
أينَ منِّي الآن أحلامُ البُحَيْرَهْ /
وسماءٌ كَستِ الشطآنَ نضْرَهْ /
منزلي منها على قمةِ صَخْرَهْ /
ذاتِ عينٍ من مَعينِ الماء ثرَّهْ /
أينَ من فارسوفيا تلكَ المَجالي / يا عروسَ البحرِ يا حُلْمَ الخيالِ
قلتُ والنشوةُ تسري في لساني / هاجتِ الذكرى فأينَ الهَرمان
أين وادي السِّحرِ صدَّاحَ المغاني / أين ماءُ النيل أين الضِّفَّتان
آه لو كنتَ معي نختالُ عَبْرَهْ /
بشراعٍ تَسبحُ الأنجمُ إثرَهْ /
حيث يَروي الموجُ في أرخم نَبْرَهْ /
حُلْمَ ليلٍ من ليالي كليوبترَهْ /
أينَ منْ عَينيَّ هاتيكَ المجالي / يا عروسَ البحرِ يا حُلْمَ الخيالِ
أيُّها الملَّاحُ قِفْ بينَ الجسورِ / فتنةِ الدنيا وأحلامِ الدهورِ
صفَّق الموجُ لولدانٍ وحورِ / يُغرقون الليلَ في يَنبوع نورِ
ما ترى الأغيدَ وضَّاء الأسِرَّهْ /
دقَّ بالساق وقد أسلَم صدْرَهْ /
لمحبٍّ لفَّ بالساعد خَصْرَهْ /
ليتَ هذا الليلَ لا يُطْلِعُ فجرَهْ /
أينَ منْ عَينيَّ هاتيكَ المجالي / يا عروسَ البحرِ يا حُلْمَ الخيالِ
رَقَصَ الجُندولُ كالنجم الوضيِّ / فاشْدُ يا ملَّاح بالصوتِ الشجيِّ
وترَنَّمْ بالنشيدِ الوثَنيّ / هذه الليلةُ حُلْمُ العَبقريِّ
شاعتِ الفرحةُ فيها والمسرَّهْ /
وجَلا الحبُّ على العُشّاق سرَّهْ /
يَمنةً مِلْ بي على الماء ويَسرَهْ /
إنَّ للجندول تحت الليل سِحرَهْ /
أين يا فينيسيا تلك المجالي / أين عُشاقُك سُمَّار الليالي
أين من عينيَّ يا مهدَ الجمالِ / موكبُ الغيد وعيدُ الكرنفالِ
يا عروسَ البحرِ يا حُلْمَ الخيالِ /
إذا ما طافَ بالشُّرْ
إذا ما طافَ بالشُّرْ / فَةِ ضوء القمر المضْنَى
ورفَّ عليكِ مثل الحلْ / مِ أو إشراقةِ المعنى
وأنتِ على فراش الطُّهْ / رِ كالزنبقة الوَسْنى
فضمِّي جسمكِ العاري / وصوني ذلك الحُسْنا
أغارُ عليكِ من حسابٍ / كأنَّ لضوئه لحنا
تدقُّ له قلوبُ الحو / رِ أشواقاً إذا غنى
رقيقُ اللمس عربيدٌ / بكلِّ مليحةٍ يُعْنى
جريءٌ إن دعاه الشوْ / قُ أن يقتحمَ الحصنا
تحدَّرَ من وراء الغَي / مِ حينَ رآكِ واستأنى
ومسَّ الأرضَ في رفقٍ / يشقُّ رياضها الغَنَّا
عجبتُ لهُ وما أعجبُ / كيفَ استلَمَ الركنا
وكيفَ تسوَّرَ الشَّوك / وكيفَ تسلَّقَ الغُصْنا
على خديك خمرُ / صبابةٍ أفرغها دنَّا
رحيقٌ من جَنَى الفتْ / نَةِ لا ينضُبُ أو يفْنى
وفي نهديكِ طِلسما / نِ في حَلِّهما افتنَّا
إلى كنزهما المعبو / دِ باتَ يعالجُ الرُّدْنا
أغارُ أغارُ إنْ قبَّ / لَ هذا الثغرَ أو ثَنَّى
ولفَّ النَّهْدَ في لينٍ / وضمَّ الجسدَ اللَّدْنا
فإنَّ لضوئهِ قلباً / وإنَّ لسحره جَفْنا
يصيدُ الموجةَ العذرا / ءَ من أغوارها وَهْنا
وكم من ليلةٍ لمَّا / دعاهُ الشوقُ واستدنى
جثا الجبَّارُ بين يديْ / كِ طفلاً يشتكي الغَبْنا
أرادَ فلم يَنَل ثغراً / ورامَ فلم يُصِبْ حِضنا
حوَتْكِ ذراعهُ رسماً / وأنتِ حويتهِ فنَّا
عصيتِ هواهُ فاستضرى / كأنَّ بصدره جِنَّا
مضى بالنظرةِ الرَّعنا / ءِ يطوي السَّهل والحَزْنا
يثيرُ الليلَ أحقاداً / وصدرَ سحابهِ ضِغنا
وعادَ الطفلُ جبَّاراً / يهزُّ صراعهُ الكوْنا
فَرُدِّي الشرفةَ الحمرا / ءَ دونَ المخدَع الأسنى
وصوني الحسنَ من ثَورَ / ةِ هذا العاشق المُضنى
مخافةَ أنْ يظنَّ النا / سُ في مخدعكِ الظنَّا
فكم أقلقتِ منْ ليلٍ / وكم من قَمَرٍ جُنَّا
هاتفُ الفجر الذي راعَ النجومْ
هاتفُ الفجر الذي راعَ النجومْ /
وأطارَ الليلَ عن آفاقِها /
لم يَزَلْ يُغري بنا بنتَ الكرومْ /
ويُثيرُ الوجدَ في عشاقها /
صَيْدَحٌ جُنَّ غراماً بالسَّحَرْ /
أنطقتْهُ لهفةُ الروحِ المشوقْ /
مَوثِقُ القلب وميعادُ النَّظرْ /
مهرجانُ النُّور في عُرس الشروقْ /
فَرَحُ الجَنَّة في ألحانِهِ /
وصداهُ في السَّحاب العابرِ /
أرسَلَ السِّحْرَ على ألوانِه /
من فَمٍ شادٍ وقلبٍ شاعرِ /
يا لهُ صوتاً من الماضي البعيدْ /
رائعَ الإيقاعِ فتَّان النغمْ /
جدَّدَ الأشواقَ باللحن الجديدْ /
وهو كالدنيا عَريقٌ في القِدَمْ /
كم عيونٍ نفَضَتْ أحلامَها /
حينَ نادى غيرَ حُلمٍ واحدِ /
سلسلتْ فيه المُنى أنغامَها /
وهي تشدو بالرحيقِ الخالدِ /
كلَّما لألأ في الشرق السَّنا /
دقَّتِ البابَ الأكُفُّ الناحلهْ /
أيُّها الخمَّارُ قمْ وافتح لنا /
واسقِنا قبلَ رحيلِ القافلهْ /
خَمرةُ العشاقِ لا زالتْ ولا /
جَفَّ من ينبوعها نهرُ الحياهْ /
نضبتْ في قدَحِ العمرِ الطِّلا /
وهيَ في الأرواح تستهوي الشِّفاهْ /
كم شموسٍ عَبرَتْ هذا الفضاء /
وألوفٍ من بدورٍ ونجومْ /
والثرى بين ربيعٍ وشتاء /
ضاحكُ النَّوَّارِ وهَّاجُ الكرومْ /
كلُّ عنقودٍ دموعٌ جَمَدَتْ /
وقلوبٌ فَنيتْ فيها شعاعا /
ما احتواها الفجرُ إلَّا اتّقَدَتْ /
جمرةً تذكو حنيناً والتياعا /
لو أصابَتْ ريشتيها وثَبتْ /
بجناحين من الشَّوق القديمْ /
فاعذرِ الكأسَ إذا ما اضطربتْ /
حَبَباً يخْفِق في كفِّ النديمْ /
أيها الخالدُ في الدنيا غراما /
أينَ نيْسابورُ والروضُ الأنيقْ /
أين معشوقكَ إبريقا وجاما /
هلْ حَطَمْتَ الكأس أم جفَّ الرحيق /
هذه الكَرمةُ والوادي الظليلْ /
مثلما كانا وهذا البلبلُ /
حاضرٌ أشبهُ بالماضي الجميلْ /
لو يُغَنِّيهِ المغني الأولُ /
اليدُ البيضاءُ في كلِّ الغصونْ /
زهرةٌ تَنْدَى ونوْرٌ يُشرقُ /
والثرى من نَفَسِ الرُّوحِ الحنونْ /
مهجةٌ تهفو وقلبٌ يخفقُ /
كم تشهَّيتَ الحبيبَ المُحسِنا /
لو سقى مثواكَ بالكأسِ الصبيب /
وتمنَّيتَ وما أحلى المنى /
خطواتٍ منه والمثوى قريبْ /
أتُرى أعطيتَه سِرَّ الخلودْ /
أم حبوتَ الحسنَ سلطاناً يدومْ /
عجباً تخطئ أسرارَ الوجودْ /
أيها الحاسبُ أعمارَ النجومْ /
شَفَةُ الكأسِ التي أنطقتَها /
لم تَدَعْ للسائلِ الصادي جوابا /
حُجُبٌ عن ناظري مَزَّقْتها /
فرأيتُ العيش برقاً وسرابا /
ولمستُ الخافقَ الحيَّ المنى /
طينةً تبكي بكفِّ الجابلِ /
تشتهي الرَّشْفَةَ مما عَلَّنَا /
وهي ملأى تحت ثغرِ الناهلِ /
نسِيَ الأنخابَ من تهوى وأمسى /
مثلما أمسيتَ يستسقي الغماما /
واشتكتْ رقَّتهُ في الأرض يُبسا /
وغدا الإبريقُ والكأسُ حطاما /
لا فما زالا ولا زال الحبيبْ /
أيها المفْعِمُ بالحبِّ الوجودا /
إنَّ من غنّيْت بالأمس القريبْ /
مَنَحَتْهُ ربَّةُ الشِّعْرِ الخلُودا /
مرَّ بي طيفُكما ذاتَ مساء /
وأنا ما بينَ أحلامي وكأسي /
استبدَّت بيَ أطيافُ الخفاء /
وتغرَّبتُ عن الدنيا بنفسي /
صِحْتُ بالليلِ إلى أن أشفقا /
فليَقفْ نجمُكَ وليَنأ السَّحَرْ /
جَدَّدَ العشاقُ فيكَ الملتقى /
وحَلا الهمسُ على ضوءِ القمَرْ /
فادخلا بين ضياءٍ وغمامْ /
حانةَ الأقدار والليلِ القديمْ /
مجلساً يهفو به رُوحُ الغرامْ /
كلُّ نجمٍ فيه ساقٍ ونديمْ /
وانهلا من سَلْسَلِ النُّورِ المذابْ /
خمرةً ليس لها من عاصرِ /
قَنَعَ الصوفيُّ منها بالحَبابْ /
وهيَ تنهلُّ بكأسِ الشاعرِ /
فاروِ يا شاعرُ عن إشراقِها /
إنَّما كأسُك نورٌ وصفاءْ /
كيفَ طالعتَ على آفاقها /
روعةَ الغيبِ وأسرارَ السماءْ /
كيف أبصرتَ الجمالَ المشرِقا /
بَصَرَ الفانينَ في حُبِّ الإلهْ /
وفتحتَ الأبدَ المستغلِقا /
عن ضمير الكونِ أو سرِّ الحياهْ /
أبروحانيةِ الشَّرقِ العريقْ /
أمْ ببوهيميَّةِ الفنِّ الطَّليقْ /
سَبَحَتْ رُوحُك في الكون السحيقْ /
حيث لا يَسْمعُ طافٍ لغريقْ /
حيث أبصرتَ الذي لم تُبْصِرِ /
أعينٌ مَرَّتْ بهذا العالَمِ /
ذاك سرُّ الشاعرِ المستهترِ /
وفتونِ الفيلسوفِ العالمِ /
ذاك سرُّ النَّغْم المسترسلِ /
والصفاءِ السلسلِ المطَّردِ /
رُوحُ شادٍ فَنِيَتْ في الأزَلِ /
وتحدَّثْ شهوةَ المنتقدِ /
صرَخَتْ آلامُهُ في كُوبهِ /
فهوى يثأرُ من آلامهِ /
إنما البعثُ الذي تشدُو بهِ /
يقظةُ المفجوعِ في أحلامِهِ /
إنما البعثُ المُرَجَّى للوَرَى /
غاية الحيِّ التي لا تُحمَدُ /
إنما تُبْعَثُ في هذا الثَّرى /
بعضَ ما يُقطَفُ أو ما يُحصَدُ /
حَسبُها تعزيةً أنَّا سَنَحْيَا /
في غدٍ مثلَ حياةِ الزَّهَرِ /
وسنطوي الأبدَ المجهولَ طيَّا /
جُدَدَ الأطياف شتَّى الصُّوَرِ /
حسبُها تعزية أن نحلُما /
بأناشيدِ الصَّباحِ المنتظرْ /
ونشقُّ الأرض عن وجهِ السَّما /
حيث نورُ الشمسِ أو ضوءُ القمرْ /
ربما جَدَّدَ أو هاجَ لنَا /
نبأً أو قِصةً مِنْ حُبِّنَا /
نوْحُ ورقاءَ أرنَّتْ حَوْلنا /
أو شجَى قُبّرةٍ مرَّتْ بنا /
أو خُطَى إلفينِ في فجرِ الصِّبا /
أترَعا كأسَيهما مِنْ ذوبهِ /
أو صدَى رَاعٍ على تلكَ الرُّبى /
صَبَّ في النَّاي أغاني حُبِّهِ /
حُلُمٌ مَثَّلتُهُ في خاطري /
فعشقتُ الخُلدَ في هذا الرُّواءْ /
أنكرُوهُ فَحَكَوا عن شاعرِ /
جُنَّ بالخمر وأغوتْه النساءْ /
ولقد قالوا شذوذٌ مُغرِبُ /
وإباحيَّة لاهٍ لا يُفيقْ /
آهِ لو يَدْرونَ ما يضطربُ /
بين جنبيْكَ من الحزن العميقْ /
أوَلا يغْدو الخليعَ الماجِنا /
من رأى عُقْبَى الصباحِ الباسِمِ /
ورأى الحيَّ جماداً ساكنا /
بعد ذيَّاك الحراك الدائمِ /
أوَلا يُغْرِبُ في نشوتِه /
شاربُ الغُصَّةِ في اليومِ الأخيرْ /
أوَلا يُمْعنُ في شهوتهِ /
مُسْلِمُ الجسمِ إلى الدودِ الحقيرْ /
قصةُ الزُّهدِ التي غَنَّوْا لها /
علَّلتهمْ بالسرابِ الخادعِ /
نشوةُ الشاعر ما أجملها /
هيَ مفتاحُ الخلودِ الضّائعِ /
لو أصابوا حكمةً ما اتَّهموا /
وبكى لاحيكَ والمسْتهجنُ /
فهو من دنياهمُ لو عَلموا /
عَبَثٌ مُرٌّ ولَهْوٌ مُحزنُ /
يا قاهرَ الموتِ كم للنفسِ أسرارُ
يا قاهرَ الموتِ كم للنفسِ أسرارُ / ذلَّ الحديدُ لها واستخْذت النَّارُ
وأشفَقَ البحرُ منها وهو طاغيةٌ / عاتٍ على ضرباتِ الصَّخرِ جَبَّارُ
حواكَ أُحدوثةً مُثْلى وتضحيةً / لم تحوِها سِيرٌ أو تروِ أخبارُ
رماكَ في جَنَباتِ اليمِّ محترِبٌ / خافي المقاتل عند الرَّوعِ فرَّارُ
ترصَّدتكَ مراميهِ ولو وقَعَتْ / عليهِ عيناكَ لم تُنقذهُ أقدارُ
يَدِبُّ في مسبحِ الحيتانِ منسرباً / والغورُ داجٍ وصدرُ البحرِ موَّارُ
كدودةِ الأرضِ نورُ الشمس يقتلها / وكم بها قُتِلتْ في الروضِ أزهارُ
هوى بكَ الفُلْكُ إلَّا هامةً رُفِعتْ / لها من المجدِ إعظامٌ وإكبارُ
واستقبلَ البحرُ صدراً حين لامسَهُ / كادتْ عليهِ جبالُ الموجِ تنهارُ
وغابَ كلُّ مشيدٍ غيرَ قُبَّعةٍ / ذكرى من الشَّرفِ العالي وتذكارُ
ألقيتَها فتلقَّى الموجُ مَعْقَدها / كما تلَقَّى جبينَ الفاتحِ الغَارُ
ولو يُرَدّ زمانُ المعجزاتِ بها / لانشقَّ بحرٌ لها وارتدَّ تيَّارُ
كأنَّها خطبةٌ راعَتْ مقاطعُها / لها العوالمُ سُمَّاعٌ ونُظَّارُ
تقولُ لا كانَ لي ربٌّ ولا هتفتْ / بذكرِه الحربُ إنْ لم يُؤخذِ الثارُ
يا ابنَ البحار وليداً في مسابحها / ويافعاً يؤثرُ الجُلَّى ويختارُ
ما عالمُ الماءِ يا رُبَّان صفهُ لنا / فما تحيطُ به في الوهم أفكارُ
وما حياةُ الفتى فيه أتسليةٌ / وراحةٌ أم فُجاءاتٌ وأخطارُ
إذا السفينةُ في أمواجهِ رَقصَتْ / على أهازيجَ غنَّاهنَّ إعصارُ
وأشجتِ السُّحْبَ موسيقاهُ فاعتنقتْ / وأُسدِلتْ من خدور الشُّهبِ أستارُ
وأنتَ ترنو وراءَ الأُفق مبتسماً / كما رَنا نازحٌ لاحتْ لهُ الدارُ
غرقانَ في حُلمٍ عَذْبٍ تُسلسلهُ / من ذروةِ الليل أنواءٌ وأمطارُ
يا عاشِقَ البحر حَدِّثْ عن مفاتنِه / كم في لياليهِ للعشَّاقِ أسمارُ
ما ليلةُ الصيف فيه ما روايتُها / فالصيفُ خمرٌ وألحانٌ وأشعارُ
إذا النسائمُ من آفاقه انحدرتْ / وضوَّأتْ من كُوَى الظلماءِ أنوارُ
وأقبلتْ عارياتٍ من غلائلها / عرائسٌ من بناتِ الجنِّ أبكارُ
شُغلُ الربابنةِ السارينَ من قدَمٍ / تُجلى بهنَّ عشِيَّاتٌ وأسحارُ
يُترِعْنَ كأسَك من خمرٍ مُعَتَّقَةٍ / البحرُ كهفٌ لها والدهرُ خمَّارُ
وأنت عنهنَّ مشغولٌ بجاريةٍ / كأنَّ أجراسَها في الأُذن قِيثارُ
صوتُ الحبيبةِ قد فاضتْ خوالجُها / ورنَّحتْها من الأشواق أسفارُ
وألهفَ قلبكَ لما اندكَّ شامخُها / والنوءُ مصطرعٌ والموجُ هدّارُ
بوغِتَّ بالقدَرِ المكتوب فانسرَحَت / عيناكَ تقرأ والأمواجُ أسطارُ
نزلتما البحرَ قبراً حين ضمَّكما / رفّتْ عليه من المرجان أشجارُ
نام الحبيبانِ في مثواهُ واتّسَدا / جنباً لجنبٍ فلا ذلٌّ ولا عارُ
مصارعٌ للفدائيين يعشقها / مستقتلونَ وراءَ البحر أحرارُ
مَنيَّةٌ كحياةٍ كلما ذُكِرَتْ / تجدّدَتْ لك في الأجيالِ أعمارُ
هيَ الفخارُ لشعبٍ من خلائقهِ / خَلْقُ الرجالِ إذا هاجَتهُ أخطارُ
له البحارُ بما اجتازتْ شواطئها / وما أجنّته خلجانٌ وأغوارُ
رواقُ مجدٍ على جدرانهِ رُفِعَتْ / للخالدين أماثيلٌ وآثارُ
دخلتَ من بابهِ واجتزتَ ساحتَه / وسِرتَ فيهِ على آثارِ من ساروا
يتيهُ باسمكَ في أقداسهِ نُصُبٌ / رخامهُ الدهرُ والتاريخُ حَفّارُ
أُرْقُصي يا نجومُ في الليلِ حولي
أُرْقُصي يا نجومُ في الليلِ حولي / واتبعي يا جبالُ في الأرضِ ظِلِّي
واصْدَحِي يا جنادلَ النهر تحتي / بأناشيدِ مائكِ المُنْهَلِّ
وارفعي يا رُبى إليَّ وأدني / زَهَرَاتٍ من عُشْبكِ المخضَلِّ
ضَمِّخي من عبيرها ونداها / قَدَماً لمْ تطأكِ يوماً بذُلِّ
هَزَأتْ بالجراحِ من مِخلب الْ / ليثِ وأنياب كل أفعى وصلِّ
واحملي يا رياحُ صوتي إلى الوا / دي وضِجِّي بكلِّ حزنٍ وسهلِ
وانسمي بالغرام يا نسمةَ الْ / ليلِ وكوني إلى الأحبة رُسْلي
إنَّ في حومةِ القبيلةِ ناراً / ضَوَّأتْ لي على مَضاربِ أهلي
رقصتْ حولها الصبايا وغَنَّتْ / بأغاني شَبابها المستهِلِّ
صوتُ إفريقيا ووحيُ صباها / ونداءُ القرونِ بعدي وقبْلي
باسمِها الخالدِ امتشقتُ حُسامي / بيدٍ تخفضُ الحظوظَ وتُعلي
وشربتُ الحميمَ من كلِّ شمسٍ / نارُها تُنضِجُ الصخورَ وتُبلي
وقهرتُ الحياةَ حتى كأني / قَدَرٌ تكتبُ الحتوفُ وأُملي
يا عذارى القبيل أنتنَّ للْ / مَجدِ على عِفَّةٍ صواحبُ بَذْلِ
حسبُ روحي الظامي وحسب جراحي / رَشفَةٌ من عيونِكنَّ النُّجْلِ
وابتساماتكنَّ فوق شفاهٍ / بمعاني الحياةِ كم أومأتْ لي
حين ألقى زوجي على بابِ كوخي / وأُناغي على ذراعيَّ طفلي
وأنامُ الليلَ القصيرَ لأجلو / صارمي في سَنى الصباحِ المطلِّ
إذا ارتقى البدرُ صفحةَ النهرِ
إذا ارتقى البدرُ صفحةَ النهرِ /
وضمَّنا فيهِ زورقٌ يجري /
وداعبتْ نَسمةٌ من العِطرِ /
على مُحيَّاكِ خُصْلةَ الشَّعرِ /
حَسَوْتُها قبلةً من الجمرِ /
جُنَّ جُنوني لها وما أدري /
أيَّ معاني الفتونِ والسِّحرِ /
ثغرُك أوحى بها إلى ثغري /
حُلْمُ مساءٍ أتاحهُ دهري /
غَرّدَ فيه الحبيسُ في صدري /
فنوِّليني فليس في العمرِ /
سوى ليالي الغرام والشِّعْرِ /
إنِّي رأيتُ النذيرَ في الأثرِ /
تطلِقُ كفَّاهُ طائرَ الفَجْرِ /
فقرِّبي الكأسَ واسكبي خمري /
بعينيكِ ما يُلْهمُ الخاطرا
بعينيكِ ما يُلْهمُ الخاطرا / ويتركُ كلَّ فتىً شاعرا
فيا فِتنةً من وراءِ البحارِ / لقِيتُ بها القَدَرَ الساخرا
دَعَتْني فَجمَّعتُ قلبي لها / وناديتُ ماضِيَّ والحاضرا
وأقبلتُ في موكبِ الذكريات / أُحَيِّ الخميلةَ والطائرا
وساءَلني القلبُ ماذا ترى / فقلتُ أرى حُلُماً عابرا
أرى جَنةً وأراني بها / أهيمُ بأرجائها حائرا
ملأتُ بتُفَّاحها راحتيَّ / وبتُّ لكَرْمَتِها عاصرا
وذقتُ الحنانَ بها والرِّضى / يداً بَرَّةً وفماً طاهرا
فيا ليلةً لم تكُنْ في الخيالِ / أجَدَّتْ ليَ المرحَ الغابرا
أفاءَتْ على النيلِ سحرَ الحياة / وأحيَتْ لشعري بهِ سامرا
نسيت لياليَّ من قبلها / وكنتُ لها الوافيَ الذاكرا
سلي من أثارتْ بقلبي الفتونَ / وخَلَّتْهُ محتدِماً ثائرا
بربِّك من ألَّفَ الأصغرين / وعلَّقَ بالناظر الناظرا
إذا أطلقَ الضوءُ أطيافَه / ولفَّ بها خصرَكِ الضامرا
وطوَّقَ نحْرَك لحظُ العيونِ / وعادَ بكَرَّتهِ حاسرا
ووقَّعتِ من خفَقات القلوب / على قدَميْكِ الصَّدى الساحرا
وحدَّثَ كلُّ فتىً نفسَهُ / أرى الفنَّ أم روحَه القاهرا
تمثَّلْتِهِ طيفَ إنسانةٍ / ومَثَّلَ فيك الصِّبا الناضرا
ذكِّريني فقدْ نسيتُ ويا
ذكِّريني فقدْ نسيتُ ويا / رُبَّ ذكرى تعيدُ لي طَربي
وارفعي وَجهكِ الجميلَ أرى / كيفَ هذا الحياءُ لَمْ يَذُبِ
واسندي رأسَكِ الصغيرَ إلى / ثائرٍ في الضلوع مُضطربِ
ذلك الطفلُ هَدْهديهِ فما / ثابَ من ثورةٍ ومن صَخَبِ
وامنحي عينيَ النُّعاسَ على / خُصَلاتٍ من شعركِ الذَّهبي
ظمأي قاتلي فما حَذري / مَوردي منكِ مَوْردَ العَطَبِ
ثرْثِري واصنعي الدموعَ ولا / تحفِلي إنْ هَمَمْتِ بالكذبِ
بي نزوعٌ إلى الخيال وبي / للتمنِّي حنينُ مُغتربِ
وا عَجَبي منكِ إنْ نسيتِ وما / أسفي نافعٌ ولا عَجَبي
لم أزَلْ أرقبُ السماءَ إلى / أن أطَلَّ الشتاءُ بالسُّحُبِ
موعِدُنا كانَ في أصائلِهِ / ضِفَّة سُندسيَّةُ العُشُبِ
نرقبُ النيلَ تحت زورقنا / وخفوقَ الشِّراعِ عن كثبِ
وظلالَ النخيل في شَفَقٍ / سالَ فوق الرمالِ كاللَّهبِ
كأسُنا مترَعٌ وليلتُنا / غادةٌ من مضارِبِ العربِ
ويكِ لا تنظري إلى قدَحي / نظرَاتِ الغريبِ واقتربي
شفتاكِ النَّديتانِ بهِ / فيهما رُوحُ ذلك الحَببِ
شَهِدَ المنتَشِي بخمرهما / أنَّ هذا الرحيقَ من عِنبي
هي الكاسُ مشرقةً في يديكَ
هي الكاسُ مشرقةً في يديكَ / فماذا أرابكَ في خمرِها
نظرتَ إليها وباعدْتَها / كأنَّ المنيَّة في قطْرِها
أما ذقتَها قبلَ هذا المساءِ / وعربدْتَ نشوانَ من سُكْرِها
حلا طعمُها يوم كنتَ الخليَّ / وكلُّ الصبابةِ في مُرِّها
سُقِيتَ بها من يدٍ لم تكنْ / سوى الريح تنفُخُ في جمْرِها
تلفَّتْ فهذا خيالُ التي / مَرِحت وغرَّدَت في وَكرِها
وغُرفَتُها لم تزلْ مثلما / تنسَّمتَ حُبَّكَ من عطرِها
وقفتَ بها ساهماً مُطرقاً / يُحدِّثكَ الليلُ عن سرِّها
مكانكُ فيها كما كان أمسِ / وذلك مثواك في خِدْرِها
وآثارُ دمعِك فوقَ الوسادِ / وفوق المُهدَّل من سترِها
فهل ذُقْتَ حقاً صفاءَ الحياةِ / وذوْبَ السعادة في ثغْرِها
إذا فُتحَ البابُ تحتَ الظلام / فكيف ارتماؤُك في صَدرِها
وكيف طوى خَصرَها ساعدَاكَ / ومرَّتْ يداكَ على شعرِها
وما هذه رِعشَةٌ في يَدَيكَ / أم الكأسُ ترجفُ من ذكرِها
وما في جبينك يا ابنَ الخيال / سِماتٌ تحدِّث عن غَدرِها
لقد دنَّسَ الجسَدُ الآدميُّ / حياةً حَرَصْتَ على طُهْرِها
بكى الفنُّ فيكَ على شاعرٍ / تسائِلهُ الروحُ عن ثأرِها
نزلت بها وهْدَةً كم خبا / شُعاعٌ وغُيِّبَ في قبرِها
رفعتَ تماثيلكَ الرائعاتِ / وحطَّمْتهنَّ على صَخرِها
فدعْ زهرةَ الأرض يا ابن السماء / فأنتَ المبرَّأُ من شرِّها
مراحُك في السُّحُب العالياتِ / وفوق المُنوَّرِ من زُهرِها
فمُدَّ جَناحيكَ فوق الحياةِ / وأطلِقْ نشيدَك في فجرِها
هيِّئي الكأس والوَتَرْ
هيِّئي الكأس والوَتَرْ / تلك كومو مدى النظَرْ
واصدحي يا خواطري / طُويَتْ شُقَّة السَّفَرْ
ودَنَتْ جَنَّةُ المنى / وحلا عندها المقَرْ
قد بُعِثْنا بها على / موعدٍ غيرِ منتظَرْ
في مساءٍ كأنه / حُلُمُ الشيْخِ بالصغَرْ
البحيراتُ والجبالُ / توشَّحْنَ بالشجَرْ
وتنَقَّبْنَ بالغما / مِ وأسفرنَ يا للقمَرْ
والبروناتُ غادةٌ / لبسَتْ حُلَّةَ السهَرْ
نُثِرَتْ فوقها الديا / رُ كما يُنثر الزَّهَرْ
وعَبَرْنا رحابها / فأشارتْ لمن عَبَرْ
هاكَها قُبْلَةً فمنْ / رامَ فليركبِ الخطَرْ
فسمونا لخدْرها / زُمراً تلْوها زُمَرْ
في زجاج مُحلِّقٍ / لا دخانٌ ولا شرَرْ
يتخطَّى بنا الفضا / ءَ على السُّنْدسِ النَّضِرْ
سُلَّم يُشبهُ الصرا / طَ تسامى على البصَرْ
فإلى النجْمِ مُرتقىً / وإلى السُّحْبِ منحدَرْ
وحللنا بقمَّةٍ / دونها قِمَّة الفِكَرْ
بَهَجٌ في كنوزها / للمحبِّينَ مُدّخَرْ
بابلٌ أم بحيرةٌ / أم قصورٌ من الدُّرَرْ
أم رؤَى الخلدِ في الْ / حَياةِ تَمثَّلْنَ للبشَرْ
حبَّذا أُمسياتُها / وحنيناً إلى البُكَرْ
ونزوعاً إلى السفي / نِ تهيأنَ للسَّفَرْ
نسِيَتْ شُغْلَها القلو / بُ وهلَّلنَ للسَّمَرْ
أوجُهٌ مثلما رَنتْ / زهرةُ الصيف للمطَرْ
أضحيانية السِّما / تِ هلاليةُ الطُّرَرْ
يَتَوَهَّجْنَ بالشبا / بِ ويَندينَ بالخفَرْ
طلعةٌ تسعِدُ الشَقي / يَ وتعطي له العمرْ
تمنح الحظّ من تشا / ءُ وتبقي ولا تَذَرْ
إنما تنظرُ السما / ءُ إلى هذه الصوَرْ
لترى اللَّهَ خالقاً / مُبدِعاً مُعجزَ الأثَرْ
شاعرَ النيلِ طُفْ بها / غَنِّها كلَّ مبتكَرْ
الثلاثون قد مَضَتْ / في النفاهاتِ والهذَرْ
فتزوّدْ من النَّعي / مِ لأيامِك الأُخَرْ
أين وادي النخيلِ أم / قاهريَّاتُه الغُرَرْ
لا تَقُلْ أخصبَ الثرى / فهنا أوْرقَ الحجَرْ
ههُنا يَشعُرُ الجما / دُ ويوحي لمن شعَرْ
آهِ لولا أحبةٌ / نزلوا شاطئَ النهَرْ
ورُفاتٌ مُطَهَّرٌ / وكريمٌ من السِّيَرْ
لتمنّيتُ شُرْفَةً / ليَ في هذه الحُجَرْ
أقطعُ العمرَ عندها / غيرَ وانٍ عن النظَرْ
فلقد فاز من رأى / ولقد عاشَ من ظفِرْ
يا ابنةَ العالمِ الجدي / دِ صِلي عالماً غَبَرْ
في دَمي من تُراثه / نفحةُ البدوِ والحضَرْ
وأغانٍ لمن شدا / ومعانٍ لمن فخَرْ
ما تُسِرِّينَ أفصِحي / إنّ في عينكِ الخبَرْ
الغريبانِ ههنا / ليس يُجديهما الحذَرْ
نحن رُوحانِ عاصفا / نِ وجسمان من سقَرْ
فاعذري الروحَ إن طغى / واعذري الجسمَ إن ثأَرْ
نضَبَتْ خمْرُ بابلٍ / وهوى الكأسُ وانكسَرْ
وهُنا كرمةُ الخلو / دِ فطوبى لمن عَصَرْ
فيمَ والنبعُ دافِقٌ / يشتكي الظامئُ الصَّدرْ
ولمن هذه العيونُ / تغمَّرْنَ بالحوَرْ
بتنَ يَلعبن بالنُّهى / لعِبَ الطفلِ بالأُكَرْ
هنَّ أصفى من الشُّعا / عِ وأخفى مِن القدَرْ
ولمن توشكُ الثُّدَى / وثبَةَ الطيرِ في السَّحَرْ
كلُّ إلفٍ لإِلفهِ / هَمَّ بالصّدْرِ وابتدَرْ
عضَّ في الثوبِ واشتَكى / وطأةَ الخزِّ والوبَرْ
سِمَةُ الطائرِ المُعَذْ / ذَبِ في قيْدِهِ نقَرْ
ولمن رفَّتِ المبا / سِمُ واسترسل الشَّعَرْ
ثمرٌ ناضجُ الجني / كيف لا نقطُفُ الثَّمَرْ
ما أبى الخلدَ آدمٌ / أو غوى فيه أو عثَرْ
زلَّةٌ تورِثُ الحِجى / وتُرِي اللَّهَ من كفَرْ
كأسنا ضاحِكُ الحبَا / بِ مُصَفَّى من الكدَرْ
فاسكبي الخمر وارشفي / هِ على رَنّةِ الوتَرْ
وإذا شئت فاسقِني / هِ على نغْمَةِ المطَرْ
فغداً يذْهبُ الشبا / بُ وتبقى لنا الذِّكَرْ
ما بالرُّعاةِ آثارَهم فترنَّموا
ما بالرُّعاةِ آثارَهم فترنَّموا / هلْ طافَ بالصحراءِ منهم مُلهمُ
أم ضوّأتْ سيناءُ في غسَقِ الدُّجى / وجلا النبوءةَ برْقُها المتكلمُ
نظَروا خِلالَ سمائِها وتأملوا / وتقابلتْ أنظارُهم فتبسَّموا
إيه فلاسفةَ الزمانِ فأنتمو / ببشائر الغيبِ المحجَّبِ أعلمُ
هذا النشيدُ الأسيويُّ مَعادُهُ / نبأٌ تقَرُّ به الشعوبُ وتنعَمُ
وطريقُكم مصرٌ وإنّ طريقها / أثرٌ من الوحي القديم ومعلمُ
ألا يكونَ الفجرُ هَديَ خُطاكمو / فدليلُكم قبَسُ الخلود المُضْرَمُ
هو سحرُ مصرَ وعرشُها ولواؤها / والصّولجانُ وتاجُها المتوسمُ
وجبينُ صاحِبها العزيزِ وإنّهُ / نورٌ على إصباحها مُتقدِّمُ
أوفى على الوادي بضاحكِ ثغرهِ / وجهٌ تُقبِّلهُ السماءُ وترأمُ
مُسترسِلُ النظرِ البعيدِ كأنّهُ / مَلك يُفكِّرُ أو نبيٌّ يُلهمُ
وكأنما الآمالُ عبْرَ طريقهِ / أنفاسُ روْضٍ بالعشيّة ينسِمُ
يتنظّرُ الحقلُ المنوّرُ خطوَهُ / والنهرُ والجبلُ العريضُ الأيهمُ
فكأنّ روحاً عائداً من طيبةٍ / فيه شبابُ ملوكِها يتبسمُ
هتفَ البشيرُ به فماجتْ أعصرٌ / وتلفّتتْ أممٌ ودارتْ أنجمُ
هذا هو الملِكُ الذي سعِدتْ به / مِصرٌ وهذا حُبُّها المتجسِّمُ
لمن البُنُودُ على العُبابِ خوافِقاً / لِمن النسورُ على السّحابِ تُحوِّمُ
لمن المواكبُ مائجاتٍ مثلما / أومتْ عصا موسى فشُقَّ العيْلمُ
ولِمَ الصباحُ كأنما أنداؤُه / كأسٌ تُصفّقُ أو رحيقٌ يسجمُ
ولِمَ اختلاجُ النيلِ فيه كأنه / شيخٌ يُذكرُ بالشبابِ ويحلمُ
ولمن هتافٌ بالضِّفاف مُردّدٌ / أشجى من الوترِ الحنونِ وأرخمُ
ولمن عواصمُ مصرَ حاليةَ الذُّوى / تغزو بوارقُها النجومَ وتزحُمُ
ولِمَ احتشادُ سرائري وخواطري / ولمن شفاهٌ بالدعاءِ تتمْتمُ
أسكندريةُ قد شهدتِ فحدِّثي / فاليومَ قد وضَحَ الحنينُ المبهمُ
هاتي املأي كأسي وغنِّي واعصري / خمراً أعلُّ بها ولا أتأثّمُ
إن كنت أفقَ الملهَمينَ وأيكَهم / إنِّي إذاً غرِّيدُك المترنِّمُ
يا درّة البحرِ التي لم يتّسِمْ / جِيدُ البحار بمثلها والمعصمُ
جدّدْتِ أعراسَ الزمانِ وزانها / ركبٌ لفاروق العظيمِ ومَقدِمُ
ما عادَ جبَّارُ الشعوبِ وإنما / قد عادَ قيصرُكِ الرشيدُ المسلمُ
في مهرجانٍ لم يُحِط بجلاله / وصفٌ ولم يبلغْ مداهُ توهُّمُ
يومُ الشباب ولا مِراءَ وإنه / للشرقِ عيدٌ والكنانةِ مَوسِمُ
قد فَتّحَ التاريخُ في كتابه / يُصغِي إليهِ ويشرئبُّ المِرْقَمُ
مولايَ أمْلِ عليه أوّلَ آيةٍ / لشبابِ شعبٍ خالدٍ لا يهرَمُ
هو من شبابكَ يستمدُّ رجاءَهُ / ويَسود باسمكَ في الحياةِ ويحكُمُ
فابعثهُ جيلاً واثباً متقحِّماً / إن الشبابَ توثُّبٌ وتقحُّمُ
هزّ الفتى الأمويّ تحت إهابهِ / منه مَضاءٌ كالحسامِ مُصمِّمُ
فمشى يطوِّحُ بالعروش كأنه / شمشونُ في حِلَقِ الحديد يحطمُ
دونَ الثلاثينَ استثيرَ فأجفلتْ / أُمَمٌ وراءَ تخومهِ تتأجَّمُ
والمجد موهبةُ الملوك وإنما / تَبْني المواهبُ والخلائقُ تدْعَمُ
ويضيقُ بالشعبِ الطموحِ يقينهُ / ويُثيرُ مِرّتهُ الخيالُ فيَعْرُمُ
قوتُ الشعوبِ ورِيُّها أحلامُها / إنّ الخيالَ إلى الحقيقةِ سُلّمُ
يا عاقدَ التاجِ الوضيءِ بمفرقٍ / كالحقِّ مَعْقِدُهُ هُدىً وتبسُّمُ
أعظِمْ بتاجكَ جوهراً لم يحوهِ / كنزٌ ولم يحرزْ جُلاهُ مِنجَمُ
ميراثُ أول مالكينَ سما بهم / عرشٌ أعزُّ من الجبالِ وأضخَمُ
نوابُ شعبكَ حينما طالعتهم / طافَ الرحيق البابليُّ عليهمُ
هتفوا بمجدِكَ واستخفّ وقارَهمْ / أملٌ يجلُّ عن الهتافِ ويعظمُ
أقسمتَ بالدستور والوطن الذي / بك بعد ربِّكَ في العظائم يُقسمُ
براً بوالدِكَ العظيم وذِمَّةً / لجدودك الصيدِ الذين تقدَّموا
وتطلّعَتْ عَبرَ المدائن والقرى / مُهَجٌ يكادُ خفوقُها يتكلمُ
تُصغي لصوتكَ في السحاب ورجعُهُ / لحنٌ على أوتارهنَّ يُنغّمُ
خشعتْ له النَّسَمات وهي هوازجٌ / وتنصّتَ العصفورُ وهو يُهينمُ
وَصَغَتْ سَنابلُ مثلما أوحَى لها / تأويلُ يوسفَ فهي خُضرٌ تنجمُ
يا صوتَ مصرَ ويا صدى أحلامها / زدْ روعتي مما يهزُّ ويُفْعِمُ
ألقى المقادَة في يديكَ وديعةً / شعبٌ لغير خُطاكَ لا يترسمُ
فَتَلَقَّ تاجَك من يديه فإنه / في الدهرِ عُروتهُ التي لا تُفصَمُ
فليهنأ الملِكُ الهمامُ بعيدهِ / ولْيعرضِ الجيشُ الكميُّ المعلمُ
مولايَ جندك ماثلونَ فأولهِمْ / سيفاً يُقبّل أو لواءً يُلثمُ
لما رأوْكَ على جوادكَ قائماً / وضعوا السيوف على الصدور وأقسموا
وكأن إبراهيمَ طيفك ماثلاً / وكأنك الرَّوحُ الشقيقُ التوأمُ
يا قائدَ الجيشِ المظفّر تِه بهِ / إن الشعوبَ بمثل جيشِك تُكرمُ
الأرضُ تعرفهُ وتشهدُ أنه / سيلٌ إذا لمعَ الحديدُ وقشعمُ
طوروسُ أم عكاءُ عن أمجادِهِ / تروي أم البيت العتيق وزمزمُ
أم حومةُ السودانِ وهي صحيفة / السيف خطّ سطورها واللهذمُ
أم مورةُ الشماءُ يوم أباحها / والنارُ حول سفينه تتهزّمُ
لولا قراصنةٌ عليها تآمروا / لم يَعْلُ نافارين هذا الميسمُ
فاغفر لما صنع الزمان فإنها / بؤسى تمرُّ على الشعوبِ وأنعُمُ
وانفخ به من بأسِ روحكَ سورةً / يرمي سُطاها المستخفّ فيُحجِمُ
فالرفقُ من نبل النفوسِ وربما / يُلحَى النبيلُ بفعله ويُذمّمُ
إنّا لفي زمنٍ حديثُ دُعاتِه / نُسْكٌ ولكنّ السياسةَ تأثّمُ
ووراءَ كلِّ سحابةٍ في أفقهِ / جيشٌ من المتأهِّبينَ عَرمرمُ
قالوا فتىً عشقَ الطبيعةَ واغتدى / بغرائب الأشعارِ وهو متيّمُ
وطوى البحارَ على شراعِ خيالهِ / يرتادُ عاليةَ الذُّرى ويُؤمِّمُ
أنا من زعمتمْ غيرَ أنِّي شاعرٌ / أرضى البيانَ بما يصوغُ ويرسُمُ
إنِّي بنيتُ على القديم جديدَهُ / ورفعتُ من بنيانهِ ما هدَّموا
الشعرُ عندي نشوةٌ عُلويةٌ / وشُعاعُ كأسي لم يُقبِّلها فمُ
ولحونُ سِلمٍ أو ملاحمُ غارةٍ / غنَّى الجبالَ بها السحابُ المرزِمُ
أرسلتهُ يومَ النداءِ فخلتُه / ناراً وخلتُ الأرضَ خضَّبها الدمُ
ودعاهُ عرشكَ فاستهلَّ خواطراً / فأتيتُ عن خَطراتهنَّ أترجمُ
ورفعتُ رأسي للسماءِ وخِلتُني / أتناولُ النجمَ البعيدَ وأنظمُ
فاقبلْ نشيديَ إنْ عطفتَ فإنه / صوتُ الشباب وروحهُ المتضرِّمُ
وسَلِمتَ يا مولايَ للوطن الذي / بكَ يستظلُّ ويستعزُّ ويسلمُ
سِحْر نطقتُ به وأنت المنطِقُ
سِحْر نطقتُ به وأنت المنطِقُ / ولكَ الولاءُ ولي بعرشكَ موثِقُ
يا أفقَ إلهامي ووحيَ خواطري / هذا نشيدي في سمائكَ يخفِقُ
توحي إليَّ الشعرَ علويَّ السنى / مصر ونورُ شبابكَ المتألِّقُ
وشواردٌ هزَّ النجومَ رويُّها / والكونُ مصغٍ والشعاعُ يُصفِّقُ
في ليلةٍ للنفس فيها هِزَّةٌ / ولكلِّ قلبٍ صبوةٌ وتشوُّقُ
ريَّا الأديمِ كلجَّةٍ مسجورةٍ / يسري عليها للملائكِ زورقُ
غنَّى بها الشعرُ الطروبُ وأقبلت / بالزهرِ حوريَّاتُهُ تتمنطقُ
وشدا الرعاةُ الملهَمون كأنما / سيناءُ من قبَسِ النبوةِ تُشرقُ
هيَ من طوالعِك الحسانِ وإنه / أمَلٌ لمصرَ على يديكَ يُحقَّقُ
مصرٌ إذا سُئلت فأنت لسانُها / وجنانُها وشعورُها المتدفِّقُ
فتلقَّ فرحتَها بعيدكَ إنَّه / عيدٌ يهنئُ مصرَ فيه المشرقُ
مولايَ هلْ لي أن أُقبلَ راحةً / بيضاءَ تُحيي المأثراتِ وتخلُقُ
مرَّتْ على الوادي فكلُّ شِعابِهِ / عَينٌ مفَجَّرَةٌ وغصنٌ مُورقُ
وجَلوتَها للناظرينَ فأبصروا / برهانَ ربك ساطعاً يتألقُ
لو رُدَّ فرعونٌ وسِحْرُ دعاتهِ / وتساءلوا بكَ مُجمعينَ وأحدقوا
لقِفَتْ عصاكَ عصيَّهم فتصايحوا / لا سحرَ بعد اليوم أنتَ مُصدِّقُ
يا باعثَ الرُّوح الفتيِّ بأمةٍ / تسمو بها آمالُها وتُحلِّقُ
أغلى الذخائر في كنوز فخارِها / تاجٌ يُجمِّلهُ بنوركَ مفرِقُ
صاغَتهُ من آمالِها ودمائها / وأجلّهُنَّ دمُ الشباب المهْرَقُ
إن أنسَ لا يَنسَ اليمينَ ويومهُ / قلبي الطروبُ وجفنيَ المغرورِقُ
وهُتافُ روحي في خِضمٍّ صاخبٍ / خِلتُ الفضاء الرَّحبَ فيه يغرقُ
القائد الأعلى وتحتَ لوائهِ / حُرَّاسُ مصرَ الباسلونَ السُّبَّقُ
طافوا بساحتكَ الكريمةِ فيلقاً / يحدُوهُ منْ آمالِ مصرٍ فيلقُ
وأنلتَهُمْ شرَفَ المثولِ فقرَّبوا / مُهَجاً يحوطُكَ حُبُّها ويُطوِّقُ
وضعوا الأكفَّ على الكتاب وأقسموا / وسُيوفُهمْ من لوعةٍ تتحرَّقُ
أوْمى لها الماضي فجنَّ حديدُها / حتى تكادَ بغيرِ كفٍّ تُمشقُ
ذكرَتْ بك النصرَ المبينَ وفاتحاً / يطأُ الجبالَ الشامخاتِ ويَصعقُ
يا صنوَ إبراهيمَ لو ناديتُه / بك لاستجاب وجاء باسمكَ ينطقُ
لك مصرُ والسودانُ والنهر الذي / يحيا المواتُ به ويغنيَ المُملِقُ
عرشٌ قوائمهُ التُّقى وظلالهُ / عَدْلٌ وروحانيةٌ وترفُّقُ
المسجدُ الأقصى يودُّ لو أنه / أسرى إليهِ بكَ الخيالُ الشيِّقُ
كم وقفةٍ لكَ في الصلاةِ كأنما / عمرٌ تحُفُّ به القلوبُ وتخفُقُ
لما وقفتَ تلفّتَ المحرابُ من / فرحٍ وأنتَ لديه حانٍ مطرقُ
ويكاد من بَهَج يضيءُ سِراجَه / وجهٌ عليه من الطهارةِ رَونقُ
أحييتَ سنةَ مالكينَ سما بهمْ / في الشرق أوج حَضارةٍ لا يُلحَقُ
فانين في حبِّ الإله ولن ترى / بعد الأُلوهة ما يُحبُّ ويُعْشَقُ
طُهْرٌ عَصَمْتَ به الشبابَ وإنما / شِيمُ الملوكِ به أحقُّ وأخلقُ
تُغضي لرقّتكَ النفوسُ مهابةً / وتهُمُّ بالنظرِ العيونُ فتُشفِقُ
إنَّ السيوفَ تُهاب وهي رقيقةٌ / وخَلائقُ العظماءِ حين تُرفَّقُ
ألقى البشيرُ على المدائنِ والقرى / نبأً كصوت الوحيِ ساعةَ يطلَقُ
عَبر الضِّفافَ الحالماتِ فمسَّحت / جَفناً وهبّ نخيلها يتأنَّقُ
فرحٌ تَمثّلَ مصرَ فهي خواطرٌ / صدَّاحةٌ وسرائرٌ تترقرقُ
اليومَ آمنَتِ الرعيةُ أنها / أدنى لقلبكَ في الحياة وألصقُ
آثرْتها فحبتْكَ من إيثارِها / تاجاً شعائرهُ الولاءُ المطلقُ
مَلكاتُ مصرَ الرائعاتُ إذا بدا / كفٌ تشير له وعينٌ ترمُقُ
وحديثُ أرواحٍ يَضوعُ عبيرهُ / ومن الطهارة ما يَضوعُ ويَعْبَقُ
يا صاحبيْ مصرٍ أظلَّكما الرِّضى / وجرى بيُمنِكما الربيعُ المونِقُ
وفداءُ عرشكما المؤثَّلِ أمةٌ / أمستْ خناصرُها عليه تُوَثَّقُ
يا شمسُ يا أمَّ الحياةِ تكلمي / فلقد يُثابُ على الكلام الصَّيْدَقُ
أأعزُّ منا تحتَ ضوئِك أمةٌ / هي بالحياة وبالسيادة أخْلَقُ
إنّا بنوكِ وإن سُئلتِ فأُمنا / مهدُ الشموسِ وعرشُهنَّ المعْرِقُ
عرشٌ لفاروقَ العظيمِ يزينهُ / هذا الشبابُ العبقريُّ المشرقُ
با بشيرَ المنى أحُلْمُ شبابٍ
با بشيرَ المنى أحُلْمُ شبابٍ / مَرَّ بالنهر أمْ غرامٌ جديدُ
أم شدا الأنبياءُ بالضِّفة الخَضْ / راءِ أم قامَ للملائكِ عيدُ
مهرجانٌ ممالكُ الشرقِ فيهِ / دعواتٌ وفرحةٌ ونشيدُ
وهتافٌ بالشاطئين صداه / تَتناجى بهِ الملوكُ الصيدُ
اسلمي يا أميرةَ الشرقِ واحكم / مَلِكَ الشرقِ ما يشاءُ الخلودُ
يوم نادتكَ باسمكَ العذبِ فريا / لُ أبي هللَ الزمانُ السعيدُ
دُمتَ أيامُكَ الحسانُ شبابٌ / ولياليكَ كلهنَّ سعودُ
دنا الليلُ فهيا الآنَ يا ربَّةَ أحلامي
دنا الليلُ فهيا الآنَ يا ربَّةَ أحلامي /
دعانا مَلَكُ الحبِّ إلى محرابه السامي /
تعاليْ فالدُّجى وحيُ أناشيدٍ وأنغامِ /
سَرَتْ فرحتُهُ في الماء والأشجارِ والسُّحْبِ /
ألا فلنحْلُمِ الآنَ فهذي ليلةُ الحبِّ /
على النيلِ وضوءُ القمرِ الوضاح كالطفلِ /
جرى في الضِّفةِ الخضراءِ خلفَ الماءِ والظلِّ /
تعاليْ مِثلهُ نلهو بِلثمِ الوردِ والطِّلِّ /
هناك على ربى الوادي لنا مَهْدٌ من العشبِ /
يَلُفُّ الصَّمتُ روحيْنا ويشدو بلبُلُ الحبِّ /
يطوفُ بنا على شطٍّ من الأضواء مسحورِ /
شِراعٌ خافقُ الظلِّ على بحرٍ من النورِ /
تناجيه نجومُ الليلِ نجوى الأعين الحُورِ /
وأنتِ على فمي ويدي خيالٌ خافقُ القلبِ /
ألا فلنحلُمِ الآنَ فهذي ليلةُ الحبِّ /
ليالي الصيفِ أحلامٌ تراءت للمحبِّينا /
تغيبُ الخمرُ والساقي ويبقى سحرها فينا /
وهذا كأسُها الوهاجُ صدَّاحٌ بأيدينا /
فهيا نشرب الليلةَ من نبع الهوى العذْبِ /
ألا فلنحلُمِ الآن فهذي ليلةُ الحبِّ /
حيَّاك أرضاً وازدهاكِ سماءَ
حيَّاك أرضاً وازدهاكِ سماءَ / بحرٌ شدا صخراً وصفَّقَ ماءَ
يحبو شعابَكِ في الضحى قبلاته / ويرفُّ أنفاساً بهن مساءَ
متجدِّدَ الصبواتِ أودعَ حبَّهُ / شتى الأشعةِ فيكِ والأنداءَ
وَلِعٌ بتخطيطِ الرمال كأنه / عرَّافةٌ تستطلع الأنباءَ
ومصوّرٌ لبقُ الخيال يصوغُ من / فنِّ الجمالِ السِّحرَ والإغراءَ
نسق الشواطئ زينةً وأدقها / صوراً بريَّا صفحتيهِ تراءى
يجلو بريشته السماءَ وإنما / زادت بريشته السماءُ جلاءَ
لا الصبحُ أوضحُ من مطالعِهِ بِها / شمساً ولا أزهى سنىً وضياءَ
كلا ولا الليل المكوكبُ أفقُهُ / بأغرَّ بدراً أو أرقّ سماءَ
يا رُبَّ زاهيةِ الأصيلِ أحالها / أُفقاً أحمّ ولجَّةً حمراءَ
وكأنما طوتِ السماءَ ونشَّرَتْ / لهباً وفجَّرتِ الصخورَ دِماءَ
ولربَّ عاطرةِ النسيمِ عليلةٍ / طالعتُ فيها الليلةَ القمراءَ
رقصت بها الأمواجُ تحتَ شُعاعِها / وسرَتْ تجاذبُ للنسيم رداءَ
حتى إذا رانَ الكرى بجفونها / ألقت إليكِ بسمعها إصغاءَ
تتسمَّعُ النوتيَّ تحت شراعهِ / يشدو فيبدعُ في النشيدِ غِناءَ
هزَّت ليالي الصيفِ ساحرَ صوتهِ / فشجى الشواطئَ واستخفَّ الماءَ
وأثارَ أجنحةَ الطيورِ فحوَّمتْ / في الأفقِ حيرى تتبعُ الأصداءَ
صُورٌ فواتنُ يا شواطئُ صاغها / لكِ ذلكَ البحرُ الصناعُ رواءَ
فتنظّريهِ على شعابكِ مثلما / رجعَ الغريب إلى حماهُ وفاءَ
كم ظلّ يضربُ في صخورِكِ موجُهُ / مما أجَنَّ محبَّةً ووفاءَ
عذراً إذا عَيَّتْ بمنطقه اللُّغى / فهوَ العَيِيُّ المفحِم الفُصحاءَ
فخُذي الحديثَ عليه واستمعي لهُ / كم من جمادٍ حدَّثَ الأحياءَ
وسليهِ كيف طوى الليالي ساهداً / وبَلا الأحبَّةَ فيكِ والأعداءَ
كم ليلةٍ لك يا شواطئُ خاضَها / والهولُ يملأ حولكِ الأرجاءَ
والسفنُ مرهفةُ القلاعِ كأنما / تطأ السحابَ وتهبطُ الدأماءَ
حملتْ لمصرَ الفاتحينَ وطوّحتْ / بالنيل منهمْ جَحْفلاً ولواءَ
ولو استطاع لردَّ عنكِ بلاءَهم / وأطارَ كلَّ سفينةٍ أشلاءَ
أو كان يملك قدرةً حشَدَ الدُّجى / ونضا الرجومَ وجنَّد الأنواءَ
ودعا غواربَه الثقالَ فأقبلتَ / فرمى بها قدراً وردَّ قضاءَ
فاستعرضي سِيرَ الحياة وردِّدي / ما سرَّ من أنبائهنَّ وساءَ
وخُذي ليومكِ من قديمكِ أُهبةً / ومن الجديد تعِلَّةً ورجاءَ
إيهِ شواطئَ مصرَ والدنيا مُنىً / تهفو إليكِ بنا صباحَ مساءَ
ناجيتِ أحلامَ الربيعِ فأقبلتْ / وأشرتِ للصيف الوسيمِ فجاءَ
يحبوكِ من صفوِ الزمانِ وأنسه / ما شئتِ من مَرحِ الحياةِ وشاءَ
وغداً تضيءُ على جبينكِ لمحةٌ / طبعَ الخلودُ سماتها الغرّاءَ
وترفُّ منه على ثغورِك قبلةٌ / أصغى النسيم لها وغضَّ حياءَ
فاستقبلي الصيفَ الجميلَ وهيِّئي / للشعرِ فيكِ خميلةً غنّاءَ
وتسمّعي لحنَ الخيالِ وأفردي / لي فوق مائكِ صخرةً بيضاءَ
واستعرضي حورَ الجنانِ وأطلقي / لغة السماء وألهمي الشعراءَ
عشقنا الدمى وعبدنا الصورْ
عشقنا الدمى وعبدنا الصورْ / وهِمنا بكلِّ خيالٍ عَبَرْ
وصُغنا لكَ الشعرَ حُبَّ الصِّبا / وشدوَ الأماني وشجو الذِّكَرْ
تغنَّتْ به القُبَلُ الخالداتُ / وغنَّى بإيقاعها المبتكَرْ
وجئنا إليكَ بمُلكِ الهوى / وعرشِ القلوبِ وحكم القدَرْ
بأفئدةٍ مثلما عَرْبَدَتْ / يَدُ الريح في ورقاتِ الشجَرْ
وأنتَ بأفقِكَ ساجي اللحاظِ / تُطِلُّ على سُبُحاتِ الفِكَرْ
دنوتَ فقلنا رُؤى الحالمينَ / فلما بَعُدْتَ اتهمنا النظَرْ
وحامتْ عليكَ بأضوائِها / مصابيح مثل عيون الزَّهَرْ
تتبَّعنْ خطوك عَبْرَ الطريقِ / كما يَتحرّى الدليلُ الأثَرْ
يُقبِّلنَ من قدميكَ الخطى / كما قبَّل الوثنيُّ الحجَرْ
مشى الحسنُ حولكَ في موكبٍ / يرِفُّ عليه لواءُ الظفَرْ
تمثَّلَ صدرُك سلطانَهُ / كجبارِ وادٍ تحدَّى الخطَرْ
بِنَهدينِ يستقبلانِ السماءَ / كأنهما يُرضعان القمَرْ
تَساميتَ عن لُغةِ الكاتبينَ / وروعةِ كلِّ قصيدٍ خطَرْ
سوى شاعرٍ في زوايا الحياةِ / دَعَتهُ مباهجُها فاعتذَرْ
أكبَّ على كأسه وانتحى / صدى الليلِ في اللحظات الأُخَرْ
رنا حيث ترقُبُ أحلامُهُ / خيالكَ في الموعِدِ المنتظَرْ
أقبلَ الليلُ واتخذتُ طريقي
أقبلَ الليلُ واتخذتُ طريقي / لكَ والنجمُ مؤنِسي ورفيقي
وتوارى النهارُ خلف ستارٍ / شفقيٍّ من الغمام رقيقِ
مدّ طيرُ المساء فيه جناحاً / كشراعٍ في لُجةٍ من عقيقِ
هو مثلي حيرانُ يضربُ في ال / ليل ويجتاز كل واد سحيقِ
عادَ من رحلةِ الحياة كما عد / تُ وكلّ لِوكره في طريقِ
أيهذا التمثالُ هأنذا جئتُ / لألقاكَ في السكونِ العميقِ
حاملاً من غرائب البرِّ وال / بَحرِ ومن كل محدَثٍ وعريقِ
ذاك صيدي الذي أعودُ به لَي / لاً وأمضي إليه عند الشروقِ
جئت ألقي به على قدميكَ الآ / نَ في لهفةِ الغريب المشُوقِ
عاقداً منهُ حول رأسِكَ تاجاً / ووشاحاً لقدِّكَ الممشوقِ
صورةٌ أنتَ من بدائعَ شتّى / ومثالٌ من كلِّ فنٍّ رشيقِ
بيدي هذه جبَلتُكَ من قلبي / ومن رونقِ الشبابِ الأنيقِ
كلما شمتُ بارقاً من جمالٍ / طِرتُ في أثرهِ أشقُّ طريقي
شهِدَ النجمُ كم أخذتُ من الر / رَوعةِ عنهُ ومن صفاءِ البريقِ
شهِدَ الطير كم سكبتُ أغاني / هِ على مسمعيكَ سكبَ الرحيقِ
شهِدَ الكرمُ كم عصرتُ جَناهُ / وملأتُ الكؤوسَ من إبريقي
شهِدَ البرُّ ما تركتُ من الغا / رِ على معطفِ الربيعِ الوريقِ
شهد البحرُ لم أدَعْ فيه من دُر / رٍ جديرٍ بمفرقيكَ خليقِ
ولقد حيَّرَ الطبيعةَ إسرا / ئي لها كلَّ ليلةٍ وطروقي
واقتحامي الضُّحى عليها كراعٍ / أسيويٍّ أو صائدٍ إفريقي
أو إلهٍ مُجنَّحٍ يتراءى / في أساطيرِ شاعرٍ إغريقي
قلتُ لا تعجبي فما أنا إلَّا / شبَحٌ لجَّ في الخفاءِ الوثيقِ
أنا يا أمُّ صانعُ الأملِ الضا / حِكِ في صورة الغد المرموقِ
صُغْتُهُ صوغَ خالقٍ يعشق الْ / فَنَّ ويسمو لكل معنى دقيقِ
وتنظّرتُه حياةً فأعياني / دبيبُ الحياة في مخلوقي
كلَّ يوم أقولُ في الغدِ لكنْ / لستُ ألقاهُ في غدٍ بالمفيقِ
ضاع عمري وما بلغتُ طريقي / وشكا القلبُ من عذابٍ وضيقِ
معبدي معبدي دجا الليلُ إلا / رعشة الضوءِ في السراج الخفوقِ
زأرتْ حولك العواصفُ لما / قهقه الرعدُ لالتماعِ البروقِ
لطمتْ في الدُّجى نوافذَكَ الصّم / ودقَّتْ بكل سيلٍ دفوقِ
يا لتمثاليَ الجميلِ احتواهُ / ساربُ الماء كالشهيد الغريقِ
لم أعُدْ ذلك القويَّ فأحمي / هِ من الويلِ والبلاءِ المحيقِ
ليلتي ليلتي جنيت من الآ / ثامِ حتى حملتِ ما لم تطيقي
فاطربي واشربي صُبابةَ كاسٍ / خمرها سالَ من صميمِ عروقي
مرّ نورُ الضحى على آدميٍّ / مُطرقٍ في اختلاجةِ المصعوقِ
في يديه حُطامةُ الأمل الذا / هبِ في ميعة الصبا الموموقِ
واجماً أطبقَ الأسى شفتيهِ / غيرَ صوتٍ عبرَ الحياة طليقِ
صاح بالشمس لا يُرعْكِ عذابي / فاسكبي النارَ في دمي وأريقي
نارك المشتهاةُ أندى على ال / قلب وأحنى من الفؤاد الشفيقِ
فخذي الجسمَ حفنة من رمادٍ / وخذي الروحَ شعلةً من حريقِ
جُنَّ قلبي فما يرى دَمَهُ القا / ني على خَنجرِ القضاء الرقيقِ
حلفتُ بالخمرِ والنساءِ
حلفتُ بالخمرِ والنساءِ / ومجلسِ الشعرِ والغناءِ
ورحلةِ الصيفِ في أوربا / وسحر أيامِها الوضاءِ
رفعتُ فيها لواءَ مصرٍ / ورأس مصرٍ إلى السماءِ
لم أنسكم قطُّ أصدقائي / ولم يحُلْ عنكمُ إخائي
أُحبكمُ فوق كلِّ حبٍّ / وهانَ في حبكم فنائي
فما تظنّون في وفيٍّ / أربى هواهُ على الوفاءِ
إذا احتواهُ الصعيدُ ليلاً / وهيمنتْ نَسمة المساءِ
وتاهتِ الأقصر اختيالاً / بالغيدِ في موسم الشتاءِ
صَدفتُ عنها إلى وجوهٍ / عرفتُ فيهنَّ أصدقائي
أنتم وهل لي سوى خيالٍ / يجمعكم بي على التنائي
فانتظروني ولا تظنوا الظْ / ظنون واستمطروا ثنائي
روحي المقيمُ لديكِ أم شبَحي
روحي المقيمُ لديكِ أم شبَحي / لعبتْ برأسي نشوةُ الفرحِ
يا حانةَ الأرواحِ ما صنعتْ / بالروح فيكِ صبابةُ القدحِ
ما للسماءِ أديمُها لهَبٌ / الفجرُ إنَّ الفجرَ لم يَلُحِ
ولمَ البحيرةُ مثلما سُجِرتْ / أو فُجِّرتْ من عرقِ منذَبحِ
نارٌ تطيرُ وموكبٌ صَخِب / منْ كل ساهي اللَّحظِ منسرحِ
لولا ابتسامةُ جارتي وفمٌ / يدنو إليَّ بصدرِ منشَرحِ
لحسبتها روما تمورُ لظىً / في قهقهاتِ السَّاخرِ الوقحِ
زهوٌ تملَّكني فأذهلني / ومن الذهولِ طرائفُ المُلحِ
أأنا الغريبُ هنا وملءُ يدي / أعطافُ هذا الأغيدِ المرِحِ
خفَقتْ على وجهي غدائرُها / فجذبتها بذراعِ مجترحِ
لم أدر وهيَ تُديرُ لي قَدحي / من أين مغتبقي ومصطبحي
وشدا المغنِّي فاحتشدتُ لها / كم للغناءِ لديَّ من مِنَحِ
عَرَضَتْ بفاكهة محرَّمةٍ / وعرضتُ لم أنطِقْ ولم أبُحِ
يا رَبِّ صُنعُكَ كلُّه فتنٌ / أين الفرارُ وكيف مُطَّرحي
هذي الروائعُ أنت خالقُها / ما بين مُنجرِدٍ ومتَّشحِ
تاييسُ لم تعبَثْ براهبها / لكنَّهُ أشفى على البُرَحِ
ما بين أسرارٍ مُغلَّقةٍ / وطروقِ بابٍ غيرِ منفتحِ
عرض الجمالُ له فأكبَره / ورآكَ فيهِ فجُنَّ من فَرحِ
أترى معاقبتي على قدَرٍ / لولاك لم يُكتَبْ ولم يُتَحِ
إنِّي عبدتُك في جَنى شفةٍ / ويدٍ ووجه مشرق الوضحِ
ولو استطعتُ جعلتُ مِسبحتي / ثَمَرَ النهودِ وجلَّ في السُّبَحِ
كنزُ أحلامِكَ يا شاعرُ في هذا المكانِ
كنزُ أحلامِكَ يا شاعرُ في هذا المكانِ /
سحرُ أنغامِكَ طوَّافٌ بهاتيكَ المغاني /
فجرُ أيامِكَ رفَّافٌ على هذي المحاني /
أيها الشاعرُ هذا الرَّيْنُ فاصدحْ بالأغاني /
كلُّ حيٍّ وجمادٍ ههنا / هاتفٌ يدعو الحبيبَ المحسِنا
يا أخا الرُّوحِ دعا الشوقُ بنا / فاسْقِنا من خمرةِ الرَّيْن اسقنا
عالَمُ الفتنةِ يا شاعرُ أم دنيا الخيالِ /
أمروجٌ عُلِّقتْ بين سحابٍ وجبالِ /
ضحكتْ بين قصورٍ كأساطيرِ الليالي /
هذه الجنةُ فانظرْ أيَّ سحرٍ وجمالِ /
يا حبيبَ الروحِ يا حُلمَ السَّنا / هذه ساعتُنا قم غنِّنا
سَكِرَ العشاقُ إلَّا أننا / فاسقنا من خمرةِ الرّينِ اسقنا
ليلةٌ فوق ضِفافِ الرينِ حُلْمُ الشعراءِ /
أليالي الشرقِ يا شاعرُ أم عرس السماءِ /
الدُّجى سكرانُ والأنجمُ بعضُ الندماءِ /
أنصتَ الغابُ وأصغى النهرُ من صخرٍ وماءِ /
فاسمعِ الآن البشيرَ المعلِنا / حانتِ الليلةُ والفجرُ دنا
فاملإِ الأقداحَ من هذا الجنى / واسْقنا من خمرة الرينِ اسقنا
ها هم العشاقُ قد هبُّوا إلى الوادي خفافا /
أقبلوا كالضوءِ أطيافاً وأحلاماً لطافا /
ملأوا الشاطئَ همساً والبساتينَ هُتافا /
أيها الشاعرُ هذا الرَّيْنُ فاستوحِ الضِّفافا /
الصِّبا والحسنُ والحبُّ هنا / يا حبيبي هذه الدنيا لنا
فاملإِ الكأس على شدوِ المنى / واسقنا من خمرةِ الرينِ اسقنا
يا ابنة الأرِ حديثُ الأمس ما أعذب ذكرَهْ /
كان حلما أن نرى الرين وأن نشرب خمرَهْ /
وشربنا فسكرنا وأفقنا بعد سَكرَهْ /
ووقفنا لوداعٍ وافترقنا بعد نظرَهْ /
أين أنت الآن أم أين أنا / ضربتْ أيدي الليالي بيننا
غيرَ صوتٍ طاف كالحلمِ بنا / إسقنا من خمرة الرَّينِ اسقنا