القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : أبو الفضل الوليد الكل
المجموع : 422
إن الجمال به عزاءُ الأنفُسِ
إن الجمال به عزاءُ الأنفُسِ / فافْدِ المَلِمَّةَ بالأعزِّ الأنفَسِ
طهرُ الهوى والحسنُ صانتهُ لنا / بيّاعةُ الزَّهر التي لم تُلمسِ
حَمَلَته لي في سَلَّةٍ وكأنَّها / من وجهِها قطَفت زكيَّ المَغرِسِ
فالثغرُ من لُبنانَ يحكي نورَهُ / والخدُّ يحوي وردةً من تونُس
وكأنَّ بسمتَها على أحلى فمٍ / سقطُ الفراشة في الربيع المؤنِس
خفتُّ انقصافَ قوامِها لمّا مشت / بأخفّ أقدامٍ وألطَفِ ملبس
وأتت إليَّ برقّةٍ ولطافةٍ / وبعروتي وضعت ضميمةَ نرجس
فوددتُ أن تبقى أنامِلُها على / صدري كماءِ الرّقمةِ المُتبجّس
وشهوتُ لو مَلأت فمي أنفاسُها / لكنَّها احتشَمت فلم تتنفَّس
ورنَت إليَّ وكفُّها في خصرها / وتبسّمَت وبِلفظةٍ لم تنبُس
لمّا عرضتُ لها زكاةَ جمالِها / قالت أما أبصرتَ من في المجلِس
زهرُ الرّياضِ محلّلٌ لكَ إنّما / زهرُ الوُجوهِ محرّمٌ فتحّرس
فوهبتُها شيئاً وقلتُ لها أرى / قلبي بلا حُبٍّ كجيبِ المُفلِس
فتبسَّمَت وحنَت عليَّ تقولُ لي / زهري وقلبي للظَّريف الكيّس
أيا زهرةً من حبيبةِ قلبي
أيا زهرةً من حبيبةِ قلبي / أريجُكِ فاحَ فنفّس كربي
حسَدتُك لما جنَتكِ ضحىً / أنامِلُ كادت تطير بِلُبّي
تنشَّقتُ مِنكِ ومنها شذا / فرقَّق شِعري ولطّفَ حبّي
فأنتِ العزيزةُ من أجلِها / ومن أجلِ ذكرٍ هُنالِكَ عذب
فهل تشعرينَ شُعوري وهل / ترينَ النّسيمَ تحيّةَ ركب
وَهل وطنٌ تأسفين عليه / وهل أنتِ ما بين حبٍّ وحربِ
غريباً صَبوتُ وصبّاً بَكيتُ / لِهدرةِ موجٍ وحنة سربِ
نَعم أنتِ ذابلةٌ وأنا / أذوبُ لتذكار أهلي وصَحبي
كلانا يَحنُّ إلى أرضِه / وعيشٍ مضى بين عذبٍ ورَطبِ
فؤادي تعوَّدَ نَشقَ الصَّبا / فكيف تلذُّ له ريحُ غرْبِ
وضعتُكِ في الماءِ صُبحاً كما / وضعتُ هوى مَن جَنَتكِ بقلبي
ولا بدَّ من ذَبلَةٍ فَلَكم / رأيتُ ذبولاً بزَهرِ وعشبِ
وإن يَفنَ مثلكِ قلبي فَهل / يَرى الزهرَ فوق عظامي وتربي
يا وَردَ جورِ الذي حيّا فأحيانا
يا وَردَ جورِ الذي حيّا فأحيانا / أشبَهتَ خَدّاً بماءِ الحُسن ريّانا
اذا رأيتكَ لاح الكونُ مُبتسِماً / كالثَّغر واخضرَّت الآمالُ أَغصانا
وإن جنيتُك أذكرْ غادةً حملَت / من الأزاهِر أشكالاً وألوانا
كم باقةٍ مِنكَ ضمّتها أنامِلُها / كأنها لؤلؤٌ قد ضمَّ مُرجانا
ومنكَ لونٌ وطِيبٌ في غلالِتها / وهي التي تَكتسي نوراً وريحانا
إليَّ أهدَتكَ مضموماً بأنملِها / حتى رأيتُ الهوى حُسناً وإحسانا
ولا أزالُ بزَهرٍ مِنكَ أَذكرُها / لأنني لم أزل بالطّيبِ نشوانا
وقد تجودُ بخَدٍّ لي فأحسبُه / مما جَنَتهُ ومن رياكَ ريانا
قلبي تعشَّقَ خدَّيها كما عشِقَت / فراشةُ الرّوضِ لوناً منكَ فتانا
يا وردَ جورٍ عليك الرّيحُ نافحةٌ / نهزُّ في الصّبحِ أزهاراً وأفنانا
وتحملُ الطّبَ مثلَ النفسِ حاملة / للحبِّ حتى يَصيرَ الكونُ أكوانا
كلُّ الأزاهر في محيّاكِ
كلُّ الأزاهر في محيّاكِ / والنفسُ تهواها وتهواكِ
حُبّي لجامِعِها يُحبِّبُها / فأشمُّ رَيّاها وريّاك
قلبي ضميمَتُها ونفحتُها / شوقي الذي هاجَته ذكراك
الزهرُ ريشٌ من ملائكةٍ / يُهدى الى أخواتِ أملاكِ
فخُذي شذايَ من الصبا أهلاً / وهِبي شذاكِ لمغرمٍ شاكِ
الوردُ أزهرَ في حَديقتِنا / فإذا تضوّعَ أشتهي فاكِ
والنجمُ أشرقَ عند قُبلتِنا / والموجُ حيّاني وحيّاكِ
هي ليلةٌ في حُبنا قصُرَت / ما كان أحلاها وأحلاكِ
الشرقُ يَلقى الغربَ مُبتسماً / فكأنه أنا حين ألقاكِ
هذا الصباحُ بَدت طلائعُه / فكأنما منها ثناياكِ
بين الدُّجى والنور واقفةٌ / نفسي كطيرٍ بين أشراكِ
تنزَّهتُ في روضٍ خضيلٍ مطلَّلِ
تنزَّهتُ في روضٍ خضيلٍ مطلَّلِ / كوجهٍ جميلٍ تحتَ شعرٍ مُسَدَّلِ
وفوقَ الهضابِ الشّمسُ تحكي مليكةً / أطلّت على العُشّاق من سجفِ مخمل
فمالَ جناني ذاكراً مُتشوّقاً / كما مالتِ الأزهارُ من لمس أنمُل
على العشبِ أبصرتُ الحبيبةَ صدفةً / وفي يدِها البيضاء زهرُ القرُنفُل
فقالت وقد مالت إليَّ ببسمَةٍ / هو الزهرُ فانشُق وانتعِش وتعلّل
فقلتُ لها إن القرُنفُلَ زهرَةٌ / تلوحُ على رأسِ الملاك المُكلَّل
وحواءُ في الجنّاتِ كانت تشُمُّها / وتحفظُها حفظَ الجوَاهِرِ والحلي
شذا الحبِّ والسّلوى يُعطّر قلبها / ففي شمَّةٍ منه الكآبةُ تنجلي
أيحظى بِشَمِّ الزَّهرِ خداً وباقةً / مُحِبٌّ يُعاني مطمعاً بعد مأمل
بإضمامةِ جاء القُرنفلُ خاضعاً / وفي راحة بيضاءَ راحةُ مُثقَل
دعيها لِشاكٍ أو ضعيها لِناحلٍ / فخَصرُكِ مهما ينضر الزّهرُ يذبُل
أبكي على الصّيفِ كالباكي على الطَّللِ
أبكي على الصّيفِ كالباكي على الطَّللِ / وإنّه كالصِّبا يمضي على عجَلِ
جاءَ الشتاءُ فأذوى بردُه حبقاً / قد كان في الصيفِ ذا نضرٍ وذا ميل
كم كنتُ أقطفهُ أو كنتُ أنشقُه / والعطرُ والنضرُ مثلُ الحبّ والأمل
عندَ الغنيِّ تراهُ والفقيرِ فلا / تعجَب لباذلِ حسنٍ غيرِ مُبتذل
للكلّ نعمتُهُ تُرجى ورحمتُه / وعَرفُه ناعشٌ كالبرءِ في العِلل
وأبيضُ الزّهرِ مِنهُ كالنقوشِ على / بُردٍ وكالدّمعِ في سودٍ من المُقل
أما تراهُ على تقواه مُتّضِعاً / يهوى بياضَ الحلى في خِضرَةِ الحِلل
والرّيحُ شيّقةٌ ولْهَى تقبِّلُهُ / فليتَ لي ما له من أطيبِ القُبَل
حفظتُ في البردِ والأمطارِ واحدةً / منهُ وكنتُ أُداريها على وجل
حتى إذا ذبُلَت أصبَحتُ أنشدُها / يا رحمة اللهِ ما أولاكِ بالطّلَل
يا ربّ لا تخلينَّ القلبَ من أملٍ / والروضَ من زهَرٍ والأرضَ من بَلل
سرتُ في الروّضةِ والصبحُ قريبُ
سرتُ في الروّضةِ والصبحُ قريبُ / وعلى أعطافِها بُردٌ قشيبُ
فإذا زنبقةٌ ميّلَها / نفسٌ مرَّ كما مرَّ النحيبُ
مثلُهُ نفسي إذا مرّت على / وجهِ عذراءَ بمرآهُ تطيب
فتثَّنت عِندما حيَّيتها / ثم قالت ويلتي هذا الرقيب
فتح الحبُّ فؤادي مثلما / فتّحَ الزنبقَةَ الطلُّ الرطيب
فحَكت وجهَ فتاتي نضرةً / وفؤادي نفحةً فالحبُّ طيب
معها مال وقد هام بها / وله من زهرةِ الحدرِ نصيب
ولسانُ الحالِ منها قائلٌ / أنت ضيفٌ فتزوّد يا غريب
واسبقِ الشمسَ إلى رشفِ النّدى / وانتشاقِ العطر فالحرُّ قريب
الزّهرُ عندي خيرُ ما يُهدى
الزّهرُ عندي خيرُ ما يُهدى / فبنَشقه أتذكَّرُ العهدا
إني أحيّي روضةً أُنُفاً / فيها جنَيتُ لِصدرِكِ الوردا
وبقُبلَةٍ والزهرُ يشهَدُ لي / علّلتِني فتَذك‍َّري الوعدا
إن كان جِسمُك شفَّهُ سَقمٌ / فالقلب منّي مُسقَمٌ بُعدا
أُهدي إليكِ ضميمةً فإذا / ما ازدَدتِ برءاً زدتِني ودّا
رمزُ الشفاءِ على نضَارتِها / وحلاوةُ اسمِك تجلُبُ السَّعدا
كم هزّني لِسماعِه طرَبٌ / فغدَوتُ مِنهُ شاعراً غردا
فلَهُ على قلبي وفي أُذُني / وقعٌ يُذِيبُ حشاشتي وجدا
أبداً أُردّدُهُ فيعذبُ لي / ماءً ويحلو في فمي شهدا
يا وَردَةً رتلاتُها تَتَنَثَّرُ
يا وَردَةً رتلاتُها تَتَنَثَّرُ / لِمَ تَذبُلين وصاحباتُك تَنضُرُ
أنا بين أصحابي كمثلك بَينها / ولأنتِ أزهى في الصباح وأعطرُ
قلبي ذَوى قبل الفتوَّة عاطراً / وذويتِ عاطرة وغصنكِ أخضرُ
أشبهتِني حيثُ الذبولُ نصيبُنا / لكنَّ لونَك في ذبولِكِ أحمرُ
ذابت حشايَ بنارِ حبٍّ نورُها / وجهٌ جميلٌ منه وجهي أصفرُ
إن العواطفَ من قلوبِ أحبِّةٍ / مثل الروائح من أزاهرَ تُنشَرُ
هذي لها قطراتُها ونسيمُها / وبتلكَ ما تهوى وما تتذكَّرُ
يا من يقدِّمُ طاقةَ الزّهرِ
يا من يقدِّمُ طاقةَ الزّهرِ / سرُّ الهوى قد ذاع كالعطرِ
للزهر أَلسنةٌ عليَّ بِكُمْ / باحت لأهل الحبِّ بالسرِّ
يا زهرُ أنت كعين عاشقةٍ / وفؤادُ صبٍّ في الهوى العذري
يا زهرُ قلبي فيك مختبئٌ / فاذهب إلى عذراءَ في خِدرِ
فأراكما في كفِّها شرعاً / والنضرُ مُكتَسَبٌ من النضرِ
ما راحتي إلا براحتِها / فبَنانُها كالقَطرِ في الحرِّ
يا ربّة الحسن والإيناسِ والخَفَرِ
يا ربّة الحسن والإيناسِ والخَفَرِ / تعهّديني بطيبِ الذّكر والأثرِ
زوّدتِ عيني وقَلبي ما سأنظمُه / شعراً وشعري هو الرّ‍يا من الزّهَر
إليكِ أُهدي رياحيني التي نضَرَت / وأنت ريحانةٌ للسمعِ والبصَر
هذي الرياحينُ من روحي مقدَّمةٌ / إِلى التي روحُها من نفحةِ السَحَر
رأيتُ الشرقَ ملكاً للنبيِّ
رأيتُ الشرقَ ملكاً للنبيِّ / يُزَلزَلُ تحت رِجلِ الأجنبيِّ
فحتامَ الفرنجةُ في هِراشٍ / عليهِ كأنَّهُ مالُ الصّبيِّ
فقل للطامعينَ بهِ رُويداً / قد استغنى اليتيمُ عن الوصيِّ
لقَد طالَ المَطالُ على وعُودٍ / بها تُطلى مطامِعُ أشعبيِّ
إذا قُلنا مَتى الإنجازُ قُلتُم / حَذارِ جحافلَ المَلِكِ الخفيِّ
تصَبَّرنا أُسُوداً في قُيُودٍ / على هذا الرّواغِ الثَّعلَبيِّ
وقُلنا نحن عُزلٌ فارحَمُونا / ولا تَتَلَطّخوا بدَمٍ زكيِّ
فصوَّبتُم مدافعَكم إلينا / لترشُقَنا بأنواعِ الشظيِّ
ومن أموالِنا صُنعَت لتودي / بكلِّ فتىً همامٍ ألمعيِّ
تدجَّجتُم ولم تُبقوا سلاحاً / لشعبٍ قد غدا هدفَ الرميِّ
ولو أنّا تعادلنا وجلنا / لأنصفنا الأصيلَ من الدعيِّ
فما حَطَمَ السلاحَ سوى سلاحٍ / يماثِلُهُ بتدبيرٍ خفي
فلسنا دونكم جَلَداً وبأساً / وأعزَلنا يُغير على الكمي
ولكنَّ القذائفَ والشظايا / حَمَتكُم من سنان السَّمهَري
بمائتِنا نلاقي الألفَ منكم / وما منّا سوى البطلِ الجري
زَعَمتُم أنّكم أعوانُ عدلٍ / تُجيرونَ الضّعيفَ من القوي
وفي أعمالِكم تكذيبُ قولٍ / غدا كيّاً على الجرحِ الدميِّ
أننصِفكُم ونحملُ كلَّ حيفٍ / فنأتي بالهديّةِ والهَدِيِّ
ونَنصُرُكُم وأنتم من عُدانا / فنؤخذَ بالخَّديعةِ من دَهِيِّ
ويومَ السلمِ تَنتَقِمونَ منا / فهَل هذي مكافأةُ الوفي
فبالمرصاد نحن لكم لنقوى / ونُرغِم أنفَ مختالِ عَتي
سنَصبرُ حاقدينَ على زمانٍ / به انتصرَ الخسيسُ على السري
فإمّا أن يكونَ لنا انتقامٌ / وتظفيرٌ بكلِّ فتى حَري
وإما أن نقاتِلَكُم ونَفنَى / بلا أسفٍ على العيشِ الدني
فإنَّ الموت في شرَفٍ وعزٍّ / أحبُّ من الحياةِ الى الأبي
سيوفُ الشرقِ ماضيةٌ ظُباها / وأمضاها شباةُ محَمدي
فلم يدعِ العلوجُ الحمرُ سيفاً / ولا رمحاً لأحمسِه العصي
فهل فرَجٌ لأهلِ الشرقِ يُرجى / بنجدةِ ربّةِ الشرقِ القصي
فيَشكُرَ كلُّ مظلومٍ فقيرٍ / مساعدةً من الشهّمِ السخي
هي اليابانُ تَطلَعُ للمعالي / بمطلَعِ رايةِ الشمسِ السني
لها في البحرِ أسطولٌ يدلّي / مراسيَهُ كأشطانِ الركي
بوارِجُهُ على الأمواجِ ترسو / قلاعاً في الصبائحِ والعشي
وجَحفَلُها يضيقُ البرُّ عنهُ / وفيهِ كلُّ مقدامٍ عدي
فيالِقُه سحائبُ في حَشاها / صواعقُ منذراتٌ بالدَّوي
مشى الأمراءُ والقوّادُ فيه / إِلى تذليلِ جبّارٍ طغِيِّ
فلم يُبقوا له علماً رفيعاً / ولا حصناً منيعاً للرُقيِّ
فهبَّ الشَّرقُ بعد خمورِ دهرٍ / لصرخةِ ذلك الشعبِ النخيِّ
وحارَ الغربُ في نصرٍ مبينٍ / علىالجيشِ اللّهامِ القيصريِّ
وباتَ الرومُ في قلقٍ ورُعبٍ / لترجيعِ الصدى صوتَ النعي
ولولا بأسُه دخلوا حماهُ / وقد جارَ البغيُّ على التقي
أيا أهلَ المشارقِ لا تناموا / فإنَّ عدوَّكُم في ألفِ زِيِّ
وكونوا أُمّةً يومَ التنادي / على أُممٍ من الغَربِ الغوي
وصيروا بعدَهُ أُمماً تآخت / وقد عَطَفَ الصفيُّ على الصفي
فلو أنّ الهنودَ مشوا جميعاً / إلى يومٍ أغرَّ عَرَمرَمي
لطاحَ الإنكليزُ بهِ وآلت / شدائدُه إلى شدّ المطي
ولكنّ الدسائسَ فرّقَتنا / فصرنا كالنبالِ بلا قِسي
لفولاذِ المدافعِ قد خَضعنا / فسيِّدُنا أذلُّ من الخصي
وضعفُ العزمِ والأخلاقِ أودى / بآلاف لدى نفرٍ قوي
فوهنُ الشّعبِ من وَهَنِ المزايا / ومن فَقدِ السلاحِ المعنوي
وفي صدقِ العزيمةِ كلُّ صعبٍ / يهونُ على الشجاعِ الأريحي
أبيُّ النفسِ يَلقى الموتَ طوعاً / ويقحمُه ببأسٍ عنتري
فلا عذرٌ لأعزَلَ سيمَ ضيماً / فقالَ أخافُ بطشةَ مدفعي
قوى الأرواح فوقَ قوى سلاحٍ / فرنجيٍّ يُعدُّ لمشرفي
فلو أن النفوسَ لها جِماحٌ / لكسّرنا المدافعَ بالعصي
مِن الإفرَنجِ لاَ يُرجى حياءٌ / فصونوا نضرةَ الوجهِ الحيي
فإما الحربُ في تحصيلِ حقٍّ / وإما السلمُ في حكمٍ سوي
لهم ملكٌ ومالٌ بين شعبٍ / حفيٍّ في منازِلهِ عَرِيِّ
فوا أسفي على الشرقيّ يَشقى / وأهلُ الغَربِ في عيشٍ رخي
أضاعَ الدينَ والدنيا جهولاً / ولم يكُ غيرَ مظلومٍ أذِيِّ
فحتّامَ الغضاضةُ والتغاضي / عن الأرزاء بالطّرفِ القذي
ويا أبناءَ يعربَ هل أصاخت / ضمائركم لتأنيبِ الندي
فَحولَ الكعبةِ العُظمى نجومٌ / تطالِعُكُم من الليلِ الدجي
أغيروا كلُّكم عرباً وغاروا / على الدينِ الحنيفِ الأحمدي
ودونَ الملكِ والإسلامِ موتوا / على حقٍّ كسيّدنا علي
وصونوا خيرَ ميراثٍ وسيروا / على النهجِ القويمِ الراشدي
وبالأسطولِ والجيشِ استعزّوا / لتحموا الملكَ من أمرٍ فريِّ
دعوا أثراً عفا وضَعوا أساساً / لقصرٍ من أُميّة مَرمَري
فيُنظمَ شَملُكم عقداً فريداً / يدلُّ على ذكاءِ الجوهري
خليفتُكُم حوى الدنيا فأزرت / عمامتُه بتاجٍ كسروي
وَرثتُم ملكَ غسانٍ ونضرٍ / وحِميرَ ذي الجلالِ التبّعيِّ
وقد زدتم عليه ملكَ دارا / وقيصرَ ثم فرعونَ الحمي
ولم يكُ مجدُ ذي القرنين إِلا / حقيراً عِندَ مجدٍ يَعربي
مواطنكُم يَعيثُ الرومُ فيها / وهم منها على كنفٍ وطي
لكم أشواكها ولهم جَناها / فليتَ حتوفَهم عند الجني
صبرتُم صبرَ أيّوبِ المعنّى / عَلَيهِم بعدَ حلمٍ أحنفي
فما عرفوا لكم صبراً وحلماً / وهل يُرجى الندى من أعجمي
وشرّ عداتِكم منكم فبلوى / بني العباسِ بابن العلقمي
ومُزِّقَ ملكُ أندلسٍ بدعوى / طوائفِه وحكمٍ فوضوي
فما حَسَمَ الخيانةَ وهي داءٌ / سِوى سيفٍ أحدّ مهلّبي
صلاح الدينِ ماتَ فهل سميٌّ / لقاهِرهم له بأس السمي
فيغدو الشرقُ حراً مستقلاً / فتجمعُهُ خلافةُ هاشمي
ويأخذُ للعزائم والمواضي / مضاءً من حسامٍ خالدي
أتاني الوَحيُ في ليلٍ شجاني / فجاشَ الشعرُ في صدري الشجي
فجدتُ بهِ على قومي وعيني / تصونُ بقيةَ الدمعِ الذريّ
ولو هملت دموعُ الحرِّ حيناً / على البلوى لكانت كالولي
ألا يا حبذا ليلٌ جميلٌ / زواهِرهُ كأصنافِ الحُلِيِّ
أرِقتُ ولذَّ لي أرقي عليهِ / لسكري بالجمالِ السرمدي
وما سَهري لجملٍ أو لنعمٍ / ولا شَغفي بحسنٍ زينبي
ولكنّ المراغبَ سهّدتني / لأحملَ عبءَ مأفونٍ خلي
فهمي كلُّهُ في أمرِ قومي / ولم يستَهونِي لهوُ الغوي
إذا نلتُ المنى نفّستُ كرباً / وإِلا فالسلامُ على الشقي
هنالِك بتُّ أرعى النجمَ بعثاً / وأحدجُهُ بمقلةِ بابلي
لعلي أهتدي من سرّ نفسي / إِلى سرِ الوجودِ الأولي
ولما أن هجعتُ رأيتُ طيفاً / يحييني بثغرٍ لؤلؤي
فضاعَ الطيبُ منه ومن نقابٍ / يُرفرفُ فوقَ بُردٍ أتحمي
تلألأتِ الجواهرُ فيه حتى / رأيتُ كواكب الأفُقِ البهي
فلاحت خيرُ من لبست نطاقاً / وعلّت من زلالٍ كوثري
فقالت وهي باسمةٌ سلامٌ / على من شِعرُهُ مثل الأتي
هَبطتُ إليك من جنّاتِ عدنٍ / فطِب نفساً بطيب طوبوي
وخذ منه نشاطاً واعتزاماً / وخفّف لوعة القلبِ العني
حظيتَ الحظوة الكبرى جزاءاً / لما أُوتيتَ من خُلُقٍ رضي
فمثلُكَ من يكونُ لفخرِ قومٍ / اذا افتخروا بشهمٍ لوذعي
إِلى العربِ انتميتَ وأنت برٌّ / فيا لك من أخي عربٍ هدي
فقلت وقد سجدت لها سلامٌ / على هذا الجلال الفاطمي
أيا بنتَ النبيِّ رفعتِ قدري / بتقريبي إلى الملأ العلي
فهانَ عليَّ دون حماكِ موتي / وهذا الموتُ فخرُ العبقري
فنفسي كلها طربٌ وشوقٌ / لرؤيا بين أنوار الحبيّ
أسيّدة النساءِ وأنتِ أبهى / من المريخ في الفلك النقي
على روحي أفيضي النورَ حتى / أرى فجراً على روضٍ ندي
لقد جرّدتُ من شعري سيوفاً / تذود عن الضريح اليثربي
وقد أشعَلتُ بالفرقانِ لبي / فهدي النارُ من صدري اللظي
فؤادي كربلاءُ هوىً وحرباً / ولم يُنكر بلاء الشافعي
أَأَنتِ بذاك راضيةٌ لأرضى / بآلام الشهيد الطالبي
فقالت أنت بالإسلام أولى / فصلّ فسلّمنَّ على النبي
صافح من العربِ الأمجادِ أحبابا
صافح من العربِ الأمجادِ أحبابا / وانشُق من الغربِ أرواحاً وأطيابا
وأنشدِ الشِّعرَ في بدوٍ وفي حضرِ / حتى تحرِّكَ أطلالاً وأطنابا
وجرّرِ الذيلَ من فاسٍ إِلى عدنٍ / أيّانَ سرت رأيتَ القومَ أعرابا
هاتيكَ أرضُ هُدى الفرقانُ شرَّفَها / واللهُ أثبتَ إسلاماً وإعرابا
من عهدِ عادٍ وشدادٍ عروبتُها / فكم هنالِكَ آثاراً وأنصابا
إلى ابن حِميرَ أفريقيّةُ انتسبت / لما غزاها ومنها ظافراً آبا
قد كان أفريقُ بالجيشين فاتحَها / وبعدَهُ مالكٌ صحراءَها جابا
عرّج على كلِّ أرضٍ أهلُها عربٌ / وحيّهِم وافتقد في الغربِ أحبابا
وحذّر الرومَ من أهوالِ قارعةٍ / فيها نكبّ على الخدّينِ منكابا
وقل إذا أرضُ أفريقيةِ اضطربت / وزلزلت تتعاطى الموتَ أَكوابا
والخيلُ مصبوبةٌ في غارةٍ جمعت / من الصناديدِ فرساناً وركّابا
لم تعرفوا الحقَّ إِلا بين أسلحةٍ / مركومةٍ تسكبُ النيرانَ تسكابا
بمِثلها سنقاويكم مباسلة / لكي نرى بعد طولِ المكثِ إِشعابا
كما أرقنا على حقٍّ نريقُ دماً / والقتلُ فيه رضَى يشتاق إغضابا
إن كانتِ الحربُ ذوداً عن حمى شرفٍ / نقصد ولو بخرابِ الدارِ إحرابا
لا تحرجونا فكأسُ الغيظِ طافحةٌ / إنّا لنقطعُ بعدَ الصبرِ أسبابا
لا بدَّ من أَجلٍ يأتي على قدرٍ / ما دامتِ الأرضُ ميزاناً ودولابا
الأمسُ أسعدَنا واليومُ يُتعِسنا / فالقادسيةُ جرّت بعدها الزابا
غلبتمونا ولكن سوفَ نغلِبُكم / والدهرُ ما انفكَّ دوّاراً وقلَّابا
قبلَ التفاني على حقدٍ وموجدةٍ / شدُّوا الرحال إِلى البطريقِ والبابا
ماذا يريد علوجُ الرومِ من عربٍ / ولم يكونوا لهم أهلاً وأصحابا
إن يفقدوا ملكَهم لن يفقدوا شرفاً / ظلّوا به للعلى والملكِ طلّابا
قد غالبوا الدهرَ والأرزاءَ فانتصروا / والمجد إن سارَ عنهم زارَ إغبابا
الفرسُ والروم واليونان قد بسطوا / على البسيطةِ أحكاماً وآدابا
لكنها معهم بادت فلستَ ترى / منهم سوى أثرٍ تلقاهُ مرتابا
والعرب دائمة فيها صنائعهم / وإنَّ منها لتبشيراً وترحابا
بالدينِ والشرعِ ثم النطقِ ما برحوا / بعد الخلافةِ أسياداً وأربابا
ما استعجموا إنما المستعربون رأوا / على العروبة إحساناً وإنجابا
يا تونسيُّ ويا مرّاكشيُّ ويا / جزائريُّ ويا مصرىُّ ما نابا
ما ناب أوطانكم من غارةٍ نسخت / كتّابكم إذ غدا الإسلامُ أسلابا
كنتم أُسوداً وقد كانت عرائنكم / والرومُ منكم تخافُ الظفرَ والنابا
واليومَ في خيسكم عاثت ثعالبُهم / والعلجُ أصبحَ في الصحراءِ جوّابا
أليس يرهبُ قفراً لا حدودَ لهُ / ولا فوارسَ طاروا فيه أسرابا
ولا صهيلاً زئيرُ الأُسدِ جاوبَه / ولا هجيراً يُذيبُ الصخرَ إلهابا
ما أرحبَ القفر للأحرارِ إن طلبوا / ثأراً وقد شربوا في ذلهم صابا
وأتعسَ الروم فيهِ وهو مقبرةٌ / فيها يوارونَ أجناداً وأنشابا
هي الجزائرُ في أيامِ نكبتِها / على الفرنسيسِ كان الليثُ وثّابا
ردحاً طويلاً بعبدِ القادرِ امتنعت / إذ هبَّ يفتكُ بالأعداءِ محرابا
لكنّ أمتَه من بعدِهِ شَقِيَت / ونجمُها غابَ في البيداء مُذ غابا
فللفرنسيسِ دانت وهي صاغرةٌ / تشكو إلى الله إرهاقاً وإرهابا
يا إخوتي هل نسيتم أنكم عربٌ / حتى رأيتم مِنَ الأعرابِ إغرابا
ما للتواريخِ لا تُذكي حميتَكم / وقد غدا الذلُّ في ضرّائكم دابا
عودوا إليها تُعيدوا كلَّ مفخرةٍ / ففي الرسومِ يقينٌ للذي ارتابا
هل لابن خلدونَ صوتٌ في مساجدِكم / وفي مدارسَ تَلقى العلمَ ثوّابا
والمقَّريُّ بنفحِ الطيبِ يُنعشُكم / وقد نشقتُم عبيرَ المجدِ أحقابا
اين القبائلُ من قيسٍ ومن يمَنٍ / والملكُ يبعثُ مطعاناً ومضرابا
أين الأساطيلُ مرساةً ومطلقةً / تحمي ثغوراً أتاها العلجُ نهّابا
للمسلمينَ جرى في البحرِ أضخمها / فاربدّ تيارُهُ وارتدّ هيّابا
هل من خلاص لنا والرومُ قد ضغطوا / على القلوبِ فصارَ السلبُ إيجابا
شدُّوا علينا بقذّافٍ ودارعةٍ / فما وجدنا على التضييق إرحابا
إن التعدّي على الإسلام ديدنُهم / والظلمُ يمتدُّ إرعاباً وإرغابا
تقدّموا وتأخرنا ليقظَتِهم / ونومِنا فغدا الأنذالُ أندابا
سطوا لصوصاً ولم يُبقوا على بلدٍ / لما فتحنا لهم في جَهلِنا بابا
لقد هَدَمنا بأيدينا منازلَنا / فلنسمعنَّ من الغربان تنعابا
إن الصحابةَ والأنصارَ قد حفظوا / عهدَ النبيِّ وكانوا عنه نوّابا
فأينَ أمثالُهم في معشرٍ أخذوا / عَنِ الأعاجمِ أنواطاً وألقابا
يا مصرُ كوني لعربِ الغربِ هاديةً / وأوفدي من رجالِ العلمِ أقطابا
حتى تَرَي كلَّ أفريقيّةَ اجتمعت / على العروبة والإسلامِ أعصابا
الدينُ والعلمُ والآدابُ زاهرةٌ / في الجامعِ الأزهرِ الملآن طلابا
فيه قلوبُ بني الإسلامِ خافقةٌ / مذ كان قلباً لدينِ اللهِ وعّابا
فيكِ الذخيرةُ من دينٍ ومن لغةٍ / فوزّعي العلمَ تشريقاً وإغرابا
أنتِ الوصيةُ في شرعِ النبيِّ على / أبنائه فابلغي السنغالَ والكابا
لم يحفظوا ملكهم فليحفظوا لغةً / فصحى وديناً لصدعِ الملكِ رءّابا
حفاظهم منهُ تجديدٌ لدولتهم / وبالتطلّبِ يلقى الندسُ إطلابا
إن العروبةَ والإسلامَ في خطرٍ / فالبحرُ يمتدّ للأعلاجِ سردابا
يا أهلَ مصرَ مقامُ الحزنِ محترمٌ / فأسكتوا معبداً منكم وزريابا
أرى الغناءَ حراماً والسكوتَ بكم / أولى فزجراً وتحريماً وإضرابا
دعوا الملاهي وسيروا في جنازتكم / فالرومُ قد هيأوا للنعشِ أخشابا
النيلُ جيشُ بني التاميز رنَّقهُ / وهو المعربدُ سكيراً وعضّابا
واشتدَّ يصبغُ في المطلولِ من دمكم / تاجاً وعرشاً لمولاهُ وأثوابا
ويا طرابلسَ الغربِ التي نكدت / بحكمِ رومةَ إسغاباً وإلغابا
عليكِ سالت دماءُ العربِ طاهرةً / واستشهدَ البطلُ المغوارُ ذبَّابا
راعتكِ غارة أعلاجٍ على سفنٍ / ملَّاحُهم يمتطي للقَدرِ مرزابا
ثوري لثأرٍ فكم أردت مدافعهم / عُزلاً رأوا أشرفَ الميتاتِ آرابا
وأنت يا تونس الخضراء قد رحلت / عنكِ النضارةُ فاستُقبِحتِ إجدابا
متى أراكِ عَروباً حرةً وأرى / غيمَ الفرنجِ عن الآفاق منجابا
مرآةُ جوِّكِ من أنفاسِهِم كدرت / وماءُ روضِكِ لا يشتاقُ أعشابا
صبراً جميلاً فإنَّ الدهرَ غالبُهم / والأغلبيّونَ كانوا فيكِ غُلّابا
تذكَّري عهدَهم واسعَي لعودته / فمَن سعى في طلابِ المجدِ ما خابا
كانوا ملوكاً وكان الدهرُ يرهبُهم / إذا امتطوا وانتضوا جرداً وأعضابا
في بأسهم وطّدوا أركان مملكةٍ / والجيشُ يقذفُ تهويلاً وإرعابا
هذي صقليّةُ العجماءُ ما نطقت / إِلا بلسنٍ يضاهي الماءَ تشرابا
فيها وفي أرضِ سردينيّةَ انتشرت / حضارةٌ أشبهت في النخلِ إرطابا
كم لابن حمديسَ من شعرٍ ترجّعُهُ / جناتُها فيشوقُ الموجَ والغابا
تلك القصائدُ غنّاها وأنشدها / فأطربت أهلَ عليّينَ إطرابا
ويا جزائرُ في ذكراك أرّقني / وجدٌ عليه فؤادُ الصبِّ قد ذابا
هل ارتضيت نكاحَ الرومِ ساليةً / وهل تخذتِ بناتِ الرومِ أترابا
برُّ العروبِ غدا بين الورى مثلاً / فلا تكوني فروكاً شعرُها شابا
أرخي النقاب على الوجهِ الحيي ولا / تُعَرّضيه لعلجٍ عاب واغتابا
ماءُ الحياءِ سقاهُ في نضارتِهِ / لولا نقابٌ يقيه سالَ أو سابا
يا بنتَ قومي وقومي أهلُ أندلسٍ / هل تذكرين سماءً بدرُها غابا
في ظل قصرٍ وجنّات ربيتِ فلا / تنسي ذويكِ ولو أتربتِ إترابا
إن العروبةَ فخرٌ للألى شربوا / كأساً من الحلوِ تعطي المرّ إعذابا
خذي الشجاعةَ من دينٍ ومن أدبٍ / ومن تذكّرِ مجدٍ إن تفي ثابا
ولا يغرّنكِ تدليسٌ وبهرجةٌ / من معشرٍ ينشبونَ الظفرَ إنشابا
الداء منهم فإن جاؤوا بأدويةٍ / زادوكِ سقماً وآلاماً وأوصابا
هذا خَريفُكِ والأزهارُ ذابلةٌ / فأمِّلي بعدَه أيّارَ أو آبا
كم دولةٍ فيكِ يا مرّاكشُ انبسطت / والأرضُ تهتزُّ إرهاباً وإعجابا
هل من عبيديّةٍ أو من مرابطةٍ / أو من موحّدةٍ ترجينَ أطنابا
فاسٌ قد اختطها إدريسُ عاصمةً / واليومَ لا عاصمٌ من تاجرٍ رابى
ما للخلافةِ رسمٌ فيكِ أو سِمةٌ / فرجّعي للورى نَوحاً وتنحابا
وابكي عليها وتوبي بعد معصيةٍ / فاللهُ كانَ على التوّابِ توّابا
إن الحديثَ شجونٌ والهوى مرضٌ / ففي هوى أُمتي ألتذُّ أتعابا
كم خارجٍ من عهودِ العربِ يشتمني / ولم أكن قط شتّاماً وسبّابا
آدابُ قومي وآدابي أعوذُ بها / من أن أكونَ مع الأوغادِ ثلابا
الأريحيّةُ هزّتني فصنتُ بها / من الأكارمِ أعراضاً وأحسابا
وفي احتقاري لمن دوني أرى ظفراً / هذا افتخاري على من ذمَّ أو عابا
ما الشام أفضلُ عندي من طرابلسٍ / فهذه القوسُ يَلقى قابُها القابا
والتونسيُّ أو المصريُّ في نظري / مثل الشآميِّ إعزازاً وإحبابا
كلُّ البلادِ بلادُ العرب لي وطنٌ / فيه أجرُّ على الأهداب أهدابا
وأهلُها كلُّهم أهلي فهم عربٌ / إن ألقَهُم ألقَ إكراماً وإرتابا
من فاته نسبٌ ما فاته أدبٌ / فكلُّهم عربيٌّ أصلُهُ طابا
قربى المواطنِ والآدابِ أمتنُ مِن / قربى تُجَمِّع أرحاماً وأصلابا
في حب قومي أرى الآفاقَ واسعةً / والنفس تأملُ جنّاتٍ وأعنابا
فكل أرضٍ تردَّت ثوبَ نعمتهم / أشتاقُ مأذنةً فيها ومحرابا
ما زلتُ أضربُ قلبي في محبّتهم / حتى تفجّرَ مِنه الشعرُ وانسابا
قد كانتِ الدارُ دارُ الشعرِ مقفلةً / فجئتُ أفتحُ للإبداع أبوابا
وإذ رأيتُ عروسَ الشعرِ عاريةً / ألبستُها من شغافِ القلبِ جلبابا
نفختُ في البوقِ فانشقّت مضاجعهم / وبتُّ أَشهدُ أَبطالاً وكتّابا
سارت مواكبُهم تتلو كتائبَهم / حتى غدوتُ ليومِ العرضِ رقّابا
والأرضُ مائجةٌ منهم ومائدةٌ / كأنها تحتدي من هاجَ أو هابا
يا بنتَ يعربَ سيفُ الحق مندلقٌ / فأشرِبيه دمَ الكفّارِ إشرابا
وارعي بنيكِ وصوني إرثَهم أبداً / فالدهرُ قد أَكلبَ الإفرنج إكلابا
وقاومي فتحَ أسطولٍ بمدرسةٍ / فطالما غلبَ القرطاسُ قرضابا
تحيا الشعوبُ بآدابٍ وألسنةٍ / ولو غدا الحكمُ إعساراً وإصعابا
فبشّري بكتابِ الله ناشرةً / لسانَهُ واهدمي للرومِ أنقابا
عسى تعودُ إِلى الإسلامِ بهجتُه / وتأمنينَ كذا ما راح أو رابا
واتلي من المصحفِ الآيات قائلةً / يا مسلمين اذكروا ديناً وأنسابا
وبايعوا ابنَ رسولِ اللهِ سَيدَكم / كي لا تروا فتنةً فيكم وأَحزابا
إن الخلافةَ مدّت ظلّ سلطتِها / على بنيها ولاقى العتبُ إعتابا
في الشرقِ والغربِ لاذَ المؤمنونَ بها / واستجمعوا حولَها جنداً وحجّابا
يا حبذا دولةٌ زهراءُ قد رفعت / من عهدِ هارونَ والمأمونِ أَعتابا
برزت وقد شقّت حجابَ الأعصرِ
برزت وقد شقّت حجابَ الأعصرِ / بنتُ النبيِّ الهاشميِّ الأكبرِ
وكأنَّ صفحةُ ذي الفقارِ جبينَها / ولحاظَها من حدِّهِ المتسعّر
روحي الفداءُ لحرةٍ نشأت على / حبِّ الأسنّة والظُبَى والضُمَّر
ضاقت بها الصحراءُ فانفتحت لها / أبوابُ كِسرى والعزيزِ وقيصرِ
فغدت تقودُ إلى المعاركِ خيلَها / وتُجرِّرُ الديباجَ فوقَ المرمر
واليومَ قد ظهرت تُعيدُ جمالها / وجلالها فتخضّبت بالأحمر
ومشت مظفّرةً وما وطئت سوى / هامِ الفوارسِ والقنا المتكسّر
فغدوتُ أخطرُ كابنِ هاني مُنشداً / لقصيدةٍ هزَّت كتائبَ عسكر
وأقولُ والخيلُ العرابُ تصاهلت / بنتَ البداوةِ حانَ أن تتحضّري
فعلى الحضارةِ أقبلي واستقبلي / أنوارَ ذياكَ الصباحِ المُسفِر
عودي إلى العهدِ القديم فإنهُ / مثل الربيعِ أو الغمامِ الممطر
شمسُ المشارقِ في المغاربِ أشرقت / من راحتيكِ لرومِها والبربر
فدعوتِهم بعد الضلالِ إلى الهدى / وكسوتِهم حِلَلَ الحريرِ الأفخر
وشكوا لكِ الظمأ الشديدَ إلى الندى / فسقيتِهم كرماً كؤوس الكوثر
وتهذّبت أخلاقُهم وعقُولُهم / فتنشقوا من فيكِ ريحَ العنبر
لولاكِ ما فكّ الأسيرُ قيودَهُ / والعبدُ لم يُعتق ولم يتحرر
الأرضُ قد صارت بحكمِك جنةً / تختالُ في ثوبِ النعيمِ الأنضر
فتهلّلت أنهارُها وبحارُها / طرباً لصوتِ مهلِّلٍ ومكبِّر
ما كان أجملَ ذلكَ العهدَ الذي / حكمَ البريّةَ فيه أشرفُ عنصر
سارت جيوشُ ذويكِ من فتحٍ إلى / فتحٍ أغرَّ كجارفٍ متحدّر
وعلى الممالكِ خيلُهم طلعت كما / طلعَ الصباحُ على الظلامِ المدبر
من كلّ وثّابٍ وكل طمرَّةٍ / في متنها خيسٌ لكلِّ غَضَنفَر
والخيرُ معقودٌ بها يومَ الوغى / فوقَ الدمِ الجاري وتحتَ العِثيَر
وصهيلُها كقصيفِ رعدٍ حاملٍ / بشرى الغيوثِ وبالصواعقِ منذِر
فتراءَتِ الدنيا لهم عربيةً / في بعض أعوامٍ وبضعة أشهر
وعلى المدائنِ رفرفت أعلامهم / من أبيضٍ أو أسودٍ أو أخضر
فمن الثلاثةِ فصِّلي عَلَمَ الهدى / وضعيهِ فوقَ عطاردٍ والمشتري
تلك العواصفُ بالحيا قد بشّرت / فهمى وحيّا بالربيعِ المغضر
فغدا الرشيدُ يقولُ في بغدادهِ / أيانَ تهوَي يا غمامةُ أمطري
ما تمطرينَ من البلادِ خراجُه / يأتي إليَّ ولو وراءَ الأبحر
يا دولةً بُنيت على القرآنِ مَن / يُحصي محاسنَكِ التي لم تُحصر
ما في البيانِ ولا القريضِ كفايةٌ / ولو استعرتُ له صِحاحَ الجوهري
أو شعرَ غيلانَ الكثيرَ وقد حوى / ثلثَ اللسانِ اليعربيِّ الأغزَر
من ذا يعدُّ أشعةَ الشمسِ التي / طلعت على الدنيا لأعظم مظهر
إن الحياةَ بنورها وبحزّها / وحياتُنا من نورِك المتنوّر
تذكار سالفِكِ المجيدِ يشوقُني / وا حرَّ قلبِ العاشقِ المتذكر
ملأ البلادَ حضارةً وغضارةً / فالأرضُ مُذ ولّى كربعٍ مُقفِر
فيهِ فخامةُ بابلٍ مع نينوى / عادت وعزّةُ بعلبكَّ وتَدمر
ألهمتِني وهديتِني فأنا الشذا / والنورُ منكِ لناشقٍ ولمبصر
فرأيتُ نفسي أُفقَ نجمٍ زاهرٍ / ورأيتُ قلبي روضَ وردٍ مزهِر
ما زلتُ في بغدادَ أسمعُ نغمةً / للموصليّ على رَنينِ المزهر
فأقولُ والحلمُ الجميلُ يشوقُني / يا أيها الحلمُ الجميلُ تَفَسّر
أترى دمشقُ وليدَها كغياثِها / ويسيرُ في بغدادَ مثلُ البُحتُري
فتُردِّدُ الأجيالُ شعراً خالداً / متسلسلاً من عَذبِكِ المتفجّر
ظهرت محاسنُهُ وكان ظهورُها / من حُسنِكِ المتبذّل المتستّر
زهراءُ قرطبةٍ وجامعُها وما / في كنزها من لؤلؤٍ مُتبعثر
والقصرُ والحمراءُ في حمصٍ وفي / غرناطةٍ وزخارفُ ابنِ الأحمر
وقصورُ سامرّا وبغدادَ التي / دَثَرت وفي الألبابِ لمّا تدثر
تهدى إليك إذا تعسّفَ طارقٌ / مستوضحٌ والليلُ ليسَ بمقمر
وعلى بقايا العزّ في أطلالِها / دمعُ الحزينِ وعبرةُ المتبصِّر
تبكي نظامَ الملكِ مدرسةٌ بها / جُمعت شعوبُ الأرضِ حولَ المنبر
وكذلك المستنصريةُ لم تزل / تحتَ الثرى تبكي على المستنصر
والحكمةُ الزهراءُ تندبُ بيتَها / وتقولُ للمأمونِ طالَ تحسّري
والأشرفيةُ في دمشقَ ومثلُها / ألفٌ بناها العربُ بعد تحضّر
لم يبقَ من أثرٍ لها ورجالُها / كانوا هداةَ العالمِ المتحيِّر
يتنقّلونَ كواكباً سيارةً / والأرضُ بالإسلامِ هالةُ أقمُر
ويُنثّرونَ على الدُّجى شعلَ الهدى / ويحاولون إقالةَ المتعثّر
تلكَ المدارسُ والمكاتبُ هُدِّمَت / أو أُحرِقَت فكأنها لم تخفر
كلُّ المحاسنِ والمكارمِ عرضةٌ / بعد الخلافةِ للسّفيهِ المفتري
كان الخلائفُ يحفظون عهودَها / وهي المهانةُ عند علجٍ يزدري
بالله أيتها الخلافةُ جمّعي / شملَ البنينَ التائهينَ النفّر
قد كنتِ عقداً للجواهرِ ناظماً / فانحلَّ وا أسفاه عقدُ الجوهر
هذا العراقُ إليكِ حنَّ نخيلُه / والشامُ بين تذكُّرٍ وتذمُّر
ولمصرَ والغربِ القصيّ تعلّلٌ / بالقربِ بعدَ تمنُّعٍ وتعذُّر
تلك البلادُ جميعُها عربيةٌ / بعد الشذا العربيِّ لم تتعطّر
فكذا أؤملُ أن تصيري دولةً / كبرى بنظمِ فريدكِ المتنثِّر
فأراكِ تنبسطينَ في شرقٍ وفي / غربٍ كما انبسطت قوادمُ أنسُر
وأسيرُ فيكِ مشرّقاً ومغرّباً / وأجرّ ذيلَ التائهِ المتكبّر
وأقولُ هذي أمتي أو دولتي / أو رايتي لمعزّةٍ ولمفخر
فهي القويّةُ والعليّةُ في الورى / وأنا القويُّ أنا العليُّ أنا الجري
في الكعبةِ العُظمى تعالت صيحةٌ / لابنِ الرسولِ النافرِ المستَنفِر
في الجامعِ الأمويِّ طنَّ دويُّها / والمسجدِ الأقصى وصحنِ الأزهر
أبني الألى انتصروا بنصرِ نبيِّهم / والحقُّ لولا نصرُهُم لم يظهر
من لا يُريقُ دماً ويبذلُ درهماً / لصيانةِ الشرفِ الأعز الأطهر
وإعادةِ الملكِ السليبِ فإنه / إرثٌ يثبِّتُهُ حطامُ الأعصر
الدولةُ العربيةُ الكبرى بِكم / ولكم تعودُ على العجاجِ الأكدر
فارموا أعادِيَكم بكلِّ كتيبةٍ / دفراءَ أبطشَ في الوغى من دَوسر
شَرفُ الفروعِ من الأصولِ وإنما / شرفُ الأصول من الدّمِ المتقطِّر
والخيرُ من عربيةِ الخَيلِ التي / داست حوافرُها مغاورَ أنمر
إن السيادةَ والسعادةَ والعُلى / من وجهِ دينارٍ وحدِّ مذكَّر
فإذا هما اجتمعا لِشَعبٍ صالحٍ / ما عادَ غيرَ مؤَمَّرٍ ومظفَّر
المالُ أعظمُ قوَّةٍ في دولةٍ / فلَكَم أتى منهُ انتصارُ مذخّر
وله السلاحُ على الصلاحِ مساعدٌ / والمرءُ بينهما مسيءٌ أو بري
يا مؤمنينَ بَدارِ ليسَ أميرُكم / إلا الإمام ابن الإمامِ الأشهر
قد هبَّ يجمعُ شملَكم في دولةٍ / قرشيّةٍ واليسرُ بعدَ تعسُّر
والرايةُ الشرفاءُ تحميكم كما / تُحمى بكم يومَ الوغى والمحشَر
أوَ ما عرفتم أُمَّكم بكتابِها / ولسانِها من شاهِدٍ أو مُخبر
ظهرت مطهرةً به فتطهرت / منهُ الشعوبُ وعمَّ فضلُ مُطَهَّر
أو ليسَ قوّتُكم وعِزّتُكم بها / في كلِّ قُطرٍ بالهُدى مُستَبشِر
برّوا بها لجميلِها وجمالِها / فالحرُّ لم ينكر ولم يتنكر
مَيلُ الفؤادِ الى الرشادِ دليلُكم / والمرءُ في الايمان لم يتحيَّر
الله أكبر والنبيُّ حبيبُهُ / فارجوا شفاعتَهُ بحسنِ تصبُّر
صلّوا عليهِ وسلّموا وتشدَّدوا / وتثبّتوا لتأهُّبٍ وتشمّر
أبناؤُهُ أنتم فكونوا أُمةً / وتحرّسوا من خادعٍ ومزوّر
أَيُفرّقُ الغرباءُ إخواناً لهم / دارُ الخلافة رحبةَ المستجمِر
أمخاطبينَ اللهَ باللغةِ التي / شَرفت بتنزيلِ الكتابِ الأنوَر
عربيّةٌ صلواتُكم ونفوسكم / وأطايبُ الجنّاتِ للمتبرِّر
بطحاءُ مكةَ ألّفت ألفافَكم / حتى غدوتم إخوةً في المَعشَر
فكما ببيتِ اللهِ طفتم إخوةً / طوفوا ببيت خلافةٍ لتحرّر
والله لا حريةٌ إلا التي / كُتِبَت بصفِّ الجيشِ لا بالأسطر
توحيدَكم لله منهُ وحدةٌ / لجموعِكم فخذوا برأي مُدبّر
وتجمّعوا أُمماً وصيروا أُمَّةً / فالملكُ أعظمُ بالعديدِ الأكثر
كونوا كبنيانٍ يشدد بعضُهُ / بعضاً فيأمن كلَّ ريحٍ صرَصَر
لا شيءَ يفصلُكم وهذا دينُكم / ولسانُكم فتمسكوا بالجوهَر
حبي الخليفةَ مولانا ومولاكِ
حبي الخليفةَ مولانا ومولاكِ / إن سارَ في الجيشِ محفوفاً بأملاكِ
فأنشدت أممُ الإسلامِ قائلةً / يا بنتَ مكةَ إنّا من رعاياكِ
الحمد لِلَّهِ بالإسلامِ شرَّفنا / وما عَرفنا الهُدى حتَّى عرفناكِ
فللرسولِ وأهليهِ وأُمتهِ / فضلُ الهدايةِ مقروناً بنعماكِ
ومرجعُ الدينِ والدنيا إلى عربٍ / في بيتِهم أشرقت أنوارُ أفلاكِ
فالأفضليةُ في الدارينِ فزتِ بها / طوباكِ يا بنتَ إسماعيلَ طوباكِ
منكِ الجمالُ تحلّى بالجميلِ لنا / وإنّ حسنَكِ مشفوعٌ بحسناكِ
ما نَسلُ جَدِّكِ من عربٍ ومن عجمٍ / إِلا خلاصةُ وردٍ طيِّبٍ زاكِ
فهو القويُّ على ضعفٍ وأنتِ بهِ / قويةٌ فأسودُ الغابِ تخشاكِ
أنتِ التي طلعت عذراءَ طاهرةً / زهراءَ سافرةً ما بين أحلاك
صانت بمُرهَفِها آياتِ مصحفِها / حتى أذلّت ذوي كفرٍ وإشراك
أنتِ العظيمةُ فوقَ الرملِ نائمةً / أنتِ الكريمةُ في أيام بؤساك
أنتِ الرحيمةُ والأسيافُ مُصلتةٌ / أَنتِ الحليمةُ والأبطالُ أسراك
أنتِ العفيفةُ واللذاتُ سائحَةٌ / أنتِ الظريفةُ والزهراءُ مغناك
أنتِ الخفيفة والأعناقُ مثقلةٌ / أنتِ اللطيفةُ والأعلاجُ أعداك
من مثل جَدِّكِ أو مَن مثل قومِك من / شروى نَبيّكِ يا ليلى وشرواك
ألم تقل كلُّ أرضٍ قد حَللَتِ بها / أهلاً وسهلاً فبُشرى اللهِ بُشراك
السندُ والهندُ ثم الصينُ قد شهدت / راياتِ قومِكِ فافترّت لمرآك
حيي هنالِكَ أرواحاً تحن إلى / روحِ النبوَّة حيثُ الروحُ حيّاك
هي الحمائمُ فوقَ البيتِ حائمةٌ / ولم تحُم حولَ بيتِ اللهِ لولاك
فمهبطُ الوحي والتنزيلِ في بلدٍ / جبريلُ فيهِ بآي اللهِ ناجاك
عندَ الصلاةِ وعندَ الموتِ أعيننا / ترنو إليهِ وقد لاحت ثناياك
في حجّ كعبتهِ أو نحو قبلتِهِ / رضى الذي بجميع الناس أوصاك
المسلمونَ إِلى البطحاءِ مرجعُهم / وليسَ يجمعهم إِلا محيّاك
فجمِّعيهم وإلا جمّعي عرباً / تفرقوا بعدَ ما ناخَت مطاياك
لهم مُمالكُ شتى لا ملوكَ لها / والرومُ قد أضعفوا فيهم مزاياك
تلك الممالكُ بالإسلامِ قد زهرت / وكلٌّ خيرٍ نأى عَنها بمنآك
تمسَّكي بعرى الإيمانِ واثقةً / فإنَّ دِينَك موصولٌ بدنياك
وإنه عربيٌّ أنتِ مصدرُهُ / بهِ العليُّ أمورَ الخَلقِ ولاك
أثبتِ دينَ الهدى والحقَّ غالبةً / فما أعزّك في الدنيا وأعلاك
ظَللتِ عَرباءَ صانتها بداوتُها / فأحسنَ اللهُ عُقبانا وعُقباك
لا أعجميَّ سطا يوماً عليكِ ولا / دَخيلَ فاللهُ من تَقواكِ أعطاك
يا بنتَ يَعربَ في عينيكِ لائحةٌ / أسيافُ من فتحوا الدنيا لعُلياك
ثلّوا العروشَ وقد فلّوا الجيوشَ بها / أعظِم بما صَنعت للخير جَدواك
بَنَت ممالكَ أو سنّت شرائعَ أو / أبقت صنائعَ فاقَت كلَّ إدراك
لكِ الفضيلةُ والفضلُ العميمُ على / كلِّ الشعوبِ فتقوى اللهِ تقواك
أعطيتهم من كتابٍ آيُهُ عَجَبٌ / ديناً وشرعاً ولسناً عطَّرت فاك
فلا شرائعَ إلا عنكِ مأخذُها / وفي اللغاتِ كثيرٌ من عطاياك
واللهِ لم ننسَ عهداً أنتِ بهجتُهُ / ولا سَلَوناكِ حيناً أو نسيناك
لكنَّ للدهرِ أطواراً تقلِّبنا / وكلٌّ قلبٍ شريفٍ ظلّ مأواك
فَكم أرَقنا على العرشِ الرفيعِ دماً / وكم ذَرَفنا دموعاً مُذ فقدناك
وإن ذكرناكِ هزّتنا حمَيّتُنا / فمثلُ ماويةِ الأغصانِ ذكراك
هلا بعثتِ على البلوى بنافحةٍ / فالأرضُ طّيبةٌ من نفحِ ريّاك
عودي إلينا لتحيينا فقد فعلت / كالماءِ والنارِ في الأرواحِ عيناك
سمعاً وطوعاً وإجلالاً وتكرمة / هذي المنازلُ نهواها وتهواك
ما العيشُ بعدَكِ فيها طيّبٌ ولنا / عهدٌ قديمٌ عليه قد عهدناك
لئن تَعودي تُعيدي مانهيمُ بهِ / إياكِ نعبدُ بَعدَ اللهِ إياك
فعاهدينا نعاهد رَبَّنا أبداً / أن نستميت لزلفاهُ وزلفاك
حَتّامَ نصبرُ في ذلٍّ وفي جزعٍ / وكيفَ نحملُ بَلوانا وبلواك
فالأرضُ كادت بزلزالٍ تُزَحزِحُنا / عن ظهرِها يومَ جيشُ الرومِ وافاك
يا حسرتاه ويا ويلاه من زَمنٍ / أضرى الثعالبَ فانتاشت بقاياك
هل روحُ أحمدَ تُلظي قلبَ أمتهِ / لكي نؤجِّجَ ناراً دونَ ملجاك
هبّي إلى سيفهِ في كلِّ نائبةٍ / فطالما في اشتداد الخطبِ نجّاك
ذراعُ أرضكِ ميلٌ في نواظرهم / مذ شرّفَتها بحقِّ الفتحِ رجلاك
من الفرنجِ أرى الإسلامَ في خطرٍ / ولليهود انتهاكٌ بعد إنهاك
فلا تنامي على ضيمٍ ولا تقفي / حيرى فروحُ صلاحِ الدين ترعاك
ضَمّت دمشقُ عظاماً منه طاهرةً / وقد تباركَ مثواهُ ومَثواك
فكيفَ يدخُلها الروميُّ مغتصباً / ولا يخافُ الذي في الروعِ فدَّاك
ما لليهودِ وللإفرنجِ قد وثبوا / على فلسطينَ حيثُ القدسُ تلقاك
وحُرمةِ المسجدِ الأقصى لقد بطلت / دعوى الخليطِ وصحّت فيهِ دعواك
ما أختُ مكة إِلا القدسُ فاحترمي / شرعَ النبيِّ وصونيها لقرباك
كم زحفةٍ لعلوجِ الرومِ أوقفَها / سلاحُ جيشِكِ أو أشلاء قَتلاك
وكم عليها دماءُ المسلمين جَرَت / وكم تساقطَ فيها من سراياك
لأجلِها أهرقوا أزكى دمٍ فلهم / تبقى على رغمِ طمّاعٍ وأفّاك
يا قدسُ مكةُ قد آستكِ باكيةً / لما أتاها بنعي الدينِ مَنعاك
وافاكِ في ليلةِ المعراجِ سيِّدُنا / محمدٌ وكتابُ اللهِ سمّاك
فبالعروبةِ والإسلامِ أنتِ لنا / واللهُ يسمعُ شكوانا وشكواك
هل تستقرُّ جماهيرُ اليهودِ إذا / دعوتِ يوماً أبا حفصٍ فلبّاك
وذو الوشاح لهُ في الغمدِ صَلصَلةٌ / وفي الرقِّابِ صليلٌ منه سلواك
إذا بدا ظلُّهُ أو ظلُّ ناقتهِ / ولو برؤيا تهولُ الخصمَ رؤياك
إن السيوفَ على الأغمادِ حاقدةٌ / لأنها لم تجرَّد في رزاياك
ما كانَ أجمل إبسالاً وتفديةً / والشهمُ يقصد إنجاء بإهلاك
بالله أيتُها الأمُّ العروبُ خذي / بالثارِ شعباً لنصرِ البطل عاداك
وطهَّري القدسَ من رجسٍ ومن دَنسٍ / وأصلتي سيفَ سفّاكٍ لسفّاك
ماذا تُرجّينَ مِن قومٍ بلا شرفٍ / ولا عهودٍ ومنهم كلُّ فتّاك
إن الرزيئة كبرى لا عزاءَ لها / حتى اليهوديُّ أخزانا وأخزاك
على بنيكِ غدا في أرضِهم أسداً / ولم يكن في حماهم غيرَ هتّاك
فحرّضيهم على تقطيعِ سلسلةٍ / هم راسفون بها ما بين أشراك
وجمّعيهم كما جمّعتِهم قدماً / في دولةٍ نظمَ حبّاتٍ بأسلاك
النطقُ والدينُ والآدابُ تجمعهم / ولا تزالُ سجاياهم سجاياك
الأرضُ أرضُكِ لا مطلٌ ولا جدلٌ / ولا خداعٌ فصكي وَجهَ بشاك
قد أثبتَتها من الأجيالِ أربعةٌ / وعشرةٌ وهي منذُ الخلقِ مجراك
بالإرثِ والحرثِ والسكنى لنا حججٌ / واللهُ بالدمِ زكّاها وزكاك
وكلُّ شعبٍ له أرضٌ يُدبِّرها / فيمَ التصدي لمسعانا ومَسعاك
أحيثما عمرٌ صلّى وحيثُ بنى / بنو أميةَ للتقوى مُصلَّاك
يمشي الأجانبُ في غوغائهم مرحاً / ولا سكونٌ لمن شاقَتهُ سكناك
من إرثه يُحرَمُ الفادي له بدمٍ / ولليهودِ احتكامٌ بعدَ إملاك
من ذا يرقُّ لمفجوعٍ بموطنهِ / بين الأراذلِ أو من يسمعُ الشاكي
الإنكيزُ استبدوا واليهودُ بَغَوا / مستضحكينَ لدمعِ المسلمِ الباكي
صبراً جميلاً فما الشكوى بنافعةٍ / حيثُ المظالمُ زادت من شكاياك
في حالِ ضعفِكِ داريهم وإن تثقي / من قوةٍ ألصقي بالسيفِ يُمناك
بالرومِ ضحّي وضحّي باليهود معاً / فاللهُ تُرضيه في الأضحى ضحاياك
وذكّري العلجَ عهداً فيهِ عسكرُهُ / بعدَ الأمانيِّ لاقَتهُ مناياك
لما تعدَّى الصليبيون وائتمروا / وما مَكرتِ ولا أسرَرتِ نجواك
جرّدتِ سيفاً قد اعتادت مضارِبُهُ / هامَ العلوجِ فخرّوا منهُ صرعاك
أدِمَشقُ أينَ بنو أميّةَ قولي
أدِمَشقُ أينَ بنو أميّةَ قولي / لِيَقوا نضارةَ حسنكِ المبذولِ
بجلالِ جامِعهم ورونق ملكِهم / صوني الجمالَ بشعركِ المحلول
ما حالُ غوطتِكِ التي فُجِعت بهم / فغدا لها ثأرٌ على القاطول
الحقدُ زالَ على الشقاوةِ والأسى / فجميعُنا عربٌ كرامُ أُصول
وأولئك الخلفاءُ عن عصبيةٍ / عربيّةٍ ذادوا بكلِّ أصيل
فتشرّفوا بينَ الملوكِ وشرّفوا / ملكاً تقاصرَ عنهُ باعُ دخيل
بسطوا سيادَتَهم وظلّوا سادةً / حتى انكسارِ الصارم المسلول
أهوى خلافتَهم وأحفظُ عهدَها / ولذكرِها أبكي على تأميل
ظلّت عروباً لم تُمسَّ ولم تَهُن / وعلى الصواهِلِ آذنت برحيل
ما شوَّهَ الدخلاءُ يوماً حسنَها / فهي التي سقطَت بلا تذليل
لبني أُميةَ في النفوسِ مكانةٌ / بالبأسِ والإحسانِ والتعديل
ملكوا القلوبَ بحلمِهم وسخائهم / ورعوا ذمامَ عشيرةٍ وقبيل
ماتوا كما عاشوا ملوكاً بُسَّلاً / لم يؤخذوا بالقهرِ والتنكيل
قتلوا من الأكفاءِ لا من سوقةٍ / ومضوا على مجدٍ أغرَّ أثيل
في ظلِّ دولتهم وظلِّ بنودهم / قد تمّ فتحُ العالمِ المأهول
فلهم على العرب الأيادي ما صبت / نفسٌ إلى التكبير والتهليل
إني أجلُّ وفاءَهم وبلاءَهم / فلهم على الأحرارِ كلُّ جميل
نصرُ بنُ سيارٍ تكسّر سيفُه / في نصرهم إذ ملكهم لمهيل
أكرم بهِ بطلاً شريفاً ماجداً / لحفاظهِ أودى أعزّ قتيل
معنُ بنُ زائدةِ الهمامُ رفيقُهُ / في الذودِ عن عربيّةٍ عطبول
دفعتهما عصبيّةٌ وحفيظةٌ / والفرسُ يدفعُها شفاءُ غليل
أدمشقُ أنتِ أميرةٌ أمويةٌ / بالقصرِ والكرسيّ والإكليل
فابكي معاويةَ الذي بدهائهِ / جعلَ الخلافةَ فيكِ بين نصول
فغدوتِ من سلطانهِ سلطانةً / للأرض بالتعظيمِ والتبجيلِ
ورأيتِ من قسطنطِنِيَّةَ ضرَّةً / فرميتها بالجيشِ والأسطول
زعزعتِ ثمتَ ملكَ قسطنطينَ إذ / فرَّت شراذمُ جيشهِ المفلول
قد كان جباراً وفي جبروته / ما يُنهضُ الأقوامَ بعدَ خمول
فهو الذي وضعَ الأساسَ موطّداً / للملكِ بينَ الهونِ والتهويل
فرآك تحتَ حسامهِ ونظامِهِ / قطبَ الورى في بكرةٍ وأصيل
أبداً عليكِ يلوحُ ظلُّ خيالهِ / فتذكّري عهداً لقيلِ قيول
هيهات تَرجعُ دولةٌ أمويةٌ / أبقت من الآثار كلَّ جليلِ
بيضاءُ راياتٍ وأعمالٍ هوت / تَحتَ الحجابِ الأسود المسدول
الجامعُ الأمويُّ من آثارها / فلكم رمى متأملاً بذهول
جمعَ الفخامةَ والمحاسنَ والهُدى / وعلى المكارمِ ظلَّ خيرَ دليل
والمسجدُ الأقصى إلى حسناتِها / يصبو وهذا العهدُ عهدُ بخيل
عَزَّت بأهليها وفي أيامِها / سادوا الشعوبَ وطوّفوا كسيول
فلها البريةُ دوّخوا ولأجلِها / ضربوا مناكبَ عرضِها والطول
التركُ من أسدِ بنِ عبدِ الله قد / سحقوا بِضَربةِ ساعدٍ مفتول
كثرت غنائمُهُ وقتلاهم إِلى / إيمانِهم بالله والتنزيل
ومحمدُ القسريُّ أوردَ خيلَهُ / في الهندِ ماءَ الغنجِ بعدَ النيل
فاستصغَر الهنديُّ ذا القرنينِ في / إعجابهِ بالفاتحِ البهلول
واحتلّ أندلسَ الجميلةَ طارقٌ / في وقعةٍ غراءَ ذات حجول
لَذريقُ لاقي في شريشَ حِمامَهُ / إذ فرّ في الهيجاءِ كالإجفيل
والقوطُ من حرِّ السيوفِ تساقطوا / في النهرِ كالأوراقِ بعد ذبول
غرقاً وقتلاً قد مضوا لسبيلهم / والعربُ قد سلكوا أعزّ سبيل
وبسيف مسلمةٍ وسيف قتيبةٍ / وبصارمِ الحجّاجِ ذاك الغول
خضع العصاةُ وقد تفاقَم شرُّهم / وتفرّقوا عن ثائر مغلول
وكذا العداةُ تصرّعت أمراؤهم / وجبالهم موطوءَةٌ كسهول
أعظِم بقوّادٍ كآسادِ الشرى / فلّوا جيوشاً أدبرت بفلول
شدوا الحبالَ على الخصومِ وشدّدوا / وأتوا بجزيةِ عاهلٍ مخذول
ولحسنِ نجدتِهم وشدة بأسهم / حكموا على التصعيبِ بالتسهيل
فكأنهم ولدوا لعزةِ أُمةٍ / نجبت بأكرمِ نسوةٍ وبعول
تذكارهم منهُ الحياةُ لنسلها / وبه الهُدى كالنجمِ والقنديل
غزواتهم كانت لهم نُزهاً بها / حلّوا بلادَ الرومِ خيرَ حلول
كم للمفاخرِ أنجبت عربية / حسناءُ غيرَ سقيمةٍ وملول
لم يُولدِ العربيُّ إلا فارساً / أو شاعراً أو ضائفاً لنزيل
أدمشقُ كنتِ مليكةً حرّاسُها / عربٌ مضاجِعهُم متونُ خيول
وسيوفُهم قد أنكرت أغمادَها / من كثرةِ التجريدِ والتقتيل
فغدوتِ ثكلى لا يقالُ عثارُها / إِلا بضربةِ فيصلِ مصقول
في غارةِ عربيةٍ تُمحى بها / آثارُ حكم الرومِ والمنغول
فتكونُ سيلاً للفساد مطهّراً / والحزمُ في التصميمِ والتعجيل
البطشُ في قذّافةٍ قصّافةٍ / تمشي إلى الهيجاءِ مشيَ الفيل
والنصرُ من وثّابةٍ نهّابةٍ / بين الكتائب كاللظى في الغيل
باللهِ أيتها المنازلُ خبّري / هل فيكِ وصلُ العاشقِ الممطول
أبداً أزورك باكياً مستبكياً / أو ذاكراً ومذكراً كدليل
وعليكِ أشعاري ترنُ شجية / حتى انبثاقِ نعيمك المأمول
ما كان أتعس مولدي متأخراً / لأكون شاعرَ نكبةٍ وطلول
خلفي وقدامي بلاقعُ أربُعٍ / وحطامُ عرشِ خلافةٍ مثلول
وخرائبُ اندثرت وما فيها سِوى / حدِّ فليلٍ أو دمٍ مطلول
لكنني في الضعفِ أطلبُ قوَّةً / وأعيشُ بالتذكيرِ والتعليل
زَخرَفتُ حلمَ شبيبةٍ عربية / ورفعتُ مشعالاً لكلّ ضليل
فكأنني نبّاشُ مقبرةٍ بهِ / طربٌ لرنَّةِ مِعولٍ وعويل
يرجو العمارةَ والحياةَ لأمةٍ / برفاتِ أجداثٍ ورسمِ محيل
أدمشقُ لا سكنى لشاميٍّ إذا / لم يرحلِ الروميُّ بعدَ نزول
فيك الوليدُ تقطّعت أوتارهُ / وكؤوسُه انكسرت لدى التقبيل
فله جميلٌ لستُ أنسى عهدَه / إذ كانَ عَشَّاقاً لكلّ جميل
أنا شاعرٌ يبكي عليهِ لِشعرهِ / ويفي حقوق الشاعرِ المقتول
أو لا تحبينَ الخليفةَ شاعراً / ما بين ترنيمٍ وجرّ ذيول
أم لا ترينَ من العدالةِ قتلُهُ / لسماعِ ألحانِ وشربِ شمول
فعلى كلا الحالين أبكي والهوى / أعمى عن التحريمِ والتحليل
أعليكِ لابن أبي ربيعة وقفةٌ / وقصيدةٌ من قلبه المتبول
أم أنتِ باكيةٌ لشعرِ كثيّرٍ / حيناً ومنشدةٌ لشعرِ جميل
برَدى يرجّعُ لي غناءً مطرباً / فيه نواحُ الثكلِ والترميل
هذا لعمركِ ما يُذيبُ حشاشتي / تبكي نعيماً تحتَ ظلّ مقيل
وكأنّ يونسَ لا يزالُ مغنياً / عند الوليد بصوتِه المعسول
والأخطلُ المختالُ يترعُ كأسَهُ / ويقولُ يا دنيا لشعريَ ميلي
ويجرّرُ الأذيالَ عند خليفة / قد رصَّعَ الإكليلَ بالإكليل
الشامُ بنتُ للعروبةِ برّةٌ / وفروعُها موصولةٌ بأصول
عرفت أمومتها برضعِ ثديّها / فالروحُ واحدةٌ على التحليل
أبداً تحنُّ إلى حضانةِ أمها / واللهِ تلكَ الأمُّ غيرُ خذول
من عهد فارعةٍ وعهدِ جدودها / حتى اهتدى غسانُ بالإنجيل
كانت وظلت بقعةً عربيةً / والجيلُ يُثبتُ ذاك بعد الجيل
الدينُ والدمُ واللسانُ شهودُها / وكفى بحكمِ الطبعِ والمعقول
قل للأعاجم والخوارجِ مَهلَكم / لن تفصلوا ما ليسَ بالمفصول
عربيةٌ هذي القلوبُ فحبُّها / أقوى من التّضليلِ والتّدجيل
فمن العراقِ إِلى الشآمِ الى الحجا / زِ إلى سَبأ بلاد نخيل
والغربُ من مصرٍ الى مرّاكشٍ / مع كل قُطرٍ بالهدى مشمول
أغصانُ جذعٍ أو مرازحُ كرمةٍ / وجميعُها صلةٌ من الموصول
في عدّها تصريفُ فعلٍ لازمٍ / وتجانسٌ من فاعلٍ وفعيل
بُنِيَت على القرآنِ فهو أساسُها / لتعاونٍ ما بينَها مجعول
والملكُ فيها واحدٌ وموحّدٌ / لا خوفَ من غبنٍ ومن تفضيل
أدمشقُ شرّفَكِ الخلائفُ مدةً / وزمانُهم حسَنٌ كظلِّ خضيل
هل أنتِ راضيةٌ بعلجٍ بعدهم / أو رائشٍ متذلِّلٍ لذليل
العربُ حكامُ الشآمِ وأهلُها / وقبورُهم ختمٌ على تسجيل
منهم لها خلفاءُ أو أمراءُ أو / علماءُ ليسَ عديدُهم بقليل
فعلى المآثرِ والرمامِ سلامُها / وعلى ثرى بدمائهم مجبول
عودي الى ماضيكِ يا بغدادُ
عودي الى ماضيكِ يا بغدادُ / والعربُ فيكِ الصيدُ والأسيادُ
والأرضُ أنتِ لحكمِها ولعلمِها / والماءُ دجلةُ والورى ورّاد
كل السيوفِ على ظباكِ تكسّرت / وتجاهَ مجدكِ زالتِ الأمجاد
وكذا الملوكُ تساقطت تيجانُهم / لعمامةٍ خرَّت لها الأطواد
وعروشُهُم حملت سريرَ خلافةٍ / حفّت به الأملاكُ والأجناد
أمدينةَ المنصورِ يا زوراء يا / بلدَ السلامِ سَلِمتِ يا بغداد
أنتِ المقدسةُ التي لجلالِها / نحني الرؤوسَ وكلُّنا عبّاد
النار قد خمدت ونامت أمتي / وبذكركِ الإيقاظُ والإيقاد
فكأنهُ البوقُ الذي لدويّهِ / تذرى القبورُ وتُنشَرُ الأجساد
وكأنه النارُ التي منها الهُدى / للتائهينَ وكلّهم رُوَّاد
كان الرشيدُ عليكِ يبسطُ ظلَّه / وإلى إشارتِه الورى ينقاد
وعليهِ من عزِّ الخلافةِ هيبةٌ / يصفرُّ منها الكوكبُ الوقاد
إن حجّ سارَ الشرقُ طراً خلفَهُ / وطريقُه الديباجُ والسجّاد
وإذا غزا قادَ الجحافلَ ظافراً / والرومُ حليةُ جيشِها الأصفاد
وزبيدةُ السلطانةُ العظمى التي / كانت لديها تَربُضُ الآساد
بسقت سميراميسَ ربةَ نينوى / والكونُ تحتَ ذيولها ميّاد
أمُّ الأمين لها صنائعُ جمَّةٌ / حيثُ اعترى أهلَ الصلاحِ فساد
شَملت مراحمُها رعيتَها ولم / تُرحم فطال على الأمينِ حداد
حَسُنَ المثالُ بها لكلّ مليكةٍ / عربيةٍ جدُّ لها الهدهاد
فيما مضى الخلفاءُ أو أولادهم / قادوا الجيوشَ وكلُّهم أجلاد
كم زحفةٍ زحف الرشيدُ بجيشهِ / حتى الخليجِ ودونَه الإزباد
ففدت أرينةُ بالهدايا نَفسها / وبلادها وسِلاحها الإرفاد
لما تمرّدَ نيقفورُ أذلَّه / ولجيشهِ التبديدُ لا الإبداد
فُتحت هرقلةُ والخرابُ نصيبُها / وهي التي اعتزَّت بها الأضداد
ولفتح عموريّةِ اضطربَ الورى / والنارُ فيها المعتدون وقاد
بغدادُ يا ثكلى الخلافةِ رجّعي / نَوحاً لهُ تتفتّت الأكباد
فلعلَّ ترجيعَ النواحِ وراءَه / هُوجُ الرياحِ وبَعدها الإرعاد
أتعود فيكِ خلافةٌ قرشيَّةٌ / كانت بياضاً والشعارُ سواد
أين المدارسُ والمكاتبُ رحبةً / والعلم فيها طارفُ وتلاد
أين الجحافلُ والمحافلُ والألى / سادوا وشادوا والشعوبُ تُفاد
دَرست معاهدُكِ الفخيمةُ بعدَهم / فسقى عهودَكِ مدمعٌ وعهاد
الدرُّ تُطرحُ بعدَهُ أصدافُه / والبيضُ تُكسرُ بعدَها الأغماد
طمسَ الزمانُ قصورَهم وقبورَهم / والمكرماتُ مع الكرامِ تُباد
أين الذين تقلّدوا أسيافَهم / حتى شكا حملَ الحسامِ نِجاد
ذهبوا وهذا نسلُهم متقاطعٌ / لا نجدةٌ منه ولا إنجاد
إنّ المدائنَ والحصونَ تهدّمت / لبناءِ مجدكِ والرماحُ عماد
وا حسرتاه على زمانٍ كلُّهُ / شرفٌ وعزُّ حيثُ تُلفَظُ ضاد
العربُ بعدَ جهادِهم وجلادِهم / ألِفوا الخمولَ فما أفادَ جهاد
أجدادُهم هَرقوا على ميراثِهم / أزكى دمٍ حيثُ الحياةُ جلاد
نادي أبا دُلفٍ وقولي يا أخا / عجلٍ أغثني فالخطوبُ شِداد
قد كنتَ تغزو الرومَ خيرَ مجاهدٍ / ويدوسُ منكَ على الحصونِ جواد
أسوارُ قسطنطينية شهدتكَ من / كثبٍ وملءَ جفونِها الإسهاد
بالنفسِ جدتَ لكي تصونَ مهابتي / وعلى جَلالي بالنفوسِ يُجاد
ورميتَ أبناءَ العلوجِ بجحفلٍ / لانت لوطأةِ خيلهِ الأصلاد
ووراءَك العربيُّ سارَ مجاهداً / وأمامَهُ فتحٌ أو استِشهاد
بعثوا إليكَ بفديةٍ أو جزيةٍ / وكذا العدوُّ بما يَكيدُ يُكاد
كم بطشةٍ لكَ في عساكرِ قيصرٍ / منها هوى تاجٌ وطارَ فؤاد
فاذا تردّدَ ذكرُها في مجلسٍ / يتضاءلُ البطريقُ والأشهاد
هل لابن مزيدَ في ربوعِك صولةٌ / والمجدُ تحتَ لوائِهِ يزداد
قد كان أبسلَ قائدٍ وحِسامُهُ / لسيوفِ قوّادِ العدى نقّاد
نالت به دارُ الخلافةِ عزّةً / ما نالها عادٌ ولا شدّاد
وبسيفِ هرثمةِ بن أعينَ فاخري / كلّ السيوف فإنهُ مقداد
ما استلَّه إِلا لِفَلقَةِ فَيلقٍ / أو دكّ حصنٍ فَتحُهُ ميعاد
وأبو سعيدٍ للثغورِ وللعدى / ورماحُهُ في هامِهم تنآد
وجوادُه العربيُّ يَقحَم بَحرَهم / ويودُّ دوسَ عروشِهِم فيكاد
وبنو حميدٍ قد حمدتِ بلاءَهم / وجميعُهم أبطالُكِ الأنجاد
قَدحت سنابكُ خيلهم أرضَ الألى / جحدوا الهدى ومن الرؤوسِ زناد
فتوشمت منها وعن آثارها / تتساءلُ الأغوارُ والأنجاد
ما لي أعدُّ من الرجالِ أشدَّهم / ولذكرِهم بين الورى تَرداد
الأرضُ والتاريخُ عن أخبارهم / وفتوحهم ضاقا فلا تعداد
ذهبَ الرشيدُ وزالَ رشدُكِ بعدَه / فاليومَ لا رشدٌ ولا إرشاد
ذيالكَ الجبّارُ أصبحَ نسلُهُ / قزماً فضيّع مُلكَهُ الأحفاد
أودى بنو العباسِ فوقَ أسرَّةٍ / قتلى عليهم شُقَّتِ الأبراد
وعبيدُهم متحكِّمونَ بِدَولةٍ / مع أهلِها ذهبَ الندى والآد
أصلُ البلاءِ من الذي حرّاسُهُ / تُركٌ ولا عهدٌ لهم ووداد
ضاقت بهم بغدادُ حتى ملّها / سكانُها ولدورِهم إيصاد
لا كان معتصمٌ به انفصمت عرى / ملكٍ عليه للرشيدِ رشاد
من مصرَعِ المتوكّلِ ارتاعَ الورى / وتجرأ الغلمانُ والأوغاد
لم تعصمِ الخلفاءَ منهم عصمةٌ / قرشيّةٌ ما مَسّها الأنداد
والحكمُ للمملوكِ عندَ خليفةٍ / سَجَدت له الأمراء والعبّاد
دار الخلافةِ هل لإبراهيمَ أو / إسحاقَ صوتٌ يُشتَهى فيعاد
في رَبعِكِ الزاهي غناؤهما لهُ / ذابت قلوبٌ ثم لانَ جماد
قد كانتِ الأملاكُ تأخذُ عنهما / لحناً عليهِ تُنَطَّق الأعواد
والوحشُ مصغيةٌ إلى ترنيمِها / وكأنما أوتارُها أقياد
لو عمّر الهادي بنى داريهما / من عَسجدِ فوقَ اللُّجينِ يُشادِ
أيعود بشّارُ بنُ بردٍ منشداً / فيميلُ دجلةُ أو تميسُ سعاد
وأبو العتاهيةِ الذي أشعارُه / طربت لها الأملاك والزهّاد
وأبو نؤاسٍ ضافرٌ أو ناظمٌ / والكأسُ منها الوحيُ والإمداد
ولبسمهِ قصرُ الخلافةِ باسمٌ / ونصيبُه الإكرامُ والإسعاد
والخمرُ مشرقةٌ عليه وخلّه / ورفيقُه الخمَّارُ والصَّياد
وعلى ثمالة كأسهِ وغرامهِ / تحنو جنانٌ والهوى استعباد
تلك القلوبُ شريفةٌ وشجيّةٌ / كانت وفيها للمحاسنِ زاد
خمدت قلوبُ الأمسِ بعد تضرُّمٍ / أمّا قلوبُ اليومِ فهي رَماد
إن النفوسَ تقودُها ملكاتُها / والنفسُ عاشقةٌ لما تعتاد
هلا تُعيدينَ الخلافةَ والعلى / ليطيبَ فيكِ النظمُ والإنشاد
وعلى المنابرِ يجلسُ العلماءُ في / ملكِ تقيهِ أسدّةٌ وسداد
وعلى المحافلِ تطلعُ الخطباءُ أو / بينَ الجحافلِ تبررُ القواد
ما أعظمَ المأمونَ يَطلعُ غازياً / حتى يكونَ لملكهِ إخلاد
وأُجلُّهُ يوم التناظرِ جالساً / كيما يزول العيُّ والإفناد
بغدادُ أنتِ مدينةٌ عربيّة / ومن الأمومة يُحرمُ الأولاد
الإنكليزُ جيوشُهم جرارةٌ / وجنودُهم تغتالُ أو تصطاد
بغضُ الوجوهِ البرشِ فيكِ طبيعةٌ / العربُ سُمرٌ والعرابُ جياد
إن العراقَ هو العريقُ عروبةً / وإلى عروبته لهُ إسناد
من عهد حمّورٍ وعهدِ سميرةٍ / للعربِ فيهِ دقّتِ الأوتاد
والحيرةُ البيضاءُ تذكرُ عهدَهم / حيثُ المناذرةُ الأماجدُ سادوا
وسما بنو ماءِ السماءِ بملكِهم / وعليهِ كِسرى حاسدٌ يرتاد
وبمصرعِ النعمانَ عندَ عدوّه / درسَ الخورنقُ والسديرُ وبادوا
حتى إذا ما قومُه ثأروا له / في القادسيةِ والقتالُ طِرادُ
ظهرت على الضفّاتِ بغدادُ التي / فيها لأفلاكِ العُلى مِرصاد
لولا الأعاجمُ ما تداعت دولةٌ / عربيةٌ عَظمت بها الأمجاد
ما حالُ ملكٍ خارجٍ من أهلهِ / ينزو عليهِ من الخصومِ لداد
سَبَبُ التأخُّرِ والسّقوطِ تخاذلٌ / للعزمِ فيهِ والنشاط نفاد
فإلى الأجانبِ سلَّموا أحكامَهم / والأجدَرونَ بها لهم إبعاد
ما كانَ أتعسَ أمّةٍ تشقى بهم / فيؤمَّر السجّانُ والجلّاد
العودُ لا يحييه غيرُ لحائهِ / والملكُ عنهُ بالصميمِ يُذاد
لا حقَّ إِلا للأصيلِ برتبةٍ / في دولةٍ دخلاؤُها أنكاد
إن المناصبَ في البلادِ لأهلِها / فمِنَ الأقاربِ صادقٌ وجَواد
وعلى الأجانبِ حُرِّمت لوقايةٍ / ورعايةٍ حيثُ الفلاحُ يُراد
يا أيها العربُ الأحامسُ حاذروا / شرَّ الدّخيلِ فدأبُهُ الإفساد
وتجرَّدوا للمكرماتِ وجرّدوا / دونَ الحدودِ البيضَ وهي حِداد
الصَّقلُ والإرهافُ من تجريدها / وكهومُها يأتي بهِ الإغماد
لا خيرَ فيكم والأعاجم بينكم / يتحكّمونَ فتحكمُ الأحقادُ
إن تغسلوا دونَ القلوبِ تُطَهِّروا / وطناً عليهِ من العلوجِ جرَاد
وتجمّعوا أُمناء حولَ مؤمّرٍ / لتهونَ منكم طاعةٌ وقياد
الشعبُ يعظمُ قَدرُهُ من فَردِه / إنَّ الشعوبَ يسوسُها الأفراد
والملكُ بالأفرادِ والمجموعُ ما / عزّت وذلّت أمةٌ وبلاد
شدّوا وشِيدوا دولة عربيّةً / يُرجى لها بعد الفناءِ معاد
ولحفظِ هيبتها يظلُّ خميسُها / شاكي السلاح بهِ يحفُّ عَتاد
وعليهِ قوَّادٌ لردّ كريهةٍ / إعدادهم دُهشت لهُ الأعداد
وثغورُها عندَ الرّباطِ كأنها / جُمعٌ مِن الأيامِ أو آحاد
يا أرض أندلسَ الخضراءَ حيّينا
يا أرض أندلسَ الخضراءَ حيّينا / لعلّ روحاً من الحمراءِ تُحيينا
فيكِ الذخائرُ والأعلاقُ باقيةٌ / من الملوكِ الطريدينَ الشّريدينا
منّا السلامُ على ما فيكِ من رممٍ / ومن قبورٍ وأطلالٍ تصابينا
لقد أضعناكِ في أيامِ شَقوَتِنا / ولا نَزالُ محبّيكِ المشوقينا
هذي ربوعُكِ بعدَ الأُنسِ مُوحِشةٌ / كأننا لم نكن فيها مقيمينا
من دَمعِنا قد سقيناها ومِن دَمِنا / ففي ثراها حشاشاتٌ تشاكينا
عادت إِلى أهلها تشتاقُ فتيتَها / فأسمعت من غناءِ الحبّ تلحينا
كانت لنا فعنَت تحت السيوفِ لهم / لكنّ حاضرَها رسمٌ لماضينا
في عزّنا حبلت منا فصُورتُنا / محفوظةٌ أبداً فيها تعزّينا
لا بدعَ إن نَشَقَتنا من أزاهرها / طيباً فإنّا ملأناها رَياحينا
وإن طربنا لألحانٍ تردِّدُها / فإنها أخذت عنّا أَغانينا
تاقت إلى اللغةِ الفصحى وقد حفظت / منها كلاماً بدت فيه معانينا
إنّا لنذكرُ نُعماها وتذكُرنا / فلم يضع بيننا عهدُ المحبّينا
في البرتغالِ وإسبانيّةَ ازدهرت / آدابُنا وسمت دهراً مبانينا
وفي صقلّية الآثارُ ما برحت / تبكي التمدُّنَ حيناً والعُلى حينا
كم من قصورٍ وجنّاتٍ مزخرفةٍ / فيها الفنونُ جمعناها أفانينا
وكم صروحٍ وأَبراجٍ ممرّدةٍ / زدنا بها الملكَ توطيداً وتأمينا
وكم مساجدَ أَعلَينا مآذنَها / فأطلَعت أَنجماً منها معالينا
وكم جسورٍ عَقَدنا من قَناطِرِها / أقواسَ نصرٍ على نهرٍ يرئّينا
تلك البلادُ استمدّت من حضارتنا / ما أَبدعَته وأولته أَيادينا
فيها النفائسُ جاءت من صناعَتِنا / ومن زراعتِنا صارت بساتينا
فأجدَبَت بعدَنا واستوحَشَت دمناً / تصبو إلينا وتبكي من تنائينا
أيامَ كانت قصورُ الملكِ عاليةً / كانَ الفرنجُ الى الغاباتِ آوينا
وحين كنا نجرُّ الخزَّ أَرديةَ / كانوا يسيرون في الأسواقِ عارينا
لقد لبسنا من الأبرادِ أفخرَها / لما جَرَرنا ذيولُ العصبِ تزيينا
وقد ضَفَرنا لإدلال ذوائبَنا / لما حمينا المغاني من غوانينا
وقد مَسَحنا صنوفَ الطيبِ في لممٍ / لما ادّرعنا وأَسرجنا مذاكينا
كل الجواهر في لبّاتِ نسوتنا / صارت عقوداً تزيدُ الدرَّ تثمينا
وأَكرمُ الخيلِ جالت في معاركنا / وإذ خلا الجو خالت في مراعينا
تردي وقد علمت أَنّا فوارسها / ولا تزالُ لنعلوها وتُعلينا
زدنا السيوفَ مضاءً من مضاربنا / ومن مطاعننا زدنا القنا لينا
من للكتائبِ أو من للمواكبِ أو / من للمنابرِ إِلا سادةٌ فينا
جاءت من الملأ الأعلى قصائدُنا / والرومُ قد أَخذوا عنا قوافينا
لم يعرفوا العلَم إِلا من مدارسِنا / ولا الفروسةَ إِلا من مجارينا
أَعلى الممالكِ داستها جحافِلُنا / وسرّحت خيلَنا فيها سراحينا
تلك الجيادُ بأبطالِ الوغى قطعت / جبالَ برناتَ وانقضّت شواهينا
في أرض إفرنسةَ القصوى لها أَثرٌ / قد زادَهُ الدهرُ إيضاحاً وتبيينا
داست حوافرُها ثلجاً كما وطئت / رَملاً وخاضت عباباً في مغازينا
الشمسُ ما أَشرقت من علوِ مطلعِها / إِلا رأَتنا الى الأوطارِ ساعينا
كسرى وقيصرُ قد فرَّت جيوشُهما / للمرزبانِ وللبطريقِ شاكينا
حيث العمامةُ بالتيجانِ مزريةٌ / من يومِ يرموكَ حتى يومِ حطّينا
وللعروشِ طوافٌ بالسرير إذا / قامَ الخليفةُ يعطي الناسَ تأمينا
بعدَ الخلافةِ ضاعت أرضُ أندلسٍ / وما وقى العرب الدنيا ولا الدينا
الملكُ أصبحَ دَعوى في طوائفهم / واستمسكوا بعرى اللّذاتِ غاوينا
وكلُّ طائفةٍ قد بايعت ملكاً / لم يُلفِ من غارة الأسبانِ تحصينا
وهكذا يفقدُ السلطانُ هيبتَهُ / إن أكثرَ القومُ بالفوضى السلاطينا
والرأيُ والبأسُ عندَ الناسِ ما ائتلفوا / لكن إذا اختلفوا صاروا مجانينا
تقلّصَ الظلُّ عن جناتِ أندلسٍ / وحطَّمَ السيفُ ملكَ المستنيمينا
فما المنازلُ بالباقينَ آهلةٌُ / ولا المساجدُ فيها للمصلّينا
لن ترجعنَّ لنا يا عهدَ قرطبةٍ / فكيفَ نبكي وقد جفّت مآقينا
ذبّلتَ زهراً ومن ريّاك نشوتُنا / وإِن ذكراك في البلوى تسلينا
ما كانَ أعظمَها للملكِ عاصمةً / وكان أكثرها للعلمِ تلقينا
لم يبقَ منها ومن ملكٍ ومن خولٍ / إِلا رسومٌ وأطيافٌ تباكينا
والدهرُ ما زالَ في آثارِ نعمتِها / يروي حديثاً لهُ تبكي أعادينا
أينَ الملوكُ بنو مروانَ ساستُها / يُضحونَ قاضينَ أو يُمسونَ غازينا
وأينَ أبناءُ عبّادٍ ورونَقُهم / وهم أواخرُ نورٍ في دياجينا
يا أيها المسجدُ العاني بقرطبةٍ / هلا تذكّرُكَ الأجراسُ تأذينا
كانَ الخليفةُ يمشي بينَ أعمدةٍ / كأنه الليثُ يمضي في عفرّينا
إن مالَ مالت به الغبراء واجفةً / أو قالَ قالت له العلياءُ آمينا
يا سائحاً أصبحت حجّاً قيافتُهُ / قِف بالطلول وسَلها عن ملاهينا
بعدَ النعيمِ قصورُ الملكِ دارسةٌ / وأهلُها أصبحوا عنها بعيدينا
فلا جمالٌ تروقُ العينَ بهجتُه / ولا عبيرٌ معَ الأرواحِ يأتينا
صارت طلولاً ولكنّ التي بَقِيَت / تزدادُ بالذكرِ بعدَ الحسنِ تحسينا
تلكَ القصورُ من الزهراءِ طامسةٌ / وبالتذكُّرِ نبنيها فتنبينا
على الممالك منها أشرفَت شرفاً / والملكُ يعشقُ تشييداً وتزيينا
وعبدُ رحمانِها يَلهو بزخرفِها / والفنُّ يعشقُ تشييداً وتزيينا
كانت حقيقةَ سلطانٍ ومقدرةٍ / فأصبحت في البلى وهماً وتخمينا
عمائمُ العربِ الأمجادِ ما برحت / على المطارفِ بالتمثيلِ تصبينا
وفي المحاريبِ أشباحٌ تلوحُ لنا / وفي المنابرِ أصواتٌ تنادينا
يا برقُ طالع قصوراً أهلُها رحلوا / وحيّ أجداثَ أبطالٍ مُنيخينا
أهكذا كانت الحمراءُ موحشةً / إذ كنتَ ترمقُ أفواجَ المغنينا
وللبرودِ حفيفٌ فوقَ مرمرِها / وقد تضوعَ منها مسكُ دارينا
ويا غمامَ افتقد جناتِ مرسيةٍ / وروِّ من زَهرِها ورداً ونسرينا
وأمطرِ النخلَ والزيتونَ غاديةً / والتوتَ والكرمَ والرمانَ والتينا
أوصيكَ خيراً بأشجارٍ مقدّسةٍ / لأنها كلُّها من غرسِ أيدينا
كنا الملوكَ وكان الكونُ مملكةً / فكيفَ صرنا المماليكَ المساكينا
وفي رقابِ العدى انفلّت صوارمُنا / واليومَ قد نزعوا منا السكاكينا
ليست بسالتُنا في الحربِ نافعةً / ومن براقيلِهم نلقى طواحينا
فلو فطنّا لقابلنا قذائفَهم / بمثلِها وامتنعنا في صياصينا
واشتدَّ عسكرُنا يحمي منازلنا / وارتدَّ أسطولُنا يحمي شواطينا
إذاً لكانوا على بأسٍ ملائكةً / وما أتونا على ضعفٍ شياطينا
فنحنُ في أرضِنا أسرى بلا أملٍ / والدارُ كالسجنِ والجلادُ والينا
شادوا القلاعَ وشدوا من مدافِعهِم / ما يملأ الأرضَ نيرانا ليفنينا
بعدَ اعتداءٍ وتدميرٍ ومجزرةٍ / قالوا أماناً فكونوا مستكينينا
وكم يقولون إنّا ناصبونَ لكم / ميزانَ عدلٍ ولم توفوا الموازينا
تحكَّموا مثلما شاءَت مطامعُهم / وصيّروا بِيننا التهويلَ تهوينا
فلا تغرنّ بالآمالِ أنفُسَنا / وللفرنسيسِ جوسٌ في نواحينا
هل يسمحون ولو صرنا ملائكةً / بأن نصيرَ لهم يوماً مبارينا
لا يعرفون التراضي في هوادتِنا / ولا سلاحٌ به يخشى تقاضينا
إن لم تكن حكمةٌ من علمِ حاضرِنا / أما لنا عبرةٌ من جهلِ ماضينا
إنَّا نعيش كما عاشت أوائلُنا / ولا نريدُ من الأعلاجِ تمدينا
إن قدّموا المنّ والسلوى على ضرعٍ / نختر على العزّ زقوماً وغسلينا
يا مغربيّةُ يا ذات الخفارةِ يا / ذات الحجابِ الذي فيه تُصانينا
صدّي عن العلجِ واستبقي أخا عربٍ / من وُلدِ عمِّكِ يهوى الحورَ والعينا
يا نعمَ أندلسياً كان جَدّكِ في / عهدِ النعيمِ وهذا العهدُ يشقينا
خذي دموعي وأعطيني دموع أسى / طالَ التأسّي وما أجدى تأسّينا
ذكرُ السعادةِ أبكانا وأرّقنا / ما كنتُ لولا الهوى أبكي وتبكينا
بكى ابن زيدونَ حيثُ النونُ أنّتُهُ / ولم يزل شعرُهُ يُبكي المصابينا
كم شاقني وتصبّاني وأطربني / إذ كنتِ ورقاءَ في روضٍ تنوحينا
ومن دموعكِ هاتيكَ السموطُ حكت / أبياتَ نونيّةٍ فيها شكاوينا
ولاّدةُ استنزفت أسمى عواطِفهِ / فخلّدَ الحبَّ إنشاداً وتدوينا
تلكَ الأميرةُ أعطَته ظرافَتَها / فأخرجَ الشعرَ تنغيماً وتحنينا
يا بنتَ عمي وفي القُربي لنا وطرٌ / صوني المحيا وإن زرناكِ حيينا
ليلُ الأسى طالَ حتى خلت أنجمَهُ / بقيّةَ الصبحِ تبدو من دياجينا
نشتاقُ فجراً من النُّعمَى وظالمُنا / يقولُ إنّ ضياءَ الفجرِ يؤذينا
فلنُطلعنَّ إذن صبحَ القلوبِ على / ليلِ الخطوبِ وهذا النورُ يكفينا
أما كفانا بفقدِ الملكِ نائبةً / حتى أتانا علوجٌ الرومِ عادينا
عدا علينا العدى في بَرِّ عَدوتنا / وقد رضيناهُ منفَى في عوادينا
فيه الفرنسيسُ ما انفكّت مدافعُهم / تمزّقُ العربَ العُزلَ المروعينا
فوسطَ مرّاكشِ الكبرى لقائِدهم / دستٌ وقد شرَّدوا عنها السلاطينا
وفي الجزائرِ ما يُبكي العيونَ دماً / على أماجدَ خرُّوا مستميتينا
وفي طرابلس الغرب استجدَّ لنا / وَجدٌ قديمٌ وقد ضاعت أمانينا
وهذه تونسُ الخضراءُ باكيةٌ / ترثي بنيها المطاعيمَ المطاعينا
من الفرنسيسِ بلوانا ونكبتُنا / فهل يظلّونَ فينا مستبدّينا
صهبُ العثانين مع زرقِ العيونِ بدت / شؤماً به حدثانُ الدهرِ يرمينا
فلا رأينا من الأحداقِ زرقَتها / لا شَهِدنا من الصهبِ العثانينا
وا طولَ لهفي على قومٍ منازلُهم / تأوي العلوجَ ثقالاً مستخفِّينا
قد كافحوا ما استطاعوا دونَ حرمتِها / ثم استكانوا على ضيمٍ مطيعينا
لا يملكونَ دفاعاً في خصاصَتِهم / وينصرونَ الفرنسيسَ الملاعينا
أعداؤهم قطعوا أوطانهم إرباً / فأصبحوا مثلَ أنعامٍ مسوقينا
هذا لعمري لسخطُ الله أو غضبٌ / من النبي على ساهينَ لاهينا
من ذا يصدّقُ أن التائهين ثبىً / كانوا جيوشاً ترى الدنيا ميادينا
مشوا على ناعمٍ أو ناضرٍ زمناً / واليومَ يمشون في الصحراءِ حافينا
لا طارقٌ يطرق الأعلاجَ من كثبٍ / وإن دعونا فلا موسى يلبينا
بالقهر قد أخذوا مسكاً وغاليةً / ومنهما عوّضونا الوحلَ والطينا
وأدركوا ثأرَهم في شَنّ غارتِهم / لما أتونا لصوصاً مُستبيحينا
في الأرضِ عاثوا فساداً بعد ما شربوا / خمرَ الحوانيتِ وامتصّوا المداخينا
فما لنا قوةٌ إِلا بسيّدنا / محمدٍ فهو يرعانا ويهدينا
قد اصطفى بين كل الناسِ أمته / كما غدا المصطفى بين النبيينا
يا أحمد المرتضى والمرتجى أبداً / ألستَ من سطواتِ الرومِ تحمينا
يا أرفعَ الناسِ عند الله منزلةً / متى نرى السيفَ مسلولاً ليشفينا
أفي دارِ قومي يَسكنُ الغرباءُ
أفي دارِ قومي يَسكنُ الغرباءُ / وليسَ لهم بعدَ الثواءِ جلاءُ
فأهلا وسهلاً إن يكونوا ضُيوفنا / وحَرباً وضرباً إن بغى النزلاء
فإمّا يروموا الحربَ فهي انتِصافُنا / وإمّا يشاؤوا السلم فهو هناء
ستظهرُ منا نخوةٌ وبَسالةٌ / إذا اربدَّ غيمٌ أو ترنّق ماء
أبى اللهُ والإسلامُ والأصلُ أن يُرى / فتىً عربيٌ ليسَ فيهِ إباء
جديرٌ بنا أن نَستعدَّ لهم وأن / نُعِدَّ الذي تشفَى بهِ البرحاء
فإمّا انتصارٌ وانتصافٌ وعزَّةٌ / وإما اقتحامُ الموتِ وهو شفاء
أمانيُّ قومي في المنايا وما لهم / خلاصٌ إذا لم يجهلِ العقلاء
أليس يموتُ الناسُ دون خلودِهم / ودونَ ملذّاتِ تُراقُ دماء
لئن كانَ دفعُ الشرِّ بالشرِّ واجباً / تأبَّطَ شرّاً من إليهِ يُساء
إلى الحقِّ مالَ الناسُ في حالِ ضعفِهم / وقد أعرضوا عنهُ وهم قدراء
فلا هَيبةٌ للحق إِلا بقوَّةٍ / تردُّ التعدّي والسلاحُ سواء
ألستَ ترى المُستحوذينَ على الورى / يَقُولونَ منّا رحمةٌ وسخاء
وإنصافُ مظلومٍ وإطلاقُ موثقٍ / وتحريرُ أَرضٍ أهلُها ضُعفاء
ومن جَورِهم تبكي شعوبٌ كثيرةٌ / بنوها عبيدٌ عندَهم وإماء
لعمركَ هذي خدعةٌ ثعلبيَّةٌ / وهذا على خَوفِ الزئيرِ مواء
فلا تَكُ يوماً واثقاً أو مصدّقاً / فكلُّ ضعيفٍ ما لهُ نُصراء
عجبتُ لباغٍ يدّعي العدلَ والتُّقى / ومنهُ على بعضِ العقولِ غشاء
مظالمهُ عمّت وجمّت ذنوبُهُ / فأنكرَها إذ ليسَ فيهِ حياء
فَقُل أيها الكذّابُ إن كنتَ صادقاً / إِلى اللهِ تُب قد طالَ منكَ رياء
وأفرج عن الأرضِ التي ضُمتَ أهلها / لكَ الويلُ ما هامُ الشعوبِ وطاء
كفاكَ الذي من مالها ودمائها / أخَذتَ وفيها مِنكَ مُلّ ثواء
أجزّاً لشاءٍ ثم ذبحاً لغيرها / وهذي لها صرعٌ وتلكَ ثِغاء
وتَغسُلُ كفاً بالدماءِ تَلطّخَت / كأن لم ترَ السكّينَ عندَك شاء
رُوَيدَكَ لا تكذِب على الله والورى / فبعدَ التباكي قد يكون بُكاء
تَذَلَّلَ قومي بعدَ عزٍّ وأقفَرَت / رُبوعٌ عليها في العفاءِ بَهاء
وَقَفتُ بها مُستَجلياً متأملاً / وقد شاقَني مِنها ثرىً وسماء
فَفاضَت دموعي بعدَ طولِ انحباسِها / ومنها لنفسي راحةٌ وعزاء
لقد هانَ دَمعي في ديارِ أحبّتي / وفي غيرِها قد عزَّ وهو رماء
سلامٌ عليها من فتًى هائمٍ بها / لهُ من بقاياها سنًى وسناء
يُحبِّبها حبُّ الذين تحمّلوا / ومنهم عليها ذمّةٌ ووفاء
فمن لا يُحبُّ العرْبَ وهو ربيبُهم / فإنَّ جميعَ العربِ منه براء
ألا هل كقومي أو كمثلِ كبارِهم / إذا عُدَّتِ الأقوامُ والكبراء
ففي العالمِ العُلويِّ سادَ محمدٌ / وما وَلدَت مثلَ النبيِّ نساء
وكيفَ أوفّي خيرَ مَن وطأ الثرى / مِن المدحِ حقاً والثناء عياء
إلهيةٌ أقوالهُ وفِعالهُ / يُقَصِّرُ عن إدراكِها الحكماء
دعا قومَه والناسَ طرّاً إِلى الهُدى / وللأرضِ منهُ في الظلامِ ضياء
وأعطى الورى دينا وشرعاً بناهُما / على لُغةٍ منها البيانُ غناء
فصلّوا بها لِله وهي لسانُهُ / وفي غيرِها لا يُستجابُ دعاء
وأوصى بحجِّ البيتِ صوناً لحرمةٍ / من اللهِ والإسلامِ حيثُ يفاء
فَجَمَّع أهلَ الشرقِ والغربِ حَوله / وصارَ بهِ كالإخوة الغرباء
وبعدَ طوافٍ واستلامٍ مثبّتٍ / لإيمانهم عادوا وهم خلفاء
يُنادونَ باسمِ الله واسمِ محمدٍ / أذاناً فَهزَّ العالمينَ نداء
شريعتُه فَوقَ الشرائعِ كُلّها / فما هي إِلا حكمةٌ ودهاء
فلا فقه إلا ما ارتأى فقهاؤها / وعنهم وعنها يأخذُ الفقهاء
وكم من شُعوبٍ تَستنيرُ بدينهِ / وكم دولٍ منها عليه بناء
وكم جامعٍ فيه نعيمٌ ونعمةٌ / ومأذنةٍ فيها عُلاً وعلاء
بظلّهما قد صارت الأرضُ جنّةً / لها العدلُ خَصبٌ والإخاءُ نماء
وأكملُ دينٍ دينه فهو للورى / علاجُ طبيبٍ صحّ منه إساء
على مقتضى أحوالهم وطباعِهم / وحاجاتِهم قد جاء منه كفاء
فسلوى على حقٍّ ملوكاً وسُوقةً / تآخوا على الاسلامِ وهو إخاء
صحابتُهُ الأبرارُ خيرُ صحابةٍ / وأنصارُه الأبطالُ والشرفاء
وللخلفاءِ الرّاشدين فضيلةٌ / وفضلٌ هما للقانطينَ رجاء
فمن كأبي بكرٍ عفافاً وحكمةً / وتقوى إذا ما عُدَّت الرؤساء
ومن يشبهُ الفاروقَ تحتَ عباءةٍ / هِرَقلُ اشتهاها والحريرُ كساء
فأزرَت بعزِّ الأرجوانِ وظلُّها / على العربِ منه رايةٌ ورواء
لقد كانَ جباراً فصارَ بعدلهِ / أباً للرعايا فاغتنى البؤساء
ومن مثل عثمانٍ تُقىً وتعبّداً / إذا عُرِضَ القرآن والشهداء
ومن كعليٍٍّ نجدةً وبلاغةً / تمناهما القوادُ والخطباء
به ثبتَ الإسلامُ واعتزَّ أهلُهُ / فَدانت لهُ الفرسانُ والأمراء
سيائدُ نالوا عِزّةً عن تَواضعٍ / وأعداؤهم في عزِّهم وُضعاء
فأينَ عظامُ الأرضِ حينَ أعدّهمّ / قبالتَهم لا يَظهرُ العظماء
وعن نَجدةِ القوَّادِ في غَزواتهم / يقصِّرُ وَصفٌ أو يقلُّ ثناء
لنصرةِ دينِ الله جرَّدَ خالدٌ / حساماً عليهِ أسلَمَ البُسلاء
وما عادَ إِلا ظافراً أو مظفّراً / وقدّامَه كلُّ الجيوشِ هباء
لقد كان سيفَ اللهِ وهو كَسَيفِهِ / مضاءً وفتكاً إن بلاهُ بلاء
وقد أكثر الجرّاحُ جَرحى عُداتِه / وأشلاءَهم حتى استقرَّ لواء
فوفّقَ بين البأسِ والحلمِ مُقسِطاً / وما العدلُ إِلا أن يَصحَّ جزاء
وإنَّ معاداةَ الكريمِ صداقةٌ / وإنَّ موالاةَ اللئيمِ عداء
وعمروٌ أتى مصراً فحيّاهُ أهلُها / وقالوا لأهلِ المكرماتِ رفاء
فأخرجَهم عن رِقّهم وضلالِهم / وإيمانُهم أمنٌ لهُم وصفاء
وسار ابنُ سعدٍ يفتحُ الغربَ للهُدى / وفي راحَتَيهِ نِعمةٌ وشقاء
ولما استتبّ الأمرُ تحتَ حسامهِ / على الأرضِ حلّت رحمةٌ ورخاء
أظلّت شعوبَ الخافقينِ خِلافَةٌ / وللعربي الملكُ حيث يشاء
ولما تناءى عن حِماها حُماتُها / تَناولها الغلمانُ والدُّخلاء
وناهضَها الأعداءُ من كلِّ مَعشَرٍ / وليسَ لقومي في الونى زُعماء
فيا ويل من ولَّى الأجانبَ أمرَهُ / وقوَّادهم حَوليه والوزراء
هو الملكُ لا يحميهِ إِلا بُناتُهُ / وهم أبداً حرَّاسُهُ الأُمناء
فلو كان للعبّاسِ مثلُ أميّةٍ / لما ضاعَ ملكٌ ساسَهُ الخلطاء
غدا أمراءُ المؤمنينَ عبيدَهم / وهانَ رسولُ اللهِ والخلفاء
تخاذلَ قومي واختلافُ ملوكهم / بلاءٌ عليهِ لا يُقاسُ بلاء
رُوَيدَكِ بنتَ الرومِ لا تتكبّري / ولا تظلمينا إننا تعساء
لنا الأمسُ والتاريخُ نملكُ نصفَهُ / ولكن غدٌ يُرخى عليهِ غَطاء
حَكَمنا وقد كنّا لحقٍّ وقوّةٍ / ونحنُ على بأسائنا شُرفاء
أرى كلّ عالٍ بالسّقوطِ مُهدَّداً / وكلَّ صباحٍ قد تلاهُ مساء
فلا تضحكي يا أجنبيّةُ في الأسى / وقومُكِ مِنهم سلطةٌ وقضاء
سنحيا بذكرِ المجدِ بعدَ انقضائهِ / وما زال في السّيفِ القديمِ مضاء
ونَطلُبُ حقَّ اللهِ والملكِ والعُلى / ليشفي نفوسَ التائهينَ لِقاء
وَنضرِبُ ضَربَ اليائسين بثأرِنا / لترحبَ أرضٌ أو يضيقَ فضاء
فلا بدَّ من تكبيرةٍ عربيةٍ / وتهلِيلةٍ حيثُ الجهادُ فداء
فإما انتصارٌ فيه مجدٌ مخلَّدٌ / وإما انكسارٌ فيه طابَ فَناء
بذلك نُرضِي رَبَّنا ونبيَّنا / وأجدادَنا والموتُ فيه رِضاء
هَلِ العربيُّ الحرُّ يهنأ عَيشُهُ / وراحتُهُ وهو الذليلُ عناء
فلا حمَلت حكمَ الأجانبِ أُمتي / ومنهم عليها سادةٌ رُقباء
إذا لم تكن أرضي لقومي هجرتُها / فللحرِّ في حكمِ الغريبِ جفاء
وبين ضلوعي همةٌ عربيّةٌ / لها النجمُ دارٌ والسماءُ فِناء
أمِن عربيةٍ تشتاقُ دارا
أمِن عربيةٍ تشتاقُ دارا / وبنتُ الرّومِ تمنعكَ المزارا
سعادُ هناكَ تنزِلُ في البوادي / وأنت هنا لِتَقتحِمَ الغمارا
لعمركَ لم أخف مَوجاً وريحاً / ولكن خفتُ من عِلجٍ إسارا
إذا ما النّسرُ هيضَ لهُ جناحٌ / وحصَّ الريشُ فانتثرَ انتثارا
يرى الآفاقَ تَعرفُهُ مليكاً / ولكن ليسَ يَسطيعُ المطارا
فوا أسفي على وَطني وأهلي / إذا هاجَ الدُّجى فيَّ ادِّكارا
فبتُّ أرى العيونَ السودَ ترنو / وَدمعَ الحزنِ ينحدرُ انحدارا
يَفيضُ على حبيبٍ أو نسيبٍ / وما بَردَ البكاءُ لها أوارا
تَلفُّتها الى طَللٍ وقبرٍ / وسيفٍ سلّهُ الرومُ اقتسارا
فلا تدري وقد نزلوا حماها / أتبكي الأهلَ أم تبكي الديارا
أرى الديجورَ أغماداً تدلّت / وأفكاري قد انسلَّت شِفارا
ألِفتُ على اهتمامٍ واحتمام / سهادي الجمَّ والنومَ الغرارا
وقد قطَّعتُ أعصابي اجتهاداً / وقد ضيّعتُ أيامي اغترارا
فحتّامَ التعلُّلُ والتّمنّي / ومن شمسِ الشبابِ أرى ازوِرارا
رَمَيتُ الحظَّ عصفوراً جميلاً / فطاشَ السهمُ والعصفورُ طارا
أنا المغبونُ في حَرثي وغَرسي / وغَيري يجتَني منّي الثمارا
ولمّا طالَ بي أَرَقي وهمِّي / نَهضتُ كموثَقٍ يَبغي الفرارا
وقلتُ حلا سراي إلى فتاةٍ / بها قلبي مِنَ الهمِّ استَجارا
فتؤنسُ وَحشَتي ويفرُّ لَيلي / إذا أبصَرتُ في الثّغرِ افترارا
فأطلعتِ النّجومَ الزُّهرَ حَولي / بمبسَمِها وفَوقي النّجمُ غارا
مشَيتُ كأنّني غازٍ يُرَجّي / لِعزّ الملُكِ فتحاً وانتِصارا
وكانَ البرقُ مِن حَنقٍ وغَيظٍ / يُمَزِّقُ ثوبَ ليلي المستعارا
هدَت قَلبي العروبَ وطهّرتهُ / وبعدَ ضَلالِه وَجَدَ القرارا
وقد لَعِبَت بهِ الأهواءُ حتى / رأيتُ دَمي حلالاً أو جبارا
فأشبِهُ زَورقاً جارَى نَسيماً / فَهَبَّ علَيهِ إعصارٌ فجارا
وعُصفُوراً لَطيفاً شرَّدتهُ / عَواصِفُ بينها ضلَّ اتّكارا
فقالَت إِذ رأتني كَيفَ تأتي / لِنَحملَ مِنكَ بينَ النّاسِ عارا
فما وَقتُ الزّيارةِ مِنكَ هذا / وما كنّا لنأمَلَ أن نُزارا
فَعُد مُتَخَفِّياً واكتُم هَوانا / وِإلا يَزدَدِ الحبُّ اشتهارا
فقلتُ أرى السّجوفَ أشدَّ كتماً / من الظلماءِ إن رمتُ استتارا
قَطَعتُ إليكِ سوراً بعدَ سورٍ / أراه لِضيقِ ما حَولي سِوارا
فَكيفَ أعودُ والرُّقباءُ حَولي / ومنكِ بَلَغتُ جناتٍ ودارا
بِنارِ هوىً ونارِ قِرىً عزائي / ومِثلي مَن بِنارينِ استَنارا
ولَيلُ الهمِّ يَجلوه حَدِيثٌ / نرى فيهِ انبثاقاً واستِعارا
فأعطِيني كلاماً لا قواماً / وعاطِيني حَدِيثاً لاَ عِقارا
فَشَمُّ العطرِ مِن نفسٍ لطيفٍ / يكرِّهُني مِنَ الخَمرِ الخُمارا
بنَفحِ الطّيبِ منكِ تَطِيبُ نَفسي / وشِعري كانَ مِن نَفَسِ العَذَارى
فبتُّ وقد شمَمتُ فماً وكاساً / أرى العشّاقَ إخوانَ السكارى
غَزَت قَلبي العيونُ وروّضَتهُ / فَزادَتهُ اخضلالاً واخضِرارا
عبدتُ النارَ في الخدِّ احمِراراً / ونورُ هَواكِ أعبدُهُ اصفرارا
مَررتِ على حِمَى النُّعمَى نُعامى / تزيدُ النّشرَ في الرَّوضِ انتِشارا
فقالت بَل مَرَرتُ مرورَ نحلٍ / فصارَ الوَردُ في خدّي بهارا
وإني لا أراكَ تَعُودُ فادخل / عَفيفاً تَلقَ طاهرةً نوارا
فقلتُ من المحاسنِ زوّدِيني / لآمَنَ في العواثيرِ العِثارا
وآخذَ قوةً من ضِعفِ حبّي / تُصَيِّرُني دليلاً للحَيارى
فحين أراكِ تَبتَسِمينَ أعلو / وأحتَقِرُ الصّغائرَ والصِّغارا
فما وَجدُ الفَرَزدق مِثلَ وَجدي / وقد ذكَرَ الهوى فبكى نوارا
ولا المجنونُ يومَ دَعَتهُ لَيلى / لِيَجني مِن رُبى نَجدٍ عِرارا
لَكِ الخيرُ اختَصَرتُ كِتابَ ليلي / وفي التّأليفِ أختارُ اختِصارا
أحاملةً على الخدَّينِ وَرداً / وفي الشَفَتينِ سلسالاً ونارا
حَوَت بَرَدى وحرَّانَ الثّنايا / وخَدُّكِ من نصيبين استَشَارا
أبونا آدمُ الجاني فَخَوفاً / على الرُمّانِ أخفي الجُلَّنارا
وإِلا قالَ مفتونٌ لِهذا / على الفِردَوسِ فَضّلتُ القِفارا
ولمّا أن رأيتُ الغزوَ مَجداً / لِنَهبِ النّهدِ مزّقتُ الإزارا
على خَدَّيكِ أرخي لي خِماراً / فَلولا اللّيلُ ما اشتَقتُ النّهارا
خِمارُكِ فيهِ ترويحٌ لِقَلبي / إِذا النَّسَماتُ هبّت فاستَطارا
فما أحلى النِّقابَ على المُحيّا / إذا حَفِظَ الخفارةَ والوقارا
توارَى الحُسنُ فيهِ لاحتراسٍ / كذاكَ الدرِّ في صَدَفٍ توارى
لقد صانَ الطّهارةَ من جبينٍ / حكى قمَراً وكانَ لهُ سِرارا
وما ذاكَ السرارُ سِوَى تمام / لِمن يَخشى الضّلالَ أو الضرارا
نِقابُكِ دونَ وجهكِ ليسَ إِلا / رجاءٌ خَلفَهُ وطَرٌ يُدارى
ولولا عزَّةُ الأوطارِ هانَت / فما وَجَدَ العِصاميُّ افتِخارا
فشدِّي بالخِمارِ عَلَيهِ قَهراً / لمغرٍ بالسّفورِ هَذَى ومارى
وصدّي عن غويٍّ رامَ حُسناً / عَلَيهِ اللهُ في القُرآنِ غارا
أبِنتَ العالمِ الشرقيّ حِفظاً / لزيٍّ يُكسِبُ الحُسنَ ازدهارا
وظلّي فيهِ مُسلِمةً حَصاناً / على رَغمِ الذي خَلَعَ العِذارا
حِجابُ الوَجهِ ليسَ حِجابَ نَفسٍ / إذا رَفعت من الجهلِ السِّتارا
تعالَت نَفخَةُ الباري تعالى / وكانت من لَظَى نارٍ شرارا
فَجَوهَرُها من الأعراضِ يَبدو / لأهلِ الحقّ سِرّاً أو جَهارا
فإنَّ النّورَ يخترِقُ الدّياجي / وإنّ الصّوتَ يجتازُ الجِدارا
أيا بنتَ الّذينَ أنا فَتاهُم / وفي شِعري حَمَلت لهم شعارا
على الروميِّ تِيهي واستعزّي / وللعربي لا تُبدي نفارا
من الزبّاءِ صانَ الحصنُ حُسناً / بهِ ازدادت علوّاً واقتِدارا
وجرّت شَعرَها والذّيلُ فيهِ / وساسَت مُلكَها وحَمت ذِمارا
وإنَّ حميّةَ النُّعمانِ أزرَت / بكسرى أبرَوِيزَ وَرِيثِ دارا
أُحِبُّكِ يا فَتاةُ لحُبِّ قَومي / وأرفَعُ من مَناقِبهم مَنارا
أحنُّ إِلى مَواطِنهم فأبكي / على مُلكٍ قدِ اندَثرَ اندِثارا
وفي صَدري حَزازاتٌ وسَيفٌ / يحزُّ القلبَ من علجٍ أغارا
فكم هَجَروا منازِلَهم إباءً / ليَجتَنبوا الدنيئةَ والشَّنارا
كذا تخلو العَرائنُ مِن أُسُودٍ / تَرى للذّئبِ في خَيسٍ وجارا
إذا العربُ استَعدُّوا لِلأعادي / وبارُوهُم مِراساً وادِّخارا
ترى الدُّنيا عَجائبَ مِن رِجالٍ / يَرونَ الأرضَ لا تَسَعُ المغارا
فأيّامُ الجزائرِ قد أرَتنا / مِنَ الأعرابِ أبطالاً كِبارا
لعبدِ القادرِ اضطَرَبَت فرَنسا / وكان الإنتِصارُ لها انكِسارا
على فَقرٍ وضُعفٍ حارَبَتهُ / فأنزل في كتائِبها البوارا
جمالُكِ يا عروب أقرَّ عَيني / وذكّرَني أبا مُضرٍ نِزارا
فحِينَ أراكِ أستَجلي قُصُوراً / مِن الخُلفاءِ قَد صارت غُبارا
على رِدفَيكِ بَغداد اسبطرّت / وفيها المجدُ يَعتَنِقُ الفِخارا
وفي خَدَّيكِ سامرّا تُريني / مِنَ الدّنيا النّضارةَ والنّضارا
أنا العربيُّ بَينَ الرومِ أمشي / غَريباً أو أُعدُّ مِنَ الأسَارى
رأيتُ عرُوبَتي شَرَفاً وفخراً / فبتُّ أودَّ إسلامَ النصارى
فَقُولي للألى أرجو نَداهم / وأهوى مِن منازِلهم جِوارا
فَتاكُم ضاعَ في المَنفى فمدُّوا / لهُ الأيدي وسلُّوهُ غِرارا
تردّى البُطْلُ ثوبَ الحقِّ ردحاً / لِيخَدعَهُ فأزهَقَهُ وثارا
وخاصَمَه اللئامُ ولم يَكُونوا / خُصُوماً بَل زبانيةً شِراراً
فقالَ على الهُدى والحقّ مَوتي / فأرضَى الله واسترضى الخِيارا

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025