لا يوجد إنسان قد خلق لكل شيء
مِن أصعبِ الأشياءِ على الإنسانِ أن يَعرفَ نفسَهُ وحدودَها، وإذا هو اسطَاعَ ذلك = وضَعَها حيثُ يجبُ أن توضع، وساسَها كما يريد، وهي شاخصةٌ أمامَهُ يُجِيلُ عينيهِ في كلِّ زاويةٍ منها.
دعكَ من حديثِ تُجّارِ الوهمِ وقولِهم: أن كل إنسانٍ هو سوبرمانُ هذه الحياة، وأن من وقفَ لغايةٍ أخذَ بها رغمًا عن أنفِ الكونِ والمنطق! تبًا لهذه المَخرَقَة!
لا يوجد إنسانٌ يا عزيزي الإنسان قد خُلِقَ لكل شيء، إنَّ أمهرَ جَرَّاحٍ على وجهِ الأرضِ قد يكونُ أسوءَ ميكانيكِيٍّ عليها! وإن كان أمهرَ جرَّاحٍ وأحذقَ ميكانيكيٍّ فقد يكون أفشلَ كاتبٍ، وهكذا .. ولا غَروَ حينها ولا لومَ عليه إلا إذا اعتقدَ أنَّ في ذلك ملامةً فحشرَ أنفَهُ في كل شيءٍ من أشياءِ الحياةِ يُريدُ الأخذَ بحذافيرِه، وأنَّى لهُ ذلكَ ولو عُمِّرَ عُمرَ نوحٍ -عليه السلام-!
إن الحياةَ الجميلةَ تسيرُ هكذا أيها القارئُ الجميل، هكذا خلقها العظيمُ وكتبَ عليها الاختلاف، وكلُّ شيءٍ فيها موضوعٌ في موضعه، فقط يؤدّي ما عليهِ ولا عليه.
قال -تعالى وارتَفَع- : {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} أي بعضهم مُسَخَّرٌ لبعض، فالحدادُ يحتاجُ النجار، والفلاحُ يحتاجُ التاجر، والطبيبُ يحتاجُ السائق، وعالمُ الذرةِ يحتاجُ عامل البناء .. وهلمَّ تمثيلًا.
ولا يوجدُ إنسانٌ يتقن كلَّ شيءٍ، أو يستغني عن كلِّ شيء، فهو مدنيٌّ بطبعهِ أبدًا، وكما أنه لا يُغنيكَ العالَمُ كلُّهُ عن شخصٍ ما، لا يُغنيكَ شخصٌ ما عن العالَمِ كلِّه!
هذا رجلٌ ذكيٌّ فَطِنٌ يقصدُ العلامةَ الفراهيدي -عليه رحمة الله- ليتعلمَ منه العروض، فيمكثُ عنده قطعةً من الزمنِ لا يُزحزِحُ ذهنَهُ في العروضِ إلا كما يُزحزِحُ الصبيُّ الناشئُ الصخرةَ المُعَمِّرَة! فيدركُ الفراهيديُّ ذلك ويقول له: قَطِّع هذا البيت:
إذا لَم تَستَطِع شَيئًا فدَعهُ
وجَاوزهُ إلى ما تَستَطُيعُ
فيفهمُ الطالبُ ذلكَ ويمضي يطوي الحياةَ إلى ثَغرهِ الصحيح، فهو ذكيٌّ كما ترى إذ فهمَ مُرادَ الشيخِ من لَمحَةٍ دالَّة، ولا يعني أنه ذكيّ، أنه عروضيّ!
لا أنفعَ للإنسانِ في رحلتهِ القصيرةِ هذهِ من أن يَلمعَ لهُ هدفُه، وأن يلمحَ جادَّتَهُ المُوصِلةَ إليهِ باكرًا، ثم ينطلقُ إليهِ انطلاقَ الرَّصاصةِ لا تَلوِي على شيء .. ولا أضرَّ به من الضربِ بينَ أزقةِ الأفكارِ والأحلامِ والطموحاتِ كضربِ العُشْوِ في الدياجر!
وكم أتمنى أن لا تفهمَ من كلامي هذا الدعوةَ إلى تركِ تطويرِ الذاتِ واكتسابِ المعارف، أو الدعوةَ إلى إخمادِ فَورَةٍ الطموح، وقَتلِ الأمل، والإخلادِ إلى الأرض! (تخيَّلْ ألفَ "كَلَّا" مكتوبةً هنا) وإنما مرادي ألّا تأخذَ السماديرُ والأوهامُ بناصيتِك، وألّا تَذُرَّ عمركَ في نسائمِ التشهّي، وأن تَنكُتَ أرضَ نفسِكَ بعصَا التَجَرُّد، وأن تستخرجَ حقيقَتَك، وأن تقِفَ أمامَها وجهًا لوجه، وألّا تَكذِبَ أنتَ عليكَ فَبدايةُ كذبِ الإنسانِ على الحياةِ كَذِبُهُ على ذاتِه، وأن تَجتَهِدَ في أن تَقِفَ حيثُ يجبُ أن تَقِف، لا حيثُ تُحِبُّ أن تَقِف.
تحياتي.