المجموع : 21
أجدكِ يا كواكب لا تُرينا
أجدكِ يا كواكب لا تُرينا / بياناً منك يخبرنا اليقينا
كأنّ العالم العلويّ سفر / نطالعه ولسنا مفصحينا
نحاول منه إعراب المعاني / بتأويل فنرجع معجِمينا
كواكب في المجرّة عائمات / حكت في بحر فسحتها السفينا
سرت زهر النجوم وما دراها / فلاسفة مضت ومنجّمونا
شموس في السماء علت وجلَتَ / فظنّوا في حقيقتها الظنونَا
سوابح في الفضاء لها شؤون / ولمَا يعلموا تلك الشؤونا
وما راتجفت بجنح الليل إلاّ / لتضحك فيه مما يزعمونا
لعلّ لها بهذا الجوّ شأنا / سوى ما نحن فيه فرجّمونا
تلوح على الدجى متلألئات / فتنهِج في تلأُلئها العيونا
وأني يدرك الرائي مداها / وإن ألقى لها نظراً شّفونا
توَدّ الغانيات إذا رأتها / لو انتظمت لها عقداً ثمينا
تقلّده على اللّبات منها / وتطرح الدمالج والبرينا
ألكنني يا ضياء إلى الدَّراري / رسالة مسهر فيها الجفونا
لعلك راجع منها جواباً / يزيل عَماية ة المتحيّرينا
فقل إني تحير فيك فكري / كذاك تحير المتفكر ونا
فيا أم النجوم وأنتِ أمٌّ / أيولد فيكِ كالأرض البنونا
وهل فيكِ الحياة لها وجود / فيمكن للردى بكِ أن يكونا
وهل بكِ مثل هذي الأرض أرض / وفيها مثلنا متخالفونا
وهل هم مثلنا خلُقاً وخَلْقاً / هناك فيأكلون ويشربونا
وهل هم في الديانة من خلاف / نصارى أو يهودُ ومسلمونا
وهل طابت حياة بنيك عيشاً / ففوق الأرض نحن معذّبونا
وهل حُسبت بك الأيام حتى / تألف من تعاقُبِها السنونا
وهل بالموت نحن إذا خرجنا / عن الأجساد نحوك مرتقونا
فتبقى عندك الأرواح مِنّا / تصان فلا ترى جنفاً وهونا
فأجب بالمنون إذاً واحبب / بها إن كان سلَمك المنونا
أبِيني ما وراءك يا دراري / فنحن نخاله بعداً شطونا
قد اتّسع الفضاء لكِ اتساعاً / فهل أبعاده بكِ ينتهينا
وصّغَّرَكِ ابتعادك فيه حتى / إليك استشرف المتشوّفونا
فهل كان ابتعادك من دلال / علينا أم بعدت لتخدعينا
خوالد في فضائك أنتِ أم قد / يحل بك الفناء فتذهبينا
وقالوا ما لعدّتكِ انتهاءٌ / فهل صدقوا أو ارتكبوا المجونا
وقالوا الأرض بنتك غيرَ مين / فهل أبناء بنتك يصدقونا
وقالوا إن والدك المُفَدى / أثيرٌ في الفضاء أبي السكونا
ترصّدك الأنام وما أتانا / بعلمِ كيانك المترصّدونا
فهرشل ما شفى منا غليلاً / ولا غاليل أنبأنا اليقينا
وكبلر قد هدى أو كاد لما / أبانك يا نجوم تجاذبينا
إلى كم نحن نلبس فيك لَبْساً / ومن جرّاكِ ندرّع الظنونا
لعلَ النجمَ في إحدى الليالي / سيبَعث للورى نوراً مبينا
تقوم له الهواتف قائلاتٍ / خذوا عَنى النهى ودعوا الجنونا
لو أسكر الإنسان باطل أمره
لو أسكر الإنسان باطل أمره / لم تلق غير معربِد سكران
لو قاس كلّ فتى سواه بنفسه / فيما أراد لما تعادى اثنان
لو أنصف الخصمان ما اصطاد الرُشا / أهل القضاء بما ادّعى الخصمان
لو أخلص الإنسان في إحسانه / لم يرجُ أن يجزي على الإحسان
لو لم يشكّ بربّه متفلسفٌ / في الدين لم يحتجّ بالبرهان
لو أن عقل المرء يغلبِ حبّه / للنفسي لن يلجأ إلى الأديان
لولا جمود في الشرائع مهلك / لتغيّرت بتغّير الأزمان
لو كان قصد الدين غير سعادة الدّ / نيا لكان الكفر كالإيمان
لو أخلص الرجل التقيّ بدنيه / ما كان ذا طمع بحور جنان
لا خير في تقوى امرئ لو لم يَخف / نار الجحيم للجّ في العصيان
لو كان أمر الحجٌ معقولاً لما / كان استلام القوم للأركان
لو حكّم العقلَ الحجيج بحجّهم / أبَوُ الطواف بتلكم الجدران
لو أخلص الغزّى بنُصرة دينهم / ما حلّ سبي حرائر النسوان
كذبت قريش لو تقادم عهدها / في المجد ما خدعت أبا غبشان
لو كان للشيطان معنى غير ما الْ / إنسان ما آمنت بالشيطان
لو يجعل الناس التعاون دأبهم / لتمتّعوا بسعادة العمران
لو أنّ أخلاق الرجال تهذّبت / لتكّشفت حُجُب عن النِسوان
ومحبّة الأوطان لولاها لما / عَرف الأنام عداوة الأوطان
لو كان خير في المجرّة لم يكن / في الأرض شرٌ دائم الغَلَيان
لو تَمَّ في فلك الثريّا سعدها / لم تُمنَ بالعَيوق والدَّبَران
لو لم يكن فزعاً سهيل لم يبت / في أفقه متتابع الخفقان
إذا ما الفتى في دهره أحسن الظنّا
إذا ما الفتى في دهره أحسن الظنّا / فما أدرك المغزى ولا فهم المعنى
وما الحزم إلا أن نرى الدهر هاجماً / فنبنيَ من تدبيرنا دونه حصنا
وما الدهر إلا مبهرِ في طباعه / يغرّر بالأقوام يفتنهم فَتنا
يروع بنيه صائلاً بنباته / فقد ضلّ مَن من دهره يطلب الأمنا
يذفّ عليهم بالظبي من خطوبه / فكم جدعت أنفاً وكم صلمت أذنا
وما شهبه إلا مخالب كيده / تمدّ بجوف الليل دامية حجنا
إذا ما تشممت الزمان وطبعه / تشمّمت من أعماق طينته نتنا
إليك فتى السعدون جئت مهنّئاً / بما نلته عند الإله من الحسنى
إذا ما دممنا الدهر يوماً وأهله / فإنك من تلك المذمّات مستثنى
أتى يومك الدامي بذكراك حافلا / فجدّد في كل البلاد لنا حزنا
ففي مثل هذا اليوم بتّ مضرّجاً / وبتنا نحاكي في مداعمنا المزنا
وفي مثل هذا اليوم في حفرة البلى / جعلنا بك الآمال مدفونة هنّا
عشيّةً أطلقت المسدّس ناره / على قلبك الخفّاق من يدك اليمنى
فللّه نار قد بردت بحرّها / وإن سال منها دمعنا بالجوي سخنا
لئن أفقدت بالموت قلبك نبضه / فكم أنبضت بالحزن أفئدةً منّا
وكم أنطقت دمع المحاجر بالأسى / على أنها بالهول أخرست اللسنا
فيا طلقةً ريع العراق بصوتها / فبانت به الآفاق عابسةً دكنا
وردّد مجرى الرافدين لصوتها / صدى الحزن من أقصى العراق إلى الأدنى
لقد جمع الأموال باسمك معشر / لتخليدهم ذكراك في معهد يبنى
وما علموا أن المباني كلّها / وإن قويت تفنى وذكرك لا يفنى
وأعظم تخليداً لذكراك منهم / فعائلك الغرّاء والخلق الأسنى
سعيت إلى استقلال قومك مخلطصاً / وما كنت في يوم على القوم ممتنّا
وقعت بأعباء السياسة ناهضاً / يهمّة لاوانٍ ولا ناكصٍ جبنا
وأبديت في تلك المواقف كلّها / أصالة رأيٍ قط لم يعرف الأفنا
فإن كنت لم تنجح فليس لعلّةٍ / سوى أن خصم القوم في كيده افتنّا
زكت لك نفس بين جنبيك حرّة / فلا أظهرت كبراً ولا أضمرت ضغنا
لنا المثل الأعلى بحلمك والنّدى / فكم بهما أثنى عليك الذي أثنى
فأحنف ربّ الحلم بالحلم فقته / وفي الجود قد فقت ابن زائدة معنا
ألست الذي قدم رام قتلك قاتل / فأطلقته عفواً وأوسعته مَنّا
سيبقى على الأيام ذكرك خالداً / به صحف التأريخ قاطبةً تعنى
فيا بطلاً بالنفس ضحّى وإنما / بذلك لاستقلالنا سنّةً سنّا
فعلّمنا أنّ التفادي واجب / على كل قوم حاولوا شرف المغنى
سنسعى إلى ما قد سعيت من العلا / بصادق عزم ينكر الضعف والوهنا
وإنا لقوم مستقلّون فطرةً / إذا أنكر استقلالنا منكر ثرنا
فلو جعلت تبراً سبيكاً بيوتنا / ولسنا بحكام أبينا بها السكنى
يهون علينا في السياسة أننا / نصلّب في الأعواد أو ندخل السجنا
ولسنا نبالي دون أحياء مجدنا / أعشنا على وجه البسيطة أم مُتنا
إذا أدرك المجد المؤثّل معشر / أُحاد فأنّا نحن ندركه مثنى
نفوساً ورثناها كباراً أبيةً / أبت في الدنى أن تحمل الضيم والغبنا
مَن سامعٌ قصةً لي كنت شاهدها
مَن سامعٌ قصةً لي كنت شاهدها / على الربا الخضر من جنّات لبنان
فقد رأيت غلاماً صيغ منفرداً / بالحسن يصبو إليه كل إنسان
البدر يبدو حقيراً عند طلعته / والشمس تعنو لوجهٍ منه نوراني
في عينه حور في ثغره شنب / يفترّ عن عقد دّرٍ وسط مرجان
إذا رنا ناظراً يرنو بساحرة / أو انثنى ينثني عن عطف نشوان
عليه ثوب بديع النسج طرته / من صبغة المجد قد زينت بألوان
في جانب منه تلقى الدرّ منتظماً / والدرّ منتثراً في الجانب الثاني
وللعواطف في أثنائه صور / جادت بها ريشة في كفّ فنّان
تفاوح الطيب من أردانه عبقاً / كما تفاوح أزهار ببستان
تستخلص النفس من فحوى ملامحه / أن الغرام الذي يخفيه روحاني
يبكي وألحان موسيقاه مشجيةٌ / تهفو بأفئدة منّا وآذان
يبكي وأنغام موسيقاه مطربةٌ / نهتزّ منهنّ أرواح بأبدان
يبكي فيرفض عقد الدمع منتثراً / بغير وزن وأحيانا بميزان
لمّا أراني جلال الحسن ممتزجاً / بروعة الحزن أشجاني فأبكاني
فقمت بين إناس حوله وقفوا / مستعبرين وكلٌ نحوه ران
وكلّهم وقفوا مستسلمين إلى / تنهّدات وآهات وإرنان
حتى سألت عن الباكي وقصته / فقيل هذا هو الشعر ابن جبران
أبوه جبران أفناه الردى فغدا / من بعده رهن يتم حلف أشجان
فقلت لم يفنّ جبران بميتته / من خلّف ابناً كهذا ليس بالفاني
بل أصبحت بابنه ذكره خالدة / ما دام لبنان مأهولا بإنسان
إني أرى روح جبران مرفرفةً / على الربا الخضر من جنات لبنان
همّم الرجال مَقِيُسة بزمانها
همّم الرجال مَقِيُسة بزمانها / وسعادة الأوطان في عُمرانها
وأساس عمران البلاد تَعاوُن / مُتواصل الأسباب من سُكّانها
وتعاون الأقوام ليس بحاصل / إلاّ بنَشْر العلم في أوطانها
والعلم ليس بنافع إلاّ إذا / أجرت به الأعمال خَيْل رهانها
أن التجارب للشيوخ وإنما / أمَل البلاد يكون في شُبانها
هذي لدى العرب الكرام مبادئٌ / نزلت بها الآيات في قرآنها
والعُرب أكبر أمة مشهورة / بفُتوحها وعلومها وبيانها
كم قد أقامت للعلوم مدارساً / يَعيا ذوو الإحصاء عن حسُبانها
وبَنَت بأقطار البلاد مَصانعاً / تتحيّر الأفكار في بُنيانها
فالمجد مَأثور بكل صراحة / عن قَيْسها أبداً وعن قحطانها
طُبِعت على حبّ العَلاء فسعيُها / للمكْرُمات يُعَدّ من دَيْدانها
نهضت بماضي الدهر نهضتها التي / خَضَعت لها الأفلاك في دَورانها
حَسُنت عواقب أمرها حتى لقد / بَهَرت بني الدنيا جلالة شانها
فهم الأُلى فتحوا البلاد ونشّروا / رايات مَعدَلة على قُطّانها
وهم الألى خضعت لهم أمم الورى / من تركها طُرّاً إلى أسبابها
والروم قد نزلت لهم عن مُلكها / والفُرس عمّا شيد من إيوانها
يا أمةً عاش البرية أعصُراً / في عدلها رغداً وفي إحسانها
ثم انقضت تلك العصور فجاءها / زمن به انقادت إلى عُبدانها
فَنَضَت ملابس عزَها وتثاقلت / في الذُلّ راسفةً بقَيد هوانها
أما آن أن تُنْسى من القوم أضغان
أما آن أن تُنْسى من القوم أضغان / فيُبنَي على أسّ المؤاخاة بنيان
أما آن يُرمَى التخاذُل جانبا / فتكسبَ عزاً بالتناصُر أوطان
علام التعادي لأختلاف ديانة / وأن التعادي في الديانة عُدوان
وما ضَرَّ لو كان التعاوُن ديننا / فتَعْمُرَ بلدان وتأمنَ قطّان
إذا جمعتنا وحدة وطنيّة / فماذا علينا أن تَعَدَّد أديان
إذا القوم عَمَّتْهم أمور ثلاثة / لسان وأوطان وباللَّه إيمان
فأيّ اعتقادٍ مانعٌ من أخوّة / بها قال أنجيل كما قال قرآن
كتابان لم يُنزلهما اللَّه ربنا / على رُسْله إلاّ ليَسعَد أنسان
فمن قام باسم الدين يدعو مُفّرِقاً / فدعواه في أصل الديانة بُهتان
أنَشقى بأمر الدين وهو سعادة / إذاً فإتباع الدين يا قوم خُسران
ولكن جهل الجاهلين طَحا بهم / إلى كل قول لم يؤيّده برهان
فهامُوا بتَيْهاء الأباطيل كالذي / تخَبَّطَه من شدة المَسّ شيطان
مَواطنكم يا قوم أُمّ كريمة / تدُرّ لكم منها مدى العمر ألبان
ففيِ حضنها مهدٌ لكم ومَباءةٌ / وفي قلبها عطف عليكم وتَحْنان
فما بالكم لا تُحسنون وواجب / على الابن للام الكريمة أحسان
أصبراً وقد أمسَى العدوّ يُهينها / أما فيكم شَهْم على الام غَيْران
أجل أنكم تأبى الحياة نفوسُكم / إذا لم يكن فيها على المجد عُنوان
ألستم من القوم الذين عَلاؤُهم / تَقاعس عنه الدهر وأنحطّ كيوان
نمَتْكم إلى المجد المُؤثَّل تغلبٌ / كما قد نمتكم للمكارم غَسّان
فلا تُنكروا عهد الأخاء وقد أتت / تصافحكم فيه نزار وعدنان
أجبْ أيها النَدْب المسيحيّ مسلماً / صفا لك منه اليوم سرٌّ وأعلان
فلا تَحرِما الأوطان أن تتحالفا / يداً بيدٍ حتى تؤكَّد أيمان
ألا فانهضا نحو العِدي وكلاهما / لصاحِبه في المأزِق الضَنْكِ معوان
وقولا لمن قد لام صَهْ وَيْك أننا / على حال في المواطن أخوان
فمَنْ مبلغُ الأعداءِ أن بلادنا / مَآسِد لم يَطرُق َذراهنّ سرحان
وأنّا إذا ما الشّر أبدى نُيوبه / رددناه عنا بالظُبي وهو خَزيان
سنَستَصرخ الآساد من كل مَربض / فتمشي إلى الهَيْجاءِ شيب وشُبان
أسود وغىً تأبى الحياة ذَمِيمةً / وتلبس بالعزّ الرَدىَ وهو أكْفان
مَقاحِيم تَصْلَى المَعمَعان مُشِيحةً / إذا أحتَدَمت في حَوْمة الحرب نيران
وتكسو العَراء الرَحب مسْح عجاجة / يَمُجّ بها السيفُ الرَدى وهو عُريان
سننهض للمجد المخلَّد نهضة / يقرّ بها حَوران عيناً ولُبنان
وتعتزّ من أرض الشَآم دمشقها / وتهتز من أرض العراقَيْن بغدان
وتطرَب في البيت المقدَّس صخرة / وترتاح في البيت المحرَّم أركان
وتَحسُن للعُرب الكرام عواقب / فيحمَدها مُفتٍ ويشكر مطران
ولو أنصفتنا ساسة الغرب لأغتدت / دمشق لها من ساسة الغرب أعوان
ورقّت قلوب للعراق وأهله / وأصغت إلى شكوى فلسطين آذان
ولكنهم رانت عليهم مطامع / فأمسَوْا وهم صُمٌّ عن الحق عُميان
لقد قيل أن الغرب ذو مدنيّة / فقلت وهل معنى التمدن عُدوان
وأيّ فَخارٍ كائنٌ في تمَدُّن / إذا لم يقُم في الغرب للعدلِ ميزان
إذا كانت الأخلاق غير شريفة / فماذا عسى تُجْدي علوم وعِرفان
بنفسي أفدي في العراق مَنابتاً / يفوح بها شِيحٌ ويَعبَق حَوْذان
رياض رَعَتْها النائبات بأذْؤب / من الجَور فأرتاعت ظباء وغِزلان
لقد كان فيها الرَنْد والبان زاهياً / فأصبح لارند هناك ولا بان
وأصبح مَرْصوداً بها كل مَنْهَل / عليه من التَرْنيق بالظلم ثعبان
وظلّ ابنها عن كل حَوْض مُحَلأً / يَحُوم على سَلساله وهو عطشان
سأبكي عليها كلما هبّت الصَبا / فمالت بها من حول دجلة أغصان
ومَن ذَرَفت آماقه الدمعَ لؤلؤاً / ذرفت عليها أدمُعي وهي مَرْجان
قل للحجابيّين كيف ترونكم
قل للحجابيّين كيف ترونكم / من بعد سفر للسفور مبين
كشفت به ما كان من حجب العمى / عنكم نظيَرة بنت زين الدين
سفر أقام على السفور أدلّةً / تركت ذبابكم بغير طنين
يا لاجئين إلى العناد خصومةً / ما كان ِحصن عنادكم بحصين
هل من نظير بينكم لنظيرة / أو من فقيه مثلها وفطين
هدمت نظيرة ما بَنَت عاداتكم / من كل سجن للنساء مُهين
أفتمكُثون على العناد وقد بدا / من بعد ليل الشك صبح يقين
نحن السفوريّين أعلم بالذي / شرع النبيّ محمد من دين
أيكون ما شرع النبي محمد / شيئاً يخالف شرعة التمدين
أن أعتزالكم النساء ترفُّعاً / أمر يناقض حكمة التكوين
حتى رجال الصين تحترم النسا / أفنحن ننقص عن رجال الصين
كلاّ ولكن عادة همجيَّة / جعلتكم حرباً لكل حَسِين
هي المواطن أدنيها وتُقصيني
هي المواطن أدنيها وتُقصيني / مثل الحوادث أبلوها وتُبليني
قد طال شكواي من دهر أكابده / أما أصادف حرّاً فيه يُشكيني
كأنني في بلادي إذ نزلت بها / نزلت منها ببيت غيرِ مسكون
حتى متى أنا في البلدان مغترب / نوائب الدهر بالأنياب تُدميني
فتارةً في المَوامي فوق مُوَقرةٍ / وتارةً في الطوَامي فوق مشحون
كم أغرقتني الليالي في مصائبها / فعُمت فيهنّ من صبري بدُلفين
أنا ابن دجلة معروفاً بها أدبي / وإن يك الماء منها ليس يُرويني
قد كنت بلبلها الغِرّيد أنشدها / أشجى الأناشيد في أشجى التلاحين
حيث الغُصون أقَلّتني مكلَّلَةً / بالورد ما بين أزهار البساتين
فبينما كنت فيها صادحاً طرباً / أستنشق الطيب من نفح الرياحين
إذ حلّ فيها غراب كان يُوحِشُني / وكان تَنعا به بالبين يؤذيني
حتى غدَوْت طريداً للغراب بها / وما غدوت طريداً للشواهين
فطِرت غير مُبالٍ عند ذاك بما / تركت من نرجس فيها ونسرين
ويل لبغداد مما سوف تذكره / عنّي وعنها الليالي في الدواوين
لقد سَقيت بفيض الدمع أربُعها / على جوانب وادٍ ليس يَسقيني
ما كنت أحسب أني مذ بكَيت بها / قومي بكيت على من سوف يُبكيني
أفي المروءة أن يَعتزّ جاهلها / وإن أكون بها في قبضة الهُون
وأن يعيش بها الطُرطُور ذا شَمَم / وأن أسام بعيشي جدع عِرنيني
تالله ما كان هذا قطّ من شِيمي / ولا الحياة على النكراء من ديني
ولست أبذُل عرضي كي أعيش به / ولو تأدّمت زَقّوماً بغسلين
أغنت خشونة عيشي في ذُرا شرفي / عما أرى بخسيس العيش من لين
عاهدت نفسيَ والأيام شاهدة / أن لا أقِرَّ على جَوْر السلاطين
ولا أصادق كذاباً ولو مَلِكاً / ولا أخالطَ أخوان الشياطين
أما الحياة فشيء لا قرار له / يحيا بها المرء مَوْقوتاً إلى حين
سِيَانِ عندي أجاء الموت مُخْتَرِماً / من قبل عشرين أم من بعد تسعين
ما بالسنين يقاس العمر عندي بل / بما له في المعالي من تحاسين
لو عشت ستين عاماً لاستعضت بها / ستين مكْرُمةً بل دون ستين
فإنما أطول الأعمار أجمعها / للمَكْرُمات من الأبكار والعُون
إن اللئيم دفين قبل ميتتِهِ / وما الكريم وإن أودى بمدفون
وليس مَن عاش في ذُلٍّ بمغتَبَط / ولا الذي مات في عزّ بمغبون
ما كنت أحسَب بغداداً تُحَلّئني / عن ماء دجلتها يوماً وتُظميني
حتى تقلد فيها الأمر زعنفةٌ / من الأُناس بأخلاق السراحين
ما ضرّني غير أني اليوم مِن عرب / لا يغضبون لأمرٍ ليس يُرضيني
تالله ما ضاع حقّي هكذا أبداً / لو كنت من عجم صُهْب العَثانين
علام أمكُث في بغداد مصطبراً / على الضراعة في بُحبوحة الهُون
لأجعلنّ إلى بيروت هُنتَسَبي / لعلّ بيروت بعد اليوم تُؤويني
خابت ببغداد آمال أؤمّلها / فهل تخيب إذا استذرت بصِنّين
فليت سورّية الوَطفاء مُزنتها / عن العراق وعن واديه تُغنيني
قد كان في الشام للأيام مذ زمن / ذنب محَته الليالي في فلسطين
إذ كان فيها النشاشيبي يسعفني / وكنت فيها خليلاً للسكاكيني
وكان فيها ابن جبر لا يُقصر في / جبر انكسار غريب الدار محزون
إن كان في القدس لي صحب غطارفة / فكم ببيروت من غُرٍّ ميامين
يا محب الشرق أهلاً
يا محب الشرق أهلاً / بك يا مستر كراين
مرحباً بالزائر المشهو / ر في كل المداين
مرحباً بالقادم المشكو / ر في هذي المَواطن
فضلكم بادٍ على الشر / ق وشكر الشرق عالن
كم لكم من وَقَفات / دونه ضد المُشاحن
جئت يا مستر كراين / فانظر الشرق وعاين
فهو للغرب أسير / أسر مديون لدائن
إن هذا الشرق والغر / ب لمغبون وغابن
فترى الشرق تجاه الغرب يسعى سعي ماهن /
وترى الغرب عليه / واقفاً موقف خائن
مُنكِراً منه المزايا / مُوجداً فيه المطاعن
غاصباً منه المواني / شاحناً فيه السفائن
حافراً فيه المعادن / نابشاً فيه الدفائن
فهو يمتص دماء الشرق من كل الأماكن /
باذراً من كيده في / أهله بذر الضغائن
حاكماً فيه على أهليه / حكم المتهاون
جاعلاً في رجله قَيْ / دَ الونى والقيد شائن
فترى الشرق لهذا / ماشياً مِشية واهن
أفهذي يا محب الشرق أفعال المهادن /
أين ما قد قاله ولسن يا مستر كراين /
لم يكَن ولسن فرداً / إن في الغرب ولاسن
فعَلام الغرب لا ين / فك للشرق مُضاغن
كم يَسوم الغرب أهل الشرق خسفاً ويُخاشن /
وإلى كم ساسة الغر / ب تُداجي وتداهن
كم وكم نسمع منهم / قَول خّداع ومائن
إن في الشرق تجاه ال / غرب نيراناً كوامن
سوفَ ينشق حجاب الدهر عنها بالدواخن /
وإذا قامت حروب / من بني الشرق طواحن
فمَن المسؤول عن ذلك يا مستر كراين /
وإذا تسأل عَما / هو في بغداد كائن
فهو حكم مشرقيّ الضَرع غربي الملابن /
وطنيّ الاسم لكن / إنكلَليزي الشناشن
عربيّ أعجميّ / مُعرب اللهجة راطن
فيه للإيعاز من / لندن بالأمر مكامن
هو ذو وجهين وجه / ظاهر يتبع باطن
قد ملكنا كل شيء / نحن في الظاهر لكن
نحن في الباطن لا نملك تحريكاً لساكن /
أفهذا جائز في ال / غرب يا مستر كراين
بكت في ظلام الليل تندب أهلها
بكت في ظلام الليل تندب أهلها / بصوت له الصخر الأصمَ يَلين
وباتت وقد جلّ المُصاب حزينةً / لها في مناحى الغُوطتين أنين
تئن وقد مدّ الظلام رِواقه / وخيّم صمت في الدجى وسكون
إذا هي مدّت في الدُجُنّة صوتها / تَميد له في الغوطتين غصون
وتلهب منه في الفضاء شرارة / فتُبصرها في الرافدين عيون
وتَهبو له في ساحل النيل هَبوة / أبو الهول منها واجد وحزين
ومن بعد وهن أشرق البدر طالعاً / فأسفر منها عارض وجبين
فأبصرت منها الوجه أزهر مشرقاً / بخديه سر للجمال مصون
جمال بديع بالجلال متَّوج / له سبب في المكُرمات متين
وبَرقَعَها حزن فكان لوجهها / مكان من الحسن المَهيب مكين
فتاة جَثَت في الأرض تبكي وحولها / صريع على وجه الثرى وطعين
فضمت إلى الصدر اليدين وعينها / تقاذفُ منها بالدموع شؤون
وقد شَخَصت نحو السماء بطرفها / لها كلَّ آن زَفرة وحنين
وما أنس لا أنس العشّية أنها / تورّمَ منها بالبكاء جفون
وإن غزير الدمع خدّد خّدها / فلاحت من الأشجان فيه فتون
ولما انقضى صبري تراميت نحوها / كما ترتمي بالعاصفات سَفين
وقلت لها مَن أنت رُحماك إنني / لك اليوم خِلٌ صادق وأمين
فقالت وقد ألقت إليّ بنظرة / عن القصد فيها مُعرب ومُبين
أنا البلدة الثكلى دمشق ابنة العلا / أما أنت في مغنى دمشق قَطين
ألم تر أبنائي يُساقون للردى / فمنهم قتيل بالظُبى وسجين
فأين أباة الضيم من آل يعرب / ألم يأتِ منهم ناصرٌ ومُعين
فقلت لها لبَّيك يا أُمّ إنهم / سيأتيك منهم بارزٌ وكمين
سندرك فيك الثأثر من أنفس العدى / ونُوقِد نار الحرب وهي زَبون
فهذي دمشق يا كرام وهذه / أحاديث عنها كلهن شُجون
نحن للحرب العَوان
نحن للحرب العَوان / ولإدراك الأماني
لا نُعدّ العُرس إلاّ / يوم ضرب وطِعان
يوم نَحسُو من دم / الأعداء لا بنت الدنان
ما صليل السيف إلاّ / عندنا صوت المثاني
شَفّنا الحب لبيض ال / هند لا البيض الحسان
نشتهي غَمغَمة الأبطال / لا عزف القِيان
نحن لا نفخر إلاّ / بلسان من سنان
شِيَم ينظر من تح / تُ إليها الفرقدان
وبها قد شهِد النج / م لنا والقمران
سل بنا كل زمان / سل بنا كل مكان
هل بنينا المجد إلاّ / بالحُسام الهنداوني
كم جَلَوْنا غُمْة الهي / جاء ذات المعمان
بسيوف أضحكت في ال / رَوع وجه الحدثان
وكُماة ثبتت حيث / تزِلّ القدمان
كل رحب الباع صعب المُلتقىَ ثَبت الجَنان /
ثابت الجأش وقور / النفس جَوّال العِنان
حيث شخص الموت في المأزِق بادٍ للعيان /
يا علوج الصرب والبلغار / أولاد الزواني
لم يكن ايعادكم بالحر / ب غير الهَذَيان
إنما الحرب لدينا / من تمام الحَيَوان
فاتركوا الايعاد يا أبناء حمراء العجان /
ودعوا الحرب فليس الحرب من شأن الجبان /
وتَزَيَّوْا يا مخانيث بأزياء الغواني /
إنما أنتم تُيُوس / أولعت بالنَزَوان
سوف تُرَمَوْن من الرُعب بداء اليَرقان /
وستُدمُون بقرع السن أطراف البَنان /
وتذوقون من المو / ت الزُؤام الأرجواني
حين تَلقَون أسوداً / طافحات الهَيَجان
ذات بأس يترك الصَخ / ر قَرين الذَوَبان
وزئير نأخذ الأر / ض له بالرجفان
وقلوب طُبِعت من / حِدّة السيف اليماني
جهِلت في غير ما الراية معنى الخفقان /
إنما نحن كرام / عزّنا غير مُهان
نتفانى في سبيل الذَوْد / عن هذي المغاني
نشتري الموت بنقد / الروح في الحرب العوان
إذ نُقيم الموت معرا / جاً إلى أعلى الجِنان
سوف نكسُو الحرب ثوباً لونه أحمر قان /
فتكون الأرض منها / وردة مثل الدهان
قد أظلّتها سماء / من شُواظ ودخان
تُرسل الموت عليكم / في شآبيب الهَوان
فيقيم الذُلّ فيكم / مُلقياً كل جران
يا قوم إن العدى قد هاجموا الوطنا
يا قوم إن العدى قد هاجموا الوطنا / فانضُوا الصوارم واحموا الأهل والسكَنا
واستنفروا لعدوّ الله كل فتىً / ممن نأى في أقاصي أرضكم ودنا
واستنهضوا من بني الإسلام قاطبةً / من يسكُن البدو والأريافُ والمُدُنا
واستقتلوا في سبيل الذَود عن وطن / به تقيمون دين الله والسُننا
واستلئموا للعدى بالصبر واتخذوا / صدق العزائم في تدميرهم جُنَنا
واستنكفوا في الوغى أن تلبسوا أبداً / عار الهزيمة حتى تلبَسوا الكفنا
إن لم تموتوا كرماً في مواطنكم / مِتِّم أذلاء فيها مِيتة الجُبَنا
لا عذر للمسلمين اليوم إن وَهَنُوا / في هوشة ذلّ فيها كل مَن وَهَنا
ولا حياة لهم من بَعدُ أن جَبُنوا / كلاّ وأي حياة للذي جَبُنا
عار على المسلمين اليوم أنهم / لم ينقذوا مصر أو لم ينقذوا عدنا
قل للحسينين في مصر رويدكما / قد خُنتما الله والإسلام والوطنا
شايعتما الإنكَليز اليوم عن سَفَهٍ / تالله ما كان هذا منكما حسنا
قد بِعتَما الدين بالدنيا مجازفة / فكنتما في البرايا شّر مَن غُبِنا
لا تفرحا بالوسامَين اللذين هما / طَوقا إسارة مصر فيكما اقترنا
قد مَثّلا منكما للناس قاطبةً / عِجلاً أضلّ الورى من قبل أو وثنا
ما ازدان صدراكما شيئاً بحَملهما / بل أصبحا في كلا صدريكما دَرَنا
إن الحميّة لم تنظر بمُقلتها / إلى وسامَيكما إلاّ بكت حَزَنا
ما كان أغلاهما إذ قد غدت لهما / خزائن النيل في أيدي العدى ثمنا
ستندمان ولا يُجديكما أبداً / أن تَقرعا السنّ أو أن تقبضا الذقَنَا
هذي جيوش بني التوحيد زاحفة / على العدى وعلى من ضلّ مفتتنا
لتُرسلّنّ عليكم كل راعدة / تهمى الدماء وتَمريها ظُبيٌ وقَنا
حتى تعود إلى مصر كرامتها / ويطهر النيل من ماءٍ به أجِنا
لا زلت يا وطن الإسلام منتصراً / بالجيش يزحف من أبنائك الأمنا
يَرُدّ عنك يد الأعداء خاسرةً / ويكشف الغَمّ عن أُفقَيك والمِحنا
سعدَيك من وطن جلّت مفاخره / عن الزوال فلا تَخشى بلىً وفنا
تالله إن معاليك التي سَلَفَت / تُعيي الفصاحة والتبيان واللَسنا
كم قد أقمت على الأيام من شرف / لنا وأنبَتَ من نبع العلاء غُصُنا
إنا نحبّك حبّاً لا انتهاء له / يستغرق الأرض والأكوان والزمنا
نَفديك منا بأرواح مطهّرة / أخلصن لله فيك السرّ والعّلّنا
إذا دهتك من الأيام داهية / فلا رعى الله عيناً تألف الوَسَنا
وإن فتنت بإحدى المزعجات نُرِق / منّا الدماء إلى أن نُخمد الفِتَنا
فقرّ عيناً وطِب نفساً وعش أبداً / وفُز بما شئت من حمد وطيب ثنا
ورب مستصحب لي قال يُخبرني / إن العدوّ إلى أرض العراق دنا
فقلت دع عنك هذا إنه خبرٌ / سواه يَبعث في أحشائي الشَجَنا
إن صحّ أن العدوّ اليوم مقترب / إلى العراق فقد أكدى وقد أفنا
إن العراق لعمر الله مسبعة / تَواثبُ الأسد فيه من هنا وهنا
دون الوصول إليه كلّ مُشعِلَة / شعواء تترك وجه الشمس مَكتمنا
فإن فيه رجالاً من بني مضر / إذا تحارب لا تستشفع الهُدَنا
قوم لَقاح أبَوْا أن يخضعُوا أبداً / إلى الملوك وإن أعطَوهم المُؤَنا
تحمَّلوا كل عبءٍ في حياتهم / إلا الصَغار وإلا الضيم والمِننا
لو أن أُمّاتهم مَنّت على أحد / منهم بألبانها لم يشربوا اللبنا
هم المغاوير إن صالوا بمَلحَمة / فلا يرون لهم غير المَنون مُنى
بَنْوا فأعلَوْا بناء المجد فارتفعوا / به على كل مَن قد شاده وبنى
فكيف تقعد عن حرب العدى فئة / أبت سوى العز مأوىً والعلا وُكَنا
أطالوا الحرب طاحنة زَبونا
أطالوا الحرب طاحنة زَبونا / فعدُّوا بالشهور لها السنينا
وقد زحفت لهم فيها جيوش / تجاوزت الألوف مع المئينا
لقد خربوا البلاد ودوّخوها / وجُنّوا في تناحُرهم جنونا
ولم تُرِد الشعوب لها اتّقاداً / فأوقد نارها المترئّسونا
أولاك هم الجُناة بها علينا / أولاك هم البُغاة الطامعونا
إذا ذكر الورى جشعاً وحرصاً / ف شرشل أكبر المتجشّعينا
وما رزفلت فيها غير جانٍ / يزوّر في إطالتها المُيونا
أعان على الهياج وقال حِيدي / حَيادِ فأعجب المتكذّبينا
فما دعواه في الحَيَدان إلا / كدعوى العفّةِ المتهتّكونا
كذلك ساسة الأقوام فيما / به من أمرهم يتقوّلونا
خِداع لا يراه ذووه شَيْناً / ولا يُمسي به أحد مَشِينا
بسنغافورة اليابان شبُّوا / على أعدائهم حرباً طَحونا
لهم فيها طوائر صاعقات / لها قصف تدكّ به الحصونا
رواعد تملأ رُعباً / وترسل في تهزُّمها المنونا
تزلزلت الحصون بها وكانت / تطاول في مناعتها القرونا
حصون تستخفّ بكلّ طَوْدٍ / وتستعشي برؤيتها العيونا
لقد سكتت مدافعها وجوماً / لجيش حلّ مَرصَفها الحصينا
على بحر بلُجّته أقاموا / لفلق البحر من نار كُرينا
وقد بثُّوا البوارج فاسبَطَّرت / تجول به فوارد أو ثُبينا
ترى الحيان فيه قد اشرأبّت / تردّد فوقه نظراً شَفونا
وتطفو تارةً وتغوص أخرى / وتُبدي من تماقُلها فنونا
وتضرب بالزعانف جانبَيْها / فتنقلب الظهور بها بطونا
بحيث يقول من يرنو إليها / لعلّ بهنّ صرعاً أو جنونا
وبحر الهند أصبح في اضطراب / يرجّم في عواقبه الظنونا
أيُفتَح بابه فيكون حرّاً / لمن يُزجي بلجّته السفينا
ويُمسي الهند عندئذ طليقاً / من الأسر الذي قطع الوَتينا
فبشرى للبلاد إذن وبشرى / لمصر و العراق بما هوينا
فسوف تكفّ عنهن الليالي / مطامع ساسة متحكمينا
هنالك حفرة الأطماع يُمسي / خِداع الانكليز بها دفينا
وتحتدم الحفائظ في البرايا / فتُضرم فوق مدفنه أُتونا
وتتسع السياسة للتصافي / فيستصفي الخدين بها الخدينا
ويُصبح كل تمويه وغِشّ / لأنظار البرية مستبينا
ويصبح كل خدّاع كذوب / رجيماً في سياسته لعينا
ويصبح كل شعب مستقلاً / عزيزاً لن يذِلّ ولن يهونا
ويمسي الناس قاطبةً سواءً / بدين أُخُوةٍ متدينينا
يعاون بعضهم بعضاً ويؤوي / قويّهم الضعيف المستكينا
تسير بها شرائع عادلات / إلى أوح السعادة مرتقينا
جميعاً لا يفرّقهم لسان / ولا دين به يتعبّدونا
فما من سائدٍ أو من مَسودٍ / ولا من دائن يُربي الديونا
ويصبح كل محتَرَث مُشاعاً / لمن فيه ثَوَوا متواطنينا
وما أهل البلاد سوى عيالٍ / على العمل الذي هم يحسنونا
اليوم قرّي يا مواطن أعينا
اليوم قرّي يا مواطن أعينا / وتطرّبي بالحمد منك الألسنا
فلقد وفاك الجيش حقك سابغاً / إذ قام فيك على البلاد مهيمنا
وسعى يَحُوطك بالصوارم طائعاً / لزعيمه العالي الرشيد ومذعنا
جيش قد اقتحم المخاطر واثقاً / بالله والنصر المؤزَّر مؤمنا
متوشحاً عزّ الشهامة جاعلاً / كزعيمه حبّ المواطن دّيْدنا
سر يا زعيم الشعب غير مُنازَع / بالجيش للعزّ المجلّل بالسنا
وأعد لنا عهد الرشيد وحاكه / بالاسم والهمم الرفيعة والكُنى
إنا لمن قوم أبت أحسابهم / إلا ذُرا العزّ المؤثّل مسكنا
غرسوا الفَخار على مسيل دمائهم / وتفيّئوا الشرف الشهيّ المجتنى
أنذِلّ للمستعمرين وعندنا / جيش إذا خاض المعارك ما انثنى
وَفَوُا المواطن حقها وتسنّموا / أعلى المفاجر بالصوارم والقنا
قد أخلصوا لله حبّ بلادهم / فتسربلوا أبهى البرود من الثنا
ويل لمن خانوا البلاد وما أبت / للأجنبيّ نفوسهم أن تركنا
كفروا بأنعمها وهم أبناؤها / فلذاك باؤا بالفضيحة في الدنى
نشؤوا بها مثل العقارب دأبها / نفث السموم فمن هناك ومن هنا
وإذا شممت بناشِقَيْك طباعهم / أعطتك طينتهم شميماً مُنتِنا
لعنت قرائنهم وكل من احتمى / بالأجنبي فحقّه أن يلعنا
طاروا بأجنحة الأجانب واغتدَوْا / يتربّصون بنا التخاذُل والونى
وغدَوْا لهم عَوناً علينا ظاهراً / يتحيّنون لنا الشقا تحيٌّنا
تركوا مواطنهم تنوء بعبئهم / وتقوّلوا بالمَيْن عنها والخنى
وسعَوْا لمنفعة الأجانب سعيةً / شنعاء كادت أن تُعدّ تجنٌّنا
فليُرجِفوا بعد النزوح فما هم / إلا الذباب قد استطار مطنطِنا
وليخسؤوا إن البلاد جميعها / تقفو الزعيم وترتضيه ميهمنا
تبّاً لمن قد خان عرش مليكه / وبني أبيه ونفسه والموطنا
ومكائد السفهاء واقعة بهم / وعداوة الشعراء بئس المقتنى
صاح إن الخطوب في غليان
صاح إن الخطوب في غليان / فبماذا يَطّرِق المَلَوان
جلّ ربّ الأنام في كل يوم / هو من كبريائه في شان
خالق الكون ذو الجلال قديم / واحد عنده القرون ثوان
كل ما ضمّ ملكه كلماتٌ / وإليه انتهت جميع المعاني
نسمع اليوم للخطوب أزيزاً / كأزيز القدور في الفوران
إنني مبصرٌ تباشير صبح / مستفيض على ظلام الأماني
ليس تلك الدماء في الحرب إلا / شفقاً من ضيائه الأرجواني
إنني أستشف من غِيَر الده / ر انقلاباً يعمّ كل مكان
سيلوح الداني به وهو قاص / ويلوح القاصي به وهو دان
ويكون المُعَزّ غير مّعَزاً / ويكون المُهان غير مهان
وسيغدو الضعيفُ محترَمَ الح / قّ ويمسي الظلوم في خسران
والثريا ستعتلي في أمان / من عِداء العَيّوق والدَبَران
وستبدو أم النجوم رءوماً / يتدانى من نورها الفرقدان
يتجلّى ربّ السموات والأر / ض علينا بعدله والحنان
فيبوء المستعمرون بخُسرٍ / وتضيء البلاد بالعُمران
معشر العرب أين أنتم من القو / م إذا ما تمّ انقلاب الزمان
أنيام والدهر يفتح فيكم / من جديدَيْه مقلَتيْ يقظان
نقض القوم عهدكم قبل هذا / واستخفُوا بحفظه في صوان
واستهانُوا بالوعد إذ أخلفوه / واستغلّوا دفائن الأوطان
وأقاموا بها قواعد جوٍّ / لاحتشاد الجنود والطيران
ثم بثّوا بها العيون يعيثو / ن فساداً في سُوحها والمباني
ثم ساروا في حكمها سير فُلك / هم بها آخذون بالسُكّان
كل هذا وأنت مستقلّو / ن بزعم من عندهم وامتنان
قيّدوكم لنفعهم بعهود / ناطقات من أسركم بلسان
أوثقوكم بها إِساراً وقالوا / ليس هذا لكم سوى إحسان
ليس تلك العهود يا قوم إلا / كعهود الذئاب للحملان
أفلا تذكرون من أوّليكم / أنَفاً من مسيسهم بهوان
يوم سادوا والعز فيهم يُماشي / ضربهم بالمُشَطَّب الهندواني
وتعالت راياتهم خافقاتٍ / في جيوش عنا لها الخافقان
فانهضوا اليوم مستجدّين مجداً / كالذي كان دونه القمران
إن للمجد في المساعي محَلاً / عالياً لا يحلّه المتواني
قل لمن رام صدعنا بشقاق / أنت كالوعل ناطح الصفوان
ويك إن الإسلام أوجد فينا / وحدة مثل وحدة الرحمن
فاعتصمنا منها بحبلٍ وثيقٍ / هو حبل الإخاء والأيمان
ليس معنى توحيدِنا اللهَ في الملّ / ة إلا اتحادَنا في الكيان
فلهذا نعم لهذا لهذا / نحن دَنّا بوحدة الديّان
وحدة لا يَفُلّها المتوالي / من صروف الدهور والأزمان
وحدة جاءنا من الله فيها / مرسل بالكتاب والفرقان
فهدانا بها إله قديم / واحد عنده القرون ثوان
ما نرى سلطة علينا لخلقٍ / غير سلطان خالق الأكوان
أرى الشعر أحياناً بجيش بخاطري
أرى الشعر أحياناً بجيش بخاطري / ويبذل ما قد عزّ لي من مصونه
ويسكن أحياناً فاشجى وإنما / تحرّك شجوي ناشيٌ من سكونه
وقد أتوخّى الهزل منه مجارياً / لدهر أراه مُوغلاً في مجونه
ولكنّ نفسي وهي نفس حزينة / تميل إلى المشجي لها من حزينه
وقد علم الراوون شعري بأنهم / إذا أنشدوه أطربوا بلحونه
وإِنّي إذا استنبطته من قريحتي / شفيت صدى الراوي ببرد معينه
وإني على علم طويت سهوله / ولم أتحيّر خابطاً حزونه
وإني لمحّاص له بسليقة / أبت غثّه واستوثقت من سمينه
وهل يخطر الشعر الركيك بخاطري / إذا كان في طوعي اختشاب متينه
ألا لا اهتدت للشعر يوماً هواجسي / إذا هي لم تنزع إلى مسبيه
ولا غصت في بحر القريض مخاطراً / إذا لم أفز من درّه بثمينه
على أن لي طبعاً لبيقاً بوشيه / نزوعاً إلى أبكاره دون عونه
إذا انتظمت أبياته في قصائدي / ترى كل بيت ممسكاً بقرينه
وما كن دوح الشعر يوماً لتجتنى / بغير اليد الطولى ثمار غصونه
ولم يستقد إِلاّ لذي المعيّة / يكون كرأي العين رجم ظنونه
وإنّيَ قد مارسته بفطانة / يلوح سناها غرّةً في جبينه
لعمري أن الشعر صمصام حكمة / وأن النهي معدودة من قيونه
إذا جنّني ليل الشكوك سللته / عليه ففّراه بفجر يقينه
وما الشعر إلا مؤنسي عند وحشتي / ومسلي فؤادي عند وري شجونه
تقوم مقام الدمع لي نفثائه / إذا الدهر أبكاني بريب منونه
وأجعله للكون مرآة عبرةٍ / فيظهر لي فيها خيال شؤونه
فأبصر أسرار الزمان التي انطوت / بما دار في الأحقاب من منجنونه
وللشعر عين لو نظرت بنورها / إلى الغيب لاستشفيت ما في بطونه
وأذن لو اسصغيتها نحو كاتم / سمعت بها منه حديث قرونه
وليل إلى شعراه أرسلت فكرتي / رسولاً بشعري حاملاً لرقينه
سل الليل عنَي سره وسماكه / ونجم سهاه والجديّ خدينه
فكم بتّ في نهرة المجرّة في الدجى / من الشعر اجري منشآت سفينه
هو الشعر لا أعتاض عنه بغيره / ولا عن قوافيه ولا عن فنونه
ولو سلبتنيه الحوادث في الدنى / لما عشت أو مارمت عيشاًبدونه
إذا كان من معنى الشعور اشتقاقه / فما بعده للمرء غير جنونه
يرزت تميس كخطرة النشوان
يرزت تميس كخطرة النشوان / هيفاء مخجلةً غصون البان
ومشت فخفّ بها الصبا فتمايلت / مرحاً فأجهد خصرها الردفان
جال الوشاح على معاطفها / التي قعدت وقام بصدرها النهدان
تستعبد الحرّ الأبيّ بمقلة / دبّ الفتور بجفنها الوسنان
وإذا بدت تهفو القلوب صبابةً / فيها وتركع دونها العينان
أخذ الدلال مواثقاً من عينها / أن لا تزال مريضة الأجفان
تمشي فتنشر في الفضاء محاسناً / بسط الزمان لها يدي ولهان
ويلوح للنظر القريب بوجها / عقل الحليم وعصمة الصبيان
لم أنس في قلبي صعود غرامها / إذ نحن نصعد في ربا لبنان
حيث الرياض يهزّ عطف غصونها / شدو الطيور بأطرب الألحان
لبنان تفعل بالحياة جنانه / فعل الزلال بغلة الظمآن
وتردّ غصن العيش بعد ذبوله / غضاً يميد بفرعه الفينان
فكأن لبناناً عروس إذ غدا / يزهو بنشر غدائر الأغصان
وكأنما البحر الخضمّ سجنجل / يبدي خيال جمالها الفتّان
جبل سمت منه الفروع وأصله / تحت البسيطة راسخ الأركان
تهفو الغصون به النهار وفي الدجى / تهفو عليه ذوائب النيران
وترى النجوم على ذراه كأنها / من فوقه دررٌ على تيجان
للّه لبنان الذي هضباته / ضحكت مغازلةً مع الوديان
يجري النسيم الغضّ بين رياضه / مرخى الذيول معطّر الأردان
جلت الطبيعة في رباه بدائعاً / تكسو الكهول غضاضة الشبان
يا صاحبيّ أتذكران فإنني / لم أنس بعد كما سوى النسيان
إذ كان يغبطنا الزمان ونحن في / وادي الفريكة منبت الريحانى
في ليلة حسد الضياء ظلامها / وعنا لفضل نجومها القمران
متجاولين من الحديث بساحة / ركض البيان بها بغير عنان
والليل يسمع ما نقول ولم يكن / غير الكواكب فيه من آذان
فكأنّ جولتنا بصدر ظلامه / سرٌّ يجول بخاطر الكتمان
ما كنت احسب أن أحلّ ببقعة / لللحسن منبتة وللاحسان
حتى نزلت من الشوير بجنّة / فيها الحياة كثيرة الألوان
فهصرت أغصان الأمان ولم يكن / غير السرور بهنّ قطف دان
ولقيت شاعرها الذي ارتفعت له / كفّ القريض مشيرةً ببنان
حتى إذا تمّ اللقاء قصدت من / ربوات بكفيّا ظلال جنان
يا يوم بكفيّا وبيت شبابها / أفديك من يوم بكل زمان
وسقى زمانك يا ديار بحنّسٍ / صوب المسرة دائم التهتان
فلقد رأيت ضياء مجدك مشرقاً / في وجه كل حلاحل ديان
أفيذكر اللبكى يوم بحنس / حيث اجتمعنا في حمى كنعان
أم ليس يعلم أنني أحببته / حُباً أذبت بناره سلواني
لبست ربا لبنان ثوباً أخضرا / وزهت بحيث الحسن أحم قان
نثر الربيع بهنّ زهراً مؤنقاً / يزري بنظم قلائد العقيان
فبرزن من وشي الطبيعة بالحلى / فكأنهنّ بحسنهنّ غوان
وكأنّ صنّيناً أطلّ مراقباً / يرنو لهنّ بمقلة الغيران
تلك الربا أما الجمال فواحدٌ / فيها وأما أهلها فاثنان
رجل يسير إلى النجاح وآخر / يسعى وغايته إلى الخسران
متخاذلين بها وهم أعوانها / ومن البلاء تخاذل الأعوان
ضعفت مباني كل أمرٍ عندهم / ما بين هادمها وبين الباني
وتفرقوا دنياً كأن لم يكفهم / في النائبات تفرّق الأديان
وسعوا فرادى للنجاح وفاتهم / أن التضامن رائد العمران
يا أهل ذا الجبل المنيع مكانه / تفدى مواطنكم بكلّ مكان
أما محاسنها فهنّ بمنزل / تنحطّ عنه بدائع الأكوان
ومن الفخامة هنّ في غلوائها / ومن الشبيبة هن في ريعان
فتبوّءوا جنّاتهنّ أنيقةً / وابنوا بهنّ كأكرم البنيان
ماذا يثبطكم بها أن تنهضوا / نحو الفخار كنهضة اليابان
إني لأرجو أن أراكم للعلا / متهجّين تهيّج البركان
وأودّ لو تمشون مشية واحد / متكاتفين تكاتف الأخوان
لا تقرنوا بتشتت آراءكم / فالبدر يمحق عند كل قران
أمها جري لبنان طال غيابكم / أين الحنين إلى ربا لبنان
هذي مواطنكم تريد وصالكم / وتئنّ شاكيةً من الهجران
أفترحمون أنينها أم أنتم / لا ترحمون أنين ذي أشجان
إني أرى هجر الرجال بلادهم / شيئاً يضيع كرامة البلدان
واضاعة الوطن العزيز جناية / ضلّ الزمان بها عن الغفران
من كان ذا جدةٍ فأحر بمثله / أن لا يضنّ بها على الأوطان
أم كلثوم في فنون الأغاني
أم كلثوم في فنون الأغاني / أمةٌ وحدها بهذا الزمان
هي في الشرق وحدها ربّة الفّن / فما أن للفنّ ربّ ثان
ذاع من صوتها لها اليوم صيت / عمّ كلّ الأمصار والبلدان
ما تغنّت إلا وقد سحرتنا / بافتنان لها وأيّ افتنان
في الأغاني تمثّل الحبّ تمثي / لاً صريحاً بصوتها الفتّان
يتجلّى في لحنها مشهد الحبّ / أوان الوصال والهجران
فتريك المحبّ عند التنائي / وتريك المحبّ عند التداني
وتريك الحبيب عند افتراق / وتريك الحبيب عند اقتران
كل هذا في صوتها يتجلّى / من خلال الأنغام والألحام
صفحات من الغرام تراها / ظاهراتٍ في صوتها للعيان
تنشد الشعر في الغناء فتأتي / بلحون مطابقات المعاني
فإذا أنشدت عن الوصل أبدت / فيه لحن المسرور والجذلان
وإذا أنشدت عن الهجر جاءت / بلحون تدعو إلى الأحزان
كم سقتنا كأس السرور بلحنٍ / وبلحن كأساً من الأشجان
تفهم الروح منطق الحبّ مما / تتغنّى به بلا ترجمان
فكأنّ الأنغام في الصوت منها / ناطقات لنا بغير لسان
قد سمعنا غناءها فعرفنا / كيف فعل الغناء في الإنسان
حسن صوت يزينه حسن لحن / فيه للسامعين حسن بيان
نبرات في صوتها مشجيات / تترك السامعين في هيجان
تسترق القلوب منا بصوت / نعبد الحسن منه بالآذان
كل لحن إذا سمعناه منها / دبّ فينا دبيب بنت الحان
في وقار الحليم تجعلنا طو / راً وطوراً في خفّة النشوان
نتفانى في الاستماع إليها / ونرى لذّة لنا في التفاني
وترانا نهتز حين تغنّي / فكأنها في حالة الطيران
وكأن الأرواح إذا تتعالى / طرباً جردت من الأبدان
هي في مرتقى الأغاريد تعلو / حين تشدو ونحن في خطران
يشعر المرء حين يصغي إليها / بغرام من صوتها روحاني
بنت فنّ غنّت لنا فسقتنا / من فنون الغناء بنت دنان
هكذا فلتكن يد الفن عليا / هكذا فليكن علا الفنّان
لو كنت أعبد فانياً في ذي الدنى
لو كنت أعبد فانياً في ذي الدنى / لعبدت من دون الإله المحسنا
وجعلت قلبي مسجداً لتعبّدي / سرّاً وفهت له بشكري معلناً
كي لا أكون مرائياً بعبادتي / ولكي أكون بشكره متفنّنا
في مجتنى غرس الخليقة لم أجد / غرساً سوى الإحسان حلو المجتنى
هو في الخليقة ذو عجائب سرّها / أعيا اللبيب وأعجز المتفطنا
بيناه يغدو للنفوس مقيّداً / بالحب يطلق بالثناء الألسنا
يستعبد الأحراروهو صنيعهم / ويردّ بغض المبغضين تحنّنا
كم بلّ نائرةً فأطفأ نارها / من بين مشتبك الصوارم والقنا
ما لاح كوكبه بموهن غمّةٍ / إلاّ أعاد ضحاً سناه الموهنا
ما إن تظلّل موطن بظلاله / إلاّ أعزّ اللّه ذاك الموطنا
نفحاته تمحو معايب أهله / من حيث تعمي عن رؤاها الأعينا
لم أدر والآثار منه كثيرة / في الغرب لم نزرت وقلّت عندنا
أفنحن نجهله وقد علم الورى / في الشرق نشأته ربيباً بيننا
أو ما أمرنا في عظات كتابنا / بالعدل والإحسان ان نتديّنا
ويسرّني أني أشاهد موطني / قد نال من بركاته بعض المنى
وإذا استريب بما أقول فشاهدي / هذا البناء ومن حماه ومن بنى
قد شيد للأيتام مأوىً واقياً / يهتمّ بالأيتام فيه ويعتني
ليكون فيه شفاؤهم من جهلهم / ومن الظما ومن الطوى ومن الضنى
جاد ابن دانيل الركيم لذا البنا / بالمال مشترياً به كل الثنا
فاستوجب الحمد الذي كلماته / مستغرِقات بالثناء الأزمنا
فَلْنكْنِه بأبي اليتامى بعد ذا / إذ لا يخاطب مثله بسوى الكنى
رجل علمنا اليوم من إحسانه / أن ليس للإحسان دين في الدنى
لا يحسن الإحسان إلاّ هكذا / قد صار طبعاً في النفوس وديدنا
والمال أن جادت به يد محسن / حسن وإلاّ فهو بئس المقتنى
سعد امرؤ بذل الفواضل للورى / عفواً نفسه أن يحسنا
والجهد مني ها هنا هو أنني / أدعو إلى الإحسان من حضروا هنا
هل سمعتم منيرة مذ أفاضت
هل سمعتم منيرة مذ أفاضت / من بديع الغناء في كلّ فنّ
مذ أقرّت برقصها كل عين / واسترقّت بصوتها كل أذن
رقصها يرقص القلوب على أنّ / غناها عن المزامير يُغني
هي أن أقبلت بثنية عطف / أقبلت بالمهفهف المطمئنّ
وهي أن أدبرت بهزّة ردف / أدبرت بالمرجرج المرجحنّ
خلق اللّه صوتها العذب كيما / يعرف الناس كيف حسن التغنّي
وبراها ممشوقة القد كيما / يعرف الناس كيف حسن التثنّي
بنت فنّ غنّت لنا فسقتنا / من أفانين لحنها بنت دنّ
سحرتني مذ أقبلت تتثنّى / فكأني مذ أقبلت لست منّي