المجموع : 16
بدَّدتِ يا قيثارتي أنغامي
بدَّدتِ يا قيثارتي أنغامي / ونسيتِ لحنَ صبابتي وغرامي
مرَّتْ ليالٍ كنتِ مؤنستي بها / وعزاءَ نفسٍ جمَّةِ الآلامِ
تروَين من طرب الصِّبا وحنينه / وتُذهِّبينَ حواشيَ الأحلامِ
كالبلبل الشّاكي رويتِ صبابتي / لحناً تمشَّى في دمي وعظامي
أنشودةُ الوادي ولحنُ شبابه / ذابتْ على صدر الغديرِ الطامي
شاقَ الطبيعةَ من قديمِ ملاحني / أصداؤُك الحيرى على الآكامِ
وشجا البحيرةَ واستخفَّ ضفافها / لحنٌ كفائرِ موجها المترامي
يا ربَّةَ الألحان غنِّي وابعثي / من كلِّ ماضٍ عاثرِ الأيامِ
هل من نشيدكِ ما يجدد لي الصِّبا / ويعيدُ لمحة ثغره البسَّامِ
ويصور الأحلامَ فتنةَ شاعرٍ / تُوحي الخيالَ لريشة الرسَّامِ
وادي الهوى ولَّتْ بشاشةُ دهرهِ / وخَلَت مغانيهِ من الآرامِ
طارت صوادحهُ وجفَّ غديرهُ / وذوى بشطَّيهِ النضيرُ النَّامي
واعتاضَ من هَمْسِ النسيم بعاصف / داوٍ يشقُّ جوانبَ الأظلامِ
وهو الصَّدى الحاكي لضائع صرختي / وصداكِ بين الغورِ والآكامِ
قد كُنَّ أُلَّافي ونزهةَ خاطري / وسماءَ وحي الشعرِ والإلهامِ
ما لي بهنّ سكتنَ عن آلامي / أنسينَ عهدَ مودتي وذمامي
يا ربَّة الألحان هل من رجعةٍ / لقديم لحنكِ أو قديم هيامي
فاروي أغانيَّ القُدامى وانفثي / في الليل من نفثات قلبي الدامي
علَّ الذي غنيتُ عرشَ جماله / وطفقتُ أرقبُ أفقه المتسامي
تُشجيه ألحاني فيسعدني به / طيفٌ يضنُّ عليَّ بالإلمامِ
ما لي أراكِ جمدتِ بين أناملي / وعصيتِ أنّاتي ودمعي الهامي
خرساءَ لا تتلو النشيدَ ولا تعي / سرَّ الغناءِ ولا تعيدُ كلامي
يغري الكآبةَ بي ويكسفُ خاطري / أني أراكِ حبيسةَ الأنغامِ
كالنجمِ في خفقٍ وفي ومضِ
كالنجمِ في خفقٍ وفي ومضِ / متفرداً بعوالم السُّدُمِ
حيرانَ يتبعُ حيرةَ الأرضِ / ومصارعَ الأيامِ والأُمَمِ
مستوحشاً في الأفق منفردا / وكأنَّه في سامرِ الشُّهُبِ
هذا الزحامُ حيالَهُ احتشدا / هوَ عنه ناءٍ جِدُّ مغتربِ
مترنحاً كالعاشقِ الثملِ / ريّانَ من بَهجٍ ومن حَزَنِ
نشوانَ من ألمٍ ومن أملِ / مستهزئاً بالكونِ والزَّمَنِ
تلك السماءُ على جوانبه / بحرُ الحياة الفائرُ الزَّبدِ
كم راحَ يلتمسُ القرارَ به / هيمانَ بين شواطىء الأبدِ
تهفو على الأمواج صورته / وشعاعهُ اللمَّاحُ في الغوْرِ
نفَذتْ إلى الأعماقِ نظرتُهُ / فإذا الحياةُ جليةُ السرِّ
ويمرُّ بالأحداثِ مبتسماً / كالشمسِ حينَ يلفُّها الغيمُ
زادَتهُ عِلماً بالذي عَلِمَا / دنيا تناهى عندها الوهمُ
بَلغَ الروائعَ من حقائقها / فإذا السعادةُ توأمُ الجهلِ
هتف المحدِّقُ في مشارقها / ذهبَ النهارُ فريسةَ الليلِ
يا قلبُ مثلُ النَّجمِ في قلقِ / والناسُ حولك لا يُحسُّونا
لولا اختلافُ النورِ والغَسَقِ / مرُّوا بأفقكَ لا يُطلُّونا
فاصفحْ إذا غمطوك إدراكا / واذكر قصورَ الأدميينا
أتريدهم يا قلبُ أملاكا / كلَّا وما هم بالنبيينا
هم عالمٌ في غيِّه يمضي / مُستغرقاً في الحمأةِ الدنيا
نزلوا قرارةَ هذه الأرضِ / وحللتَ أنتَ القمةَ العليا
عُبَّادُ أوهامٍ وما عبدوا / إلَّا حقيرَ مُنىً وغاياتِ
ومُناكَ ليس يحدّها الأبدُ / دنيا وراء اللا نهاياتِ
ولكَ الحياةُ دنىً وأكوانُ / عزَّتْ معارجُها على الراقي
تحيا بها وتبيدُ أزمانُ / وشبابُها المتجدِّدُ الباقي
يا قلبُ كم من رائعِ الحلَكِ / ألقاكَ في بحرٍ من الرُّعبِ
كم عُذْتَ منه بقبَّةِ الفلَكِ / وصرختَ وحدكَ فيه يا قلبي
ومضيتَ تضربُ في غياهبِه / وتردُّ عنكَ المائجَ الصَّخِبا
تترقب البرقَ المطيفَ به / وتسائلُ الأنواءَ والسُّحبا
وخفقتَ تحت دَجاهُ من وَجَلِ / كالطيرِ تحت الخنجر الصلْتِ
وعرفتَ بين اليأسِ والأملِ / صحوَ الحياةِ وسكرةَ الموتِ
يا قلبُ عندكَ أيُّ أسرارِ / ما زِلنَ في نشرٍ وفي طيِّ
يا ثورةً مشبوبةَ النَّارِ / أقلقت جسم الكائنِ الحيِّ
حَمَّلْتَه العبءَ الذي فَرقَتْ / منهُ الجبالُ وأشفقتْ رَهَبا
وأثرتَ منه الرُّوحَ فانطلقتْ / تحسو الحميمَ وتأكلُ اللهبا
وملأت سِفَرَ المجد من عَجَبِ / وخلقتَ أبطالاً من العَدَمِ
وعلى حديثِك في فمِ الحِقَبِ / سِمَةُ الخلودِ ونفحة القِدَمِ
كم من عجائبَ فيكَ للبشرِ / أخذَتهمُو منها الفجاءاتُ
متنبئاً بالغيبِ والقدَرِ / وعجيبةٌ تلك النبوءاتُ
وعجبتُ منك ومن إبائكَ في / أسرِ الجمالِ وربقةِ الحبِّ
وتَلفُّتِ المتكبر الصَّلِفِ / عن ذِلَّةِ المقهور في الحربِ
يا حرُّ كيف قبِلتَ شِرعتَه / وقنِعتَ منه بزادِ مأسورِ
آثرت في الأغلال طلعتَه / وأبيتَ منه فكاكَ مهجورِ
فإذا جفاكَ الهاجرُ الناسي / وقسا عليكَ المشفقُ الحدِبُ
فاضت بدمعك فورةُ الكاسِ / وهَفَتْ بكفِّكَ وهي تضطربُ
وفزِعتَ للأحلام والذِّكرِ / تبكي وتنشدُ رجعةَ الأمسِ
وودِدْتَ لو حُكِّمتَ في القَدَرِ / لتعيدَ سيرتَها من الرَّمْسِ
ووهِمْتَ ناراً ذات إيماضِ / فبسطتَ كفَّك نحوها فزَعا
مَرَّتْ بعينكَ لمحةُ الماضي / فوثبت تُمْسِكُ بارقاً لَمعا
وصحوتَ من وهْمٍ ومن خَبَلِ / فإذا جراحُك كُلَّهن دَمُ
لجَّتْ عليك مرارةُ الفشلِ / ومشى يحزُّ وتينَك الألمُ
والأرضُ ضاق فضاؤها الرحبُ / وخَلتْ فلا أهلٌ ولا سَكنُ
حالَ الهوى وتفرَّق الصحْبُ / وبقيتَ وحدكَ أنتَ والزَّمنُ
وصَرختَ حين أجنّك الليلُ / مُتمَرِّداً تجتاحُكَ النَّارُ
وبدا صراعُك أنت والعقلُ / ولأنتما بحرٌ وإعصارُ
ما بين سلمِكما وحربِكما / كونٌ يَبِينُ ويختفي كونُ
وبنيتما الدُّنيا وحسبكما / دنيا يقيمُ بناءَها الفنُّ
هَجَرَ الأرضَ حين مَلَّ مقامه
هَجَرَ الأرضَ حين مَلَّ مقامه / وطوى العمرَ حيرةً وسآمَه
هيكلٌ من حقيقةٍ وخيالٍ / مَلَكَ الحبُّ والجمالُ زمامَه
ألهمَ الشعرُ أصغريهِ فرفَّا / في فَمِ الدهرِ كوثراً ومُدامَه
سلسبيلٌ من حكمةٍ وبيانٍ / فَجّرَ اللّهُ منهما إلهامَه
تأخذُ القلبَ هَزةٌ من تسا / قيه وينسى بسحرهِ آلامَه
غَمرَ الأرضَ رحمةً وسلاماً / وجلا الكونَ فتنةً ووسامَه
مالئاً مِسْمع الوجودِ نشيداً / عَلَّمَ الطيرَ لحنَه وانسجامَه
ما لَهُ والزمانُ مصغٍ إليهِ / رَدَّ أوتارَه وحطَّمَ جامَه
رُوِّعَ الطيرُ يوم غاب عن الأي / كِ وسالت جراحها الملتامَه
ما الذي شاقه إلى عالم الرو / حِ أجل تلك روحه المستهامَه
راعها النور وهي في ظلمة ال / كون فخفَّت إليه تطوي ظلامَه
هي بنتُ السماءِ وهو من الأرض / سليلٌ نما الترابُ عظامَه
فاهتفوا باسمه فما مات لكنْ / آثر اليومَ في السماءِ مُقامَه
حدثتني الرياضُ عنه صباحاً / ما لصدّاحها جفا أنغامَه
وشكا لي النسيمُ أولَ يومٍ / لم يُحمِّلْهُ للحبيبِ سلامَه
وتسمعتُ للغدير ينادي / ما الذي عاق طيره وحيامَه
أتُراهُ ترشَّفَ الفجرَ نوراً / أم شفى من ندى الصباح أُوامَه
ورأيتُ الجمالَ في شُعَبِ الوادي / ينادي بطاحه وإكامَه
صارخاً يستجيرُ شاعرَه الشا / دي ويدعو لفنه رسّامَه
فتلفتُّ باكياً وبعيني / شَبح تخطرُ المنون أمامَه
هتف القلبُ بالمنادينَ حولي / لَقِيَ الصادحُ الطروبُ حمامَه
فاذكروا شدوهُ بكل صباحٍ / وارقبوا من خياله إلمامَه
واملأوا الأرضَ والسماءَ هُتافاً / عَلَّهُ لم يَرَ الصباحَ فنامَه
لم يرعني من جانبِ النيل إلَّا / كرمةٌ فوقها ترفُّ غمامَه
تحت ساجي ظلالها زهرةٌ تب / كي وفي فرعها تنوح حمامَه
عرفتها عيني وما أنكرتها / من ظلامٍ ووحشةٍ وجهامَه
قلتُ يا كرمةَ ابن هاني سلاماً / ليس للمرءِ في الحياة سلامَه
نحن لو تعلمينَ أشباحُ ليلٍ / عابرٍ ينسخ الضياءُ ظلامَه
والذي تلمحين من لَهبِ الشم / سِ غداً يطفئ الزمان ضرامَه
والذي تبصرينه من نجومٍ / فَلكٌ يرصدُ القضاءُ نظامَه
والمرادُ المُدلُّ بالورد زهواً / كالذي أذبلَ الردى أكمامَه
عبثاً ننشدُ الحياةَ خلوداً / ونرجِّي الصِّبا ونبغي دوامَه
إنما الأرضُ قبرُنا الواسعُ الرح / بُ وفي جوفه تطيبُ الإقامَه
أودع القلبُ فيه آلامه الكُب / رى وألقى ببابه أحلامَه
نَسِيَ الناعمون فيه صباهم / وسلا المغرمُ المشوق غرامَه
فامسحي الدمعَ وابسمي للمنايا / إنَّ دنياكِ دمعةٌ وابتسامَه
أيها المسرحُ الحزينُ عزاءً / قد فقدت الغداةَ أقوى دِعامَه
ذهب الشاعرُ الذي كنتَ تستو / حي وتستلهمُ الخلودَ كلامَه
واهبُ الفن قلبَه وقواه / والمصافيه وُدَّه وهيامَه
ربَّ ليلٍ بجانبيك شهدنا / قصة الدهرِ روعةً وفخامَه
أسفر الشعرُ عن روائعه فيها / وألقى عن الخفاء لثامَه
فأعِدْ عهدَه وأحي ليالي / هِ وجدّدْ على المدى أيامَه
ولكَ اليومَ همةٌ في شبابٍ / ملأوا العصر قوةً وهُمامَه
نزلوا ساحه يشيدون للمج / دِ وشقُّوا إلى الحياة زحامَه
فاذكروا نهضةَ البيان بأرضٍ / أطلعتْ في سمائها أعلامَه
إنها أمةٌ تغارُ على الفن / وترعى عهوده وذمامَه
لم تَزَلْ مصرُ كعبةَ الشعر في الشر / قِ وفي كفِّها لواءُ الزعامَه
إن يوماً يفوتها السبقُ فيه / لهوَ يومُ المعادِ يومُ القيامَه
هاتفُ الفجر الذي راعَ النجومْ
هاتفُ الفجر الذي راعَ النجومْ /
وأطارَ الليلَ عن آفاقِها /
لم يَزَلْ يُغري بنا بنتَ الكرومْ /
ويُثيرُ الوجدَ في عشاقها /
صَيْدَحٌ جُنَّ غراماً بالسَّحَرْ /
أنطقتْهُ لهفةُ الروحِ المشوقْ /
مَوثِقُ القلب وميعادُ النَّظرْ /
مهرجانُ النُّور في عُرس الشروقْ /
فَرَحُ الجَنَّة في ألحانِهِ /
وصداهُ في السَّحاب العابرِ /
أرسَلَ السِّحْرَ على ألوانِه /
من فَمٍ شادٍ وقلبٍ شاعرِ /
يا لهُ صوتاً من الماضي البعيدْ /
رائعَ الإيقاعِ فتَّان النغمْ /
جدَّدَ الأشواقَ باللحن الجديدْ /
وهو كالدنيا عَريقٌ في القِدَمْ /
كم عيونٍ نفَضَتْ أحلامَها /
حينَ نادى غيرَ حُلمٍ واحدِ /
سلسلتْ فيه المُنى أنغامَها /
وهي تشدو بالرحيقِ الخالدِ /
كلَّما لألأ في الشرق السَّنا /
دقَّتِ البابَ الأكُفُّ الناحلهْ /
أيُّها الخمَّارُ قمْ وافتح لنا /
واسقِنا قبلَ رحيلِ القافلهْ /
خَمرةُ العشاقِ لا زالتْ ولا /
جَفَّ من ينبوعها نهرُ الحياهْ /
نضبتْ في قدَحِ العمرِ الطِّلا /
وهيَ في الأرواح تستهوي الشِّفاهْ /
كم شموسٍ عَبرَتْ هذا الفضاء /
وألوفٍ من بدورٍ ونجومْ /
والثرى بين ربيعٍ وشتاء /
ضاحكُ النَّوَّارِ وهَّاجُ الكرومْ /
كلُّ عنقودٍ دموعٌ جَمَدَتْ /
وقلوبٌ فَنيتْ فيها شعاعا /
ما احتواها الفجرُ إلَّا اتّقَدَتْ /
جمرةً تذكو حنيناً والتياعا /
لو أصابَتْ ريشتيها وثَبتْ /
بجناحين من الشَّوق القديمْ /
فاعذرِ الكأسَ إذا ما اضطربتْ /
حَبَباً يخْفِق في كفِّ النديمْ /
أيها الخالدُ في الدنيا غراما /
أينَ نيْسابورُ والروضُ الأنيقْ /
أين معشوقكَ إبريقا وجاما /
هلْ حَطَمْتَ الكأس أم جفَّ الرحيق /
هذه الكَرمةُ والوادي الظليلْ /
مثلما كانا وهذا البلبلُ /
حاضرٌ أشبهُ بالماضي الجميلْ /
لو يُغَنِّيهِ المغني الأولُ /
اليدُ البيضاءُ في كلِّ الغصونْ /
زهرةٌ تَنْدَى ونوْرٌ يُشرقُ /
والثرى من نَفَسِ الرُّوحِ الحنونْ /
مهجةٌ تهفو وقلبٌ يخفقُ /
كم تشهَّيتَ الحبيبَ المُحسِنا /
لو سقى مثواكَ بالكأسِ الصبيب /
وتمنَّيتَ وما أحلى المنى /
خطواتٍ منه والمثوى قريبْ /
أتُرى أعطيتَه سِرَّ الخلودْ /
أم حبوتَ الحسنَ سلطاناً يدومْ /
عجباً تخطئ أسرارَ الوجودْ /
أيها الحاسبُ أعمارَ النجومْ /
شَفَةُ الكأسِ التي أنطقتَها /
لم تَدَعْ للسائلِ الصادي جوابا /
حُجُبٌ عن ناظري مَزَّقْتها /
فرأيتُ العيش برقاً وسرابا /
ولمستُ الخافقَ الحيَّ المنى /
طينةً تبكي بكفِّ الجابلِ /
تشتهي الرَّشْفَةَ مما عَلَّنَا /
وهي ملأى تحت ثغرِ الناهلِ /
نسِيَ الأنخابَ من تهوى وأمسى /
مثلما أمسيتَ يستسقي الغماما /
واشتكتْ رقَّتهُ في الأرض يُبسا /
وغدا الإبريقُ والكأسُ حطاما /
لا فما زالا ولا زال الحبيبْ /
أيها المفْعِمُ بالحبِّ الوجودا /
إنَّ من غنّيْت بالأمس القريبْ /
مَنَحَتْهُ ربَّةُ الشِّعْرِ الخلُودا /
مرَّ بي طيفُكما ذاتَ مساء /
وأنا ما بينَ أحلامي وكأسي /
استبدَّت بيَ أطيافُ الخفاء /
وتغرَّبتُ عن الدنيا بنفسي /
صِحْتُ بالليلِ إلى أن أشفقا /
فليَقفْ نجمُكَ وليَنأ السَّحَرْ /
جَدَّدَ العشاقُ فيكَ الملتقى /
وحَلا الهمسُ على ضوءِ القمَرْ /
فادخلا بين ضياءٍ وغمامْ /
حانةَ الأقدار والليلِ القديمْ /
مجلساً يهفو به رُوحُ الغرامْ /
كلُّ نجمٍ فيه ساقٍ ونديمْ /
وانهلا من سَلْسَلِ النُّورِ المذابْ /
خمرةً ليس لها من عاصرِ /
قَنَعَ الصوفيُّ منها بالحَبابْ /
وهيَ تنهلُّ بكأسِ الشاعرِ /
فاروِ يا شاعرُ عن إشراقِها /
إنَّما كأسُك نورٌ وصفاءْ /
كيفَ طالعتَ على آفاقها /
روعةَ الغيبِ وأسرارَ السماءْ /
كيف أبصرتَ الجمالَ المشرِقا /
بَصَرَ الفانينَ في حُبِّ الإلهْ /
وفتحتَ الأبدَ المستغلِقا /
عن ضمير الكونِ أو سرِّ الحياهْ /
أبروحانيةِ الشَّرقِ العريقْ /
أمْ ببوهيميَّةِ الفنِّ الطَّليقْ /
سَبَحَتْ رُوحُك في الكون السحيقْ /
حيث لا يَسْمعُ طافٍ لغريقْ /
حيث أبصرتَ الذي لم تُبْصِرِ /
أعينٌ مَرَّتْ بهذا العالَمِ /
ذاك سرُّ الشاعرِ المستهترِ /
وفتونِ الفيلسوفِ العالمِ /
ذاك سرُّ النَّغْم المسترسلِ /
والصفاءِ السلسلِ المطَّردِ /
رُوحُ شادٍ فَنِيَتْ في الأزَلِ /
وتحدَّثْ شهوةَ المنتقدِ /
صرَخَتْ آلامُهُ في كُوبهِ /
فهوى يثأرُ من آلامهِ /
إنما البعثُ الذي تشدُو بهِ /
يقظةُ المفجوعِ في أحلامِهِ /
إنما البعثُ المُرَجَّى للوَرَى /
غاية الحيِّ التي لا تُحمَدُ /
إنما تُبْعَثُ في هذا الثَّرى /
بعضَ ما يُقطَفُ أو ما يُحصَدُ /
حَسبُها تعزيةً أنَّا سَنَحْيَا /
في غدٍ مثلَ حياةِ الزَّهَرِ /
وسنطوي الأبدَ المجهولَ طيَّا /
جُدَدَ الأطياف شتَّى الصُّوَرِ /
حسبُها تعزية أن نحلُما /
بأناشيدِ الصَّباحِ المنتظرْ /
ونشقُّ الأرض عن وجهِ السَّما /
حيث نورُ الشمسِ أو ضوءُ القمرْ /
ربما جَدَّدَ أو هاجَ لنَا /
نبأً أو قِصةً مِنْ حُبِّنَا /
نوْحُ ورقاءَ أرنَّتْ حَوْلنا /
أو شجَى قُبّرةٍ مرَّتْ بنا /
أو خُطَى إلفينِ في فجرِ الصِّبا /
أترَعا كأسَيهما مِنْ ذوبهِ /
أو صدَى رَاعٍ على تلكَ الرُّبى /
صَبَّ في النَّاي أغاني حُبِّهِ /
حُلُمٌ مَثَّلتُهُ في خاطري /
فعشقتُ الخُلدَ في هذا الرُّواءْ /
أنكرُوهُ فَحَكَوا عن شاعرِ /
جُنَّ بالخمر وأغوتْه النساءْ /
ولقد قالوا شذوذٌ مُغرِبُ /
وإباحيَّة لاهٍ لا يُفيقْ /
آهِ لو يَدْرونَ ما يضطربُ /
بين جنبيْكَ من الحزن العميقْ /
أوَلا يغْدو الخليعَ الماجِنا /
من رأى عُقْبَى الصباحِ الباسِمِ /
ورأى الحيَّ جماداً ساكنا /
بعد ذيَّاك الحراك الدائمِ /
أوَلا يُغْرِبُ في نشوتِه /
شاربُ الغُصَّةِ في اليومِ الأخيرْ /
أوَلا يُمْعنُ في شهوتهِ /
مُسْلِمُ الجسمِ إلى الدودِ الحقيرْ /
قصةُ الزُّهدِ التي غَنَّوْا لها /
علَّلتهمْ بالسرابِ الخادعِ /
نشوةُ الشاعر ما أجملها /
هيَ مفتاحُ الخلودِ الضّائعِ /
لو أصابوا حكمةً ما اتَّهموا /
وبكى لاحيكَ والمسْتهجنُ /
فهو من دنياهمُ لو عَلموا /
عَبَثٌ مُرٌّ ولَهْوٌ مُحزنُ /
ما بالرُّعاةِ آثارَهم فترنَّموا
ما بالرُّعاةِ آثارَهم فترنَّموا / هلْ طافَ بالصحراءِ منهم مُلهمُ
أم ضوّأتْ سيناءُ في غسَقِ الدُّجى / وجلا النبوءةَ برْقُها المتكلمُ
نظَروا خِلالَ سمائِها وتأملوا / وتقابلتْ أنظارُهم فتبسَّموا
إيه فلاسفةَ الزمانِ فأنتمو / ببشائر الغيبِ المحجَّبِ أعلمُ
هذا النشيدُ الأسيويُّ مَعادُهُ / نبأٌ تقَرُّ به الشعوبُ وتنعَمُ
وطريقُكم مصرٌ وإنّ طريقها / أثرٌ من الوحي القديم ومعلمُ
ألا يكونَ الفجرُ هَديَ خُطاكمو / فدليلُكم قبَسُ الخلود المُضْرَمُ
هو سحرُ مصرَ وعرشُها ولواؤها / والصّولجانُ وتاجُها المتوسمُ
وجبينُ صاحِبها العزيزِ وإنّهُ / نورٌ على إصباحها مُتقدِّمُ
أوفى على الوادي بضاحكِ ثغرهِ / وجهٌ تُقبِّلهُ السماءُ وترأمُ
مُسترسِلُ النظرِ البعيدِ كأنّهُ / مَلك يُفكِّرُ أو نبيٌّ يُلهمُ
وكأنما الآمالُ عبْرَ طريقهِ / أنفاسُ روْضٍ بالعشيّة ينسِمُ
يتنظّرُ الحقلُ المنوّرُ خطوَهُ / والنهرُ والجبلُ العريضُ الأيهمُ
فكأنّ روحاً عائداً من طيبةٍ / فيه شبابُ ملوكِها يتبسمُ
هتفَ البشيرُ به فماجتْ أعصرٌ / وتلفّتتْ أممٌ ودارتْ أنجمُ
هذا هو الملِكُ الذي سعِدتْ به / مِصرٌ وهذا حُبُّها المتجسِّمُ
لمن البُنُودُ على العُبابِ خوافِقاً / لِمن النسورُ على السّحابِ تُحوِّمُ
لمن المواكبُ مائجاتٍ مثلما / أومتْ عصا موسى فشُقَّ العيْلمُ
ولِمَ الصباحُ كأنما أنداؤُه / كأسٌ تُصفّقُ أو رحيقٌ يسجمُ
ولِمَ اختلاجُ النيلِ فيه كأنه / شيخٌ يُذكرُ بالشبابِ ويحلمُ
ولمن هتافٌ بالضِّفاف مُردّدٌ / أشجى من الوترِ الحنونِ وأرخمُ
ولمن عواصمُ مصرَ حاليةَ الذُّوى / تغزو بوارقُها النجومَ وتزحُمُ
ولِمَ احتشادُ سرائري وخواطري / ولمن شفاهٌ بالدعاءِ تتمْتمُ
أسكندريةُ قد شهدتِ فحدِّثي / فاليومَ قد وضَحَ الحنينُ المبهمُ
هاتي املأي كأسي وغنِّي واعصري / خمراً أعلُّ بها ولا أتأثّمُ
إن كنت أفقَ الملهَمينَ وأيكَهم / إنِّي إذاً غرِّيدُك المترنِّمُ
يا درّة البحرِ التي لم يتّسِمْ / جِيدُ البحار بمثلها والمعصمُ
جدّدْتِ أعراسَ الزمانِ وزانها / ركبٌ لفاروق العظيمِ ومَقدِمُ
ما عادَ جبَّارُ الشعوبِ وإنما / قد عادَ قيصرُكِ الرشيدُ المسلمُ
في مهرجانٍ لم يُحِط بجلاله / وصفٌ ولم يبلغْ مداهُ توهُّمُ
يومُ الشباب ولا مِراءَ وإنه / للشرقِ عيدٌ والكنانةِ مَوسِمُ
قد فَتّحَ التاريخُ في كتابه / يُصغِي إليهِ ويشرئبُّ المِرْقَمُ
مولايَ أمْلِ عليه أوّلَ آيةٍ / لشبابِ شعبٍ خالدٍ لا يهرَمُ
هو من شبابكَ يستمدُّ رجاءَهُ / ويَسود باسمكَ في الحياةِ ويحكُمُ
فابعثهُ جيلاً واثباً متقحِّماً / إن الشبابَ توثُّبٌ وتقحُّمُ
هزّ الفتى الأمويّ تحت إهابهِ / منه مَضاءٌ كالحسامِ مُصمِّمُ
فمشى يطوِّحُ بالعروش كأنه / شمشونُ في حِلَقِ الحديد يحطمُ
دونَ الثلاثينَ استثيرَ فأجفلتْ / أُمَمٌ وراءَ تخومهِ تتأجَّمُ
والمجد موهبةُ الملوك وإنما / تَبْني المواهبُ والخلائقُ تدْعَمُ
ويضيقُ بالشعبِ الطموحِ يقينهُ / ويُثيرُ مِرّتهُ الخيالُ فيَعْرُمُ
قوتُ الشعوبِ ورِيُّها أحلامُها / إنّ الخيالَ إلى الحقيقةِ سُلّمُ
يا عاقدَ التاجِ الوضيءِ بمفرقٍ / كالحقِّ مَعْقِدُهُ هُدىً وتبسُّمُ
أعظِمْ بتاجكَ جوهراً لم يحوهِ / كنزٌ ولم يحرزْ جُلاهُ مِنجَمُ
ميراثُ أول مالكينَ سما بهم / عرشٌ أعزُّ من الجبالِ وأضخَمُ
نوابُ شعبكَ حينما طالعتهم / طافَ الرحيق البابليُّ عليهمُ
هتفوا بمجدِكَ واستخفّ وقارَهمْ / أملٌ يجلُّ عن الهتافِ ويعظمُ
أقسمتَ بالدستور والوطن الذي / بك بعد ربِّكَ في العظائم يُقسمُ
براً بوالدِكَ العظيم وذِمَّةً / لجدودك الصيدِ الذين تقدَّموا
وتطلّعَتْ عَبرَ المدائن والقرى / مُهَجٌ يكادُ خفوقُها يتكلمُ
تُصغي لصوتكَ في السحاب ورجعُهُ / لحنٌ على أوتارهنَّ يُنغّمُ
خشعتْ له النَّسَمات وهي هوازجٌ / وتنصّتَ العصفورُ وهو يُهينمُ
وَصَغَتْ سَنابلُ مثلما أوحَى لها / تأويلُ يوسفَ فهي خُضرٌ تنجمُ
يا صوتَ مصرَ ويا صدى أحلامها / زدْ روعتي مما يهزُّ ويُفْعِمُ
ألقى المقادَة في يديكَ وديعةً / شعبٌ لغير خُطاكَ لا يترسمُ
فَتَلَقَّ تاجَك من يديه فإنه / في الدهرِ عُروتهُ التي لا تُفصَمُ
فليهنأ الملِكُ الهمامُ بعيدهِ / ولْيعرضِ الجيشُ الكميُّ المعلمُ
مولايَ جندك ماثلونَ فأولهِمْ / سيفاً يُقبّل أو لواءً يُلثمُ
لما رأوْكَ على جوادكَ قائماً / وضعوا السيوف على الصدور وأقسموا
وكأن إبراهيمَ طيفك ماثلاً / وكأنك الرَّوحُ الشقيقُ التوأمُ
يا قائدَ الجيشِ المظفّر تِه بهِ / إن الشعوبَ بمثل جيشِك تُكرمُ
الأرضُ تعرفهُ وتشهدُ أنه / سيلٌ إذا لمعَ الحديدُ وقشعمُ
طوروسُ أم عكاءُ عن أمجادِهِ / تروي أم البيت العتيق وزمزمُ
أم حومةُ السودانِ وهي صحيفة / السيف خطّ سطورها واللهذمُ
أم مورةُ الشماءُ يوم أباحها / والنارُ حول سفينه تتهزّمُ
لولا قراصنةٌ عليها تآمروا / لم يَعْلُ نافارين هذا الميسمُ
فاغفر لما صنع الزمان فإنها / بؤسى تمرُّ على الشعوبِ وأنعُمُ
وانفخ به من بأسِ روحكَ سورةً / يرمي سُطاها المستخفّ فيُحجِمُ
فالرفقُ من نبل النفوسِ وربما / يُلحَى النبيلُ بفعله ويُذمّمُ
إنّا لفي زمنٍ حديثُ دُعاتِه / نُسْكٌ ولكنّ السياسةَ تأثّمُ
ووراءَ كلِّ سحابةٍ في أفقهِ / جيشٌ من المتأهِّبينَ عَرمرمُ
قالوا فتىً عشقَ الطبيعةَ واغتدى / بغرائب الأشعارِ وهو متيّمُ
وطوى البحارَ على شراعِ خيالهِ / يرتادُ عاليةَ الذُّرى ويُؤمِّمُ
أنا من زعمتمْ غيرَ أنِّي شاعرٌ / أرضى البيانَ بما يصوغُ ويرسُمُ
إنِّي بنيتُ على القديم جديدَهُ / ورفعتُ من بنيانهِ ما هدَّموا
الشعرُ عندي نشوةٌ عُلويةٌ / وشُعاعُ كأسي لم يُقبِّلها فمُ
ولحونُ سِلمٍ أو ملاحمُ غارةٍ / غنَّى الجبالَ بها السحابُ المرزِمُ
أرسلتهُ يومَ النداءِ فخلتُه / ناراً وخلتُ الأرضَ خضَّبها الدمُ
ودعاهُ عرشكَ فاستهلَّ خواطراً / فأتيتُ عن خَطراتهنَّ أترجمُ
ورفعتُ رأسي للسماءِ وخِلتُني / أتناولُ النجمَ البعيدَ وأنظمُ
فاقبلْ نشيديَ إنْ عطفتَ فإنه / صوتُ الشباب وروحهُ المتضرِّمُ
وسَلِمتَ يا مولايَ للوطن الذي / بكَ يستظلُّ ويستعزُّ ويسلمُ
دنا الليلُ فهيا الآنَ يا ربَّةَ أحلامي
دنا الليلُ فهيا الآنَ يا ربَّةَ أحلامي /
دعانا مَلَكُ الحبِّ إلى محرابه السامي /
تعاليْ فالدُّجى وحيُ أناشيدٍ وأنغامِ /
سَرَتْ فرحتُهُ في الماء والأشجارِ والسُّحْبِ /
ألا فلنحْلُمِ الآنَ فهذي ليلةُ الحبِّ /
على النيلِ وضوءُ القمرِ الوضاح كالطفلِ /
جرى في الضِّفةِ الخضراءِ خلفَ الماءِ والظلِّ /
تعاليْ مِثلهُ نلهو بِلثمِ الوردِ والطِّلِّ /
هناك على ربى الوادي لنا مَهْدٌ من العشبِ /
يَلُفُّ الصَّمتُ روحيْنا ويشدو بلبُلُ الحبِّ /
يطوفُ بنا على شطٍّ من الأضواء مسحورِ /
شِراعٌ خافقُ الظلِّ على بحرٍ من النورِ /
تناجيه نجومُ الليلِ نجوى الأعين الحُورِ /
وأنتِ على فمي ويدي خيالٌ خافقُ القلبِ /
ألا فلنحلُمِ الآنَ فهذي ليلةُ الحبِّ /
ليالي الصيفِ أحلامٌ تراءت للمحبِّينا /
تغيبُ الخمرُ والساقي ويبقى سحرها فينا /
وهذا كأسُها الوهاجُ صدَّاحٌ بأيدينا /
فهيا نشرب الليلةَ من نبع الهوى العذْبِ /
ألا فلنحلُمِ الآن فهذي ليلةُ الحبِّ /
تسائلُني حلوةُ المبسمِ
تسائلُني حلوةُ المبسمِ / متَى أنتَ قبَّلتَني في فمي
تحدَّثتَ عَنِّي وعن قُبلةٍ / فيا لكَ من كاذبٍ مُلهَمِ
فقلتُ أعابثُها بل نسيتِ / وفي الثغر كانتْ وفي المعصمِ
فإنْ تُنكريها فما حيلتي / وها هي ذي شعلةٌ في دمي
سلي شفتيكِ بما حَسَّتاهُ / من شَفتي شاعرٍ مُغرمِ
ألمْ تُغمِضي عندها ناظريك / وبالرَّاحتينِ ألم تحتمي
هَبي أنَّها نعمةٌ نلتُها / ومن غير قصدٍ فلا تندمي
فإنْ شئتِ أرجعتُها ثانياً / مضاعفةً للفمِ المنعمِ
فقالتْ وغضَّتْ بأهدابها / إذا كان حقاً فلا تُحجمِ
سأغمضُ عينيَّ كي لا أراكَ / وما في صنيعكَ من مأثمِ
كأنَّكَ في الحلم قبَّلتني / فقلتُ وأفديكِ أن تحلُمي
عبقريٌّ من النَّغمْ
عبقريٌّ من النَّغمْ / رَجْعُه الحبُّ والألمْ
نبْعُهُ قلبُ شاعرٍ / شارفَ النُّورَ في القممْ
ورأى مولدَ الحيا / ةِ على شاطئِ العدمْ
في رفيفٍ من النَّدى / وحفيفٍ من النسمْ
وإطارٍ من السَّنى / جمع الكون وانتظمْ
ورآها وقد بَدَتْ / مِثلَ حوريّة الحُلُمْ
هيَ سَكرى تجرّدتْ / من ثيابٍ ومن عِصَمْ
وهو لاهٍ بخدرها / ثَمِلٌ بالذي غَنِمْ
تعصر الكرمَ راحتا / هُ لها وهي تبتسمْ
فشدا أوَّلَ الرعا / ةِ بشبّابة القِدَمْ
قبل أن يُسْعِد الغنا / ءُ بها راعيَ الغنمْ
خطرةٌ من شبابهِ / ومضَتْ فاشتكى السأمْ
وإذا الشاعر المدلْ / لَهُ يقظانُ لم ينمْ
أرّقته صبابةٌ / بين جنبيه تضطرمْ
يقطع الدهرَ وحدَهُ / ذاهلاً تائه القدمْ
يسأل الليلَ والكوا / كِبَ والسُّحْبَ والدِّيَمْ
ناح قيثارُهُ الشجي / يُ بما رقَّ وانسجمْ
وعلى خدِّه جَرَتْ / عبراتٌ من الندمْ
ذوَّبَ الحبُّ قلبه / وبرى جسمَه السِّقمْ
وجلا الغيبُ سرَّهُ / بين عينيه وارتسمْ
فجرى في نشيده / أروعُ الشعر والنغمْ
فانظروا أيَّ شاعرٍ / هو في الحفلِ بينكمْ
ذلك المبدعُ الروا / ئِعُ في صورة الكَلِمْ
ربَّةُ الحكمةِ اشتكتْ / هُ إلى ربَّةِ القلمْ
نازعَتْها غرامهُ / وهُو الخصمُ والحكَمْ
فاسمعوا الآن شعره / وَتَمَلَّوْهُ عن أممْ
ضامرُ الجسم واسمهُ / يَسع الكونَ بالعِظَمْ
وقصيرٌ ومجدهُ / باذخٌ كالضحى أشمْ
ذلك الشاعر الذي / فاز بالحب واتَّسَمْ
خالدٌ بالذي شدا / خالدٌ بالذي نظمْ
ذاك ناجي وحسبُهُ / أنهُ الشاعرُ العَلَمْ
يا حبيبي أقبلَ اللَّيلُ وناداني الغَرامْ
يا حبيبي أقبلَ اللَّيلُ وناداني الغَرامْ /
أيُّ سرٍّ لمحبٍّ لم يُصَوِّرهُ الظلامْ /
كلُّ نجم مهجةٌ تهفو وعينٌ لا تنامْ /
وشعاعُ البدر معشوقٌ به جُنَّ الغمامْ /
يا حبيبي كلُّ عيشٍ ما خلا الحبَّ حرامْ /
وحرَامٌ يا حبيبي /
يا حبيبي غنَّت الفرحةُ في كلّ مكانِ /
فهُنا البُلبلُ يشدُو وهناكَ العاشقانِ /
غيرَ أنِّي أشتكي الوحشةَ في ظلّ التداني /
إنما روحُك في الكونِ وروحي توْأمانِ /
لا تدَعني أقطَع الأيامَ وحدي وأُعاني /
فحرَامٌ يا حبيبي /
يا حبيبي سئِمَ اللَّيل سكوتي واكتئابي /
أنا أهواكَ ولكن أنتَ لا تعلمُ ما بي /
لحظةً بين ذراعيكَ فقد طالَ عذابي /
لحظةً أمزجُ أنفاسَك بالقلبِ المذابِ /
وأُغنّي ويُغني لكَ حُبِّي وشبابي /
وسلامٌ يا حبيبي /
باللّهِ من أنباكْ
باللّهِ من أنباكْ / باللونِ والطعمِ
وما جَنَتْ كفّاكْ / يا غارسَ الكرْمِ
آدمُ أم حوّاءْ / أغراك بالغرسِ
يا شاربَ الصَّهباء / عَلاًّ بلا كأسِ
لو شَرِبا منها / ما نسِيا العهدَا
أو حُدِّثا عنها / ما هجرا الخُلدَا
صهباءُ ما كانتْ / من غرس إبليسِ
بل كرمةٌ زانتْ / خلقَ الفراديس
تسمو بها الأرواحْ / عَن عالم الإِثمِ
شفّافةُ الأقداحْ / في رقّةِ الحُلمِ
الكأسَ والقيثارْ / يا ربَّةَ الحسنِ
يا ربَّة الأشعارْ / غنِّي بها غنِّي
غنِّي بها روحاً / عُلوِيةَ الومْضِ
لو أدركتْ نُوحاً / عشنا بلا أرضِ
عشنا كأحلامٍ / في خاطر الأكوانْ
في عالمٍ سامٍ / لا يعرف الأحزانْ
هاتي اسْقِني هاتي / من دنِّها المختومْ
أنسَى بها الآتي / من عمريَ المحتومْ
غنِّ بالهجرة عاماً بعد عام
غنِّ بالهجرة عاماً بعد عام / وادْعُ للحقِّ وبشِّر بالسلامِ
وترسَّلْ يا قصيدي نَغَماً / وتنقَّلْ بين مَوْجٍ وغمامِ
صوتُكَ الحقُّ فلا يأخُذْكَ ما / في نواحي الأرض من بغيٍ وذامِ
كنْ بشيرَ الحبّ والنور إلى / مُهَجٍ كلْمى وأكبادٍ دوامي
هجرتْ أوطانها واغتربتْ / في مثاليٍّ من المبدأ سامِ
أنِفَتْ عيشَ الرقيق المجتبى / وأبَتْ ذُلَّ الضَّمير المستضامِ
يا دُعاةَ الحقِّ هذه محنةٌ / تُشْعِلُ الرّوحَ بمشبوب الضرامِ
هذه حربُ حياةٍ أو حِمام / وصراعُ الخيرِ والشَّرِّ العُقامِ
خاضها الإسلامُ فرداً وهَدى / بيراعٍ وتحدَّى بحسامِ
هجرةٌ كانتْ إلى اللّه وفي / خطْوها مولِدُ أحْداثٍ جِسامِ
أخطأ الشيطانُ مسراها فيا / ضَلَّةَ الشيطانِ في تلك الموامي
آبَ بالخيبةِ من غايتهِ / وهو فوق الأرض ملعونُ المقامِ
صفحاتٌ من صراعٍ خالدٍ / ضُمِّنَتْ كلَّ فخارٍ ووسامِ
لم تُتَحْ يوماً لجبَّارٍ طَغَى / أو لباغٍ فاتكِ السيف عُرامِ
بل لدَاعٍ أعزلٍ في قومهِ / مستباحِ الدَّمِ مهدورِ الذِّمامِ
زلزلَ العالَم من أقطاره / بقُوى الرُّوح على القوم الطغامِ
وبنى أوَّلَ دنيا حُرَّة / بَرِئتْ من كل ظلمٍ وأثامِ
تَسَعُ الناسَ على ألوانهم / لم تفرِّقْ بين آريٍّ وسامي
حاطمَ الأصنامِ هل منكَ يدٌ / تذَرُ الظلمَ صديعاً من حُطامِ
لم تُطِقْها حجَراً أو خشباً / ويُطاق اليوم أصنامُ الأنامِ
وعجيبٌ صُنْعُهم في زمنٍ / أبصر الأعمى به والمتعامي
آدميُّون قَزَامى انتحلوا / منطقَ الآلهةِ الشُّمِّ العظامِ
وتراهم مثلَما تسمعهم / صُوَرَ الوهم وأحلامَ النيامِ
بشَّروا الناس بدنيا ويحهم / أيُّ دنيا من دَمارٍ وحِمامِ
تسلُب الناسَ حِجاهم وتَرى / أُمَم الأرض قطيعاً من سوامِ
قِيلَ للحق وما أعجَبَه / في ادِّعاءٍ لفَّقوهُ واتهامِ
قِيلَ للخُبز فَهل أطعمهمْ / حاتمُ الحرب سوى الموت الزؤامِ
أنتِ يا أيَّتُها الشَّمسُ اطلعي / من وراء الليل والغيم الرُّكامِ
سدِّدي بالنار قوساً واصرعي / مارِدَ الشرِّ بمشبوب السِّهامِ
ضلَّتِ الأرضُ بليلٍ داهِم / يحذر النَّجْمُ دُجاهُ المترامي
دَمِيَتْ أعيُننا في جنحه / واشتَكتْ حتى خفافيشُ الظلامِ
يا قُلوباً ضمَّها الشّرقُ على / موْردٍ للحقِّ والحبِّ التُّؤامِ
وشعوباً جَمَعتْها أمَّةٌ / بينَ مصرٍ وعراقٍ وشآمِ
وبطوناً من بَقايا طارقٍ / في البقاعِ الجردِ والخضرِ النوامي
ما شدا شعري بها إلَّا هَفَتْ / بالقِبابِ البيضِ أو حُمْرِ الخيامِ
كلُّ روح بهُدىً من حُبّها / كلُّ قلبٍ بشعاعٍ من غرامِ
تذكُرُ القُرْبى وتسْتدني بها / مَشرق الآمال في مطلع عامِ
وتُرجّى عودةَ المجد الذي / أعجزَ الباني وأعيا المتسامي
من بيوتٍ هاشميّاتِ البنى / وعُروشٍ أمويَّات الدعامِ
ونتاجٍ من نُهىً جبَّارةٍ / وتراثٍ من حَضاراتٍ ضخامِ
قُلْ لها يا عامُ لا هُنتِ ولا / كنتِ إلَّا مهدَ أحرارٍ كرامِ
ذاك مجدٌ لم يَنلْهُ أهلهُ / بالتمني والتغني والكلامِ
بل بآلامٍ وصبرٍ وضنىً / ودموع ودمٍ حُرٍّ سجامِ
قُلْ لها إنَّ الرَّحى دائرةٌ / والليالي بينَ كرٍ وصدامِ
فاستعدِّي لغدٍ إنَّ غداً / نُهْزَةُ السبَّاق في هذا الزحامِ
واجمعي أمركِ لليَوْمِ الذي / يَحْمِل البشرى لعُشَّاق السلامِ
كم ليلةٍ حمراءَ خِلْتُ ظلامَها
كم ليلةٍ حمراءَ خِلْتُ ظلامَها / يَدَ ماردٍ سلَّتْ خضيبَ حُسامِ
وكأنَّ كلَّ سحابةٍ أُفقها / شَبَحُ الخطيئةِ فوق عِرْضٍ دامي
وكأنَّ أنجمها نوافذُ حانةٍ / شَرِبَ الدّخانُ بها بريقَ الجامِ
وكأنَّ أنوارَ المدينةِ تحتها / سُرُجُ الغَوايةِ في طريق حَرامِ
همدَ الهواءُ بها فجهدُ حَراكهِ / هَبَواتُ نارٍ في نفيثِ قَتامِ
وكأنما اختنقَ الفضاءُ فكلُّ ما / فيه صريعٌ أو وشيكُ حِمامِ
ألفيتني جسداً تُسارقُ روحَهُ / قُبَلٌ عواصفُ ضُرّجتْ بأثامِ
أجتاحُها وأضجُّ من لذعاتها / فكأنها بدمي نقيعُ سمامِ
وعلى يَدَيْ مسمورةٍ مخمورةٍ / ألتذُّ كالمقرورِ حرَّ ضرامِ
متضائلَ الأفكار مهدورَ القُوى / متزايلَ الأهواءِ والأحلامِ
هي من تُرى هيَ هنَّ هنَّ جواذبي / بأنيقِ ثوبٍ أو رشيقِ قوامِ
الشارداتُ العائداتُ مع الضحّى / الطارداتُ وراءَ كلِّ ظلامِ
هن اللواتي إنْ صحوتُ فإنني / منهنّ طالبُ مَهْربٍ وسلامِ
أخمدتُ فوق شفاههنّ شبيبتي / وذبحتُ بين عيونهنَّ غرامي
حَيَّتْكَ في الشرق آمالٌ وأحلامُ
حَيَّتْكَ في الشرق آمالٌ وأحلامُ / وقبّلتكَ جراحاتٌ وآلامُ
واستقبلتكَ على الوادي وضفَّتِهِ / عروبةٌ وثبَتْ فرْحَى وإِسلامُ
وحِقْبةٌ من جهادٍ أشرقتْ وهَفَتْ / بها ليالٍ من الذكرى وأيامُ
تعانق العائدَ المنفيَّ في بلدٍ / حِماهُ للحرِّ إِعزازٌ وإِكرامُ
ديارُ فاروق من يلجأ لساحتها / فقد حَمَتهُ من الأحداث آجامُ
يطيب للعربيِّ المستجيرِ بها / معاشُهُ ويرقُّ الماءُ والجامُ
ويحطم القلمُ العاني بحومتها / أصفادهُ ويفكُّ القيدَ ضرغامُ
يا أيها البطل الصنديدُ جئتَ بما / تحدثتْ عنه أدهارٌ وأقوامُ
هَزَّتْ فلسطينَ أنباءٌ يطير بها / برقٌ على جنباتِ الليل بسَّامُ
عادتْ لها ذكرياتُ الأمس وانبعثتْ / بها صحائفُ من نور وأقلامُ
وأنفُسٌ قرشيّاتٌ يُطرِّبها / صوتٌ يرنُّ به رمحٌ وصمصامُ
نصَّتْ على الليل آذاناً تُغازلها / من صوتك الجهوريِّ العذب أنغامُ
قد أقسمتْ لا ينال الدارَ مغتصبٌ / حتَّى وإنْ شرقتْ بالنار أعلامُ
في اللّه في الحقّ في الإِسلام كلُّ دمٍ / يسيل فيها وجُرحٍ ليس يلتامُ
ظنُّوكَ أُقصِيتَ عنها فهي نائمةٌ / وكيف هل في ربوع القدس نُوَّامُ
وتلك أطماعهم في كلِّ ناحية / السيفُ منهن فوق الخلق قوَّامُ
قالوا غدرتَ ولم أفهمْ لمنطقهم / حكماً ولكنما للقوم أحكامُ
أفي دفاعكَ عن أهلٍ وعن وطنٍ / غدر إذنْ فجهادُ الظلم إجرامُ
قالوا هو الحقُّ ما نسعى لنُصْرتِهِ / يا بُؤسَهُ كم هوانٍ أهلهُ ساموا
يا شرقُ يا شرقُ لا تخدعكَ دعوتهُم / واقبض يداً فحديثُ الحقِّ أوهامُ
أكان غيرَ عيونِ الزَّيتِ دافقةً / من قلبكَ الغضِّ يُجريهن سجّامُ
وكان غير أنابيبٍ يحوط بها / ضلوعَ صدركَ قهّارٌ وظلَّامُ
قد قسّموكَ مطاراتٍ وما عملوا / إلَّا لحربٍ لها في الكون إِضرامُ
أكُنتَ غيرَ الفدى في غير تضحيةٍ / إن هم عليكَ بسربٍ للردى حاموا
يا شرقُ سَلْ بالحسينيِّ الذي صنعوا / واسمعْ لحقِّكَ لا يخدعْكَ هدَّامُ
سلهم عن الشَّرف الموعود كم غدروا / به كم اجتُرِحَتْ في السلم آثامُ
وأنت يا أيُّها الفادي عُرُوبَتهُ / إِسلمْ فديتكَ لا غبنٌ ولا ذامُ
جهادك الحقُّ مظلوماً ومغترباً / وحيٌ لكلِّ فتىً حُرٍّ وإِلهامُ
أتدري الريحُ من ملكتْ زمامهْ
أتدري الريحُ من ملكتْ زمامهْ / تشقُّ الغربَ أو تطوي ظلامهْ
هَفَتْ للشرق فاختلجتْ جناحاً / بهِ واستقبلت لثماً غمامهْ
وقيلَ دنا وحوَّم فاشرأبّتْ / ضفافُ النيل تستهدي حِيامَهْ
وعانقه الصباحُ على رُباها / غضيضَ الطَّرفِ لم ينفضْ منامهْ
يضيء بورده الأزليِّ أُفقاً / تُظلِّلهُ الرعايةُ والسلامهْ
وواكبَهُ على سيناءَ برقٌ / بعينِ الملهمين رنا فشامهْ
تمثَّلَ إذْ تألّقَ ذكرياتٍ / وأمجاداً مشهّرةً مُسامهْ
لمحتربٍ مِنَ الأبطال فادٍ / يخاف الدهرُ أن يَلقى عُرامهْ
حواريٌّ على كفّيهِ قلبٌ / أَبى غيرَ الشهامة والكرامهْ
نحيفٌ مِن شُراةِ الخلد يحمِي / تراثَ الشرق أو يرْعى ذمامهْ
كسَتهُ خُشنةً غِيرُ الليالي / وسلَّتْ عزمه وجلتْ حُسامهْ
أَشدّ على قواضبها مراساً / وأَنفذ مِن مضاربها هُمامهْ
أَقام على الفلاة طريدَ ظلمٍ / وذِيدَ فما أطاق بها مقامهْ
وبايعَ في شبيبته المنايا / فعادت منه وادَّرأتْ حمامهْ
أحلُّوا قتله وتطلّبوهُ / دماً حراً وروحاً مستهامهْ
تُنَسِّي الحربُ كلَّ فتىً هواه / ولا يَنسَى الكميُّ بها غرامهْ
زئيرُ الليثِ يطربُ مسمَعيهِ / وتُشجيهِ بِرَنَّتِها الحمامهْ
ووثبُ الخيل أفراسُ الأماني / إِلى خَطَرٍ تعشَّقه ورامهْ
يَصُفُّ البيض والسُّمر العوالي / ويرقبُ مِن فم الصُّبح ابتسامهْ
ويفرُك راحتيهِ دماً وناراً / يُغَنِّي حُبَّهُ ويُديرُ جامهْ
كذاك رأى الحياة فما احتواها / ولا عرفَ الملالة والسآمهْ
مفازعُ للرَّدى إن لاح فَرّتْ / وراءَ خطاهُ وارتدّتْ أمامهْ
أخا الهيجاءِ كيفَ شهِدْتَ حَرْباً / يُذكّرُ هولُها يومَ القيامهْ
وكيف رأيتَ بعد الحرب سِلْماً / تملأُ بالضغينةِ واللآمهْ
وقالوا عالَمٌ قد جَمّلوهْ / فلم يَعْدُ الشناعةَ والدمامهْ
تناثرتِ الممالكُ فيهِ حتى / لتعجزَ أن تُبينَ لها حطامهْ
متاهاتٌ تضلُّ بها الليالي / ولا يدري بها فَلَكٌ نظامهْ
فلسطينُ الشهيدةُ في دجاه / مَفزّعةُ الخواطِرِ مستضامهْ
أَقام المستبدُّ على حماها / فعاث بها وأفردها طغامهْ
وجاء بآبقٍ لَفظَتْهُ دارٌ / وأفَّاقٍ يُحمِّلُها أثامهْ
أباح له على كيْدٍ جناها / وشاطره على خُبثٍ مدامهْ
وعلّمهُ الرمايةَ واجتباه / فسدّد في مقاتله سهامهْ
نديمُ الأمس سَقَّاهُ بكأسٍ / أحسَّ لهيبها ورأى ضرامهْ
رمى الشيطانُ عن فخَّارتيها / وعضَّ على نواجذه ندامهْ
ألا لا يمرح الباغون فيها / فلن ينسَى لها الحقُّ انتقامهْ
مُحالٌ أن تَطيبَ لهم حياةٌ / عليها أو تدوم لهم إِقامهْ
عروبتُها على الأدهار أبقى / وأثبتُ من رواسخها دِعامهْ
أتهدأ وهي في الغمرات تأسو / جريحاً أو تشدُّ له ضِمامهْ
ومفتيها الأمينُ ومفتديها / وراءَ تخومها يشكو هيامهْ
فتى أحرارها ما عابَ عنها / ولا منع الخيالَ بها لِمامهْ
كأمسِ كعهدها لم يغْفُ عيناً / بليلٍ أَقسمتْ ألَّاَ تنامهْ
يؤلّفُها على الأحداث صفاً / جسورَ النفس جبّار العُرامهْ
جهادٌ في العروبة واحتشادٌ / له التاريخ قد أَلقى زمامهْ
أَخا الصَّبَواتِ هل شَفَتِ الليالي / جراحَ القلب أو روَّتْ أُوامهْ
حَللتَ بسوريا بعد اغتراب / وقد كاد الجلاءُ يُتِمُّ عامهْ
فقلتُ تحيّةُ الزمن المعادِي / لمقتتلٍ أطال بهِ صدامهْ
وأشرقتِ الكتائبُ عن لواءٍ / يَدُ الشهداءِ لم تتركْ عِصامهْ
لأصهبَ من أُسودِ الحرب يمشي / بأصهَبَ تُمسِكُ الدنيا لجامهْ
حواكَ جلالة فحنيت رأساً / ولم تخفِضْ لجبّارين هامهْ
طريقُ المجد كم أَثرٍ عليه / لأهوالٍ لقِيتَ وكم علامهْ
وكم جبل هبطتَ برأس وادٍ / يعزُّ الجنَّ أن ترقَى سنامهْ
حميتَ الغاصبين خُطىً إليه / فصان عراقه وحمى شآمهْ
بجيش من بَني عدنان فادٍ / ترَى نسراً بهِ وترى أُسامهْ
يروعكَ خالدٌ فيهِ وتلقى / عُبَيْدَةَ وهو في سيفٍ ولامهْ
كأن الفاتحين مِن الأوالي / على أسيافهم رفعوا خيامهْ
حُماة الشرق كم في الغرب باغٍ / عليهِ أذاقه بطشاً وسامهْ
وكم أيْدٍ عليه مُجرّداتٍ / مخالبَ كاسرٍ يبغي التهامهْ
ذئاب حول جنَّتِهِ تعاوَى / كأن بها إِلى دمه نهامهْ
فهزُّوه صوارمَ مشرعاتٍ / تشقُّ بكلِّ مُعْتركٍ زحامهْ
هو السيفُ الأصمُّ إذا تغنَّى / صغا متجبّرٌ ووعَى كلامهْ
أَعِدوا حده لصراع دهر / صريعُ الوهم من يرجو سلامهْ
سحائبُ حمرٌ أم سماءٌ تضرَّمُ
سحائبُ حمرٌ أم سماءٌ تضرَّمُ / أم الشمسُ يجري فوق صفحتها الدمُ
على مَشْرِقِ الإِصباح من أندونيسيا / سيوفٌ تُغَنِّي أو حُتوفٌ تُرنِّمُ
وفوق رُباها يزحفُ الموتُ ضاحكاً / على جُثَثٍ منهن يروي ويَطعمُ
فراديس شرقٍ ذِيدَ عنهن أهلُهُ / وهن لأهل الغرب نهبٌ مُقَسَّمُ
يُدارُ بها ماءُ الجماجِمِ مِثلما / يُدارُ على الشّربِ الرحيقُ ويُسْجَمُ
وفي أرضها أَو أفقها صوتُ مُحْنَقٍ / كأنَّ صداهُ الغيبُ لو يتكلّمُ
تميد الصحارَى والجبالُ لوقعه / وتُشفِقُ أنواءٌ ويَفْرَقُ عَيْلَمُ
وترتدّ حتى الشهبُ عن سَبَحاتها / فلا ثَمَّ آفاقٌ ولا ثَمَّ أنجمُ
وفيم تُضيءُ الشمسُ أو يشرق السَّنى / إذا الأرضُ غشَّاها ضَلالٌ ومأثمُ
وأصبح فيها المضعفون وحظُّهم / من العيش ما يَقْضي القويُّ ويُبرِمُ
أذلَّاءُ إنْ ناموا أرقاءُ إنْ صحوا / يُباعُ ويُشرَى فيهمو ويُسوّمُ
يُسَمَّوْنَ ثُوّاراً إذا ما تجهَّموا / لمغتصبٍ أو من عَذاب تألموا
لأيةِ إِنسانيةٍ ذلك الوغى / وفيم أحلُّوهُ لقوم وحَرّموا
رويداً بُناةَ الكونِ ما تلك ثورةٌ / على الحقِّ بل روحٌ على الجور يَنقِمُ
وما هي إلَّا منكمو رَجْعُ صيحةٍ / على الأمس كانت كالمزامير تُنْغَمُ
هو الشرقُ ثارت روحُهُ فهو لُجّةٌ / من النّارِ تُذكيها رياحٌ تَهزَّمُ
يُنادي بِعهدٍ بين يوم وليلةٍ / أُضِيع وحقٍّ يُستباح ويُهضَمُ
وحريّةٍ موؤودةٍ طال شوقُها / إِلى النور يطويها ظلامٌ مُخَيِّمُ
مُكبَّلةِ الكفّين مغلولةِ الخطَى / تُداسُ ويُؤْبَى أن يبوحَ لها فمُ
سلاماً سلاماً سيّد السّلم والوغى / جلالُك موفورٌ وعَهْدُكَ مُكرَمُ
ويعنو إليك الجنُّ والإِنسُ طاعةً / كأنكَ فيهم عن سليمان تَحْكُمُ
وبين يديكَ الأرضُ تُلْقي زمامَها / وفي راحتيكَ السّبعةُ الخُضرُ تُسْلِمُ
ولم تَبْقَ في الكونِ السحيقِ رحابةٌ / لغيركَ أو يَبْعَدْ به عنك مغنمُ
فما لك بالأُسطول والجيشِ واثباً / على أمّةٍ عزلاءَ بالسلم تَحْلُمُ
وتَنْقَضُّ مثل النسر فوق سمائها / بأجنحةٍ تغزو النجومَ وتَزْحُمُ
ألاقَيْتَ في أجوائها غيرَ طيرها / على نَسَماتٍ في الغصون تُهَيْنِمُ
وأُبْصرتَ إلَّا أمَّةً من محمد / تَنازَعَها الميكادُ غصباً ووَلهمُ
ملايينُ مِمن كرَّمَ اللّه خَلْقَهُمْ / يُرادُ بهم أن يُمسَخوا أو يُحَطَّموا
أَنِلْ هذه الدنيا رِضاكَ وحسبنا / من الدهر هذا البارقُ المتبسّمُ
سَرابٌ منَ الأوهام نُسْقَى بلمعه / وطيفٌ برؤياه نُسَرُّ ونَنْعمُ
ودَعنا بمعسول المُنَى ووعودها / نَذُقْ من نعيم العيشِ ما نتوهّمُ
ونُبدعْ لهذا الكون في الوهم صورةً / تُمثِّلُ منه بَعْضَ ما كنت تزعُمُ
فإنّا شعوبٌ من سُلالة آدم / لنا في مراقي العلم والفن سُلّمُ
لنا خطرةٌ تهوَى الخيالَ ونظرةٌ / طموحٌ وقلبٌ بالمحاسنِ مُغرَمُ
على أننا نبني على الحقِّ والهدى / مآثرَ لا تبْلى ولا تتهدّمُ
ونرْعى مواثيقَ الوفاءِ كما رَعَتْ / أوائِلُنا لسنا على البذلِ نندَمُ
من الصين حتى ساحل الغربِ عالمٌ / به المسلمون الأولونَ تقدموا
بَنَوْهُ حضاراتٍ ضِخاماً ولم يَزَلْ / له أثرٌ في الكون أسمى وأضخمُ
نظامٌ من الشُّورى وعهدٌ من الرضى / أياديهِ شتَّى حُسْنياتٌ وأنعُمُ
سَل العامَ إِن أوْفَى عليك هلالهُ / ففي ضوئِهِ للحقِّ هَدْيٌ ومعلَمُ
لعلَّك إِن يمْسَسْكَ من نوره سنىً / يَلنْ منك قلبٌ بالحديد مُلثَّمُ
ويُنبِئك أنَّا لا نطيق على الأذى / مُقَاماً وأنَّا أمةٌ ليس تُظلمُ
على الحقِّ نجزِي من جَزانا بحقّنا / فإنْ لم يَكُنْ فالشرُّ بالشرِّ يُحسمُ
رزءُ العروبةِ فيكَ والإِسلامِ
رزءُ العروبةِ فيكَ والإِسلامِ / رزءُ النُّهَى وفجيعةُ الأقلامِ
هو مأتمُ الأحرار في متوثّبٍ / بصفوفهم مستقتلٍ مقدامِ
أأنا المثاليين صوتُكَ لم يزل / في الشرق وحيَ براعةٍ وحسامِ
ونداءَ فادٍ تسأل الدنيا به / أصريعَ حربٍ أم شهيد سلامِ
لخلاص دارٍ أو فكاك عَشِيرةٍ / خُضْتَ الحياةَ كثيرةَ الآلامِ
واجتزتَ جِسْرَ العمر بين عواصف / هُوجٍ وموجٍ مُزْبدٍ مترامي
وشهرتها حرباً على مستعمر / مُتجبّرٍ أو غاصبٍ ظلَّامِ
تلقَى ببسمتك العريضةِ نارها / في موكب من ذائدين كرامِ
متفرِّقين على البعاد منازلاً / متجمِّعين على هوىً ووئامِ
كالبحر ماجَ وفي غواربهِ التَقى / سيلُ الرُّبَى وشوامخ الأعلامِ
وقفوا الحياة على الجهاد وقرَّبوا / دعَةَ النفوس وصحَّةَ الأجسامِ
إِرثُ الجدود الصيد أنت وهَبتَهُ / قلماً يصاول دونه ويحامي
وشبابَ مهدور الدماءِ مجاهد / في اللّه عَن عربٍ وعن إِسلامِ
الشاعرُ الغرِّيدُ نازحُ جَنّة / مَسْحُورةِ الأفنانِ والأكمامِ
أفياؤها ظُللُ الدهور وأرزها / أعلامُ آلهةٍ على آطامِ
قامت على جَبلٍ أشمّ سماؤه / مسرَى البيان ومسبحُ الإِلهامِ
تُهدِي إِليه بكل مغربِ كوكبٍ / أشواقَ نِضوى لوعة وغرامِ
أُمُّ تحنُّ إلى لقاءِ نجيبها / وأبٌ هو الوطن المشوق الظامي
يتساءَلان متى الإِيابُ ويومُهُ / يومُ الرحيل ولات حين مقامِ
مرَّتْ جنيفُ بخاطري فتمثَّلتْ / صُوَرُ الشهيد كأنهنَّ أمامي
متوحِّداً في غُرْبةٍ متوقِّداً / بصبابةٍ متفرِّداً بسقامِ
شيحٌ يدبُّ على عصاهُ وقلبُهُ / متوثِّبُ الآمال والأحلامِ
يطوي الثمانين الوضاءَ مَليئَةً / بمواكبٍ للذِّكريات ضخامِ
وجلائل للمأثرات مواثل / وجَحافل للحادثات جسامِ
هيهات ما أوهتْ قواه ولا ثَنَتْ / من خطوهِ عن غاية ومرامِ
هيهات ما نالتْ على إرهاقها / من قلبه في نَضْرَةٍ ووسامِ
هيهات ما شابتْ بِمُرِّ مذاقها / فيه حلاوةَ روحه البسَّامِ
طَلْقُ الجبين على نديِّ شمائل / كالفجر بين أشعةٍ وغَمَامِ
يا ابن الإمارة نافضاً من إِرثها / يَدَهُ لِنُصْرَةِ مبدأٍ وذمامِ
حين الغِنَى والجاهُ فتنةُ معشر / عن قومهم متخلفين نيامِ
صف كيف أبصرت الحياة وأنت في / عزِّ الملوكِ وهيبة الحكّامِ
ورأيتَ دنيا المالكين بعالم / متخوِّن متلوِّن هَدَّامِ
تومِي إليكَ قصورُهم وكأنها / عينٌ مقرَّحةٌ وقلبٌ دامي
ومشيتَ تُنذرُ والوغَى مُتَسَعِّرٌ / والأرض غرقى في دم وضِرامِ
في حومةٍ من قاهرين تربَّصوا / بالمضعفين منافذَ الأيامِ
عَنَتِ الشعوبُ لسيفهم فتألَّبوا / يتنازعون مصايرَ الأقوامِ
يأبى يَراعُك أن يُفارق راحةً / خُلِقَتْ لردِّ تحيّةٍ وسلامِ
بيضاءُ ملهَمةُ البنان مِزاجُها / فَيْضٌ من الأضواءِ والأنغامِ
أخذتْ خِناق الظلم فاسْتحذَى لها / وارتدَّ يستر وجهه بِلِثامِ
وَتَعَقَّبَتْهُ تهزُّ قبضة ثائر / فإِذا الحديدُ بها صديعُ حطامِ
وإِذا الحصونُ الشامخاتُ حجارةٌ / منثورةٌ والنارُ سُحبُ قتامِ
وإِذا المجاهدُ تحتَ غار جهاده / طُهْرُ اليدين مُخضَّبُ الصمصامِ
روحٌ يَهزُّ الشرق من أعماقه / وسنىً يمزِّق عنه كل ظلامِ
وَيَدٌ تُعانِقهُ برغم مَنيَّةٍ / وفَمٌ يُقَبِّلُهُ برغم حِمامِ