المجموع : 26
لَيسَ يَدري الهَمَّ غَيرُ المُبتَلي
لَيسَ يَدري الهَمَّ غَيرُ المُبتَلي / طالَ جُنحُ اللَيلِ أَو لَم يَطُلِ
ما لِهَذا النَجمِ مِثلِي في الثَرى / طائِرَ النَومِ شَديدَ الوَجَلِ
أَتُراهُ يَتَّقي طارِئةً / أَم بِهِ أَنّي غَريبُ المَنزِلِ
كُلَّما طالَعتُ خَطباً جَلَلاً / جاءَني الدَهرُ بِخَطبٍ جَلَلِ
أَشتَكي اللَيلَ وَلَو وَدَّعتُهُ / بِتُّ مِن هَمّي بِلَيلٍ أَليَلِ
يا بَناتِ الأُفقِ ما لِلصَبِّ مِن / مُسعِدٍ في الناسِ هَل فيكُنَّ لي
لا عَرَفتُنَّ الرَزايا إِنَّها / شَيَّبَت رَأسي وَلَم أَكتَهِلِ
سَهَدَت سُهدي الدَراري إِنَّما / شَدَّ ما بَينَ المُعَنّى وَالخَلي
لَيتَ شِعري ما الَّذي أَعجَبَها / فَهيَ لا تَنفَكُّ تَرنو مِن عَلِ
أَنا لا أَغبِطُها خالِدَةً / وَلَقَد أَحسُدُها لَم تَعقِلِ
كُلَّما راجَعتُ أَحلامَ الصِبى / قُلتُ يا لَيتَ الصِبى لَم يَزَلِ
أَيُّها القَلبُ الَّذي في أَضلُعي / إِنَّما اللَذَّةُ جَهلاً فَاِجهَلِ
تَجمُلُ الرِقَّةُ في العَضبِ فَإِن / كُنتَ تَهواها فَكُن كَالمِنصَلِ
هِيَ في الغيدِ الغَواني قُوَّةٌ / وَهيَ ضَعفٌ في فُؤادِ الرَجُلِ
لا يَغُرَّ الحُسنُ ذا الحُسنِ فَقَد / يَصرَعُ البُلبُلَ صَوتُ البُلبُلِ
تُقتَلُ الشاةُ وَلا ذَنبَ لَها / هِيَ لَولا ضَعفُها لَم تُقتَلِ
إِن تَكُن في الوَحشِ كُن لَيثَ الثَرى / أَو تَكُن في الطَيرِ كُن كَالأَجدَلِ
أَو تَكُن في الناسِ كُن أَقواهُمُ / لَيسَتِ العَلياءُ حَظَّ الوُكَّلِ
ما لِقَومي لا وَهيَ حَبلُهُمُ / قَنِعوا مِن دَهرِهِم بِالوَشَلِ
أَنا مِن أَمرِهِمُ في شُغُلٍ / وَهُمُ عَن أَمرِهِمُ في شُغُلِ
كُلَّما فَكَّرتُ في حاضِرِنا / عاقَني عاقَني اليَأسُ عَنِ المُستَقبَلِ
نَحنُ في الجَهلِ عَبيدٌ لِلهَوى / وَمَعَ العِلمِ عَبيدُ الدُوَلِ
نَعشَقُ الشَمسَ وَنَخشى حَرَّها / ما صَعِدنا وَهيَ لَمّا تَنزِلِ
قَد مَشى الغَربُ عَلى هامِ السُهى / وَمَشَينا في الحَضيضِ الأَسفَلِ
سَجَّلَ العارَ عَلَينا مَعشَرٌ / سَجَّلوا المَرأَةَ بَينَ الهَمَلِ
فَهيَ إِمّا سِلعَةٌ حامِلَةٌ / سِلَعاً أَو آلَةٌ في مَعمَلِ
أَرسَلوها تَزرَعُ الأَرضَ خَطا / وَتُباري كُلَّ بَيتٍ مِثلِ
تَتَهاداها المَوامي وَالرُبى / فَهيَ كَالدينارِ بَينَ الأَنمُلِ
لا تُبالي القَيظَ يَشوي حَرُّهُ / لا وَلا تَحذَرُ بَردَ الشَمأَلِ
وَلَها في كُلِّ بابٍ وَقفَةٌ / كَاِمرِءِ القَيسِ حِيالَ الطَلَلِ
تَتَّقي قَولَ اِغرُبي خَشَيتَها / قَولَةَ القائِلِ يا هَذي اِدخُلي
فَهيَ كَالعُصفورِ وافى صادِياً / فَرأى الصَيّادَ عِندَ المَنهَلِ
كامِناً فَاِنصاعَ يُدنيهِ الظَما / ثُمَّ يُقصيهِ اِتِّقاءُ الأَجَلُ
وَلَكَم طافَت بِهِ آمِلَةً / وَاِنثَنَت تَقطَعُ خَيطَ الأَمَلِ
وَلَكَم مَدَّت إِلى الرَفدِ يَداً / خُلِقَت في مِثلِها لِلقُبَلِ
ما بِها لا كانَ شَرّاً ما بِها / ما لَها مِن أَمرِها في خَبَلِ
سائِلوها أَو سَلو عَن حالِها / إِن جَهِلتُم كُلَّ طِفلٍ مُحُِلِ
في سَبيلِ المالِ أَو عُشّاقِهِ / تَكدَحُ المَرأَةُ كَدحَ الإِبِلِ
ما تَراها وَهيَ لا حَولَ لَها / تَحتَ عِبءٍ فادِحٍ كَالجَبَلِ
شُدَّتِ الأَمراسُ في ساعِدِها / مَن رَأى الأَمراسَ حَولَ الجَدوَلِ
جَشَّموها كُلَّ أَمرٍ مُعضِلٍ / وَهِيَ لَم تُخلَق لِغَيرِ المَنزِلِ
فَإِذا فارَقَتِ الدارُ ضُحىً / لَم تَعُد إِلّا قُبَيلَ الطَفَلِ
أَلِفَت ما عَوَّدوها مِثلَما / تَألَفُ الظَبيَةُ طَعمَ الحَنظَلِ
بِنتَ سورِيّا الَّتي أَبكي بِها / هِمَّةَ اللَيثِ وَروحَ الحَمَلِ
ما أَطاعوا فيكِ أَحكامَ النُهى / لا وَلا قَولَ الكتابِ المُنزَلِ
قَد أَضاعوكِ وَما ضَيَّعتِهِم / فَأَضاعوا كُلَّ أُمٍّ مُشبِلِ
كَم قَبلَ هَذا الجيلِ وَلّى جيلُ
كَم قَبلَ هَذا الجيلِ وَلّى جيلُ / هَيهاتَ لَيسَ إِلى البَقاءِ سَبيلُ
ضَحِكَ الشَبابُ مِنَ الكُهولِ فَأَغرَقوا / وَاِستَيقَظوا فَإِذا الشَبابُ كُهولُ
نَأتي وَنَمضي وَالزَمانُ مُخَلَّدٌ / الصُبحُ صُبحٌ وَالأَصيلُ أَصيلُ
حَرٌّ وَقَرُّن يُبلِيانِ جُسومَنا / لَيتَ الزَمانَ كَما نَحولُ يَحولُ
إِنَّ التَحَوُّلَ في الجَمادِ تَقَلُّصٌ / في الحَيِّ مَوتٌ في النَباتِ ذُبولُ
قِف بِالمَقابِرِ صامِتاً مُتَأَمِّلاً / كَ غابَ فيها صامِتٌ وَسَأولُ
وَسَلِ الكَواكِبَ كَم رَأَت مِن قَبلِنا / أُمَماً وَكَم شَهِدَ النُجومَ قَبيلُ
تَتَبَدَّلُ الدُنيا رَبَدُّلَ أَهلِها / وَاللَهُ لَيسَ لِأَمرِهِ تَبديلُ
يا طالِعاً لَفَتَ العُيونَ طُلوعُهُ / بَعدَ الطُلوعِ وَإِن جَهِلتَ أُفولُ
عَطفاً وَرِفقاً بِالقُلوبِ فَإِنَّما / حِقدُ القُلوبِ عَلى أَخيكَ طَويلُ
أُنظُر فَوَجهُ الأَرضِ أَغبَرُ شاحِبٌ / وَاِسمَع فَأَصواتُ الرِياحِ عَويلُ
وَمِنَ الحَديدِ صَواعِقٌ وَمِنَ العَجا / جِ غَمائِمٌ وَمِنَ الدِماءِ سُيولُ
ما كُنتُ أَعلَمُ قَبلَما حَمِسَ الوَغى / أَنَّ الضَواري وَالأَنامَ شُكولُ
يا أَرضَ أورُبّا وَيا أَبنائَها / في عُنقِ مَن هَذا الدَمُ المَطلولُ
في كُلِّ يَومٍ مِنكُمُ أَو عَنكُمُ / نَبَأٌ تَجيءُ بِهِ الرُواةُ مَهولُ
مَزَّقتُمُ أَقسامَكُم وَعُهودَكُم / وَلَقَد تَكونُ كَأَنَّها التَنزيلُ
وَبَعَثتُمُ الأَطماعَ فَهيَ جَحافِلٌ / مِن خَلفِهِنَّ جَحافِلٌ وَخُيولُ
وَنَشَرتُمُ الأَحقادَ فَهيَ مَدافِعٌ / وَقَذائِفٌ وَأَسِنَّةٌ وَنُصولُ
لَو لَم تَكُن أَضغانُكُم أَسيافَكُم / أَمسى بِها مِمّا تُسامُ فُلولُ
عَلَّمتُمُ عِزريلَ في هَذي الوَغى / ما كانَ يَجهَلُ عِلمَهُ عِزريلُ
إِن كانَ هَذا ما يُسَمّى عِندَكُم / عِلماً فَأَينَ الجَهلُ وَالتَضليلُ
إِن كانَ هَذا ما يُسَمّى عِندَكُم / ديناً فَأَينَ الكُفرُ وَالتَعطيلُ
عَوداً إِلى عَصرِ البَداوَةِ إِنَّهُ / عَصرٌ جَميلٌ أَن يُقالَ جَميلُ
قابيلُ يا جَدَّ الوَرى نَم هانِئً / كُلُّ اِمرِئٍ في ثَوبِهِ قَبيلُ
لا تَفخَروا بِعُقولِكُم وَنِتاجِها / كنَت لَكُم قَبلَ القِتالِ عُقولُ
لا أَنتُمُ أَنتُم وَلا أَرباضُكُم / تِلكَ الَّتي فيها الهَناءُ يَقيلُ
لا تَطلُبوا بِالمُرهَفاتِ ذُحولُكُم / في نَيلِها بِالمُرهَفاتِ ذُحولُ
إِنَّ الأَنامَ عَلى اِختِلافِ لُغاتِهِم / وَصِفاتِهِم لَو تَذكُرونَ قَبيلُ
يا عامَنا هَل فيكَ ثَمَّةَ مَطمَعٌ / بِالسِلمِ أَم هَذا الشَقاءُ يَطولُ
مَرَّت عَلَيها حِجَّتانِ وَلَم تَزَل / تَتلو الفُضولَ مَشاهِدٌ وَفُصولُ
لَم يَعشَقِ الناسُ الفَناءَ وَإِنَّما / فَوقَ البَصائِرِ وَالعُقولِ سُدولُ
أَنا بَسَمتُ وَقَد رَأَيتُكَ مُقبِلاً / فَكَما يَهَشُّ لِعائِديهِ عَليلُ
وَإِذا سَكَنتُ إِلى الهُمومِ فَمِثلَما / رَضِيَ القُيودُ الموثَقُ المَكبولُ
لا يَستَوي الرَجُلانِ هَذا قَلبُهُ / خالٍ وَهَذا قَلبُهُ الجَهولُ
لا يَخدَعَنَّ العارِفونَ نُفوسَهُم / إِنَّ المَخادِعَ نَفسَهُ لَجَهولُ
في الشَرقِ قَومٌ لَم يَسَلّوا صارِماً / وَالسَيفُ فَوقَ رُؤوسِهِم مَسلولُ
وَجَهِلوا وَلَم تَجَهل نُفوسُهُمُ الأَسى / أَشقى الأَنامِ العارِفُ المَجهولُ
أَكبادُهُم مَقروحَةٌ كَجُفونِهِم / وَزَفيرُهُم بِأَنينِهِم مَوصولُ
أَمّا الرَجاءُ وَطالَما عاشوا بِهِ / فَالدَمعُ يَشهَدُ أَنَّهُ مَقتولُ
وَاليَأسُ مَوتٌ غَيرَ أَنَّ صَريعَهُ / يَبقى وَأَمّا نَفسُهُ فَتَزولُ
رُبّاهُ قَد بَلَغَ الشَقاءُ أَشَدَّهُ / رُحماكَ إِنَّ الراحِمينَ قَليلُ
في اللَهِ وَالوَطَنِ العَزيزِ عِصابَةٌ / نَكِبوا فَذا عانٍ وَذاكَ قَتيلُ
لَو لَم يَمُت شَمَمُ النُفوسِ بِمَوتِهِم / ثارَ الشَآمُ لِمَوتِهِم وَالنيلُ
يا نازِحِنَ عَنِ الشَآمِ تَذَكَّروا / مَن في الشَآمِ وَما يَليهِ نُزولُ
هَمُّ المَمالِكِ في الجِهادِ وَهَمُّكُم / قالٌ تَسيرُ بِهِ الطُروسُ وَقيلُ
هُبّوا اِعمَلوا لِبِلادِكُم وَلِنَسلِكُم / بِئسَ الحَياةُ سَكينَةٌ وَخُمولُ
لا تَقبَضوا الأَيدي فَهَذا يَومُكُم / شَرُّ الوَرى جَعدُ البَنانِ بَخيلُ
وَعَدَ الإِلاهُ المُحسِنينَ بِبَرِّهِ / وَكَما عَلِمتُم وَعدُهُ تَنويلُ
مَدى زَمَنٌ كانَ فيهِ الفَتى
مَدى زَمَنٌ كانَ فيهِ الفَتى / يُباهي بِما قَومُهُ أَثَّلوا
وَيَرفَعُهُ في عُيونِ الأَنامِ / وَيَخفِضُ مِن قَدرِهِ المَنزِلُ
فَلا تَقعُدَن عَن طِلابِ العُلى / وَتعذِل بِلادَكَ إِذ تَعذِلُ
فَإِنَّ الخَلائِقَ حَتّى عِداكِ / مَتى ما سَبَقتُهُمُ هَلَّلوا
فَزابِر بِجِدٍّ عَلى نَيلِها / فَلَيسَ يَخيبُ الَّذي يَعمَلُ
وَكُن رَجُلاً ناهِضاً يَنتَمي / إِلى نَفسِهِ عِندَما يُسأَلُ
فَلَستَ الثِيابَ الَّتي تَرتَدي / وَلَستَ الأَسامي الَّتي تَحمِلُ
وَلَستَ البِلادَ الَّتي أَنبَتَتكَ / وَلَكِنَّما أَنتَ ما تَفعَلُ
إِذا كُنتَ مِن وَطَنٍ خامِلٍ / وَفُزتَ فَأَنتَ الفَتى الأَفضَلُ
لِمَنِ الدِيارُ تَنوحُ فيها الشَمأَلُ
لِمَنِ الدِيارُ تَنوحُ فيها الشَمأَلُ / ما ماتَ أَهلوها وَلَم يَتَرَحَّلوا
ماذا عَراها ما دَها سُكّانَها / يا لَيتَ شِعري كُبِّلوا أَم قُتِّلوا
مَثَّلتُها فَتَمَثَّلَت في خاطِري / دِمَناً لِغَيرِ الفِكرِ لا تَتَمَثَّلُ
تَمشي الصَبا مِنها بِرَسمٍ دارِسٍ / لا رِكزَ فيهِ كَأَنَّما هِيَ هَوجَلُ
وَإِذا تَأَمَّلَ زائِرٌ آثارَها / شَخَصَت إِلَيهِ كَأَنَّها تَتَأَمَّلُ
أَصبَحتُ أَندُبُ أُسدَها وَظِبائَها / وَلَطالَما أَبصَرتَني أَتَغَزَّلُ
أَيّامَ أَنظُرُ في الحِمى مُتَهَلِّلاً / وَأَرى الدِيارَ كَأَنَّها تَتَهَلَّلُ
وَأَروحُ في ظِلِّ الشَبابِ وَأَغتَدي / جَذلانَ لا أَشكو وَلا أَتَعَلَّلُ
إِذ كُلُّ طَيرٍ صادِحٌ مُتَرَنِّمٌ / إِذ كُلُّ غُصنٍ يانِعٌ مُتَهَدِّلُ
وَالأَرضُ كاسِيَةٌ رِداءً أَخضَراً / فَكَأَنَّها ديباجَةٌ أَو مَخمَلُ
يَجري بِها فَوقَ الجُمانِ مِنَ الحَصى / بَينَ الزَبَرجَدِ وَالعَقيقِ الجَدوَلُ
وَالزَهرُ في الجَنّاتِ فَيّاحُ الشَذا / بِنَدَى الصَباحِ مُتَوَّجٌ وَمُكَلَّلُ
وَالشَمسُ مُشرِقَةٌ يَلوحُ شُعاعُها / خَلَلَ الغُضونِ كَما تَلوحُ الأَنصُلُ
وَالظِلُّ مَمدودٌ عَلى جَنَباتِها / وَالماءُ مَغمورٌ بِهِ المُخضَوضِلُ
لِلَّهِ كَيفَ تَبَذَّلَت آياتُها / مَن كانَ يَحسَبُ أَنَّها تَتَبَذَّلُ
زَحَفَ الجَرادُ بِقَضِّهِ وَقَضيضِهِ / سَيرَ الغَمامِ إِذا زَفَتهُ الشَمأَلُ
حَجَبَ السَماءَ عَنِ النَواظِرِ وَالثَرى / فَكَأَنَّهُ اللَيلُ البَهيمُ الأَليَلُ
مِن كُلِّ طَيّارٍ أَرَقَّ جَناحَهُ / لَفحُ الحَرورِ وَطولُ ما يَتَنَقَّلُ
عَجِلٍ إِلى غاياتِهِ مُستَوفِزٌ / أَبَداً يَشُدّدُ العَجزَ مِنهُ الكَلكَلُ
خَشِنِ الإِهابِ كَأَنَّهُ في جَوشَنٍ / وَكَأَنَّما في كُلِّ عُضوٍ مِنجَلُ
وَكَأَنَّما حَلَقُ الدُروعِ عُيونُهُ / وَكَأَنَّهُنَّ شَواخِصاً تَتَخَيَّلُ
مَصقولَةٌ صَقلَ الزُجاجِ يَخالُها / في مَعزِلٍ عَن جِسمِهِ المُستَقبِلُ
وَمِنَ العَجائِبِ مَع صَفاءِ أَديمِها / ما إِن تَرِفُّ كَأَنَّما هِيَ جَندَلُ
ضَيفٌ أَخَفَّ عَلى الهَواءِ مِنَ الهَوا / لَكِنَّهُ في الأَرضِ مِنها أَثقَلُ
مَلَأَ المَسارِحَ وَالمَطارِحَ وَالرُبى / فَإِذا خَطَت فَعَلَيهِ تَخطو الأَرجُلُ
حَصَدَ الَّذي زَرَعَ الشُيوخَ لِنَسلِهِم / وَقَضى عَلى القُطّانِ أَن يَتَحَوَّلوا
ما ثَمَّ مِن فَنَنٍ إِلى أَوراقِهِ / يَأوي إِذا اِشتَدَّ الهَجيرُ البُلبُلُ
وَإِذا القَضاءُ رَمى البِلادَ بِبُؤسِهِ / جَفَّ السَحابُ بِها وَجَفَّ المَهَلُ
وَقَعَ الَّذي كُنّا نَخافُ وُقوعَهُ / فَعَلى المَنازِلِ وَحشَةٌ لا تَرحَلُ
أَشتاقُ لَو أَدري بِحالَةِ أَهلِها / فَإِذا عَرَفتُ وَدِدتُ أَنّي أَجهَلُ
لَم تُبقِ أَرجالُ الدَبى في أَرضِهِم / ما يُستَظَلُّ بِهِ وَلا ما يُؤكَلُ
أَمسَت سَمائُهُمُ بِغَيرِ كَواكِبٍ / وَلَقَد تَكونُ كَأَنَّها لا تَأفَلُ
يَمشونَ في نورِ الضُحى وَكَأَنَّهُم / في جُنحِ لَيلٍ حالِكٍ لا يَنصُلُ
فَإِذا اِضمَحَلَّ النورُ وَاِعتَكَرَ الدُجى / فَالخَوفُ يَعلو بِالصُدورِ وَيَسفَلُ
يَتَوَسَّلونَ إِلى الظَلومِ وَطالَما / كانَ الظَلومُ إِلَيهِم يَتَوَسَّلُ
أَمسى الدَخيلُ كَأَنَّهُ رَبُّ الحِمى / وَاِبنُ البِلادِ كَأَنَّهُ مُتَطَفِّلُ
يَقضي فَهَذا في السُجونِ مُغَيَّبٌ / رَهنٌ وَهَذا بِالحَديدِ مُكَبَّلُ
وَيَرى الجَمالَ كَأَنَّما هُوَ لا يُرى / وَيَرى العُيوبَ كَأَنَّما هُوَ أَحوَلُ
حالٌ أَشَدُّ عَلى النُفوسِ مِنَ الرَدى / الصابُ شَهدٌ عِندَها وَالحَنظَلُ
مالي أَنوحو عَلى البِلادِ كَأَنَّما / في كُلِّ أَرضٍ لي أَخٌ أَو مَنزِلُ
يا لَيتَ كَفّاً أَضرَمَت هَذي الوَغى / يَبِسَت أَنامِلُها وَشُلَّ المِفصَلُ
تَتَحَوَّلُ الأَفلاكُ عَن دَوَرانِها / وَالشَرُّ في الإِنسانِ لا يَتَحَوَّلُ
ما زالَ حَتّى هاجَها مَن هاجَها / حَرباً يَشيبُ لَها الرَضيعُ المُحوِلُ
فَالشَرقُ مُرتَعِدُ الفَرائِصِ جازِعٌ / وَالغَربُ مِن وَقَعاتِها مُتَزَلزِلُ
وَالأَرضُ بِالجُردِ الصَواهِلِ وَالقَنا / مَلأى تَجيشُ كَما تَجيشُ المِرجَلُ
وَالطَودُ آفاتٌ تَلوحُ وَتَختَفي / وَالسَهلُ أَرصادٌ تَجيءُ وَتَقفُلُ
وَالجَوُّ بِالنَقعِ المُثارِ مُلَثَّمٌ / وَالبَحرُ بِالسُفُنِ الدَوارِعِ مُثقَلُ
في كُلِّ مُنفَرِجِ الجَوانِبِ جَحفَلٌ / لَجِبٌ يُنازِعُهُ عَلَيهِ جَحفَلُ
ماتَ الحَنانُ فَكُلُّ شَيءٍ قاتِلٌ / وَقَسا القَضاءُ فَكُلُّ عُضوٍ مَقتَلُ
فَمُعَقَّرٌ بِثِيابِهِ مُتَكَفِّنٌ / وَمُجَرَّحٌ بِدِمائِهِ مُتَسَربِلُ
كَم ناكِصٍ عَن مَأزَقٍ خَوفَ الرَدى / طَلَعَ الرَدى مِنَ خَلفِهِ يَتَصَلصَلُ
شَقِيَ الجَميعُ بِها وَعَزَّ ثَلاثَةٌ / ذِئبُ الفَلاةِ وَنَسرُها وَالأَجدَلُ
حامَت عَلى الأَشلاءِ في ساحاتِها / فَرَقاً تَعِلُّ مِنَ الدِماءِ وَتَنهَلُ
لَهَفي عَلى الآباءِ كَيفَ تَطَوَّحوا / لَهَفي عَلى الشُبّانِ كَيفَ تَجَندَلوا
حَربٌ جَناها كُلُّ عاتٍ غاشِمٍ / وَجَنى مَرارَتَها الضَعيفُ الأَعزَلُ
ما لّضَعيفِ مَعَ القَوِيِّ مَكانَةٌ / إِنَّ القَوِيَّ هُوَ الأَحَبُّ الأَفضَلُ
تَتَنَصَّلُ السُوّاسُ مِن تَبِعاتِها / إِنَّ البَريءَ الذَيلِ لا يَتَنَصَّلُ
قَد كانَ قَتلُ النَفسِ شَرَّ جَريمَةٍ / وَاليَومَ يُقتَلُ كُلُّ مَن لا يُقتَلُ
وَالمالِكونَ عَلى الخَلائِقِ عَدلُهُم / جَورٌ فَكَيفَ إِذا هُم لَم يَعدِلوا
كَتَبوا بِمَسفوكِ النَجيعِ نُعوتَهُم / وَبَنوا عَلى الجُثَثِ العُروشَ وَأَثَّلوا
صَرَفَ الجُنودَ عَنِ المُلوكِ وَظُلمِهِم / قَولُ المُلوكِ لَهُم جُنودٌ بُسَّلُ
يا شَرَّ آفاتِ الزَمانِ المُنقَضي / لا جاءَنا فيكِ الزَمانُ المُقبِلُ
إِن أَبكِ سورِيّا فَقَبلِيَ كَم بَكى / أَعشى مَنازِلَ قَومِهِ وَالأَخطَلُ
ما بي الدِيارُ وَإِنَّما قُطّانُها / إِنَّ النُفوسَ لَها المَقامُ الأَوَّلُ
يا قَومُ إِن تَنسو فَلا تَنسوهُمُ / أَو تَبخَلوا فَعَلَيهِمُ لا تَبخَلوا
لَبّوا نِداءَ ذَوي المُروأَةِ وَالنَدى / لِيُقالَ أُمُّ الشَأمِ أُمٌّ مُشبِلُ
لا تَبتَغوا شُكرَ الأَنامِ وَأَجرَهُم / عَفوُ الإِلَهِ هُوَ الثَناءُ الأَجزَلُ
في كُلِّ يَومٍ بَينَكُم مُستَرفِدٌ / أَو طالِبٌ أَو راهِبٌ مُتَجَوِّلُ
يائتيكُمُ بادي الوِفاضِ فَيَنثَني / وَكَأَنَّما في بُردِهِ المُتَوَكِّلُ
يَبني بِمالِكُمُ القُصورَ لِأَهلِهِ / وَقُصورُكُم أَثوابُكُم وَالمَعمَلُ
قَد حانَ أَن تَستَيقِظوا فَاِستَيقِظوا / كَم تَخجَلونَ وَكُلُّهُم لا يَخجَلُ
يا لَيتَ مَن بَذَلوا نُضارَهُم لِمَن / خَبَأوهُ في أَكياسِهِم لَم يَبذُلوا
بَل لَيتَهُم جادوا عَلى ذي فاقَةٍ / فَحَرىً بِعَطفِ المُحسِنينَ المُرمِلُ
يا مَن نُريدُ صَلاحَهُ وَصَلاحَنا / إِنَّ العُدولَ عَنِ الهَوى بِكَ أَجمَلُ
أَيَبيتُ قَومُكَ فَوقَ أَشواكِ الغَضى / وَتَبيتُ تَخطُرُ بِالحَريرِ وَتَرفُلُ
أَينَ الهُدى يا مَن يُبَشِّرُ بِالهُدى / أَينَ التُقى يا أَيُّها المُزَّمِّلُ
ظَنَّت بِكَ الناسُ الظُنونَ وَإِنَّني / لَأَخافُ بَعدَ الظَنِّ أَن يَتَقَوَّلوا
لَكَ مُقلَةٌ فَاِنظُر بِها مُتَأَمِّلاً / قَد يَستَفيدُ الناظِرُ المُتَأَمِّلُ
لا قَدرَ لِلجُهَلاءِ حَتّى يَعمَلوا / لافَضلَ لِلعُلَماءِ حَتّى يَعمَلوا
سُكّانَ لُبنانَ العَزيزَ وَجِلَّقٍ / حَيّاكُمُ عَنّا النَسيمُ المُرسَلُ
لا نابَ غَيرَ عَدُوِّكُم ما نابَكُم / وَبَلَغتُمُ ما تَأمَلونَ وَنَأمَلُ
كَم تَتَّقونَ الطارِئاتِ وَنَتَّقي / كَم تَحمِلونَ الكارِثاتِ وَنَحمِلُ
لَو يَعقِلُ القَدَرُ الخَأونُ عَزَلتُهُ / وَعَذَلتُهُ لَكِنَّهُ لا يَعقِلُ
أَبكي وَأَستَبكي العُيونَ عَلَيكُمُ / أَيُّ الدُموعِ عَليكُمُ لا تَهطِلُ
إِن تَغفَلِ الدُنيا وَيَغفَل أَهلُها / عَنكُم فَخالِقُ أَهلِها لا يَغفَلُ
يا نَبَأَ سُرَّ بِهِ مَسمَعي
يا نَبَأَ سُرَّ بِهِ مَسمَعي / حَتّى تَمَنّى أَنَّهُ الناقِلُ
أَنعَشَ في نَفسي المُنى مِثلَما / يُحيِ الجَديبَ الواكِفُ الهاطِلُ
عَرَفتُ مِنهُ أَنَّ ذاكَ الحِمى / بِالصَيدِ مِن فِطيانِنا آهِلُ
عِصابَةٌ كَالعِقدِ في أَكرِنِ / يَعتَزُّ فيها الفَضلُ وَالفاضِلُ
مِن كُلِّ مِقدامٍ رَجيحِ النُهى / كَالسَيفِ إِذ يَصقُلُهُ الصقِلُ
البَدرُ مِن أَزرارِهِ طالِعٌ / وَالغَيثُ مِن راحَتِهِ هامِلُ
وَكُلُّ طَلقِ الوَجهِ مَوفورِهِ / في بُردَتَيهِ سَيِّدٌ مائِلُ
شَبيهَةَ الشَرقِ اِنعَمي وَاِسلَمي / كَي تَسلَمَ الآمالُ وَالآمِلُ
بِكُم وَبِالراقينَ أَمثالِكُم / يَفتَخِرُ العالِمُ وَالعامِلُ
بَعَثتُمُ هَملِتَ مِن رَمسِهِ / فَهَملِتٌ بَينَكُم ماثِلُ
تَمشي وَيَمشي الطَيفُ ف إِثرِهِ / كلاهُما مِمّا بِهِ ذاهِلُ
لا يَضحَكُ السامِعُ مِن هَزلِهِ / كَم عِظَةٍ جاءَ بِها الهازِلُ
رِوايَةً يَظهَرُ فيها لَكُم / كَيفَ يُداجي الصادِقَ الخاتِلُ
وَتَنكُثُ المِرآةَ ميثاقَها / وَكَيفَ يُجزي المُجرِمُ القاتِلُ
وَإِنَّما الإِنسانُ أَخلاقُهُ / لا يَستَوي الناقِصُ وَالكامِلُ
وَالنَفسُ كَالمِرآةِ إِن أُهمِلَت / يَعلو عَلَيها الصَدَءُ الآكِلُ
وَالناسُ أَدوارٌ فَذا صاعِدٌ / يُراوِدُ الشُهبَ وَذا نازِلُ
وَالدَهرُ حالاتٌ فَيَومٌ بِهِ / تَحُسُّ وَيَومٌ سَعدُهُ كامِلُ
فَمَثَّلوا الجَهلَ وَأَضرارِهِ / حَتّى يُعادي جَهلَهُ الجاهِلُ
وَمَثَّلوا الفَضلَ وَآياتِهِ / كَي يَستَزيدَ الرَجُلُ الفاضِلُ
وَصَوَّروا المَجدَ وَلَألائِهِ / عَسى يُفيقُ الهاجِعُ الغافِلُ
وَيَرجِعُ الشَرقُ إِلى أَوجِهِ / كَما يَعودُ القَمَرُ الآفِلُ
وَاِبنوا إِلى الآتينَ مِن بَعدِكُم / يَبنِ لِمَن يَخلُفُهُ القابِلُ
ما دُمتُمُ لِلحَقِّ أَنصارَهُ / هَيهاتَ أَن يَنتَصِرَ الباطِلُ
سَأَلتُ وَقَد مَرَّتِ الشَمأَلُ
سَأَلتُ وَقَد مَرَّتِ الشَمأَلُ / تَنوحُ وَآوِنَةً تُعْوِلُ
إِلى أَيما غايَةٍ تَركُضينَ / أَلا مُستَقَرٌّ أَلا مَوْئلُ
وَكَم تَعولينَ وَكَم تَصرُخينَ / كَعُصفورَةٍ راعَها الأَجدَلُ
لَقَد طَرَحَ الغُصنُ أَوراقَهُ / مِنَ الذُعرِ وَاِضطَرَبَ الجَدوَلُ
وَضَلَّ الطَريقَ إِلى عُشِّهِ / فَهامَ عَلى وَجهِهِ البِلبُلُ
وَغَطّى السُهى وَجهَهُ بِالغَمامِ / كَما يَنزَوي الخائِفُ الأَعزَلُ
وَكادَت تَحُزُّ لدَيكِ الهِضابُ / وَتَركُضُ قُدّامَكِ الأَجبُلُ
أَبِنتَ الفَضاءِ أَضاقَ الفَضاءُ / فَأَنتِ إِلى غَيرِهِ أَميَلُ
أَغاظَكِ أَنَّ الدُجى لا يَزولُ / وَأَنَّ الكَواكِبَ لا تَأفُلُ
أَتَبكينَ آمالُكِ الضائِعاتِ / هَلِ الريحُ مِثلَ الوَرى تَأمُلُ
أَيَعدو وَراءَكِ جَيشٌ كَثيفٍ / أَمِثلَكِ يُرهِبُهُ الجَحفَلُ
وَما فيكِ عُضوٌ وَلا مِفصَلٌ / فَتَقطَعُ أَوصالُكِ الأَنصُلُ
فَجاوَبَني هاتِفٌ في الظَلامِ / غَلِطتَ فَما هَذِهِ الشَمأَلُ
وَلَكِنَّها أَنفُسُ الغابِرينَ / تَجوسُ الدِيارَ وَلا تَنزُلُ
فَقُلتُ أَيَنهَضُ مَن في القُبورِ / وَفَوقَهُمُ التُربُ وَالجَندَلُ
أَجابَ الصَدى ضاحِكاً ساخِراً / إِلى كَم تَحارُ وَكَم تَسأَلُ
وَتَرفَع عَينَيكَ نَحوَ السَماءِ / وَلَيسَت تُبالي وَلا تَحفِلُ
مِنَ البَحرِ تَصعَدُ هَذي الغُيوثُ / وَتَحطُلُ في البَحرِ إِذ تَهطُلُ
وَفي الجَوِّ إِن خَفيَت نَسمَةٌ / وَفي الأَرضِ إِن نَضَبَ المَنهَلُ
لَقَد كانَ في أَمسِ ما قَبلِهِ / وَفي غَدِهِ يَومُكَ المُقبِلُ
عَجِبتُ لِباكٍ عَلى أَوَّلٍ / وَفي الآخِرِ النائِحُ الأَوَّلُ
هُم في الشَرابِ الَّذي نَحتَسي / وَهُم في الطَعامِ الَّذي نَأكُل
وَهُم في الهَواءِ الَّذي حَولَنا / وَفي ما نَقولُ وَما نَفعَلُ
فَمَن حَسِبَ دُنيا وَأُخرى / فَذا رَجُلٌ عَقلُهُ أَحوَلُ
يالَيتَما رَجَعَ الزَمانُ الأَوَّلُ
يالَيتَما رَجَعَ الزَمانُ الأَوَّلُ / زَمَنُ الشَبابِ الضاحِكُ المُتَهَلِّلُ
عَهدٌ تَرَحَّلَتِ البَشاشَةُ إِذ مَضى / وَأَتى الأَسى فَآقامَ لا يَتَرَحَّلُ
وَلّى الصِبا وَتَبَدَّدَت أَحلاُهُ / أَودى بِهِ وَبِها قَضاءٌ حَوَّلُ
حَصَدَت أَنامُلُهُ المُنى فَتَساقَطَت / صَرعى كَما حَصَدَ السَنابِلَ مِنجَلُ
فَالروحُ قيثارٌ وَهَت وَتَقَطَّعَت / أَوتارُهُ وَالقَلبُ قَفرٌ مُمحِلُ
وَالشيبُ يَضحَكُ بَرقُهُ في لِمَتي / هَذي الضَواحِكُ يا فُؤادي أَنصَلُ
أَشتاقُ عَصرُكِ يا شَبيبَةُ مِثلَما / يَشتاقُ لِلماءِ النُمَيرِ الأَيِّلُ
إِذا كانَتِ الدُنيا بَِعَيني هَيكَلاً / فيهِ الإِهاتُ الجَمالِ تَرتُلُ
مِن كُلِّ حَسناءَ كَأَنَّ حَديثَها / السَلوى أَوِ الوَحيُ الطَهورُ المُنزَلُ
وَأَنا وَصَحبِيَ لا نُفَكِّرُ في غَدٍ / فَكَأَنَّ لَيسَ غَدٌ وَلا مُستَقبَلُ
نَلهو وَنَلعَبُ لا نُبالي ضَمَّنا / كوخٌ حَقيرٌ أَم حَوانا مَنزِلُ
نَتَوَهَّمُ الدُنيا لِفَرطِغُرورِنا / كَمُلَت بِنا وَلِغَيرِنا لا تَكمُلُ
وَنَخالُ أَنَّ البَدرَ يَطلِعُ في الدُجى / كَيما يُسامِرُنا فَلا نَتَمَلمَلُ
وَنَظُنُّ أَنَّ الرَوضَ يَنشُرُ عِطرَهُ / مِن أَجلِنا وَلَنا يُغَنّي البُلبُلُ
فَكَأَنَّما الأَزهارُ سِربَ كَواعِبٍ / وَكَأَنَّما هُوَ شاعِرٌ يَتَغَزَّلُ
في كُلِّ مَنظورٍ نَراهُ مَلاحَةً / وَسَعادَةً في كُلِّ ما نَتَخَيَّلُ
لا شَيءَ يُزعِجُ في الحَياةِ نُفوسَنا / لا طارِئٌ لا عارِضٌ لا مُشكِلُ
فَكَأَنَّنا في عالَمٍ غَيرِ الَّذي / تَتَزاحَمُ الأَيدي بِهِ وَالأَرجُلُ
وَكَأَنَّنا رَهَطُ الكَواكِبِ في الفَضا / مَهما جَرى في الأَرضِ لا تَتَزَلزَلُ
الناسُ في طَلَبِ المَعاشِ وَهَمُّنا / كَأسٌ مُشَعشَعَةٌ وَطَرفٌ أَكحَلُ
كَم عَنَّفونا في الهَوى وَاِستَرسَلوا / لَو أَنَّهُم عَزَفوا الهَوى لَم يَعذِلوا
وَلَوَ اِنَّهُم ذاقوا كَما ذُقن الرُأى / شَبِعَت نُفوسُهُم وَإِن لَم يَأكُلوا
زَعَموا تَبَذَّلنا وَلَم يَتَبذَّلوا / إِنَّ الحَقيقَةَ كُلُّنا مُتَبَذِّلُ
حُرِموا لَذاذاتِ الهُيامِ وَفاتَنا / دَرَكُ الحُطامِ فَأَيُّنا هُوَ أَجهَلُ
إِنّي تَأَمَّلتُ الأَنامَ فَراعَني / كَيفَ الحَياةُ بِهِم تَجُدُّ وَتَهزُلُ
لا يَضبُطونَ مَعَ الصُروفِ قَيادَهُم / إِلّا كَما ضَبَطَ المِياهَ المِنخَلُ
بَينا الفَتى مِلءَ النَواظِرِ وَالنُهى / فَإِذا بِهِ رَقمٌ خَفِيٌّ مُهمَلُ
يا صاحِبي وَالعُمرُ ظَلَّ زائِلٌ / إِن كُنتَ تَأمَلُ فيهِ أَو لا تَأمَلُ
الذِكرُ أَثمَنُ ما اِقتَنَيتَ وَتَقتَني / وَالحُبُّ أَنفَسُ ما بَذَلتَ وَتَبذُلُ
قيلَ اِغتَنى زَيدٌ فَلَيتَكَ مِثلَهُ / أَنا مِثلُهُ إِن لَم أَقُل أَنا أَفضَلُ
الشَمسُ لي وَلَهُ وَلَألاءُ الضُحى / وَالنَيِّراتُ وَمِثلُنا المُتَسَوِّلُ
أَمّا النُضارُ فَإِنَّهُ يا صاحِبي / عَرَضٌ يَزولُ وَسِعَةٌ تَتَنَقَّلُ
ما دُمتُ في صَحبي وَدامَ وَفائُهُم / فَأَنا الغَنِيُّ الحَقُّ لا المُتَمَوِّلُ
أَنا لَستُ أَعدَلُ بِالمَناجِمِ واحِداً / وَأَبيعُ مَن عَقَلوا بِما لا يُعقَلُ
أَقامَت لَدى مَرآتِها تَتَأَمَّلُ
أَقامَت لَدى مَرآتِها تَتَأَمَّلُ / عَلى غَفلَةٍ مِمَّن يَلومُ وَيَعذِلُ
وَبَينَ يَدَيها كُلَّما يَنبَغي لِمَن / يُصَوِّرُ أَشباحَ الوَرى وَيُمَثِّلُ
مِنَ الغيدِ تَقلي كُلَّ ذاتِ مَلاحَةٍ / كَما باتَ يَقلي صاحِبَ المنالِ مُرمِلُ
تَغارُ إِذا ما قيلَ تِلكَ مَليحَةٌ / يَطيبُ بِها لِلعاشِقينَ التَغَزُّلُ
فَتَحمَرُّ غَيظاً ثُمَّ تَحمَرِّ غَيرَةً / كَأَنَّ بِها حُمّى تَجيءُ وَتُقفِلُ
وَتُضمِرُ حِقداً لِلمُحَدِّثِ لَو دَرى / بِهِ ذَلِكَ المِسكينُ ما كادَ يَهزُلُ
أَثارَ عَلَيهِ حِقدَها غَيرَ عامِدٍ / وَحِقدُ الغَواني صارِمٌ لا يَفلُلُ
فَلَو وَجَدَتيَوماً عَلى الدَهرِ غادَةً / لَأَوشَكَ مِن غَلَوائِهِ يَتَحَوَّلُ
فَتاةٌ هِيَ الطاوُوُسُ عُجباً وَذَيلُها / وَلَم يَكُ ذَيلاً شَعرُها المُتَهَدِّلُ
سَعَت لِاِحتِكارِ الحُسنِ الحُسنِ فيها بِأَسرِهِ / وَكَم حاوَلَت حَسناءُ ما لا يُؤَمَّلُ
وَتَجهَلُ أَنَّ الحُسنَ لَيسَ بِدائِمٍ / وَإِن هُوَ إِلّا زَهرَةٌ سَوفَ تَذبُلُ
وَأَنَّ حَكيمَ القَومِ يَأنَفُ أَن يَرى / أَسيرَ طِلاءٍ بَعدَ حينٍ سَيَنصُلُ
وَكُلُّ فَتىً يَرضى بِوَجهِ مُنَمِّقٍ / مِنَ الناعِماتِ البيضِ فَهوَ مُغَفَّلُ
إِذا كانَ حُسنُ الوَجهِ يُدعى فَضيلَةً / فَإِنَّ جَمالَ النَفسِ أَسمى وَأَفضَلُ
وَلَكِنَّما أَسماءُ بِالغيدِ تَقتَدي / وَكُلُّ الغَواني فِعلُ أَسماءَ تَفعَلُ
فَلَو أَمِنَت سُخطَ الرِجالِ وَأَيقَنَت / بِسُخطِ الغَواني أَوشَكَت تَتَرَجَّلُ
قَدِ اِتَّخَذَت مَرآتَها مُرشِداً لَها / إِذا عَنَّ أَمرٌ أَو تَعَرَّضَ مُشكِلُ
وَما ثَمَّ مِن أَمرٍ عَويصٍ وَإِنَّما / ضَعيفُ النُهى في وَهمِهِ السَهلِ مُعضِلُ
تُكَتِّمُ عَمَّن يَعقِلُ الأَمرَ سِرَّها / وَلَكِنَّها تَفشيهِ ما لَيسَ يَعقِلُ
فَلَو كانَتِ المِرآةُ تَحفَظُ ظِلَّها / رَأَيتَ بِعَينَيكَ الَّذي كُنتَ تَجهَلُ
وَزادَ بِها حُبُّ التَبَرُّجِ أَنَّهُ / حَبيبٌ إِلى فِتيانِ ذا العَصرِ أَوَّلُ
أَلَمّوا بِهِ حَتّى لَقَد أَشبَهوا الدُمى / فَما فاتَهُم وَاللَهِ إِلّا التَكَحُّلُ
فَتى العَصرِ أَضحى في تَطَّريهِ حُجَّةً / تُقاتِلُنا فيها النِساءُ فَتَقتُلُ
إِذا اِبتَذَلَت حَسناءُ ثُمَّ عَذَلَتها / تَوَلَّت وَقالَت كُلُّكُم مُتَبَذِّلُ
أَودى فَنورُ الفَرقَدَينِ ضَئيلُ
أَودى فَنورُ الفَرقَدَينِ ضَئيلُ / وَعَلى المَنازِلِ رَهبَةٌ وَذُهولُ
خَلَقَ الأَسى في قَلبِ مَن جَهِلَ الأَسى / قَولُ المُخَبِّرِ ماتَ رافائِلُ
فَمِنَ الجَوى بَينَ الضُلُعِ صَوَعِقٌ / وَعَعَلى الخُدودِ مِنَ الدُموعِ سُيولُ
قالَ الَّذي وَجَدَ الأَسى فَوقَ البُكا / وَبَكى الَّذي لايَستَطيعُ يَقولُ
يا مُؤنِسَ الأَمواتِ في أَرماسِها / في الأَرضِ بَعدَكَ وَحشَةٌ وَخُمولُ
لا الشَمسُ سافِرَةٌ وَلا وَجهُ الثَرى / حالٍ وَلا ظِلُّ الحَياةِ ظَليلُ
ما زالَ هَذا الكَونُ بَعدَكَ مِثلَهُ / لَكِنَّ نورَ الباصِراتِ كَليلُ
نِبراسُنا في لَيلِ كُلِّ مُلِمَّةٍ / اللَيلُ بَعدَكَ حالِكٌ وَطَويلُ
هَبني بَيانَكَ إِنَّ عَقلِيَ ذاهِلٌ / ساهٍ وَغَربُ بَراعَتي مَفلولُ
قَد فَتَّ في عَضُدِ القَريضِ وَهَدَّهُ / هَولُ المُصابِ فَعِقدُهُ مَحلولُ
ما لي أَرى الدُنيا كَأَنّي لا أَرى / أَحداً كَأَنَّ العالَمينَ فُضولُ
أَبكي إِذا مَرَّ الغِناءُ بِمَسمَعي / فَكَأَنَّ شَدوَ الشاضِياتِ عَويلُ
نَفسي الَّتي عَلَّلَتني بِلِقائِهِ / اليَومَ لا أَمَلٌ وَلا تَعليلُ
ذوبي فَإِنَّ العِلمَ مادَ عِمادُهُ / وَالدينَ أُغمِدَ سَيفُهُ المَسلولُ
هَذا مَقامٌ لا التَفَجُّعُ سُبَّةُ / فيهِ وَلا الصَبرُ الجَميلُ جَميلُ
ما كُنتُ أَدري قَبلَ طارَ نَعِيُّهُ / أَنَّ النُفوسَ مِنَ العُيونِ تَسيلُ
ما أَحمَقَ الإِنسانَ يَسكُنُ لِلمُنى / وَالمَوتُ يَخطُرُ حَولَهُ وَيَجولُ
يَهوى الحَياةَ كَأَنَّما هُوَ خالِدٌ / أَبَداً وَيَعلَمُ أَنَّهُ سَيَزولُ
وَمِنَ العَجائِبِ أَن يَحِنَّ إِلى غَدٍ / وَغَدٌ وَما يَأتي بِهِ مَجهولُ
لا تَركُنَنَّ إِلى الحَياةِ فَإِنَّها / دُنيا هُلوكٌ لِلرِجالِ قَتولُ
سَكَتَ الَّذي راضَ الكَلامَ وَقادَهُ / حَتّى كَأَنَّ لِسانَهُ مَكبولُ
يا قائِلَ الخُطَبِ الحِسانِ كَأَنَّها / لِجَمالِها الإِلهامُ وَالتَنزيلُ
إِنَ كانَ ذاكَ الوَجهُ حَجَّبَهُ الثَرى / لِلنَجمِ في كَبِدِ السَماءِ أُفولُ
لَيسَ الحِمامُ بِناقِدٍ لَكِنَّما / قَدَرُ العَظيمِ عَلى العَظيمِ دَليلُ
نَم تَحرُسِ الأَملاكُ قَبرَكَ إِنَّهُ / فيهِ الوَقارُ وَحَولَهُ التَبجيلُ
فَلَكَم قَطَعتَ اللَيلَ خافٍ نَجمُهُ / مُتَجَهِّداً وَالساهِرونَ قَليلُ
مُستَنزِلاً عَفوَ الإِلَهِ عَنِ الوَرى / حَتّى كَأَنَّكَ وَحدَكَ المَسؤولُ
تَبغي اللَذاذاتِ النُفوسُ وَتَشتَهي / وَاللَهُ ما تَبغيهِ وَالإِنجيلُ
لَولا مَدارِسُ شُدتَها وَكَنائِسٌ / ما كانَ إِلّا الجَهلُ وَالتَعطيلُ
أَنفَقتَ عُمرَكَ في الإِلَهِ مُجاهِداً / أَجرُ المُجاهِدِ في الإِلَهِ جَزيلُ
هَجَرتُ القَوافي ما بِنَفسي مَلالَةٌ
هَجَرتُ القَوافي ما بِنَفسي مَلالَةٌ / سِوايَ إِذا اِشَتَّدَ الزَمانُ مَلولُ
وَلَكِن عَدَتني أَن أَقولَ حَوادِثٌ / إِذا نَزَلَت بِالطَودِ كادَ يَزولُ
وَبَغَّضَني الأَشعارَ أَنَّ دُعاتَها / كَثيرٌ وَأَنَّ الصادِقينَ قَليلُ
وَأَنَّ الفَتى في ذي الرُبوعِ عَقارُهُ / وَأَموالَهُ وَالباقِياتُ فُضولُ
سَكَتُّ سُكوتَ الطَيرِ في الرَوضِ بَعدَما / ذَوى الرَوضُ وَاِجتاحَ النَباتَ ذُبولُ
فَما هَزَّني إِلّا حَديثٌ سَمِعتُهُ / عَنِ الغيدِ كَالغيدِ الحِسانِ جَميلُ
فَما أَنا في هَذي الحِكايَةِ شاعِرٌ / وَلَكِن كَما قالَ الرُواةُ أَقولُ
فَتىً مِن سَراةِ اناسِ كُلُّ جُدودِهِ / سَرِيٌّ كَريمُ النَبعَتَينِ نَبيلُ
قَضى في اِبتِناءِ المَكرُماتِ زَمانَهُ / يَنالُ وَيَرجوهُ السِوى فَيُنيلُ
فَدَكَّ مَباني عِزِّهِ الدَهرُ بَغتَةً / وَقَلَّمَ مِنهُ الظُفرُ فَهوَ كَليلُ
هَوى مِثلَما يَهوي إِلى الأَرضِ كَوكَبٌ / كَذاكَ اللَيالي بِالأَنامِ تَدولُ
وَكانَ لَهُ في الدَهرِ بَطشٌ وَصَولَةٌ / فَأَمسَت عَلَيهِ الحادِثاتُ تَصولُ
وَكانَ لَهُ أَلفا خَليلٍ وَصاحِبٍ / فَأَعوَزَهُ عِندَ البَلاءِ خَليلُ
تَفَرَّقَ عَنهُ صَحبُهُ فَكَأَنَّما / بِهِ مَرَضٌ أَعيا الأُساةَ وَبيلٌ
وَأَنكَرَهُ مَن كانَ يَحلِفُ بِاِسمِهِ / كَما يُنكِرُ الدينَ القَديمَ عَميلُ
فَأَصبَحَ مِثلَ الفُلكِ في البَحرِ ضائِعاً / يَميلُ مَعَ الأَمواجِ حَيثُ تَميلُ
يَكادُ يَمُدُّ الكَفَّ لَولا بَقِيَّةٌ / مِنَ الصَبرِ في ذاكَ الرِداءِ تَجولُ
زَوى نَفسَهُ كَي لا يَرى الناسُ ضُرَّهُ / فَيَشمَتَ قالٍ أَو يُسَرَّ عَذولُ
بِدارٍ أَناخَ البُؤسُ فيها رِكابَهُ / وَجُرَّت عَلَيها لِلخَرابِ ذُيولُ
مُهَدَّمَةِ الجُدرانِ مِثلَ ضُلوعِهِ / بِها اليَأسُ صَمتٌ وَالسَقامُ مَجولُ
تَمُرُّ عَلَيها الريحُ وَلهى حَزينَةً / وَيَرنو إِلَيها النَجمُ وَهوَ ضَئيلُ
إِذا ما تَجَلَّى البَدرُ في الأُفقِ طالِعاً / رَعاهُ إِلى أَن يَعتَريهِ أُفولُ
حِبالُ الأَماني عِندَ قَومٍ شُعاعِهِ / وَلَكِنَّهُ في مُقلَتَيهِ نُصولُ
فَيا عَجَباً حَتّى النُجومُ توضِلُّهُ / وَفي نورِها لِلمُدَلجينَ دَليلُ
وَهَل تَهتَدي بِالبَدرِ عَينٌ قَريحَةٌ / عَلَيها مِنَ الدَمعِ السَخينِ سُدولُ
غَفا الناسُ وَاِستَولَت عَلَيهِم سَكينَةٌ / فَما بالُهُ اِستَولى عَلَيهِ ذُهولُ
تَأَمَّلَ في أَحزانِهِ وَشَقائِهِ / فَهانَ عَلَيهِ العَيشُ وَهوَ جَميلُ
فَمَدَّ إِلى السِكّينِ كَفّاً نَقِيَّةً / أَبَت أَن يَراها تَستَغيثُ بَخيلُ
وَقَرَّبَها مِن صَدرِهِ ثُمَّ هَزَّها / وَكادَ بِها نَحوَ الفُؤادِ يَميلُ
وَإِذا شَبَحٌ يَستَعجِلُ الخَطوَ نَحَُهُ / وَصَوتٌ لَطيفٌ في الظَلامِ يَقولُ
رُوَيدَكَ فَالضَنكُ الَّذي أَنتَ حامِلُ / مَتى زالَ هَذا اللَيلُ سَوفَ يَزولُ
نَعَم هِيَ إِحدى مُحسِناتِ نِسائِنا / أَلا إِنَّ أَجرَ المُحسِناتِ جَزيلُ
أَبَت نَفسُها أَن يَكحَلَ النَومُ جَفنَها / وَجَفنُ المُعَنّى بِالسُهادِ كَحيلُ
وَأَن تَتَوَلّى الاِبتِساماتُ ثَغرَها / وَفي الحَيِّ مَكلومُ الفُؤادِ عَليلُ
فَأَلقَت إِلَيهِ صُرَّةً وَتَراجَعَت / وَفي وَجهِها نورُ السُرورِ يَجولُ
فَلَم تَتَناقَل صُنعَها أَلسُنُ الوَرى / وَلا قُرِعَت في الخافِقينَ طُبولُ
لا أَحسَنَت كَي تُعلِنَ الصُحُفُ إِسمَها / فَتَعلَمَ جاراتٌ لَها وَقَبيلُ
كَذا فَليُواسِ البائِسينَ ذَوُ الغِنى / وَإِنّي لَهُم بِالصالِحاتِ كَفيلُ
فَإَِنَّ القُصورَ الشاهِقاتِ إِذا خَلَت / مِنَ البِرِّ وَالإِحسانِ فَهيَ طُلولُ
وَخَيرُ دُموعِ الباكِياتِ هِيَ الَّتي / مَتى سَلَ دَمعُ البائِسينَ تَسيلُ
أَلا إِنَّ شَعباً لا تَعِزُّ نِسائَهُ / وَإِن طارَ فَوقَ الفَرقَدَينِ ذَليلُ
وَكُلُّ نَهارٍ لا يَكُنَّ شُموسَهُ / فَذَلِكَ لَيلٌ حالِكٌ وَطَويلُ
وَكُلُّ سُرورٍ غَيرَهُنَّ كَآبَةٌ / وَكُلُّ نَشاطٍ غَيرَهُنَّ خُمولُ
جَلَستُ أُناجي روحَ أَحمَدَ في الدُجى
جَلَستُ أُناجي روحَ أَحمَدَ في الدُجى / وَلِلهَمِّ حَولي كَالظَلامِ سُدولُ
أُفَكِّرُ في الدُنيا وَأَبحَثُ في الوَرى / وَعَينِيَ ما بَينَ النُجومِ تَجولُ
طَويلاً إِلى أَن نالَ مِن خاطِري الوَنى / وَرانَ عَلى طَرفي الكَليلِ ذُبولُ
فَأَطرَقتُ أَمشي في سُطورِ كِتابِهِ / بِطَرفي فَأَلفَيتُ السُطورَ تَقولُ
سِوى وَجَعِ الحُسّادِ داوِ فَإِنَّهُ / إِذا حَلَّ في قَلبٍ فَلَيسَ يَحولُ
فَلا تَطمَعنَ مِن حاسِدٍ في مَوَدَّةٍ / وَإِن كُنتَ تُبديها لَهُ وَتُنيلُ
أَعِد حَديثَكَ عِندي أَيُّها الرَجُلُ
أَعِد حَديثَكَ عِندي أَيُّها الرَجُلُ / وَقُل كَما قالَتِ الأَنباءُ وَالرُسُلُ
قَد هاجَ ما نَقَلَ الراوُنَ بي طَرَباً / ما أَجمَلَ الرُسلَ في عَيني وَما نَقَلوا
فَاِجمَع رِواياتِهِم وَاِملَء بِها أُذُني / حَتّى تَراني كَأَنّي شارِبٌ ثَمِلُ
دَع زُخرُفَ القَولِ فيما أَنتَ ناقِلُهُ / إِنَّ المَليحَةَ لا يُزري بِها العَطَلُ
فَكُلُّ سَمعِ إِذا قُلتَ السُلافُ فَمٌ / وَكُلُّ قَولٍ إِلَيهِم يَنتَهي عَسَلُ
لا تَسقِني الراحَ إِلّا عِندَ ذِكرِهِمُ / أَو ذِكرِ قائِدِهِم أَو ذِكرِ ما فَعَلوا
هُمُ المَساميحُ يُحيِ الأَرضَ جودُهُمُ / إِذا تَنَكَّبَ عَنها العارِضُ الهَطِلُ
هُمُ المَصابيحُ تَستَهدي العُيونُ بِها / إِذا اِكفَهَرَّ الدُجى وَاِحتارَتِ المُقَلُ
هُمُ الغُزاةُ بَنو الصَيدِ الغُزاةِ بِهِم / وَبَطشِهِم بِالأَعادي يُضرَبُ المَثَلُ
قَومٌ يَبيتُ الضَعيفُ المُستَجيرُ بِهِم / مِن حَولِهِ الجُندُ وَالعَسّالَةُ الذُبُلُ
فَما يُلِمُّ بِمَن صافاهُمُ أَلَمٌ / وَلا يَدومُ لِمَن عاداهُمُ أَمَلُ
تَدري العُلوجُ إِذا هَزّوا صَوارِمَهُم / أَيُّ الدِماءِ بِها في الأَرضِ تَنهَمِلُ
وَلِلغَرَندَقِ رَأيٌ مِثلُ صارِمِهِ / يَزُلُّ عَن صَفحَتَيهِ الحادِثُ الجَلَلِ
المُقبِلُ الصَدرِ وَالأَبطالُ ناكِصَةٌ / تَحتَ العَجاجَةِ لا يَبدو لَها قُبُلُ
وَالباسِمُ الثَغرِ وَالأَشلاءُ طائِرَةٌ / عَن جانِبَيهِ وَحَرُّ الطَعنِ مُتَّصِلُ
سَعدُ السُعودِ عَلى السُؤالِ طالِعُهُ / لَكِنَّهُ في مَيادينِ الوَغى زُحَلُ
في كُلِّ سَيفٍ سِوى بَتّارِهِ فَلَلٌ / وَكُلُّ رَأيٍ سِوى آرائِهِ زَلَلُ
يا اِبنُ المُلوكِ الأُلى قَد شادَ واحِدُهُم / ما لَم تُشَيِّدُهُ أَملاكٌ وَلا دُوَلُ
وَقائِدُ الجَيشِ ما لِلريحِ مُنفَرَجٌ / فيهِ وَلَكِن لَها مِن حَولِها زَجَلُ
تَوَهَّمَ التُركُ لَمّا حانَ حينُهُمُ / أَنَّ الأُلى وَتَروا آبائُهُم غَفَلوا
حَتّى طَلَعتَ مِنَ القوقاسِ في لَجِبٍ / تَضيقُ عَنهُ فِجاجُ الأَرضِ وَالسُبُلُ
فَأَدرَكوا أَنَّهُم ناموا عَلى غَرَرٍ / وَأَنَّكَ البَدرُ في الأَفلاكِ تَنتَقِلُ
يا يَومَ صَبَّحتَهُم وَالنَقعُ مُعتَكِرٌ / كَأَنَّهُ اللَيلُ فَوقَ الأَرضِ مُنسَدِلُ
لَيلٌ يَسيرُ عَلى ضَوءِ السُيوفِ بِهِ / وَيَهتَدي بِالصَليلِ الفارِسُ البَطَلُ
بِكُلِّ أَروَعَ ما في قَلبِهِ خَوَرٌ / عِندَ الصِدامِ وَلا في زِندِهِ شَلَلُ
وَكُلِّ مُنجَرِدٍ في سَرجِهِ أَسَدٌ / في كَفِّهِ خِذمٌ في حَدِّهِ الأَجَلُ
وَكُلِّ راعِفَةٍ بِالمَوتِ هادِرَةٍ / كَأَنَّها الشاعِرُ المَطبوعُ يَرتَجِلُ
سَوداءَ تَقذِفُ مِن فوهاتِها حِمَماً / هِيَ الصَواعِقُ إِلّا أَنَّها شُعَلُ
لا تَحفَظَ الدِرعُ مِنها جِسمَ لابِسِها / وَلا يُنَجّي الحُصونَ الصَخرُ وَالرَملُ
فَالبيضُ تَأخُذُ مِنهُم كَيفَما اِنفَتَلَت / وَالذُعرُ يُمعِنُ فيهِم كَيفَما اِنفَتَلوا
وَكُلَّما وَصَلوا ما اِنبَتَّ باغَتَهُم / لَيثٌ يُقَطِّعُ بِالفَصّالِ ما وَصَلوا
فَأَسلَموا أَرضَروماً لا طَواعِيَةً / لَو كانَ في وُسعِهِم إِمساكَها بَخِلوا
كَم حَوَّطوها وَكَم شادوا الحُصونَ بِها / حَتّى طَلَعتَ فَلا حِصنٌ وَلا رُجلُ
وَفَرَّ قائِدُهُم لَما عَرَضتَ لَهُ / كَما يَفِرُّ أَمامَ القَشعَمِ الحَجَلُ
وَمَن يَشُكُّ بِأَنَّ الوَعلَ مُنهَزِمٌ / إِذا اِلتَقى الأَسَدُ الضِرغامُ وَالوَعِلُ
لَم يَقصُرِ الرُمحُ عَن إِدراكِ مُهجَتِهِ / لَكِن حِمى صَدرَهُ وَقعَ الظُبى الكَفَلُ
تَعَلَّمَ الرَكضَ حَتّى لَيسَ تَلحَقُهُ / هوجُ الرِياحِ وَلا خَيلٌ وَلا إِبِلُ
يَخالُ مِن رُعبِهِ الأَطوادَ راكِضَةً / مَعهُ وَما رَكَضَت قُدّامُهُ القُلَلُ
وَيَحسَبُ الأَرضَ قَد مادَت مَناكِبُها / كَذاكَ يَمسَخُ عَينَ الخائِفِ الوَجَلُ
وَباتَ أَنوَرَ في يَلديزَ مُختَبِئً / لِأُمِّهِ وَأَبيهِ الثُكُلُ وَالهَبَلُ
يَطيرُ إِن صَرَّتِ الأَبوابُ طائِرُهُ / وَيَصرَخُ الغَوثَ إِمّا وَسوَسَ القُفُلُ
في جَفنِهِ أَرَقٌ في نَفسِهِ فَرَقٌ / في جِسمِهِ سَقَمٌ في عَقلِهِ دَخَلُ
في وَجهِهِ صُفرَةٌ حارَ الطَبيبُ بِها / ما يَصنَعُ الطُبُّ فيمَن دائُهُ الخَبَلُ
لَم يَبقَ فيهِ دَمٌ كَيما يُجَمِّعَهُ / في وَجهِهِ عِندَ ذِكرِ الخَيبَةِ الخَجَلُ
يَطوفُ في القَصرَ لا يَلوي عَلى أَحَدٍ / كَأَنَهُ ناسِكٌ في القَفرِ مُعتَزِلُ
لا بَهجَةُ المُلكِ تُنسيهِ هَواجِسَهُ / وَلا تُرَوِّحُ عَنهُ الأَعيُنُ النُجُلُ
يَزيدُ وَحشَتَهُ إِعراضُ عُوَّدِهِ / وَيَنكَءُ الجُرحَ في أَحشائِهِ العَذَلُ
إِذا تَمَثَّلَ جَيشَ التُركِ مُندَحِراً / ضاقَت بِهِ مِثلَما ضاقَت بِذا الحِيَلُ
يا كاشِفَ الضُرِّ عَمَّن طالَ صَبرُهُمُ / عَلى النَوائِبِ لا مَرَّت بِكَ العِلَلُ
أَطلَقتَهُم مِن قُيودِ الظُلمِ فَاِنطَلَقوا / وَكُلُّهُم أَلسُنٌ تَدعو وَتَبتَهِلُ
لَو كانَ يَنشُرُ مَيتاً غَيرُ بارِإِهِ / نَشَرتَ بَعدَ الرَدى أَرواحَ مَن قُتِلوا
بَغى عَلَيهِم عُلوجُ التُركِ بَغيَهُمُ / لَم يَشحَذوا لِلوَغى سَيفاً وَلا صَقَلوا
خانُحُمُ وَأَذاعوا أَنَّهُم نَفَرٌ / خانوا البِلادَ بِما قالوا وَما عَمِلوا
يا لِلطَغامِ وَيا بُهتانَ ما زَعَموا / مَتى أَساءَ إِلى ذي المِخلَبِ الحَمَلُ
هَبوا الرِجالَ لِأَمرٍ أَحَدَثوا حَدَثاً / فَما الَّذي جَنَتِ العَذراءُ الطِفلُ
أَجَدُّكُم كُلَّما جَوٌّ خَلا أَسَدٌ / وَجَدُّكُم كُلَّما شَبَّت وَغى ثُعَلُ
قَد جاءَ مَن يَمنَعُ الضَعفى وَيُرغِمُكُم / إِن تَحمِلوا عَنهُمُ النيرَ الَّذي حَمَلوا
أَمَّنتَ أَرمينيا مِمّا تُحاذِرُهُ / فَلَن تَعيثَ بِها الأَوغادُ وَالسَفَلُ
ظَنّوكَ في شُغُلٍ حَتّى دَهِمتَهُمُ / فَأَصبَحوا وَلَهُم عَن ظَنِّهِم شُغُلُ
مَزَّقتَ جَمعَهُمُ تَمزيقَ مُقتَدِرٍ / عَلى المُهَنَّدِ بَعدَ اللَهِ يَتَّكِلُ
فَهُم شَراذِمُ حَيرى لا نِظامَ لَها / كَأَنَّهُم نَوَرُ الآفاقِ أَو هَمَلُ
أَلبَستَهُم ثَوبَ عارٍ لا تُطَهِّرُهُ / نارُ الجَحيمِ وَلَو في حَرِّها اِغتَسَلوا
جاويدُ فَوقَ فِراشِ الذُلِّ مُضطَجِعٌ / وَتَلعَتٌ بِرِداءِ الخَوفِ مُشتَمِلُ
أَتَستَقِرُّ جُنوبٌ في مَضاجِعِها / وَفي مَضاجِعِها الأَرزاءُ وَالغِيَلُ
وَتَعرِفُ الأَمنَ أَرواحٌ تُرَوِّعُها / ثَلاثَةٌ أَنتَ وَالنيرانُ وَالأَسَلُ
لَو لَم تُقاتِلُهُم بِالجَيشِ قاتَلَهُم / جَيشٌ بِغَيرِ سِلاحٍ إِسمُهُ الوَهَلُ
أَجرَيتَ خَوفَ المَنايا في عُروقِهُمُ / فَلَن يَعيشَ لَهُم نَسلٌ إِذا نَسَلوا
قَد ماتَ اهلُهُمُ مِن قَبلَ ميتَتِهِ / وَشاخَ ناشِءُهُم مِن قَبلِ يَكتَهِلُ
وَقَد ظَفِرتَ بِهِم وَالرَأسُ مُشتَعِلٌ / كَما ظَفِرتَ بِهِم وَالعُمرُ مُقتَبِلُ
فَتحٌ تَهَلَّلَتِ الدُنيا بِهِ فَرَحاً / فَكُلُّ رَبعِ خَلا أَستانَةَ جَذِلُ
الشَعبُ مُبتَهِجٌ وَالعَرشُ مُغتَبِطٌ / وَروحُ جَدِّكَ في الفِردَوسِ تَحتَفِلُ
أيّهذا الشّاكي وما بك داء
أيّهذا الشّاكي وما بك داء / كيف تغدو اذا غدوت عليلا؟
انّ شرّ الجناة في الأرض نفس / تتوقّى قبل الرّحيل الرّحيلا
وترى الشّوك في الورود وتعمى / أن ترى فوقها النّدى إكليلا
هو عبء على الحياة ثقيل / من يظنّ الحياة عبئا ثقيلا
والذي نفسه بغير جمال / لا يرى في الوجود شيئا جميلا
ليس أشقى مّمن يرى العيش مرا / ويظنّ اللّذات فيه فضولا
أحكم النّاس في الحياة أناس / عللّوها فأحسنوا التّعليلا
فتمتّع بالصّبح ما دمت فيه / لا تخف أن يزول حتى يزولا
وإذا ما أظلّ رأسك همّ / قصّر البحث فيه كيلا يطولا
أدركت كنهها طيور الرّوابي / فمن العار أن تظل جهولا
ما تراها_ والحقل ملك سواها / تخذت فيه مسرحا ومقيلا
تتغنّى والصّقر قد ملك الجوّ / عليها ولصائدون السّبيلا
تتغنّى وقد رأيت بعضها يؤخذ / حيّا والبعض يقضي قتيلا
تتغنّى وعمرها بعض عام / أفتبكي وقد تعيش طويلا؟
فهي فوق الغصون في الفجر تتلو / سور الوجد والهوى ترتيلا
وهي طورا على الثرى واقعات / تلقط الحبّ أو تجرّ الذيولا
كلّما أمسك الغصون سكون / صفّقت الغصون حتى تميلا
فاذا ذهّب الأصيل الرّوابي / وقفت فوقها تناجي الأصيلا
فأطلب اللّهو مثلما تطلب الأطيار / عند الهجير ظلاّ ظليلا
وتعلّم حبّ الطلّيعة منها / واترك القال للورى والقيلا
فالذي يتّقي العواذل يلقى / كلّ حين في كلّ شخص عذولا
أنت للأرض أولا وأخيرا / كنت ملكا أو كنت عبدا ذليلا
لا خلود تحت السّماء لحيّ / فلماذا تراود المستحيلا ؟..
كلّ نجم إلى الأقوال ولكنّ / آفة النّجم أن يخاف الأقولا
غاية الورد في الرّياض ذبول / كن حكيما واسبق إليه الذبولا
وإذا ما وجدت في الأرض ظلاّ / فتفيّأ به إلى أن يحولا
وتوقّع إذا السّماء اكفهرّت / مطرا في السّهول
قل لقوم يستنزفون المآقي / هل شفيتم مع البكاء غليلا؟
ما أتينا إلى الحياة لنشقى / فأريحوا أهل العقول العقولا
كلّ من يجمع الهموم عليه / أخذته الهموم أخذا وبيلا
كن هزارا في عشّه يتغنّى / ومع الكبل لا يبالي الكبولا
لا غرابا يطارد الدّود في الأرض / ويوما في اللّيل يبكي الطّلولا
كن غديرا يسير في الأرض رقراقا / فيسقي من جانبيه الحقولا
تستحم النّجوم فيه ويلقى / كلّ شخص وكلّ شيء مثيلا
لا وعاء يقيّد الماء حتى / تستحل المياه فيه وحولا
كن مع الفجر نسمة توسع الأزهار / شمّا وتارة تقبيلا
لا سموما من السّوافي اللّواتي / تملأ الأرض في الظّلام عويلا
ومع اللّيل كوكبا يؤنس الغابات / والنّهر والرّبى والسّهولا
لا دجى يكره العوالم والنّاس / فيلقي على الجميع سدولا
أيّهذا الشّاكي وما بك داء / كن جميلا تر الوجود جميلا
ليت الذي خلق الحياة جميلة
ليت الذي خلق الحياة جميلة / لم يسدل الأستار فوق جمالها
بل ليته سلب العقول فلم يكن / أحد يعلّل نفسه بمنالها
للّه كم تغري الفتى بوصالها / وتضنّ حتى في الكرى بوصالها
تدنيه من أبوابها بيمينها / وتردّه عن خدرها بشمالها
كم قلت هذا الأمر بعض صوابها / فوجدته بالخير بعض محالها
ولكم خدعت بآلها وذمته / ورجعت أظمأ ما أكون لآلها
قد كنت أحسبني أمنت ضلالها / فإذا الذي خمّنت كلّ ضلالها
إنّ النفوس تغرّها آمالها / وتظلّ عاكفة على آمالها
حتى رأيت الشمس تلقي نورها / في الأرض فوق سهولها وجبالها
ورأيت أحقر ما بناه عنكب / متلففا ومطوّقا بحبالها
مثل الفصور العاليات قبابها / ألشامخات على الذّرى بقلالها
فعلمت أنّ النفس تخطر في الحلى / والوشى مثل النفس في أسمالها
ليست حياتك غير ما صوّرتها / أنت الحياة بصمتها ومقالها
ولقد نظرت إلى الحمائم في الربى / فعجبت من حال الأنام وحمالها
للشوك حظّ الورد من تغريدها / وسريكه من بعد إعرالها
تشدو وصائدها يمدّ لها الردى / فاعجب لمحسنه إلى مغنالها
فغبطتها في أمنها وسلامها / ووددت لو أعطيت راحة بالها
وجعلت مذهبها لنفسي مذهبا / ونسجت أخلاقي على منوالها
من لجّ في ضيمي تركت سماءه / تبكي علّي بشمسها وهلالها
وهجرت روضته فأصبح وردها / لليأس كالأشواك في أذغالها
وزجرت نفسي أن تميل كنفسه / عن كوثر الدنيا إلى أوحالها
نسيانك الجاني المسيء فضيلة / وخمود نارجدّ في إشعالها
فاربأ بنفسك والحياة قصيرة / أن تجعل الأضغا ن من أحمالها
زمن الشباب رحلت غير مذّمم / وتركت للحسرات قلبي الوالها
دّبت عقاربها إليه تنوشه / ورمت بقاياه إلى أصلالها
لم يبق من لذّاته ألاّ الرؤى / ومن الصبابة غير طيف خيالها
ومن الكؤوس سوى صدى رنّاتها / والراح غير خمارها وخيالها
يا جنّة عوجلت عن أثمارها / ولذاذة عربت من سربالها
ما عليها شيء سوى اضمحلالها / والذنب للأقدار في اضمحلالها
ومليحة في وجهها ألق الضحى / والسحر والصهباء في أقوالها
قالت: أينسى النازحون بلادهم ؟ / ما هاج حزن القلب غير سؤالها
الأرض سوريّا أحبّ ربوعها / عندي ولبنان أعزّ جبالها
والناس أكرمهم علّي عشيرها / روحي الفداء لرهطها ولآلها!
والشهب أسطعها التي في أفقها / ليس الجلال الحقّ غير جلالها
وأحبّ غيث ما همى في أرضها / حتى الحيا الباكي على أطلالها
مرح الصّبا الجذلان في أسحارها / ومنى الصّبا الولهان في آصالها
إني لأعرف ريحها من غيرها / بنوافح الأشذاء في أذيالها
تلك المنازل كم خطرت بساحها / في ظلّ ضيغمها وعطف غزالها
وشذوت مع أطيارها وسهرت مع / أقمارها ورقصت مع شلاّلها
وسجدت للإلهام مع صفصافها / وضحكت للأحلام مع وزّالها
وملأت عقلي حديث شيوخها / وأخذت شعري من لغى أطفالها
تشتاق عيني قبل يغمضها الردى / لو أنها اكتحلت ولو برمالها
مرّت بي الأعوام تقفو بعضها / وثب القطا تعدو إلى آجالها
وتعاقبت صور الجمال فلم يدم / في خاطري منها سوى تمثالها
لم أنس حين مشت إلّي
لم أنس حين مشت إلّي / لما رأتني باسما متهللا
قالت أتطرب والمنايا حوّم / في الأرض كيف رمت أصابت مقتلا؟
أنظر فقد خلت البيوت من الشباب / ولا جمال لمنزل منهم خلا
فسألتها أو ليس من أجل العلى / وهنائنا خاضوا الوغى قالت بلى
يا هذه أإذا بكيت لبعدهم / يتبسمون أجابت الحسناء لا
كفّي الملام إذن فما أنا جاهل / ما تعلمين وكيف لي أن أجهلا
لكن بعثت الفكر في آثارهم / في البحر في الأجواء في عرض الفلا
فرأيت نور المجد فوق بنودهم / ورأيتهم يمشون من نصر إلى
سدّوا على الباغي المسالك كلّها / فالموت إن ولى وإن هو أقبلا
فإذا شممت اليوم رائحة الدماء / وطالعت عيناك آثار البلى
فاستبشري فغدا إذا النقع انجلى / ستعود دنيانا أحبّ وأجملا
أقامت لدى مرآتها تتأمّل
أقامت لدى مرآتها تتأمّل / على غفلة مّمن يلوم ويعدل
وبين يديها كلّما ينبغي لمن / يصوّر أشباح الورى ويمثّل
من الغيد تقلي كلّ ذات ملاحة / كما بات يقلي صاحب المال مرمل
تغار إذا ما قيل تلك مليحة / يطيب بها للعاشقين التغزّل
فتحمرّ غيظا ثمّ تحمرّ غيرة / كأنّ بها حّمى تجيء وتقفل
وتضمر حقدا للمحدّث لو درى / به ذلك المسكين ما كاد يهزل
أثار عليه حقدها غير عامد / وحقد الغواني صارم لا يفلل
فلو وجدت يوما على الدّهر غادة / لأوشك من غلوائه يتحوّل
فتاة هي الطاووس عجبا وذيلها / ولم يك ذيلا شعرها المتهدّل
سعت لاحتكار الحسن فيها بأسره / وكم حاولت حسناء ما لا يؤمّل
وتجهل أنّ الحسن ليس بدائم / وإن هو إلاّ زهرة سوف تذبل
وأنّ حكيم القوم يأنف أن يرى / أسير طلاء بعد حين سينصل
وكلّ فتّى يرضى بوجه منمّق / من الناعمات البيض فهو مغفّل
إذا كان حسن الوجه يدعى فضيلة / فإنّ جمال النّفس أسمى وأفضل
ولكنّما أسماء بالغيد تقتدي / وكلّ الغواني فعل أسماء تفعل
فلو أمنت سخط الرّجال وأيقنت / بسخط الغواني أوشكت تترّجل
قد اتخذت مرآتها مرشدا لها / إذا عنّ أمر أو تعرّض مشكل
وما ثمّ من أمر عويص وإنّما / ضعيف النّهى في وهمه السهل معضل
تكتّم عمّن يعقل الأمر سرّها / ولكنّها تفشيه ما ليس يعقل
فلو كانت المرآة تحفظ ظلّها / رأيت بعينيك الذي كنت تجهل
وزاد بها حبّ التبّرج أنّه / حبيبّ إلى فتيان ذا العصر أوّل
ألمّوا به حتى لقد أشبهوا الدّمى / فما فاتهمواللّه إلا التكحّل
فتى العصر أضحى في تطّريه حجة / تقاتلنا فيها النساء فتقتل
إذا ابتذلت حسناء ثمّ عذلتها / تولّت وقالت كلّكم متبذّل
وسائلة: أيّ المذاهب مذهبي
وسائلة: أيّ المذاهب مذهبي / وهل كان فرعا في الديانات أم أصلا
وأيّ نبيّ مرسل أقتدي به / وأيّ كتاب منزل عندي الأغلى؟
فقلت لها : لا يقتني المرء مذهبا / وإن جلّ إلاّ كان في عنقه غلاّ
فما مذهب الإنسان إلاّ زجاجة / تقيّده خمرا وتضبطه خلاّ
فإن كان قبحا لم يبدّله لونها / جمالا ولا نبلا إذا لم يكن نبلا
أنا آدميّ كان يحسب أنه / هو الكائن الأسمى وشرعته الفضلى
وأنّ له الدنيا التي هو بعضها / وأنّ له الأخرى إذا صام أو صلّى
أمنّ على الصّادي إذا ما سقيته / وألزمه شكري ولست أنا الوبلا
وأزهى إذا أطمعت جوعان لقمة / كأني خلقت الحبّ والحقل والحقلا
تتلمذت لإنسان في الدّهر حقبة / فلّقتني غيّا وعلّمني جهلا
نهاني عن قتل النّفوس وعندما / رأى غرّة منّي تعلّم بي القتلا!
وذّم إلّي الرقّ ثم استرقّني / وصوّر ظلما فيه تمجيده عدلا
وكاد يريني الإثم في كلّ ما أرى / وكلّ نظام غير ما سنّ مختلا
فصار الورى عندي عدوّا وصاحبا / وأنقسم صنفين علياء أو سفلى
وصرت أرى بغضا وصرت أرى هوى / وصرت أرى عبدا وصرت أرى مولى
ويا ربّ شرّ خلته الخير كلّه / ويا ربّ خير خلته نكبة جلّى
إلى أن رأيت النجم يطلع في الدجى / لذي مقلة حسرى وذي مقلة جذل
وشاهدت كيف النهر يبذل ماءه / فلا يبتغي شكرا ولا يدّعي فضلا
وكيف يزين الطلّ وردا وعوسجا / وكيف يروّي العارض الوعر والسهلا
وكيف تغذّي الأرض ألأم نبتها / وأقبحه شكلا كأحسنه شكلا
فأصبح رأبي في الحياة كرأيها / وأصبحت لي دين سوى مذهبي قبلا
وصار نبيّ كلّ ما يطلق العقلا / وصار كتابي الكون لا صحف تتلى
فديني كدين الرّوض يعبق بالشذى / ولو لم يكن فيه سوى اللص منسلا
فليست تخوم المالكيه تخومه / وإنّ له إن يعلموا غيرهم أهلا
فكم هشّ للأنسام والنور والندى / وآوى إليه الطير والذرّ والنملا
وكم بعثته للحياة من البلى / قريحة فنّان فأورق واخضلاّ
وأصبح يجلى ((طيفه)) في قصيدة / وفي رقعة أو لوحة ((وهو)) لا يجلى
وديني الذي اختار الغدير لنفسه / ويا حسن ما اختار اغدير وما أحلى!
تجيء إليه الطير عطشى فترتوي / وإن وردنه الإبل لم يزجر الإبلا
ويغتسل الذئب الأثيم بمسائه / فلا إثم ذا يمحي ولا طهر ذا يبلى!
وديني كدين الشّهب تبدو لعاشق / وقال وفيها ما يحبّ وما يقلى
فما استترت كيما يضلّ مسافر / ولا بزغت كي يستنير الذي ضلاّ
وليس لها أن تمنع الناس ضوءها / ولو فتلوا منه لتكبيلها حبلا
وديني كدين الغيث إن سحّ لم يبل / أروى الأقاحي أم سقى الشوك والدّفلى
فلم يتخّير في الفضاء مسيره / ولم ينهمر جودا ولم ينحبس بخلا
وإن لم أكن كالروض والنجم والحيا / فحسبي اعتقادي أنّ خطّتها المثلى
يرى النحل غيري اذ يرى النحل حائما / وأبصر قرص الشهد اذ أبصر النحلا
وألمح واحات من النخل في النوى / اذا حرف الإعصار من واحتي النخلا
وان أشرب الصهباء أعلم أنني / شربت بشاشات الزمان الذي ولّى
وما همسته الريح في أذن الثرى / وما ذرفت في الليل نجمته الشكلى
وغصّات من ماتوا على اليأس في الهوى / فيا شاربيها هل لمحتم دم القتلى؟
وان مرّ طفل رأيت به الورى / من المثل الأدنى الى المثل الأعلى
فيا لك دنيا حسنها بعض قبحها / ويالك كونا قد حوى بعضه الكلاّ
تسير بنا على عجل
تسير بنا على عجل / وإن شاءت على مهل
وتسعى سعي مشتاق / بلا قلب ولا عقل
وتمشي في عباب الماء / مشي الصّل في الرّمل
فما تعبس للحزن / ولا تضحك للسهل
أبت أن تعرف الشّكوى / من التّرحال والحلّ
فطورا في قرار اليمّ / للغامض تستجلي
وآونة تناجيها / دراري الأفق بالوصل
وأحيانا تواني سيرها / ساكنة الظّلّ
وللموج حواليها / زئير اللّيث ذي الشّبل
ركبناها ونار الشّوق / في أحشائها تغلي
فيا للّه حتّى السّفن / مثلي ما لها مسل
فلا تعجب إذا أعجب / من أطوارها مثلي
فما أعرف مركوبا / سوى الأفراس والإبل
وما أعلم قبل الآن / أنّ الطّود ناق لي
تركنا ((غادة الشّرق)) / إلى ((لبنان))ذي الفضل
فمن وطن إلى وطن / ومن أهل إلى أهل
سألت: وقد مرّت الشمأل
سألت: وقد مرّت الشمأل / تنوح وآونة تعول
إلى أيما غاية تركضين ؟ / ألا مستقر ؟ ألا موئل؟
وكم تعولين وكم تصرخين / كعصفورة راعها الأجدل؟
لقد طرح الغصن أوراقه / من الذعر واضطرب الجدول
وضلّ الطريق ألى عشه / فهام على وجهه البلبل
وغطى السّهى وجهه بالغمام / كما يتزوى الخائف الأعزل
وكادت تخرّ الهضاب / وتركض قدّامك الأجبل
أبنت الفضاء أضاق الفضاء / فأنت ألى غيره أميل؟
أغاظك أنّ الدجى لا يزول / وأن الكواكب لا تأقل؟
أتبكين آمالك الضائعات ؟ / هل الريح مثل الورى تأمل؟
أيعدو وراءك جيش كثيف؟ / أمثلك يرهبه الجحفل؟
وما فيك عضو ولا مفصل / فتقطع أوصلك الأنصل
فجاوبني عاتف في الظلام: / غلطت فما هذه الشمأل
ولكنها أنفس الغابرين / تجوس الديار ولا تنزل
فقلت: أينهض من القبور / وفوقهم الترب والجندل؟
أجاب الصدى ضاحكا ساخرا / إلى كم تحار وكم تسال؟
وترفع عينيك نحو السماء / وليست تبالي ولا تحفل؟
من البحر تصعدي هذي الغيوث / وتهطل في البحر إذ تهطل
وفي الجوّ إن خفيت نسمة / وفي الأرض إن نضب المنهل
لقد كان في أمس ما قبله / وفي غده يومك المقبل
عجبت لباك على أوّل / وفي الآخر النائح الأول
هم في الشراب الذي نحستي / وهم في الطعام الذي نأكل
وهم في الهواء الذي حولنا / وفي ما نقول وما نفعل
فمن حسب العيش دنيا وأخرى / فذا رجل عقله أحول
ما للهموم الطارقات ومالي
ما للهموم الطارقات ومالي / أسهرنني ورقدن عن أوجالي
أمسين ملء جوانحي ما نابني / خطب ولا خطر الغرام ببالي
أهوى وقد عبث المشيب بمفرقي / ليس الغواية للكبير البالي
ما ثم داء يستطار له الكرى / ما ثم غير كآبة وملال
أرعى الشواقب في الظّلام كأنها / زهر الحدائق أو نثير لآلي
وكأنّما شوك القتاد بمضجعي / وكأنّ حشو وسادتي بلبالي
حتى إذا عكفت علّي وساوسي / ونبا الفراش نزعت للتّجوال
فخرجت كالمنشور بعد مماته / وركبت متن اللّيل غير مبال
وذهبت أخترق المسالك مدلجا / وكأنما أطلقت من أغلال
أسعى وما غاية أسعى لها / سعيي إلى أمل من الآمال
فاستوقفتني ضجة في حانة / حبست مقاعدها على الجهّال
حلموا على الصّهباء يرتشفونها / كالطّير حول مصفّق سلسال
في غفلة العذّال في غسق الدّجى / إنّ السعادة غفلة العذّال
نهب الكؤوس عقولهم ونضارهم / نهب المدير الخادع الختّال
أمسى يسوق إليهم آجالهم / وحتوفهم في صورة الجريال
شرّ الشراب الخمر يصبح صبّها / قيد الضّنى ويبيت رهن خبال
يا سالب الأرواح بعض ترفّق / يكفيك أنّك سالب الأموال
لا تدفعنّ تلك النفوس إلى الرّدى / إنّ النفوس وإن صغرن غوالي
وإذا بمخمور يتيه معربدا / خبل به ما ذاك تيه دلال
حيران مضطرب الخطى فكأنما / قد راح يمشي فوق جمر صال
متخمّط في سيره متأوّد / كالغصن بين صبا وبين شمال
عقد الشراب لسانه ولقد يرى / طلقا وفك مجامع الأوصال
فكبا كما يكبوا الجواد على الثّرى / شدّت عليه فوادح الأثقال
وتقدّم الشّرطي يمشي نحوه / مشي الفخور بنفسه المختال
متلفتّا عن جانبيه كعاشق / متلفّت حذر الرقيب القالي
ورأيته وبنانه في جيبه / فعلمت سرّ تلفّت المحتال
لا تعجبوا مما أحدثكم به / كم تحت ذاك الثّوب من نشّال
ثمّ انثنى متبسّما وإذا فتى / غضّ الإرهاب ممزّق السّربال
وافى فحرّكه فألقى جثة / همدت فأجفل أيّما إجفال
وحتى عليه يضمّه ودموعه / تنهلّ مثل العارض الهطّال
وأتى ذويه نعيه فتألّبوا / والغيد تعول أيّما إعوال
أرخصن ماء الجفن ثمّ أذلته / ولقد يكون الدّمع غير مذال
ولقد شهدت صغاره في حيرة / من أمرهم لهفي على الأشبال
لا يفقهون الحزن غير تأوّه / ما الحزن غير تأوه الأطفال
ما كنت أعلم قبلما حفوا به / أنّ الشقيّ الجدّ ربّ عيال
أسفي عليه مضرّجا لم تمتشق / يده الحسام ولم يسر لقتال
أودى ضحية جهله كم بائس / أودى شهيد الجهل والاهمال
فرجعت مصدوع الفؤاد أبثكم / شجوي وأندب حاله العمّال
باتوا من الأرزاء بين مخالب / من دونهن مخالب الرئبال
خطران من جهل وفقر ماالردى / غير اجتماع الجهل ولاقلال
فخذوا بناصرهم فإنّ حياتهم / في مأزق حرج من الأهوال
ما أجدر الّجهلاء أن يتعلّموا / فالعلم مصدر هيبة وجلال
فاسعوا لنشر العلم فيهم إنّما / فضل الغمام يبين في الامحال
إنّ الجهول إذا تعلّم واهتدى / بثّ الهدى في صحبه والآل
يا قوم إن لم تسعفوا فقراءكم / فلم ادّخاركم إذن للمال
هلاّ رضيتم بالمحامد قنية / إنّ المحامد قنية المفضال
أو لستم أبناء من سارت بهم / في المكرمات روائع الأمثال
جودا فغير الحمد غير ملّد / ما المال إنّ المال طيف خيال
هيهات ما يبقى ولو عدد الحصى / أنّى يدوم وربه لزوال