المجموع : 9
يا مَن قضى بين المياة غريقا
يا مَن قضى بين المياة غريقا / أذكى فراقك في القلوب حريقا
قد كنت فينا درّة فلأجل ذا / تَخذ الحمام لك المياة طريقا
سعديك يا توماس إنك لم تمُت / ما دام ذكرك في الحياة عريقا
لكن رقيت إلى السماء لتجتبى / لله في أعلى السماء رفيقا
يا كوكباً عجل الردى بافوله / من بعد ما ملأ السماء شروقا
إن كنت غبِت عن العيون فإنما / اسكنت طيّ قلوبنا موموقا
عشقتك كل فضيلة وعشقتها / لله درّك عاشقاً معشوقا
هصرتك أيدي الموت غصناً ناضراً / يهتز في روض العلاء وريقا
إن العراق على بضاضة قطره / أمسى بفقدك يابساً معروقا
لله منعاك الجليل فإنه / أعيا البليغ وأخرس المنطيقا
إن كان شخصك بات في قَيد الثرى / فجميل ذكرك لا يزال طليقا
أرى الدهر لا يألو بسَتر الحقائق
أرى الدهر لا يألو بسَتر الحقائق / إذا افتر عن صبح تلاه بغاسق
يجرّ ذيول الخطب فوق طريقها / ليعفوَ منه ما له من سلائق
ولو لمَ يجئنا كل يوم موارباً / لما كان فجر كاذب قبل صادق
كأن ليالي الدهر غضبي على الورى / فتنظر شزراً بالنجوم الشوارق
وما طلعت كي تَهدي القومَ شمسُه / ولكن لتُصليهم جحيم الودائق
وقد تُنطق الأيام بالحق أعجماً / وتُسكِت عن تبيانه كلَّ ناطق
وكم مُدّع فضل التمدّن ما له / من الفضل إلاّ أكله بالملاعق
وكم عاقل قد عدّه الناس أحمقاً / وما هو لو يُبْلَى سوى متحامق
وربّ ذكيّ لم يكن من ذكائه / سوى ما رووه من ذكاء اللقالق
وقد تُعرِض الأسماعُ عن ذي فصاحة / وتُصغى إلى ذي اللُكنة المتشارق
ومن شِيمَ الأيام في الناس انها / تجور عليهم باقتطاع العلائق
وأطلف جَورْ الدهر نرى به / تدلّل معشوق وذِلّة عاشق
وما كان كذب القوم في القو وحده / ولكنّه في كُتْبهم والمهارق
وأقبح مَيْن في الزمانُ خرافةٌ / تَخُطّ بها طرساً يراعة نامق
ضلال على مرّ الجديدين لم تزل / مغاربنا من أمره كالمشارق
فعدِّ عن الأيام إذ لم تَجِد بها / سوى لَغَطٍ يزري بفضل المناطق
نَفَضتُ من الدنيا يَدَيّ لأنني / تعرّفتُ منها ما بها من خلائق
فما أنا وقّاف بها عند منزل / ولا أنا باك من حبيب مُفارق
ولا عذّبَتْني في العُذَيب صبابة / ولا شاقني برق لربع ببارق
تعشقت فيها حسن كل حقيقة / وأعرضت عن حسن الحسان الغَرائق
ولي عند أخوان الصفا أريحيّة / إلى كل خلّ في الزمان موافق
إذا ما عقدنا مجلس الأنس بالطِلا / فبيني وبين السُّكر خمس دقائق
أقوم إلى كبرى الزُجاجات مُدْهِقاً / بمُستقطَر من خالص التمر رائق
فأقرع بالكأس الرَوِيّة جبهتي / بشُرب كما عبّ القَطا متلاحق
اسابق ندماني إلى السكر طائراً / بجنحِ من الأنس المضاغف خافق
فما هي إلاّ بعد شربي سُوَيْعة / وقد دبّ من رأسي الطلا في المفارق
فنادت أصحابي على غيرِ حشمة / وقلت لهم ما قلت غير منافق
وأغنيتهم عن نَقْلهم في شرابهم / بمُزٍّ طريٍّ من نُقول الحقائق
ولم يُبدِ فيّ السُكر عند اشتداده / سوى شكر خِلّي أو سوى حمد خالقي
تعّودت سبقي في الفَخار فلم أرِد / من السكر أن أحظي به غير سابق
كما أعتاد سبقاً في المكارم خزعل / بلا سابق فيها عليه ولاحق
أمير نَمَتْه للمكارم والعلا / جحاجح من كعب كرام المعارق
كذلك أعلى اللّه في الناس كعبه / بحظّ من المجد المؤثّل فائق
إذا سار سار المجد في طيّ بُرْده / يرافقه أكرم به من مرافق
فيرحل من أنسابه في مواكب / وينزل من أحسابه في سُرادق
وأن جاء أغضى من رآه تهيّباً / سوى نظر منهم بعينَيْ مسارق
جواد إذا استمطرته جاد كفّه / بأغزر من وبل الغيوم الدوافق
بك القصر في الفيلية الدهر عامر / فخيم مبانيه كثير المرافق
أحاطت به من كل صَوب حدائق / كوجهك حسناً في العيون الروامق
وفاحت به للناشقين أزاهر / كأخلاقك الغّراء طيباً لناشق
تكامل حسناً صُنعه وفخامةً / وأحسن منه ما لكم من خلائق
أناف على أعلى السحاب معارضاً / بجُودك للعافين جَوْد البوارق
حوى منك قرماً بأسه ضامن له / بذلّ أعاديه وعزّ الأصادق
فلا غروَ أن ينتابه كل خائف / فيأمن من وقع الخطوب الطوارق
ويرجع عنه من يوافيك راجلاً / على لاحق الآطال من نسل لاحق
فدىً كل قصر في العراق ومن جوى / لقصر زها منكم بحامي الحقائق
هنيئاً لك العيد الذي أنت مثله / لدى الناس عيد غير أن لم تفارق
آبا الأمراء الصيد جئتك شاكياً / إليك جنايات الزمان المماذق
أجرني رعاك اللّه منها فإنها / رمت كل عظيم فيّ منها بعارق
أترضى وأني صقر بغداد أنني / تقدّمني فيها فراخ العقاعق
لئن أنكروا حقي فسوف تُحقّه / شواهد أقلام بكفّي نوامق
أصوغ بها حُرّ الكلام لخزعل / مديحاً كعِقد اللؤلؤ المتناسق
إن رمت عيشاً ناعماً ورقيقاً
إن رمت عيشاً ناعماً ورقيقاً / فاسلك إليه من الفنون طريقا
واجعل حياتك غَضّة بالشعر والت / مثيل والتصوير والموسيقى
تلك الفنون المُشتهاة هي التي / غصن الحياة بها يكون وريقا
وهي التي تجلو النفوس فتَمتَلي / منها الوجوه تلألُؤاً وبريقا
وهي التي بمذاقها ومشاقها / يُمسي الغليظ من الطباع رقيقا
تَمضي الحياة طريّة في ظلها / والعيش أخضر والزمان أنيقا
إن الذي جعل الحياة رواعداً / جعل الفنون من الحياة بروقا
وأدَرّها غَيث اللذاذة مُنبتاً / زهر المسرة سوسناً وشقيقا
وأقام منها للنفوس حوافزاً / تدع الأسير من القلوب طليقا
فتحُلّ عقدة من تراه معقّداً / وتفُكِ ربقة من تراه ربيقا
تلك الفنون فطِر إلى سَعة بها / إن كنت تشكو في الحياة الضيقا
وإذا أردت من الزمان مضاحكاً / فَتَحَسَّ منها قَرقَفاً ورحيقا
ما فاز قط بوصلها من عاشق / إلاّ وكان لعارفيه عشيقا
فهي ابتسامات الدُنى وبغيرها / ما كان وجه الحادثات طليقا
رطِّب حياتك بالغناء إذا عرا / هَمٌ يُجَفِّف في الحُلوق الريقا
إن الغناء لمُحدث لك نَشوة / في النفس تُطفىء في حشاك حريقا
وأترك مجادلة الذين توَهّموا / هَزَج الغناء خلاعة وفُسوقا
أفأنت أغلظ مُهجةً من نوقهم / فقد أستَحثّوا بالحُداء النوقا
أرقى الشعوب تمدناً وحضارة / من كان منهم في الفنون عريقا
وأحَطُّهم من أن سمعت غناءهم / فمن الضفادع قد سمعت نقيقا
فالفنّ مقياس الحضارة عند مَن / حازوا الرُقِيَّ وناطَحوا العَيُّوقا
الشعر فَنٌ لا تزال ضُرُوبه / تتلو الشعور بألْسُن الموسيقى
ويُجيد تقطير العواطف للورى / فتخاله لقلوبهم أنبيقا
ومسارح التمثيل أصغر فضلها / جَعْل الكليل من الشعور ذليقا
وإذا رأى فيها الوقائع غافل / من نوم غفلته يكون مُفيقا
تنْمي الحميد من الخِصال وتنقي / ما كان منها بالفَخار خَليقا
وتَجيء من عِبَر الزمان بمَشْهَد / يُلقي خشوعاً في النفوس عميقا
ويكون مَنظرُه الرهيب مُمَهّداً / لمُشاهديه إلى الصلاح طريقا
أما المُصوِّر فهو فنّان يرى / ما كان من صُوَر الحياة دقيقا
تأتيك ريشته بشعر صامت / ولقد يفوق الشاعر المِنْطيقا
وبدائع التصوير من حسناتها / أن يستفيد بها الشعور سموقا
فهي الجديرة أن تكون ثَمينةً / وتكون أنفق من سواها سوقا
أن الحياة على الكُدورة لم تجد / مثل الفنون لنفسها راووقا
شكايةُ قلب بالأسى نابض العرق
شكايةُ قلب بالأسى نابض العرق / إلى قائم الدستور والعدل والحق
ملوك على كل الملوك ثلاثة / لها الحكم دون الناس في الفتق والرتق
وأقسم إِنّي لا أكون لغيرها / مطيعاً ولو من أجلها ضُربَت عُنقي
فهل أيها الدستور تسمع شاكياً / بك اليوم يرجو أن يرى نهضة الشرق
لقد جئت من أفق الصوارم طالعاً / علينا طلوع الشمس من منتهى الأفق
فصادفت منا أمة قد تعشقت / لقاءك حتى جاوزت مبلغ العِشق
ولم نُبدِ عُنفاً حين جئت وإنما / هتفنا جميعاً بالوفاق وبالرفق
وظلنا نرجّي منك للخرق راقعاً / ولكن تراخى الأمر مُتّسع الخرق
بك اليوم أشقانا الأُلى أنت مُسعِد / لديهم فيالَلَه للمسعد المشقي
نراك بأيديهم على الخلق حجةً / وأنت عليهم حجة لا على الخلق
قد استأثروا بالحكم وارتزقوا به / وسَدُّوا على مَن حولهم منبع الرزق
كأنّا لهم شاءٌ فهم يحلبوننا / وكم مَخضُوا أوطاننا مخضة الزق
وهم يأخذون الزُبد من بعد مخضها / ولم يتركوا للساكنيها سوى المَذْق
أترضى بأن تختصّ بالحكم معشراً / وتصبح للباقين حبراً على رَق
وهم يريدون الصفو منك ولم نَرد / سوى نغبة من بعض سؤرهم الرَنْق
فما نحن إلا كالظماء وإنهم / كساقٍ يُرينا الماء عَذباً ولا يسقي
ألم تر أنا طول عهدك لم نقم / نسابق أهل المجد في حَلْبَة السبق
ولم نكُ ندري لاهتضام حقوقنا / أنحن من الأحرار أم نحن في رِق
ولم نستفد إلا سقوط وِزارة / وتأليف أخرى مثل تلك بلا فرق
وما ضرّهم لو أسقطوا نهج سَيرهم / وساروا بمنهاج التبصُّر والحِذق
ألم يُبصروا للعدل غير طريقهم / فإن طريق العدل من أوضح الطرق
وماذا عسى يجدي سقوط وزارة / إذا لم تقم أخرى على العدل والصدق
مضى كامل من قبل حلمي وإن جرى / كما جر يا حقي فمثلهما حقي
وما الهّم عندي بالذي ذكرته / وإن كان يشجيني ويدعو إلى الزَعْق
ولكن وراء الستر كفٌ حفيّة / تزحزح من شاءت عن الأمر أو تبقي
ولولا يدٌ شدت لساني بنعسةٍ / لبُحت بسرِّ كالشجا هو في حَلقي
فيا أيها الدستور فاقض بما ترى / وأبرق ولكن لا تكن خلب البرق
ولسنا نريد اليوم حكماً عليهم / ولكن نناديهم وندعو إلى الحق
تعالوا إلى أمر نساويه بيننا / وبينكمُ في الجِلّ منه وفي الدِق
فإن فعلوا هذا فيا مرحباً بهم / وإلا فيا سُحق المعاند مِن سحق
سنطلب هذا الحق بالسيف والقنا / وشَِيب وشبان على ضُمَّر بُلق
بكلّ ابن حرب كلما شدّ هّزها / بعزم من السيف المهند مشتق
تراه إذا ما عبّس الموت وجهه / بوجهٍ يلاقي الموت مبتسم طَلْق
من العرب مطبوع الطباع على العلا / بديع معاني الحسن في الخَلق والخُلق
أرى الحق لم يَغش البلاد وإنما
أرى الحق لم يَغش البلاد وإنما / مشى ضارباً في الأرض تلِفظه الطرق
فيُصبح في أرض ويُمسي بغيرها / وحيداً فما يؤويه غرب ولا شرق
توطّن قَفر الأرض مُبتعداً بها / إلى حيث لا أنس ولا طائر يَزقو
وقد يهبِط الأمصار وهو مُحجَب / ويظهر أحياناً كما أومض البرق
ومن عجب أن الورى يدعونه / وهم من قديم الدهر أعداؤه الزرق
أعدوا له في البرّ والبحر قوةً / إذا ظهرت ينسدّ من دونها الأفق
وطاروا بطياراتهم يُمطرونه / قذائف من نار كما أمطر الوَدق
يقولون إن الحقّ في الخلق قوة / تذِل لها أعناق قهراً وتندق
فما باله يُمسي ويُصبح شاكياً / ولا يتحاشى عن ظُلامته الخلق
إلى الله نشكو الأمر من مدنيّة / تعارض في أوصافها الكذب والصدق
وكم قد سمعنا ساسة الغرب تدّعي / بأشياء من بُطلانها ضحك الحق
فهم منعوا رِقّ الأسير وإنما / أجازوا لهم أن يشمَل الأمم الرق
ألم ترَ في القطر العراقي أمةً / من الأسر مشدوداً بأعناقها رِبق
قد اختطّ فيه السيف للقوم خطّة / من العُنف لم يُمرر بساحتها رِفق
واوْجرهم سّماً من الذلّ ناقعاً / بكأس من العُدوان ليس لها مَذق
فدجلة من وقع الشوائب أصبحت / تُعاف لأن الماء في حوضها رَنق
وإن الفرات الغَمر أمسى وماؤه / من الضَيم غَور ما لأوشاله عُمق
رعى الله بين الوادَيين مَواطناً / إذا ذُكرت يهتزّ بي نحوها عِشق
قضيت بها عصر الشباب فلي بها / خواطر لم يسمح بإفشائها النطق
فلا تعجبُوا من أنني عند ذكرها / أنوح عليها مثلما ناحت الوُرق
وإني إذا أبصرتها مستضامةً / يكاد لها قلبي من الحزن يَنشقّ
ألم ترها قد أصبحت من إسارها / تُليح بطرف في لواحظه العِتق
تجرّ قيود الذل راسفةً إلى / تكاليف حكم في سياسته المحَق
ويحلب شطرَيها العدوّ ضرائباً / ويمخضها درّاً كما يُمحض الزِق
سلام على وادي السلام الذي به / تفاقم هول الخطب واتسع الخَرق
سَنفديه حتى لا حياة عزيزة / ونبذل حتى لا نفيسٌ ولا عِلق
ونُدرك فيه ثأرنا بكتائب / لها نَسَب من صلب يعرب مشتق
وإن الليالي بالخطوب حوامل / ولا بدّ يوماً أن سيأخذها الطلق
فتُنتج حرباً ما يَبوح سعيرها / وتَستَنّ في ميدانها الدُهم والبُلق
بكلّ أخي عزم كأنّ مَضاءه / مشطّبةٌ بيض ومَسنونة زُرق
تلقّف رايات العلا سواعد / لهنَّ بتصريف القنا في الوغى حِذق
فإما المنايا نستطب بطبّها / وإما مُنىً فيها يتِمّ لنا السَبق
إذا نحن لم نملك على الدهر أمره / فلا دام فينا نابضاً للعلا عِرق
من مبسم الغازي إلى الفاروق
من مبسم الغازي إلى الفاروق / بَسَمات مَومُوق إلى موموق
ملكان مؤتلقان في عرشيهما / كالفرقدين قبالة العَيّوق
نجمان صانهما الإله بلطفه / من أن يُراع سناهما بخفوق
طلعا بَريْعان الشباب على الورى / كالشمس ساعة آذنت بشروق
جمع المهين للعروبة فيهما / سملاً به عبِثت يد التفريق
حتى انجلت من بيننا / ظلمات كل تقاطُع وعقوق
لما تألقّ في البلاد سناها / وضحت إلى العلياء كل طريق
صفت المحبّة في قرار نفوسنا / لهما صفاء الخمر في الراووق
باللطف كل منهما من سعبه / يدنو دُنُوَّ أبٍ عليه شفوق
ما أسعد الشعبين قد جمعتهما / أبداً أواصر من دم وعُروق
هذا انتشى بصَبوحه من دجلة / قبلاً وزاد من نيله بغبوق
أحيا العروبة بعد لأيٍ رّبها / بحياة غازيها وبالفاروق
يا وافدين وفي مسيرهم امتطَوْا / بطن الجَوائب لا ظهور النُوق
يا مرحباً بقدومكم من معشر / حرّ إلى الشرف الرفيع سبوق
أبناء مصر والشآم إليكم / منّي تحية وامق وصديق
فيكم جهابذة العلوم بحورها / من كل نطس في الفنون عريق
لله أنتم كم خطيب مِصْقَع / فيكم وكم من شاعر منطيق
من ضئضئ العرب الكرام زكا لكم / نسب يروق بمجده المَنسوق
لا تعجبوا من أن تضوّع طيبه / فلقد تَضَمخ من علاً بخَلوق
أنتم أسود من ذؤابة يعرب / زلزلتم بالعزم كل صَفوق
حاولتم الشرف الرتيق مناله / حتى رميتم رتقه بفتوق
رقت لكم في الرافدين مودّة / كَندى الغيوم تضاحكت ببروق
سكبت لكم منا المَقاول صِرفها / كالراح تسكب من فم الإبريق
ما أن تصافحنا غداة لقائكم / إلا بكفَّيْ شائق ومَشوق
هذي القلوب وقد زكت بوِدادكم / مثل النخيل وقد زهت بعُذوق
لكم المِقات تضمهنّ صدورنا / مثل العقود تُصان في صندوق
والنيل من شرف العروبة منهل / جلّت موارده عن الترنيق
هذي مآثرنا العظام خذوا بها / ودعوا إدعاء الحاسد الصَعفوق
إني أودّعكم ودَاع مواصل / يرجو اللَحاق بكم بلا تعويق
وأطيق في طول المقام تحكُّماً / منكم ولست لبَيْنكم بمطيق
ومن العجائب في الزمان وأهله / بَلَه الفقيه وفطنة الزنديق
ذهبت لحيٍّ في فروق تزاحمت
ذهبت لحيٍّ في فروق تزاحمت / به الخلق حتى قلت ما أكثر الخلقا
ترى الناس أفواجاً إليه وإنما / إلى التلعات الزهر في درج ترقى
يضيء به ثغر الحضارة باسماً / بلامع نور علّم السحب البرقا
رأيت مبانيه وجُلت بطرقه / فما أحسن المبنى وما أوسع الطرقا
فكم فيه من صرح ترى لدهر متلعا / يمدّ إلى ادراك شرفته العنقا
قصور علت في الجوّ لم تلق بينهما / وبين النجوم الزهر في حسنها فرقا
هنالك للأرضين أفق بروجه / تضاحك أبراج السموات والأفقا
بروج ولكن شارقات شموسها / تدور بأفق يجمع الغرب والشرقا
بحيث ترى حمر الطرابيش خالطت / برانيط سوداً كالسلاحف أو ورقا
وتلقى الوجوه البيض حمراً خدودها / وتلقى العيون السود والأعين الزرقا
خدود جرى ماء الشبية فوقها / ففيه عقول الناظرين من الغرقى
محاسن كالازهار قد طلّها الهوى / وهبّ نسيم العشق من بينها طلقا
فمن ذات دلّ أعجزالشعر وصفها / وأن كان فيها الشعر ممتلئاً عشقا
ومن ذي دلال رنّح الحسن عطفه / إلى أن رجا من حسنه عطفه الرفقا
وكم مسرح فيه الحسان تلاعبت / تمثّل كيف الناس تسعد أو تشقى
حسان علت في الحسن خَلقاً وخِلقةً / وهل خلقة تعلو إذا سفلت خلقا
تمثّل ما قد مرّ منَا وما حلا / وما جلّ من أمر الحياة وما دقّا
فتلقى دروساً لو وعتها حياتنا / لبدّل كذب في سعادتها صدقا
إذا مثّلت شكوى الحزين بكت بها / عيون البلايا والزمان لها رقّا
وأن صوّرت حقّاً هوى كل باطل / على رأسه حتى تجدّل مندقّا
وماذا ترى فيه إذا زرت حانةً / ترى الأنس يشدو في فم يجهل النطقا
سكوتٌ على قرع الكؤوس مغرّدٌ / بلحن سرور يترك الهمّ منشقا
عليهم سحاب الاحتشام يظلّهم / متى هم أرادوا سحّ من قبل ودقا
أوانس قد نادمن كل غرانق / فمنهنّ من تسقى ومنهنّ من تسقى
فمن ذا يراهم ثم لم يك واغلاً / عليهم وأن أمسى يعد الفتى الأتقى
ألست بمعذور إذا أنا زرتهم / وساجلتهم شوقاً فقل ويحك الحقا
فقد لامني لما رآني بحيّهم / فتىً منه قحف الرأس ممتلئ حمقا
فقال أفي الحيّ الذي شاع فسقه / تجول أمل تمنع عمامتك الفسقا
فقلت أجل أن العمائم عندنا / لتمنع في لوثاتها الفسق والرزقا
ولكنّني ما جئت إلا توصّلاً / لذكى شقاءٍ في العراق به نشقى
شقاء تمطَى في العراق تمطّياً / وألفى جراناً لا يزحزح واستلقى
فإن العراق اليوم قد نشبت به / نيوب الدواهي فهي تعرقه عرقا
تمشّت به حتى أعادت سواده / بياضاً ومدت للبوار به ربقا
فلهفي على بغداد إذ قد أضاعها / بنوها فسحقاً للبنين بها سحقا
جُزوها عقوقاً وهي أمٌ كريمة / والأم أبناء الكريمة من عقّا
أدامت لها الأحداث مخضاً كأنها / قد اتخذتها الحادثات لها زقّا
سأبكي عليها كلّما جُلت سائحاً / وشاهدت في العمران مملكةً ترقى
وأندبها عند الأغاريد شارباً / من الدمع كأساً لا أريد لها مذقا
نجيّت بالسدّ بغداداً من الغرق
نجيّت بالسدّ بغداداً من الغرق / فعمّها الأمن بعد الخوف والفرق
قد قمت بالحزم فيها والياً فجرت / أمورها في نظام منك متّسِق
لقد نجحت نجاحاً لا يفوز به / من خالق الحزم إلا حازم الخلق
ويح الفرات فلو كانت زواخره / تدري بعزمك لم تطفح على الطرق
ولا غدت تجرف الأسداد قاذفةً / منها بسيل على الأنحاء مندفق
حيث الحويرة أمست منك طالبة / رتقاً لسدّ بطامي السيل منفتق
باتت تجيش بتيّار وبات لها / أهل العراقين في همٍّ وفي قلق
حتى إذا أيقنت أرض العراق بأن / تفنى من الظمء أو تفنى من الغرق
شمّرت عن همم تعلو النجوم وقد / أمسى الزمان إليها متلع العنق
فكدت تملأ فرغ الواديين بما / حشرت من طبق يأتيك عن طبق
لما خرجت وكان الخرق متّسعاً / والناس ما بين ذي شك ومتَثق
قالوا نحا شقّةً قصوى وما علموا / بأن عزمك يدني أبعد الشقق
فصدّق الله ظنّا فيك أحسنه / قومٌ وكذب ظنّ الجاهل الخرق
إذ جئت والسدّ تحت الغمر مكتسحٌ / والنهر يرغو بموج فيه مصطفق
وثلمة السدّ كالمهواة واسعة / يهوي بها السيل من فوق إلى العمق
سللت صارم رأيٍ قد أزلت به / ما كان في السيل من طيش ومن نزق
فما تموجّ ماء النهر من غضب / وإنما أخذته رعدة الفرق
ثبّتّ عزمك في أمر يذلّ به / عزم الحصيف لما يحوي من الزلق
تقضى النهار برأب الثأي مجتهداً / وتقطع اليل بالتدبير والأرق
حتى بنيت وكان النهر منفلقاً / سدّاً عليه رصيناً غير منفلق
أرسيته جبلاً قامت ذراه على / أصل مع الموج تحت الماء معتنق
فراحت الناس تمشي فوقه طرباً / والنهر ينساب بين الغيظ والحنق
وصار معكس فخر أنت مرجعه / كالنور يرجع معكوساً إلى الحدق
وقد ركزت به الرايات خافقة / ما بين طاقين مرفوعين في نسق
من كل أحمر قانٍ وسطه قمر / يتلوه نجم بلون أبيض يقق
فظلّ حاسدك المغبون منطوياً / على فؤاد بنار الجهل محترق
ودّ الفرات حياءً منك يومئذ / لو غار يسلك تحت الأرض في نفق
لما اقتدحت زناد الرأي مفتكراً / في الخطب ألهبت منه فحمة الغسق
فأدبر الهمّ وانشقّت غياهبه / كما قد انشقّ سجف الليل بالفلق
أن الأمور إذا استعصت نوافرها / أخذتهنّ من التدبير في وهق
وإن تصاممت الأيام عن طلب / أسمعتهنّ بصوت منك صهصلق
تنحلّ بالرأي منك المشكلات لنا / كالنور ينحلّ ألواناً من الشرق
وكلما زدت تفكيراً بمعضلة / زادت وضوحاً لنا حتى على الشفق
فالفكر منك كأبعاد الفضاء بلا / حدٍّ يسابق خطف البرق في الطلق
يحكي الأثير إذا أجرى تلاطمه / أبدي سواطع نور منه منبثق
لك الثناء علينا أن نخلّده / نقشاً على الصخر لا رقماً على الورق
تاللّه لو بلغت زهر النجوم يدي / من كل جرم بصدر الليل مؤتلق
رتبتها حيث كل الناس تقرؤها / سطراً بمدحك مكتوباً على الأفق
أقول لهم وقد جدّ الفراق
أقول لهم وقد جدّ الفراق / رويدكم فقد ضاق الخناق
رحلتهم بالبدور ومارحمتم / مشوقاً لا يبوخ له اشتياق
فقلبي فوق أرؤسكم مطار / ودمعي تحت أرجلكم مراق
أقال اللّه من قودٍ لحاظاً / دماء العاشقين بها تراق
وأبقي أعيناً للغيد سوداً / ولو نسيت بها البيض الرقاق
متى يصحو الفؤاد وقد أديرت / عليه من الهوى كأس دهاق
وليس الناس إلاّ من تصابي / وإلاّ من يشوق ومن يشاق
مررنا بالمنازل موحشاتٍ / لهوج الرامسات بها اختراق
كأن لم تُصبني فيها كعاب / ولم يضرب بساحتها رواق
فعجت على الطلول بها مكبّا / أسائلها وقد ذهب الرفاق
كأني بين أطلال المغاني / أسير عضّ ساعده الوثاق
حديد بارد في اللوم قلبي / فليس له إذا طرق انطراق