القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : مَعرُوف الرُّصافِيّ الكل
المجموع : 43
قرأت وما غير الطبيعة من سفر
قرأت وما غير الطبيعة من سفر / صحائف نحوي كل فن من الشعر
أرى غرر الأشعار تبدو نضيدوً / على صفحات الكون سطراً على سطر
وما حادثات الدهر إلاّ قصائد / يفوه بها للسامعين فم الدهر
وما المرء إلا بيت شعر عروضه / مصائب لكن ضربه حفرة القبر
تنظّمنا الأيام شعراً وإنّما / ترّد المنايا ما نظمن إلى النثر
فمّنا طويل مسهب بحر عمره / ومنّا قصير البحر مختصر العمر
وهذا مديح صيغ من أطيب الثنا / وذاك هجاء صيغ من منطق هجر
وربّ ينام في المقابر زرتهم / بمنهل دمع لا ينهنه بالزجر
وقفت على الأجداث وقفة عاشق / على الدار دارس الطلل القفر
فما سال فيض الدمع حتى قرنته / إلى زفرات قد تصاعدن من صدري
أسكان بطن الأرض هلاّ ذكرتم / عهوداً مضت منكم وأنتم على الظهر
رضيتم بأكفان البلى حللاً لكم / وكنتم أولي الديباج والحلل الحمر
وقد كنتم تؤذي الحشايا جنوبكم / فكيف رقدتم والجنوب على العَفر
ألا يا قبوراً زرتها غير عارف / بها ساكن الصحراء من ساكن القصر
لقد حار فكري في ذويك وإنه / ليختار في مثوى ذويك أو لو الفكر
فقلت وللأجداث كفي مشيرة / ألا أن هذا الشعر من أفجع الشعر
وليل عدافىّ الجناحين بته / أسامر في ظلمائه واقع النسر
وأقلع من سفن الخيال مراسياً / فنجري من الظلماء في لجج خضر
أرى القية الزرقاء فوقي كأنها / رواق من الديباج رصع بالدر
ولولا خروق في الدجى من نجومه / قبضت على الظلماء بالأنمل العشر
خليليّ ما أبهى وأبهج في الرؤى / نجوماً بأجواز الدجى لم تزل تسرى
إذا ما نجوم الغرب ليلا تغورت / بدت أنجم في الشرق أخرى على الأثر
تجوّلت من حسن الكواكب في الدجى / وقبح ظلام الليل في العرف والنكر
إلى أن رأيت الليل ولّت جنوده / على الدهم يقفو أثرها الصبح بالشقر
فيالك من ليل قرأت بوجهة / نظيم إليها في نثر أنجمه الزهر
وقلت وطرفي شاخص لنجومه / ألا أن هذا الشعر من أحسن الشعر
ويوم به استيقظت من هجمة الكرى / وقد قدّ درع الليل صمصامةُ الفجر
فأطربني والديك مشجٍ صياحه / ترنّم عصفور يزقزق في وكر
ومما ازدهى نفسي وزاد ارتياحها / هبوب نسيم سجسجٍ طيب النشر
فقمت وقام الناس كل لشأنه / كأنا حجيج البيت في ساعة النَّفر
وقد طلعت شمس النهار كأنّها / مليك من الأضواء في عسكر مجر
بدت من وراء الأفق ترفل للعلا / رويداً رويداً في غلائلها الحُمر
غدت ترسل الأنوار حتّى كأنّها / تسيل على وجه الثرى ذائب التبر
إلى أن جلت في نورها رونق الضحا / صقيلاً وفي بحر الفضاء غدت تجري
وأهدت حياةً في الشعاع جديدةً / إلى حيوان الأرض والنبت والزهر
فقلت مشيراً نحوها بحفاوة / إلا أن هذا الشعر من أبدع الشعر
وبيضة خدر أن دعت نازح الهوى / أجاب ألا لّبيك يا بيضة الخدر
من اللاء يملكن القلوب بكلمة / ويحيين ميت الوجد بالنظر الثزر
تهادت تريني البدر محدقةً بها / أوانس إحداق الكواكب بالبدر
فللّه ما قد هجِنَ لي من صبابة / ألفت بها طيّ الضلوع على الجمر
تصافح إحداهّن في المشي تربها / فنحر إلى نحر وخصر إلى خصر
مررنَ وقد أقصرت خطوي تأدّباً / وأجمعت أمري في محافظة الصبر
فطأطأنّ للتسليم منهنَ أرؤساً / عليها أكاليل ضفرن من الشعر
فألقيت كفّي فوق صدري مسلمّاً / وأطرقت نحو الأرض منحني الظهر
وأرسلت قلبي خلفهنّ مشيعاً / فراح ولم يرجع إلى حيث لا أدري
وقلت وكفي نحوهنّ مشيرة / ألا أن هذا الشعر من أجمل الشعر
ومادة نسج الدمقس غطاؤها / بمجلس شبان هم أنجم العصر
رقى من أعاليها الفنغراف منبراً / محاطاً بأصحاب غطارفة غر
وفي وسط النادي سراج منور / فتحسبه بدراً وهم هالة البدر
فراح بإذن العلم ينطق مقولاً / عرفنا به أن البيان من السحر
فطوراً خطيباً يحزن القلب وعظه / وطوراً يسرّ السمع بالعزف والزمر
يفوه فصيحاً باللغى وهو أبكم / ويسمع ألحان الغنا وهو ذو وقر
أمين أبي التدليس في القول حاكياً / فتسمعه يروي الحديث كما يجري
تراه إذا لقنته القول حافظاً / تمرّ الليالي وهو منه على ذكر
فيالك من صنع به كل عاقل / أقر لآديسون بالفضل والفخر
فقلت وقد تمت شقاشق هدره / ألا أن هذا الشعر من أعجب الشعر
وأصيد مأثور المكارم في الورى / يريك إذا يلقاك وجه فتى حر
يروح ويغدو في طيالسة الغنى / ويقضي حقوق المجد من ماله الوفر
تخوّنه ريب الزمان فاولعت / بإخلاقها ديباجتيه يد الفقر
فأصبح في طرق التصعلك حائراً / يجول من الاملاق في سمل طمر
كأن لم يرح في موكب العزّ راكباً / عتاق المذاكي مالك النهي والأمر
ولم تزدحم صيد الرجال ببابه / ولم يغمر العافين بالنائل الغمر
فظل كئيب النفس ينظر للغنى / بعين مُقِلٍّ كان قس عيشة المثري
إلى أن قضى في علة العُدم نحبه / فجّهزه من مالهم طالبو الأجر
فرحت ولم يحفل بتشييع نعشه / أشيعه في حامليه إلى القبر
وقلت وأيدي الناس تحثوا ترابه / ألا أن هذا الشعر من أحزن الشعر
ونائحة تبكي الغداة وحيدها / بشجو وقد نالته ظلماً يد القهر
عزاه إلى إحدى الجنايات حاكم / عليه قضى بطلاً بها وهو لا يدري
فويل له من حاكم صُبَ قلبه / من الجور مطبوعاً على قالب الغدر
من الروم أما وجهه فمشوّه / وقاح وأما قلبه فمن الصخر
أضرّ بعفّ الذيل حتى أمضّه / ولم يلتفت منه إلى واضح الغدر
تخطّفه في مخلب الجور غيلةً / فزجّ به من مظلم السجن في القمر
تنوء به الأقياد أن رام نهضةً / فيشكو الأذى والدمع من عينه يجري
تناديه والسجان يكثر زجرها / عجوز له من خلف عالية الجدُر
بنيّ أظنّ السجن مسّك ضّره / بنيّ بنفسي حلّ ما بك من ضرّ
بنيّ استعن بالصبر ما أنت جانياً / وهل يخذل الله البريء من الوزر
فجئت أعاطيها العزاء وادمعي / كأدمعها تنهلّ منّي على النحر
وقلت وقد جاشت غوارب عبرتي / ألا أن هذا الشعر من اقتل الشعر
أبعد الدهر في الفضاء مكرّه
أبعد الدهر في الفضاء مكرّه / عالقاً في مكرّه بالمجرةّ
إن أم النجوم بنت زمانٍ / لم تزل حادثاته مستمرةّ
في فضاء لو سافر البرق فيه / ألف قرن لما أتى مستقرةّ
ولو الشمس ضوعفت ألف ضعف / لم تكن في أثيره غير ذرةّ
ولو الفكر غاص فيه مغذّاً / لم يكن بالغاً يدّ الدهر قعره
سعة تحسب المجرة فيها / حَلْقةً ألقيت بصحراء قفره
يقف الفكر دونها مكوئداً / مقشعرّاً وتأخذ العقل حيره
لو أضفنا إلى الفضاء فضاءُ / مثله لم يزد ولا قيد شعره
إن تكن هذه المجرة نهراً / مستفيضاً فشمسنا منه قطره
أو تكن أرضنا من الشمس جزءاً / فهي سقط من جمرة مستحرّه
إن تسائل عنّا فنحن هباءٌ / ذُرّ من صنعة القوى بِمِذَرّه
صادفتنا أشعة من حياة / فظهرنا وهل لأول مرّة
كل من جاوز الأشعة منّا / فهو هاوٍ في ظلمة مكفهرّه
فعلام الحقود يضمر حقداً / وعلام الجهول يظهر كبره
خبرٌ في الأرض أوحته السما
خبرٌ في الأرض أوحته السما / لأولي العلم برسل الفكر
أنّ هذي الأرض كانت أولا / ما ترى بحراً بها أو جبلا
أو سهولاً أو رُباً أو سُبُلا / أو رياضا زهرها الغضّ نما
من سحاب جادها بالمطر /
إنما كانت كتلك الأخوات / من نجوم سائرات دائرات
حول شمس هي إحدى النيرات / كُنّ من قبلُ عليها سدما
كتلةً واحدة في النظر /
ثم بعدُ انفصلت من ذا السديم / قطعٌ منها صغير وجسيم
ضمن أفلاك بها الدورَ تدُيم / فاستقرّ الكلّ فيها أنجما
حول غير الشمس لم تستدر /
أولاً نبتون منه انفصلا / ثم اُورانِسُ يهدي زُحَلا
ثم للمشتري مريخٌ تلا / ثم هذي الأرض فالزهرة ما
بعدها غير أخيها الأشهر /
وأخو الزهرة بالشمس / اقتدى ولها أقربَ سيّارٍ غدا
وهي سارت خلفهَ طول المدى / فأمام الأرض ذان انتظما
خلفها المريّخ ثم المشتري /
أرضنا كانت لظىً مشتعله / مذ من الشمس غدت منفصله
لم تزل في دورها منتقله / كتلةً فيها اللهيب احتدما
وهي ترمي في الفضا بالشرر /
كان فيح النار منها مُصعِدا / وهجاً في الجّو عنها مبعدا
حيث لا يمكن أن ينعقد / فوقها منه بخار ديما
هاطلاتِ بالحيا المنهمر /
بقيت حيناً وهذا أمرها / وهي بالإشعاع يخبو حرّها
وانثنى يبرد من ذا ظهرها / فاكتست قشراً يحاكي الأدما
واستمرت بطنها في سعر /
ثم قد صار على مرّ الزمان / قشرها يغلظ آناً بعد آن
بيد أن النار عند الهيجان / قد أعادت قشرها منخرما
بصدوع مُدهشات البصر /
شخصت أطراف هاتيك الصدوع / بجبال شمخت منها الفروع
ولها في العين أشكال تروع / تقذف الأفواه منها حمما
صار منهنّ ركام الحجر /
حصلت من قذف هاتيك المواد / حيث يجمدن جبال ووهاد
وركاز وصخور وجماد / بعضها دقّ وبعضٌ عظما
وهو صلب الجسم صعب المكسر /
وهناك انعقدت فيها الغيوم / من بخار كان في الجوّ يعوم
رّده البرد مياهاً في التخوم / فجرى السيل عليها مفعما
كلّ غور فوقها منحدر /
عمّها السيل فغطى حين سال / سطحها مجترفأ منها الرمال
فطما الماء ولكن الجبال / شخصت في الماء لما أن طما
وعلت كالسفن فوق الأبحر /
غمر الماء بها ما غمرا / ثم خلّى بعضها منحسرا
محدثاً في السطح منها جزرا / أنزل الماء بها ما حطما
من أطفال وحتات المدر /
بسيول الماء كم فيها ارتكم / من رمال رسبت فيها أكم
ولكم خدّت أخاديد وكم / قد بنت من طبقات علما
نضدت فيها صفيح المرمر /
ثم صارت وهي من قبل موات / تصلح الأقطار منها للحياة
فانبرت تنبت في البدء النبات / ثم أبدت من قواها النسما
وارتقت فيها لنوع البشر /
فغدت إذ ذاك تزهو بالرياض / وبها الأدواح تنمو في الغياض
ثم ترميها أكفّ الانقراض / بانحطام حيث تُمسي فحما
حجرياً بمرور الأعصر /
من حطام الخلق في الأرض هضاب / كوَّنتهن أكفّ الانقلاب
ما تراب الأرض والله تراب / إنما ذاك حطام قدما
من جسوم باليات الكسر /
كم على الأرض رفاتٌ باليات / من جسوم طحنتها الدائرات
فاحتفر في الأرض تلك الطبقات / تجد الانقاض فيها رمما
هي للأحياء أو للشجر /
كل وجه الأرض للخلق قبور / خفّف الوطء على تلك الصدور
والعيون النجلِ منهم والثغور / إنما أنت ستفنى مثلما
قد فَنُوا والموت دامي الظفُر /
ظلت الأرض على كرّ الدهور / تبحر الأجبل فيها والبحور
فوقها تجبِل والماء يغور / على ذاك استدلّ الحكما
بجبال السمك المستحجر /
علماء الأرض لم تبرح ترى / حَيَوان البرّ لما دثرا
منه في الأبحر أبقى أثرا / وكذا في البرّ ألفى العلما
أثراً من حيوان الأبحر /
كل ما في الأرض من قفر وبيد / وجبال شهقت فوق الصعيد
عن زهاء الربع منها لا يزيد / وسوى ذلك منها انكتما
تحت ماء البحر لم ينَحسر /
في صعيد الأبحر المنغمس / مثلُ ما يوجد فوق اليبس
من جبال ناتئات الأرؤس / ووهادٍ تستزل القدما
ورُباً مختلفات القدر /
ما نرى اليوم من الماء الحميم / والبراكين التي تحكي الجحيم
ومن الزلزال ذي الهول العظيم / دلّ أن الأرض فيما قدما
ذات جرم ذائب مستعر /
كل ما كان بحال السيلان / فهو يغدو كرةً بالدوران
وكذاك الأرض في ماضي الزمان / كروياً قد غدا ملتئما
جِرمها من سيلان العنصر /
ثم أن الأرض من قبل الجمود / وَلَدت منها وليست بالولود
قمراً دار عليها بسعود / وجَلا في الليل عنها الظلما
فهي بنت الشمس أم القمر /
لعمرك ما كل انكسار له جبر
لعمرك ما كل انكسار له جبر / ولا كل سّر يستطاع به الجهر
لقد ضربت كفّ الحياة على الحِجا / ستاراً فعِلم القوم في كنهها نزر
فقمنا جميعاً من وراء ستارها / نقول بشوق ما وراءك يا ستر
حكت سرحة فنواء نُبصر فرعها / ولم ندرِ منها ما الأنابيش والجذر
وقد قال بعض القوم إن حياتنا / كليلٍ وإن الفجر مطلعه القبر
وروح الفتى بعد الردى إن يكن لها / بقاء وحسّ فالحياة هي الخُسر
وإن رقيت نحو السماء فحبّذا / إذا أصبحت مأوىً لها الأنجم الزهر
وأعجب شأن في الحياة شعورنا / وأعجب شأن في الشعور هو الحجر
وللنفس في أفق الشعور مخايل / إذا برقت فالفكر في برقها قطر
وما كل مشعور به من شؤونها / قدير على إيضاحه المنطق الحر
ففي النفس ما أعيا العبارة كشفُه / وقصّر عن تبيانه النظم والنثر
ومن خاطرات النفس ما لم يقم به / بيان ولم يَنهض بأعبائه الشعر
ويا ربّ فكرٍ حاك في صدر ناطق / فضاق من النطق الفسيح به الصدر
ويا ربّ فكر دق حتى تخاوصت / إليه من الألفاظ أعينها الخزر
أرى اللفظ معدوداً فكيف أسومه / كفاية معنّى فاته العدّ والحصر
وافق المعاني في التصور واسع / يتيه إذا ما طار في جوّه الفكر
ولولا قصور في اللغى عن مرامنا / لما كان في قول المجاز لنا عذر
ولست أخُص الشعر بالكَلمِ التي / تُنظّم أبياتاً كما ينظم الدرّ
وذاك لأن الشعر أوسع من لغى / يكون على فعل اللسان لها قصر
وما الشعر إلا كلّ ما رنّح الفتى / كما رنّحت أعطافَ شاربها الخمر
وحرّك فيه ساكنَ الوجد فاغتدى / مهيجاً كما يستنّ في المرح المُهر
فمن نفثات الشعر سجع حمامة / على أَيْكة يُشجي المشوق لها هدر
ومن شذرات الشعر حوم فراشة / على الزهر في روض به ابتسم الزهر
ومن ضحكات الشعر دمعة عاشق / بها قد شكا للوصل ما فعل الهجر
ومن لمعات الشعر نظرة غادة / بنجلاء تسبي القلب في طرَفْها فتر
ومن جمرات الشعر رنّة ثاكل / مفجّعة أودى بواحدها الدهر
ومن نفحات الشعر ترجيع مطرب / تعاور مَجرى صوته الخفض والنبر
وإن من الشعر ائتلاق كواكب / بجنح الدجى باتت يضاحكها البدر
وإن لريحانيِّنا شاعرّيةً / من الشعر فيها أن يقال هي الشعر
وما الشعر إلا الروض أما أميننا / فريحانه والخلق منه هو النشر
وإن لم يكن شعري من الشعر لم يكن / لعمرُ النهى للشعر عند النهى قدر
حياة الورى جسر مديد وإنما
حياة الورى جسر مديد وإنما / عليه الورى يمشون مشية عابر
وللموت كسر ليس يمكن جبره / بلفّ ضمادِ أو بشدّ الجبائر
وقتل الردى قتل جبار فلم تكن / لتدُرك فيه ثأرها نفس ثائر
فإنّ منايانا سهام عوائر / وكيف اثئار في السهام العوائر
أرى الناس طّراً في الردى غير أنهم / ثَووا بين مقبورٍ هناك وقابر
وما الموت إلاّ هوّةٌ أدلج الورى / إليها بمسودّ الدُّجنُة كافر
فهم أبداً يسّاقطون لقمرها / تساقط عميٍ في عماق الحفائر
أرى كل حيّ في الحياة ممُثلاً / رواية رؤيا من كتاب المقادر
رواية رؤيا قد جرت في ديارنا / فجائعها حتى انتهت في المقابر
لقد قدّم الموت الحياة أمامه / نذيراً ومن يُنذر فليس بغادر
فلا عجبْ أنا نرى كل ساعةٍ / أكفّ المنايا داميات الأظافر
تفكّرت في كنه الحياة فلم أكن
تفكّرت في كنه الحياة فلم أكن / لأزداد إلاّ حيرةً في تفكري
وكم بتّ فيها أخبط الليل رامياً / إليها بلحظ الطارق المتنوّر
فلا أهتدي من أمرها لمقدّم / ولا أنتهى من أمرها لمؤخّر
على أنني مهما تقدّمت نحوها / رجعت رجوع الناكص المتقهقر
وهبها كما قد قيل أحلام نائم / أما في بني الدنيا لها من معبّر
تأمّلت آثار الحياة فلم يلح / لعينيّ منها وجه ذاك المؤثّر
سوى أنني آنست شعلة قابس / توقّد في مستن هو جاء صرصر
فبينا سناها يبهج العين لامعاً / أتته كقطع الليل هبوة معصر
فما هي إلا خبوةٌ ترتمي بها / إلى ظلمات صبحها غير مسفر
كذلك محيي الدين إذ غاله الردى / فأطفأ منه نيًرا أيّ نيّر
عليك العفا بيروت هل لك بعدما / قضى فيك محيي الدين من متصبّر
فتىً كان ركناً فيك للعلم والحجا / وغرّ القوافي والكلام المحبّر
فقدنا به صلت الجبين مهذّباً / كريم سجايا النفس عفّ المؤزّز
لقد عاش شيخاً في العلوم مقدّماً / فما ضرّه أن مات غير معمّر
وما مات من أبقى له طيّب الثنا / لدى الناس من بادٍ ومن متحضر
نعاه لي الناعي فكان كأنه / لدى نعيه أهوى إليّ بخنجر
ولو لم يكن شدّي الحيازيم دونه / خررت كما خرّ الصريع لمنخر
خليليّ عوجا بي على قبر ماجد / بيروت يحوي كل فضل ومفخر
قفا نحتقر دمع العيون تجلّةً / لمن فيه من ذاك الجليل الموقّر
ونتدب في ملحوده المجد والعلا / ونسقيه غيث الدمع من كل محجر
عسانا بذا نقضي له بعض حقّه / وإن جلّ أن يقضى بدمع محقر
مضى عبد وّهاب الهبات لربّه
مضى عبد وّهاب الهبات لربّه / فللهّ من ماض إلى ربّه حرّ
مضى وهو محمود الخصال مخلّفاً / له عندنا آثار أخلاقه الغرّ
مضى وله في كل قلب مكانةٌ / تديم له ذكراه بالحمد والشكر
كذلك كّنا معه قبل وفاته / نبجّله في السرّ منّا وفي الجهر
وما زادنا إلاّ أسىَ بفراقه / فأمسى الأسى فينا له مالئ الصدر
إذا ما ذكرناه تفوح خلاله / فننشق من تذكاره أطيب النشر
ونلجأ عند الأدّكار إلى البِكا / ونفزع من بعد البكاء إلى الصبر
أخا سالم ما زلت عندي سالماً / وإن كان منك الشخص غيّب في القبر
تمثّلك الذكرى لعينَّى جالساً / تحدثّنا عّما أهمّ من الأمر
وتمزح طوراً ثم تنصاع ذاهباً / إلى الجدّ تغري بالحقيقة من تغري
فنغضب أحياناً ونطرب تارة / وأنت على الحالين مبتسم الثغر
وأنشدك الشعر الحقيقي تارة / فتطرب من ذكر الحقيقة في شعري
طواك الردى عنّي وشخصك لم يزل / بذكراك بعد الطيّ متصل النشر
فما أنت ميتاً إذ خيالك سانح / مدى العمر نصب العين في سانح الفكر
ولا عجب إن الحياة خيالة / فلا فرق عندي بين شخصك والذكر
سأنثر دمعي فيك نثر لآلىءٍ / وأنظم شعري في رثائك من درّ
لعلّي بذا أقضي إخاءك حقّه / وإن كان لاُ يقضى بنظم ولا نثر
شبّ الأسى في قلوب الشعب مستعرا
شبّ الأسى في قلوب الشعب مستعرا / يوم ابن سعدون عبد المحسن انتحرا
يوم به كل عين غير مبصرة / إذ كان إنسانها في الدمع منغمرا
يوم به البرق رجّ الرافدين أسىّ / غداة أدّى إلى أقصاهما الخبرا
فلو ترى القوم قاموا في ضفافهما / واستنزفوا من شؤون الدمع ما غزرا
خلت العراقين خدّي ثاكل وهما / سطران للدمع في الخدين قد سطرا
لله يوم فقدنا فيه مضطلعاً / بالأمر يمعن في تدبيره النظرا
يوم به فاض فيض الشعر منتظماً / كما به فاض فيض الدمع منتثرا
فبالدموع بكت في يومه شيعٌ / وبالقوافي بكت في يومه الشعرا
فالشعر قد قرّط الأسماع مندفقاً / والدمع قد قرّح الأجفان منحدرا
والدمع والشعر ممن قد بكى بهما / كلاهما حكيا في يومه الدررا
كلاهما انسجما حتى كأنهما / تسابقا في انسجام عندما انهمرا
فالشعر من هذه الأكباد بلّ صدى / والدمع من هذه الأوطان بلّ ثرى
أبو علي قويّ في عزائمه / لو رام بالعزم دحر الجيش لا ندحرا
أخلاقه كالخضمّ الرهو تحسبه / سهلا ولكنه صعب إذا زخرا
إذا أتاه شكيّ القوم قابله / بكا لنسيم جرى في روضةٍ عطرا
ويهزم الجمع مجثّاً مكايده / بكا لعواصف هبّت تقلع الشجرا
لما رأى الوطن المحبوب محتملاً / من الأجانب ما قد عمّه ضررا
سعى لانقاذه بالرأي مجتهداً / بالعزم متشّحاً بالحزم مؤتزرا
كم بات سهران في تحقيق منيته / وفي الأمانيّ ما يستوجب السهرا
وكم سعى راجياً تخليص موطنه / والشعب كان لما يرجوه منتظرا
حتى إذا لم يجد للأمر متسعاً / ولم يجد عن بلوغ العزّ مصطبرا
أرمى مسدسه في صدره بيدٍ / لا تعرف الضعف في المرمى ولا الخورا
فيا لها رميةً حمراء داميةً / قد مات منها ولكن بعدها نشرا
قد كان يحيا حياةً غير خالدة / واليوم يحيا حياةً تملأ العصرا
لو نقتري صحف التأريخ نسألها / عمّن يساويه في الدهر الذي غبرا
لما رأينا كبيراً مات ميتته / ولا وجدنا وزيراً مثله انتحرا
ما كان أشرفها من ميتة تركت / في نفس كل فتىّ من غبطة أثرا
كنا نقاسي ضلالاً قبلها فإذا / بها الطريق إلى استقلالنا ظهرا
يا أهل لندن ما أرضت سياستكم / أهل العراقين لا بدواً ولا حضرا
إن انتدابكم في قلب موطننا / جرح نداويه لكن لم يزل غبرا
وللمشورة في أوطاننا شبحٌ / تخيف صورته الأشباح والصورا
يجول في طرقات البغي محتقباً / للغشّ خلف ستار النصح مستترا
لم يكفه أنه للحكم مغتصب / حتى غدا يقتل الآراء والفكرا
إذا رأى نهضة للمجد أقعدها / وإن رأى فتنة مشبوبةً نعرا
فكم ضغائن بين القوم أوجدها / وكم بذور من التفريق قد بذرا
في كل يوم لنا معكم معاهدة / نزداد منها على أوطاننا خطرا
جفّت بها سرحة استقلالنا عطشاً / حتى إذا ما مسنا عودها انكسرا
تقسو قلوبكم لمّا نفاوضكم / كأننا نحن منكم تنقر الحجرا
أما مواعيدكم فهي التي انكشفت / عن مين من مان أو عن غدر من غدرا
لا تفخروا أن كسرتم غرب شوكتنا / لا فخر للصقر في أن يقتل النغرا
لا تستهينوا بنا من ضعف قوتنا / فكم ذبابة غاب أزعجت نمرا
هذي البلاد اغرسوا فيها مودتّكم / ثم اقطفوا من جناها ودّنا ثمر
نكن لكم حلف صدق في سياستكم / نمشي إلى الموت من جرّائكم زمرا
لسنا بقوم إذا ما عاهدوا نكثوا / ولو جرى الدم حتى أشبه النهرا
ولا نحالف أحلافاً فنخذ لهم / ولو لبسنا المنايا دونهم ازرا
فنحن أوفى الورى بالعهد شنشنةً / ونحن أرفعهم في المكرمات ذرا
سعد وسعدون محمود مقامها / هذا بمصر وهذا ها هنا اشتهرا
كلاهما قد فدى بالنفس أمته / لكنّ سعدون لا سعداً قد انتحرا
فكان بينهما بون وإن غديا / في الشرق أعظم مذكورين ما ذكرا
فإن سعدون دانى الشمس منزلةً / وإن سعدا بمصر قارن القمرا
هذا هنا قد سعى للمجد مبتدراً / وذا هناك سعى للمجد مقتدرا
يا أهل مصر وأنتم مثلنا عرب / ما قلتم عندما اعلمتم الخبرا
إن كان قد أرخص الأموال سعدكم / فإن سعدوننا قد أرخص العمر
نَم أيها البطل الفادي بمهجته / أوطانه نومة تستيقظ العبرا
نم نومة تجعل التأريخ محتفياً / بها لنضهة أهل الشرق مدّكرا
فلْيعتبر بك هذا الشعب مفتدياً / إن كان شعبك بعد اليوم معتبرا
فسوف تحمدك الأوطان شاكرةً / وسوف يذكرك التأريخ مفتخرا
نم مستريحاً فإن الشعب مرتقب / ماذا ستفعله من بعدك الوزرا
أيتركون الذي قد كنت تطلبه / أم هم سيقضون من مطلوبك الوطرا
فالشعب منهم مريد ما أردت له / وليس يقبل عذراً ممّن اعتذرا
يا مَن له ميتة بكر معظّمة / لاغروَ أن قلت فيك الشعر مبتكراً
للجعفرين شهادة الأبرار
للجعفرين شهادة الأبرار / للعسكريّ وجعفر الطّيار
هذا قضى بيد اللئام مضرّجاً / بدم وذاك بأنصل الكفّار
هذا لموطنه وذاك لربّه / وقفا أجلّ مواقف الأبرار
وقفا بوجه الظلم وقفة وازعٍ / وكذا تكون مواقف الأحرار
للحقّ والشرف المخلّد في الدنى / قاما قيام المنجد المغيار
قضيا كيومهما علاً وبداعة / متجلّلَين بعزّة وفخار
زُقا إلى حور الجنان لأجل ذا / لبسا وشاحاً من دم موّار
لم يضحكا مستهزئين من الردى / إلاّ بثغر الصارم البتار
لله درّهما ودرّ رَداهما / بلغا الحياة به مدى الأعصار
يبكي العراق لفقد سائس حكمه / شجواً وقائد جيشه الجرّار
سل عن معاركه طرابلس التي / قد كان فيها شعلة من نار
وسل الشآم وما يليها كم بها / قد جال جولة فارسٍ مغوار
وسل العروبة عن مفناعيه لها / كم خففّت عنها من الأوزار
تلقاه في النادي بشوشاً ضاحكاً / وتراه يوم الروع كالتيّار
يزهو محّياه الوضيء كأنه / قمر يشع إليك بالأنوار
يبكي بكاء المتّقين تضرعاً / طوراً ويضحك ضحكة الفجار
وتراه يعمل في المقرّ معبساً / ويهشّ مبتسماً إلى الزّوار
وتراه بين مجالسيه ممازحاً / وتراه مصطخباً بيوم شجار
مثلَ الهزبر تراه يوم كريهة / وتراه يوم الأنس مثل هزار
هذا هو البطل الذي فجعت به / صيد البلاد وسادة الأمصار
جلّت مناقبهِ فسوف بذكرها / أبداً تسير جوائب الأخبار
لله يوم ما ذكرت قتيله / إلا بكيت بمقلة مدرار
ويح العراق فيوم مقتل جعفر / فجع العراق بعزّة الأخيار
قتلوه رمياً بالرصاص بصدره / فهوى لمصرعه بصدر نهار
ساموه خسفاً فاستجار بموته / كي لا تشان حياته بالعار
أنّي أفي ببكائه ورثائه / مهما نظمت قصائد الأشعار
فالشعر ليس يفي بذا ولو أنه / شعر الرضّي الفحل أو مهيار
الشعر بعد مصابه بكبيره
الشعر بعد مصابه بكبيره / في مصر جلّ مصابه بأميره
بيناه يبكي حافظاً بشهيقه / إذ قام يبكي أحمداً بزفيره
لم يقض بعض حداده لنصيره / حتى أحدّ أسىً لفقد مجيره
ما إن خبت في الأفق شعلة ناره / حتى انطوت في الجوّ لمعة نوره
بالأمس ظلّ مرزأً بمبينه / واليوم بات مفجّعاً بمنيره
أخذت فرزدقه المنون وضاعفت / جلّى مصيبته بأخذ جريره
رزآن ملتهبان قد نضحتهما / عين العلا من دمعها بغزيره
فالشعر بعدهما استطال بكاؤه / وتموّجت بالحزن كل بحوره
وهزاره ترك الصداح وليثه / أمنت أعاديه سماع زئيره
يا نيّراً فجع القريض بموته / فبكته عين وزينة وكسيره
وخلت سماء الشعر بعد أفوله / من مشرقات شموشه وبدوره
ومؤمّراً لم تنتقض بوفاته / في الشعر بيعته على تأميره
إذ لن يقوم نظيره من بعده / هيهات أن تأتي الدنى بنظيره
لك في الخلود مكانة ما نالها / فرعون في ديماسه وحفيره
إن الدفين مضمّخاً بحنوطه / دون الدفين محنّطاً بشعوره
إن المتوّج فوق عرش ذكائه / يعلو المتوجّ فوق عرش سريره
ما مات من تركت لنا أقلامه / صوراً خوالد من بنات ضميره
صوراً تمثّل ذاته وصفاته / حتى يقمن لنا مقام نشوره
فكأنه وهو الدفين بقبره / حيّ يعيش بحزنه وسروره
وكأنه في القوم ساعة حفلهم / متكلّم بنظيمه ونثيره
لأبي علي من قريحة شعره / وحي أتى من جبرئيل شعوره
كم قد رمى الغيب الخفي فؤاده / بذكائه فأصاب كشف ستوره
وتصوّر المعنى الدقيق فردّه / كالصبح منفلقاً أوان ظهوره
يأتيك بالمعنى الجميل قد اكتسى / من وشي سندس لفظه وحريره
فالشعر قد دكّت جبال فنونه / إذ موت شوقي كان نفخة صوره
يا راجلاً ترك القوافي بعده / محتاجة المحيا إلى تفكيره
لهفي على ذيّالك القلم الذي / يتطرب الأرواح لحن صريره
الشعر كنت أميرة وسميرة / فمن المسامر بعد فقد سميرة
حّررته من رقّ كل تصنّعٍ / فبدت فنون الحسن في تحريره
سخّرت من أوتاره ما لم يكن / ليطيع غيرك قطّ في تسخيره
ولكم شدوت بنغمة من بمّه / ولكم صدحت بنغمة من زيره
تتمايل الأبدان في إنشاده / طرباً وليس يملّ في تكريره
يا أهل مصر عزاءكم فمصابكم / أمر قضاه الله في تقديره
الشعر قد ثلّت بمصر عروشه / بوفاة سيده وموت أميره
علمان من أعلامه كانا به / يتنازعان السبق في تحبيره
لكليهما الهرمان قد خشعا أسىً / والنيل مدّ أنينه بخريره
بكى الفضل لما أن قضى نحبه جبر
بكى الفضل لما أن قضى نحبه جبر / وليس لكسر الموت في طبّنا جبر
طوى الموت من جبر بن ضومط فاضلا / لغرّ المساعي كان في عيشه نشر
مضى بعدما أمضى حياةً سعيدة / تبسم فيها العلم والفضل والفخر
وخَلف آثاراً خوالد بعده / يطيب له مدّ الزمان بها ذكر
على اللغة الفصحى أياديه جمّةٌ / وآثاره في نشر آدابها غر
وما كان يبدي الرأي فيها مقِلّداً / ولكن له الإبداع والفكرة البكر
وما كان في استقرائه العلم جامداً / ولكنه في العلم كان له فكر
يشقّ حجاب المشكلات برأيه / كما شقّ بردّ الليل مذ طلع الفجر
ومن شك فلينظر بكلّ مدينة / تلاميذه من بعده فهم كثر
ليبصر منهم من حجاه مثقّفٌ / ومن لفظه درّ ومن علمه بحر
رزئناه في كلّية العلم هادياً / يضيء به للعلم في أفقها بدر
سيبكيه في كلية العلم منبر / ويرثيه من أبنائها النظم والنثر
فواجعنا في ذي الحياة كثيرةٌ / وأفجعها أن يفقد العالم الحبر
ألا إنما هذي الحياة رواية / يمثلها في كل يوم لنا الدهر
ولو لم تكن للفاجعات فصولها / ممثّلةً ما كان آخرَها القبر
كتبت لنفسي عهد تحريرها شعرا
كتبت لنفسي عهد تحريرها شعرا / وأشهدت فيما قد كتبت الدهرا
ومن بعد اتمامي كتابة عهدها / جعلت الثريا فوق عنوانه طُغرى
وعلّقته كي لا تَناوّلَه يدٌ / بمنبَعَث الأنوار من ذروة الشعرى
لذاك جعلت الحق نصب مقاصدي / وصيّرت سرّ الرأي في أمره جهرا
وجرّدت شعري من ثياب ريائه / فلم أكْسُه إلا معانَيه الغُرّا
وأرسلته نظماً يروق انسجامه / فيحسبه المصغي لانشاده نثرا
فجاء مضيئاً ليله كنهاره / وإن كان بعض القوم يزعُمُه كفرا
اضّمنه معنى الحقيقة عارياً / فيحسّبه جُهالها منطقاً هُجرا
ويحمله الغاوي على غير وجهه / فيُوسعني شتماً وينظرني شزرا
رويدك أن الكفر ما أنت قائل / وأن صريح العُرف ما خِلتًه نُكرا
هل الكفر إلا أن ترى الحق ظاهراً / فتضرب للإنظار من دونه سترا
وأن تُبصر الأشياء بيضاً نواصعاً / فتُظهرها للناس قانية حمرا
إذا كان في عُري الجسوم قباحةٍ / فأحسن شئ في الحقيقة ان تَعرى
فيُبصرها من مارست عينه عمىً / ويسمعها من كابدت أذنه وَقرا
أحبّ الفتى أن يَستقلّ بنفسه / فيُصبِحِ في أفكاره مطلقاً حرّا
وأكره منه أن يكون مُقلِّداً / فيُحشَرَ في الدنيا اسيراً مع الأسرى
وما هذه الأوطان إلاّ حدائق / بها تُنبت الأفكار من أهلها زهرا
وما حُبّها إلا لأجل تحرّر / يكون إلى العَلياء بالناس مُنْجَرّا
وما حسنها إلاّ بأنّ سماءها / تضاحك من أحرارها أنجماً زُهرا
إذا كان في الأوطان للناس غاية / فحّرية الأفكار غايتها الكبرى
فأوطانكم لن تستقلّ سياسة / إذا أنتم لم تستقلّوا بها فكرا
إذا السيف لم يَعضُده رأيٌ محرَّر / فلا تأملنْ من حدّه ضربة بكرا
سواء على الإنسان بعد جموده / أحلّ بقفر الأرض أم سكن المصرا
إذا لم يَعش حرّاً بموطنه الفتى / فسمّ الفتى ميْتاً وموطنه قبرا
أحرّيتي إني اتخذتكِ قِبلةً / أوجّه وجهي كل يوم لها عشرا
وأمسك منها الرُكَنَ مستلماَ لهُ / وفي ركنها استبدلت بالحَجَر الحِجْرا
إذا كنت في قفر تخذتك مؤنساً / وإن كنت في ليل جعلتك لي بدرا
وإن نابني خطب ضممتك لاثماً / فقبّلت منك الصدر والنَحرَ والثغرا
وإن لامني قوم عليك فإنني / لملتمس للقوم من جهلهم عذرا
أمارِس دهراً من جديدَيّ داهرا
أمارِس دهراً من جديدَيّ داهرا / وما زال ليلي بالعراقَين ساهرا
أبى الحق إلاّ أن أقوم لأجله / على الدهر في كل المَواطن ثائرا
وأن أتمادَى في جدال خصومه / وأقرعَ منهم بالبيان المُكابرا
وإني لأهوى الحق كالطِيب ساطعاً / وكالريح هَبّاباً وكالشمس ظاهرا
ستَبقى لنفسي في هواه سَريرة / إذا الدهر أبْلى من بنيه السرائرا
وتَكره نفسي أن أكون مخادعاً / لأدرك نفعاً أو لأدفع ضائراً
ومن أجل مقتي للمخانيث أنكرت / يدي أن تُحَلّىَ في الجنان أساورا
وما العَجز إلا أن أكون مُكاتِما / إذا ما تَقاضتني العلا أن أجاهرا
وما أنا ممّن يُبْهِم القَول لاحناً / فيُضمرَ فيه للجليس الضمائرا
ولولا طُموحي في الحياة إلى العلا / سكنت البوادي واجتنبت الحَواضرا
يقولون لي في مصر للعلم نهضة / تُفَتِّق أذهاناً وتجلو بصائرا
وإن بها للعلم قَدراً وحُرمة / وإن بها للحق عوناً وناصرا
وإن لأهل العلم فيه نوادياً / وإن لأهل الفضل فيها دساكرا
ألم تر أن القوم في كل مَحفِل / بها رفعوا للقائلين المنابرا
وقد ضربوا وعداً لتكريم شاعر / تملّك صِيتاً في الأقاليم طائرا
هو الشاعر الفحل الذي راح شعره / بانشاده في البَرّ والبحر سائرا
فلو قلتَ بعض الشعر في يوم حَفْلهم / تَشُدّ به منَا لمصر الأواصرا
فقلت أجل والشعر ليس بمُعجزي / ولن تَعدَموا مني على الشعر قادرا
ألا أن شوقي شاعرٌ جِدُ شاعر / يفوق الأوالي بل يَبُزّ الأواخر
تَمَلّك حرّ الشعر فهو رَقيقه / وقام عليه بالذي شاء آمرا
إذا رام جَزْلاً منه أنشد زاخِراً / وأن رام سَهلاً منه أنشد ساحرا
فلا عجب من أهل مصر وغيرهم / إذا عقدوا منهم عليه الخناصرا
بَنى لهم مجداً رَفيعاً بشعره / لذا جعلوا حسن الثناء وكائرا
ولكنني قد أنظر الحفلة التي / تُقام له ذا اليومَ في مصر ساخرا
إذا احتفلت مصر بشوقي فمالها / تُقيم على الأحرار في العلم حاجرا
فقد أسمعتنا ضَجّة أمطرت بها / عليّاً وطه حاصباً مُتطايرا
فما بال هذا عُدَّ في مصر مارقاً / وما بال هذا عدّ في مصر كافرا
إذا لم تك الأفكار في مصر حرّة / فليس لمصر أن تُكَرّم شاعرا
أيُرفِع قَدْر العلم يَنطِق ناظماً / ويُوضَع قدر العلم ينطق ناثرا
ويَختَص بالتبجيل من جاء مُنشداً / ويُقذَف بالتَجْهيل من جاء فاكرا
ألا أن هذا الشعرِ ليس بطائل / إذا كان عمّا يبلغ العلم قاصرا
كما أن هذا العلم ليس بنافع / إذا لم تكن فيه النفوس حرائرا
وتكريم ربّ العشر ليس بمفخر / لمن كان عن حرّية الفِكر جائرا
وإلاّ فعصر الجاهلية قبلنا / له السَبق في تكريم من كان شاعرا
هو الدهر لم يترك مَشَنَّ غِواره
هو الدهر لم يترك مَشَنَّ غِواره / على سابق من ليله أو نهاره
يثير غبار الحادثات بكَرِّه / وهل نحن إلاّ من مُثار غباره
وكم عِبَر مطويّة في صورفه / فهل من مُجيل فيه طرف اعتباره
خليليّ أن الأرض غربال قُدرة / تجمّعت الأحياء بين اطاره
تَميد به كفّ الزمانِ تحرّكاً / لمَحْوِ ضعيف أو لأثبات فاره
فيبقى به الأقوى قرين ارتقائه / كما يسقط الأوهى رهين اندثاره
فلا عيش في الدنيا لمن لم يكن بها / قديراً على دفع الأذى والمكاره
لعمرك ما هذه الحياة بملبَس / لمن حيك من عجز نسيج شعاره
ولكن لمن أمسى بأيْد وقوّة / يجرّ على الأيام فضلَ ازاره
أرى الشمس يُخفي ضوءُها كل شارق / وإن كان ينبو الطَرْف عن مستناره
وما ذاك إلاّ أنّها في تَّلَهُّب / يموج بنور ساطعَ وقْد ناره
فلم يستطع نجم طلوعاً تجاهها / إذا لم يَعُذْ بالليل غبَّ اعتكاره
كذاك ضعيف القوم أن كان جاره / قوياً يكن شِلواً أكيلاً لجاره
وما الليث لولا بأسه في عرينه / بأشرفَ من ضبّ الفلا في وجاره
ومن غاوره اليام غيرَ مُدجَّج / فلا يطعمَنْ في مَغنَم منَ مَغاره
ومن لم يُهِن صَرْف الزمان برحلة / تُهِنْهُ صروف الدهر في عُقر داره
وما شرفُ الدرِ الثمينِ فريدُه / إذا هو لم يَبْرَح بطون مَحَاره
أرى كل ذي فقر لدى كل ذي غنىً / أجيراً له مستخدَماً في عَقاره
ولم يعطه إلاّ اليسير وإنما / على كدّه قامت صروح يَساره
ويلبس من تذليله العزّ ضافياً / وينظره شزراً بعين احتقاره
يَشُدّ الغنى أزر الفتى في حياته / وما الفقر إلا مكسرٌ في فقاره
وليس الغنى إلاّ غنى العلم أنه / كنور الفتى يجلو ظلام افتقاره
ولا تحسَبنّ العلم في الناس مُنْجياً / إذا نكَّبَت أخلاقهم عن مناره
وما العلم إلاّ النور يجلو دجى العمى / ولكن تَزوغ العين عند انكساره
فما فاسد الأخلاق بالعلم مُفْلِحاً / وإن كان بجراً زاخراً من بحاره
سل الفلك الدوّار عن حركاته / فهل هو فيها دائر باختياره
وهل هو في هذا الفضاء مسافر / له غاية مقصودة من سِفاره
وهَبْنا جهلنا بدأه من تقادم / فهل يدرك العقل انتهاء مداره
متى ينجلي ليل الشكوى عن النُهى / وترفع كفُّ العلم مُرْخى ستاره
ألا وَرْيَ في زند الزمان فنهتدي / بسقط ضئيل من سقيط شراره
أرى الدهر ليلاً كلّه غيرَ مُبصر / وإن كان في رَأد الضحا من نهاره
وأهليه ساروا خابطين ظلامه / وإن ركبوا في السير متن بخاره
لعمرك أن الدهر يجري لغاية / فإن شئت أن تحيا سعيداً فجاره
وها هو ذا يعدو فيبتدر المدى / وينهب أعمارَ الورى في ابتداره
لقد فاز من بارى جديده جدّةً / وخار الذي في جدّة لم يباره
وليست حياة الناس إلاّ تجِدّداً / مع الدهر في إيباسه واخضراره
وما الناس إلاّ الماء يحييه جَرْيُه / ويُرديهُ مكث دائم في قراره
لك الخير هل للشرق يقظة ناهض / فقد طال نوم القوم بين دياره
ألم تر ان الغرب أصلت سيفه / عليهم وهم لاهون تحت غِراره
وبادرهم كالسيل عند انحداره / وهم في مهاوي غفلة عن بِداره
أما آن للساهين أن يأبهو له / وقد أصبحوا في قبضةٍ من اساره
تراهم جميعاً بين حيران واجمٍ / وآخر يُطري ماضياً من فَخاره
كفى بالعلم في الظلمات نورا
كفى بالعلم في الظلمات نورا / يُبيّن في الحياة لنا الأمورا
فكم وجد الذليل به اعتزازاً / وكم لبِس الحزين به سرورا
تزيد به العقول هدىً ورشداً / وتَستعلي النفوس به شعورا
إذا ما عَقّ موطنَهم أناسٌ / ولم يَبنوا به للعلم دورا
فإن ثيابهم أكفان موتى / وليس بُيوتهم إلاّ قبورا
وحُقَّ لمثلهم في العيش ضنك / وأن يدعوا بدنياهم ثُبورا
أرى لبّ العلا أدباً وعلماً / بغيرهما العلا أمست قشورا
أأبناء المدارس أنّ نفسي / تؤمّل فيكم الأمل الكبيرا
فسَقياً للمدارس من رياض / لنا قد أنبتت منكم زهورا
ستكتسب البلاد بكم عُلُوّاً / إذا وجدت لها منكم نصيرا
فإن دجت الخطوب بجانبيها / طلعتم في دُجُنَّتها بدورا
وأصبحتم بها للعزّ حِصناً / وكنتم حولها للمجد سورا
إذا أرتوت البلاد بفيض علم / فعاجز أهلها يُمسى قديرا
ويَقوَى من يكون بها ضعيفاً / ويَغنَى من يعيش بها فقيرا
ولكن ليس مُنتَفِعاً بعلم / فتىً لم يُحرز الخُلُق النضيرا
فإن عماد بيت المجد خُلْق / حكى في أنف ناشفه العبيرا
فلا تَستنفِعوا التعليِم إلاّ / إذا هذّبتم الطبع الشَرِيرا
إذا ما العلم لابس حُسنَ خُلْق / فَرَجِّ لأهله خيراً كثيرا
وما أن فاز أغزرنا علوماً / ولكن فاز أسلمنا ضميرا
أأبناء المدارس هل مصيخٌ / إلى من تسألون به خبيرا
ألا هل تسمعون فإن عندي / حديثاً عن مواطنكم خطيرا
ورأياً في تعاوُنكم صواباً / وقلباً من تخاذُلكم كسيرا
قد انقلب الزمان بنا فأمست / بُغاث القوم تحتقر النُسورا
وساء تقلُّب الأيام حتى / حمِدنا من زعازعها الدَبورا
وكم من فأرة عمياء أمست / تسمّى عندنا أسداً هَضورا
فكيف نروم في الأوطان عزّاً / وقد ساءت بساكنها مصيرا
ولم يك بعضنا فيها لبعض / على ما ناب من خطب ظهيرا
ألسنا الناظمين عقود مجد / نزين من العصور بها النحورا
إذا لُجَجُ الخطوب طمت بنينا / عليها من عزائمنا جسورا
لِنَبْتَدر العبور إلى المعالي / بحيث نطاول الشِعر العَبورا
ألا يا ابن العراق إليك أشكو / وفيك أُمارس الدهر المَكورا
تنفَّض من غُبار الجهل وأهرع / إلى تلك المدارس مستجيرا
فهنّ أمان من خشيَ الليالي / وهنّ ضمان مَن طلب الظهورا
نعمت الدار للنفيّض دارا
نعمت الدار للنفيّض دارا / قد أقيمت للطالبين منارا
هي دارٌ يَنْتابها ولُد قوم / جعلوا العلم للحياة مَدرارا
نحن قوم نرى المفاخر إلاّ / من طريق العلوم ثوباً مُعارا
ما قصَدْنا بسَلِّنا السيف إلاّ / رَدَّ ليل الجهل المُمِيت نهارا
هل شددنا الرحال في الأرض للأس / فار إلا لنكتُب الأسفارا
كم طَوَينا من قبلُ في طلب العل / م فجاجاً وكم شَقَقْنا بحارا
واقتحمنا لأجله كل هَوْل / وركِبنا لأجله الأخطارا
إنما تصغُر الخُطوب لدى القو / م إذا كانت النفوس كبارا
ولقد هانت النوائب فيه / إذ لبسنا الصبر الجميل شعارا
سل بنا العلم والفنون جميعاً / هل ملكنا بغيرها الأقطارا
سل بنا العدل في جميع الرعايا / هل عَمَرْنا بغيره الأمصارا
سل بنا الغُرّ من كبار المساعي / هل طلبنا بغيرهنّ فَخارا
سل بنا هذه الدماء الدوامي / هل غسلنا بغيرهنّ العِمارا
سل بنا هذه النجوم الدَراري / هل رضينا تحت النجوم قرارا
كم رفعنا للعلم في الأرض بُرجاً / وبنَيْنا له كغُمدان دارا
لا يكن منك في الذي قلت شكٌ / وإذا شئت فانظر الآثارا
يعلم اللّه ذو الجلالة أنا / لسوى اللّه ما رجونا وقارا
إنما هذه المدارس روض / يُنبت المجد والعلا والفَخارا
تَتغذى بها النفوس غِذاء / هو يُنْمي العقول والأفكارا
جلَ فعلاً اكسيرها المتعالي / كيف يَجْلو القلوب والأبصارا
يدخل الناشئون فيها من النا / س نحاساً ويخرجون نُضارا
ربّ نفس كدرهم قد جلاها ال / علم حتى أعادها دينارا
نضُرت هذه المدارس روضاً / من بني القوم مُنبتاً أزهارا
تمنح العاجز الضعيف اقتداراً / موشكاً أن يغالب الأقدار
كانت الناس في القديم عبيداً / وبها اليوم أصبحوا أحرارا
فعليكم فيها بتحصيل علم / يُرغد العيش يُسعِد الأعمارا
الشعر مفتقر مني لمبتكر
الشعر مفتقر مني لمبتكر / ولست للشعر في حالِ بمفتقر
دعوت غُرّ القوافي وهيِ شاردة / فأقبلت وهي تمشي مشيِ معتذر
وسلّمتنيَ عن طَوع مقادتها / فرُحت فيهنّ أجري جري مقتدر
إذا أقمت أقامت وهي من خَدَمي / وأينما سرت سارت تقتفي أثري
صرّفت فيهنّ أقلامي ورحت بها / أعرّف الناس سحر السمع والبصر
ملكْنَ من رقّة رقّ النفوس هوىً / من حيث أطرْ بن حتى قاسيَ الحَجَر
سقيتهنّ المعاني فارتَوْين بها / وكنّ فيها مكان الماء في الثمر
كم تَشرئَبّ لها الأسماع مُصغيةً / إذا تُنُوشدن بين البدوِ والحَضَر
طابقت لفظيَ بالمعنى فطابقه / خلواً من الحَشْوِ مملوءاً من العِبَر
أنّي لأنتزع المعنى الصحيح على / عُرْيٍ فأكسوه لفظاً قُدَّ من دُرر
سل المنازل عني إذ نزلت بها / ما بين بغداد والشهباء في سفري
ما جئت منزلة إلاّ بَنَيت بها / بيتاً من الشعر لابيتاً من الشَعَر
وأجود الشعر ما يكسوه قائله / بِوَشْي ذا العصر لا الخالي من العُصُر
لا يَحسُن الشعر إلا وهو مبتكَر / وأيّ حسن لشعر غير مبتكر
ومن يكنْ قال شعراً عن مفاخَرَة / فلست واللَّه في شعرٍ بمفتخر
وإنما هي أنفاس مصعَّدةٌ / ترمي بها حسراتي طائرَ الشَرَر
وهنّ إن شئت منّي أدمع غُزُر / أبكي بهنّ على أيامنا الغُرَر
أبكي على أمة دار الزمان لها / قبلاً ودار عليها بعدُ بالغِيَر
كم خلّد الدهر من أيامهم خبراً / زان الطُروس وليس الخُبْر كالخَبَر
ولست أدّكر الماضين مفتخراً / لكن أقيم بهم ذكرى لمُدَّكر
وكيف يفتخر الباقون في عَمَهٍ / بدارس من هُدى الماضين مندثر
لهفي على العُرب أمست من جمودهم / حتى الجمادات تشكو وهي في ضَجَر
أين الجَحاجح ممن ينتمون إلى / ذُؤابة الشرف الوضّاح من مُضر
قوم هم الشمس كانوا والورى قمر / ولا كرامةَ لولا الشمس للقمر
راحوا وقد أعقبوا من بعدهم عَقِباً / ناموا عن الأمر تفويضاً إلى القَدَر
أقول والبرق يسري في مراقدهم / يا ساهر البرق أيقظ راقد السَمُر
يا أيها العرب هُبّوا من رقادكم / فقد بدا الصبح وأنجابت دجى الخطر
كيف النجاح وأنتم لا أتفاق لكم / والعود ليس له صوت بلا وتر
مالي أراكم أقلّ الناس مَقدُرةً / يا أكثر الناس عدّاً غير منحصِر
حَبَبْت العلا منذ الصبا حبّ شاعر
حَبَبْت العلا منذ الصبا حبّ شاعر / وقمت إليها ساعياً سعيَ قادر
أأقدِر فيها أن أصيخ للأئم / وقد ملكت مني جميع المشاعر
تقول ابنة الأقوام وهي تلومني / وأدمعها رَقْراقة في المحاجر
إلى كم تُجدّ البَيْن عنّي مسافراً / أما تستلِذّ العيش غير مسافر
وأسكتها عنّي نشيج فلم تزل / تردّده منها بأقصى الحناجر
إلى أن تفاني الصبر فافترّ مَدمعي / كمدمعها عن لؤلؤ مُتناثر
ولا غروَ أن أبكي أسىً من بكائها / فأعظم ما يشجي بكاء الحرائر
وقلت لها أني امرؤ لي لُبانة / مَنوط مداها بالنجوم الزواهر
تعوّدت أن لا أستنيم إلى المني / وأن لا أرى إلاّ بهيئة ثائر
وأن أُمضِيَ الهمّ الذي هِو مُقلقي / بطيّ الفيافي أو بخَوْض الدياجر
أما تَرَيِنّ الوجه مني شاحباً / لكثرة ما عرّضته للهواجر
ولست أبالي أنني عادم الغنى / إذا كان جَدّي في العلا غير عائر
ذريني أزُرْ في هَضْب لُبنان أربعاً / تعالت بحيث العزّ مُرخَى الضفائر
بحيث أرى تلك الليوث خوادراً / تسارق ألحاظاً عيونَ الجآذر
ليوث إذا ما عَبَّست في مُلِمَّة / تبسّمَت الدنيا تبّسُم ناصر
وألقت جُيوش الفاخرين سلاحها / إذا خفقت راياتها بالمفاخر
فأكرم بلبنان مَقَرّاً لِنابهٍ / ومأوىً لمنكودٍ ومَهدىً لحائر
ألا إنما لبنان في الأرض عاهل / تَبّوَأ عرشاً من جليل المآثر
وزحلة في لبنان تاج لرأسه / قد أزدان من أبنائها بالجواهر
وما هي إلا روضةٌ أنبتت له / أزاهير من تلك الحسان الغرائر
أزحلة إني تارك فيك مهجتي / تُعاطيك منَ بعدي محبّة شاكر
فتشكرك الشكر الذي أنتِ أهله / طَوالَ الليالي خالداً في الدفاتر
وفاء أمرىء ما عوّد الغدرَ نفسه / ولا وَدّ إلاّ مخلصاً في الضمائر
ومن عجب أن الشُوَ يعر لامني / ببيروت لوم الشاتم المتجاسر
ومَن كان مثلي شاعراً لا تَسُوءُه / مقاذعةٌ جاءته من متشاعر
على أنني من عاذريه وأن يكن / لي الحق في عذري له غير عاذر
وكم في رُبا لبنان من ذي فصاحة / مُجيدٍ بيوم الحفل قَرْع المنابر
ومن أهل آداب كشارقة الضحى / ومن أهل علم كالبحار الزواخر
أشَرّ فعل البرايا فعل منتحر
أشَرّ فعل البرايا فعل منتحر / وأفحش القول منهم قول مفتخر
أن التمدُّح من عُجب ومن أشَرٍ / والمرء في العُجب ممقوت وفي الأشر
يا راجيَ الأمر لم يطلب له سبباً / كيف الرماية عن قوس بلا وتر
ليس التسبّب من عَجز ولا خَوَر / وإنما العجز تفويض إلى القدر
دع الأناسِيَّ وأنسبني لغيرهم / أن شئت للشاء أو أن شئت للبقر
فإن في البشر الراقي بخلقته / من قد أنِفت به أنّي من البشر
ألبِس حياتك أحوال المحيط وكن / كالماء يلبس ما للظَرف من جُدُر
وأن أبَيْت فلا تجزع وأنت بها / عارٍ من الأُنس أو كاسٍ من الضجر
أن رُمت عزاً على فقر تُكابده / فأستغنِ عن مال أهل البَذْخ والبَطَر
فإنما النفس ما لم تَنْءَ عن طمع / فريسة بين ناب الذل والظُفُر
إذا نظرت إلى الجزئيّ تُصلحه / فأرقُبه من مرقب الكُلّيّ في النظر
فإن نفعك شخصاً واحداً ربما / يكون منه عموم الناس في الضرر
قد يَقبُح الشيء وضعاً وهو من حسن / كالنعشُ يدهش مرأىً وهو من شجر
فالقبح كالحسن في حكم النهى عَرَض / وليس يَثبُت إلاّ عند مُعتَبِر
لا تعجبنّ لذي عقل يروح به / ليَنتِج الشرّ خيراً غير مُنتظَر
فإنما لمعات الخير كامنة / بين الشرور كمُون النار في الحجر
سبحان من أوجد الأشياء واحدة / وإنما كثرة الأشياء بالصُوَر
هَبْ منشأ الكونَ يبقى مبهماً أبداً / فهل ترى فيه عقلاً غير مُنبَهِر
الحب والبغض لا تأمنِ خداعهما / فكم هما أخذا قوماً على ِغرَر
فالبغض يُبدي كُدُوراً في الصفاء كما / أن المحبة تبدي الصفوَ في الكدر
وأشنع الكذب عندي ما يُمازجه / شيء من الصدق تمويها على الفِكَر
فإن أبطال هذا في النهي عَسِرٌ / وليس أبطال محض الكذب بالعسر
قالوا عشِقتَ معيب الحسن قلت لهم / كُفّوا الملام فما قلبي بمُنزَجر
ما العشق إلاّ العمى عن عيب مَن عشِقَت / هذي القلوب ولا أعني عمي البصر
قالوا ابن مَن أنت يا هذا فقلت لهم / أبي امرؤ جَدّه الأعلى أبو البشر
قالوا فهل نال مجداً قلت وأعجبي / أتسألوني بمجد ليس من ثَمَري
لاَ درّ درّ قصيد راح يَنظمه / من ليس يعرف معنى الدَرْ والدُرر
يَبكي الشعورُ لشعر ظلَ ينقُده / من لا يفرّق بين الشعر والشَعَر
قالت نَوار وقد أنشدتها سَحَراً / ممّن تعلّمت نفث السِحر في السَحَر
فقلت من سحر عينيك الذي سُحرت / به المشاعر من سمع ومن بصر
وبيضاء أغناها عن الحلي ثغرها
وبيضاء أغناها عن الحلي ثغرها / بسِمطَيْن من درّ مضيئين في الثغر
إذا ابتسمت في ظلمة الليل أشرقا / فعُدنا من الآمال في أنجم ُزهر
نرى وجهها بدراً محاطاً من السَنى / بصبحَيْن من ثغر وضيءٍ ومن نحر
يذكرني من مطلع الشمس شعرُها / ذوائبَ تُرخَى من أشعّتها الصفر
تراءت فأما نفسها فحزينة / وأما مُحيّاها فكالكوكب الدرّي
بدت في ِحداد ترسل الطرف وانياً / يُغَضّ على وجد ويُفتح عن سحر
رأيت بها بدراً تردّى ُدجُنّةً / غداة أُميط السجف من جانب الخِدر
فكانت لها سود الجلابيب ِحليةُ / ولا عجبٌ أن الدجى من حِلى البدر
تَبَسَُّ حيناً ثم تُجهش بالبكا / فمن لؤلؤٍ تُبدي ومن لؤلؤ تُذري
كأن تلاميح الأسى في جبينها / بقايا ظلام الليل في غُرّة الفجر
وكم أبصرت عيناي لما تنهّدت / تموُّح بحر الحب من عاصف الهجر
فقد كان منها الصدر يعلو ويرتمي / فيبعث بي شجواً يموج به صدري
ومما شجا نفسي ذُبول بخدّها / كما ذبلت في بيتها باقة الزهر
ولما أنقضى صبري وقفت تجاهها / اُسائل عما ناب من نُوَب الدهر
فقالت وقد ألقت على الصدر كفّها / تشدّ ضلوعاً ينطوين على جمر
لك الخير من حرّ يسائل حرّة / شَكَت هجر بعل لم يكن بالفتى الحرّ
سقاني بكأس الحب حتى شرِبتها / ولم أدر أن الحب ضرب من الخمر
فلما رآني قد سكِرت بحبّه / صحا قلبه من حيث لم أصحُ من سُكري
ألا أن قلبي اليوم إذ مسّه الجَوى / وإذا مال بعلي في هوايَ إلى الغدر
ليَفزَع ممن يدّعي الحبَّ قلبُه / كما فزِعت قُمريّة الروض من صقر
على أن قلبي لم يعُد عنه صابراً / ألا لا أمال اللّه قلبي إلى الصبر
إذا شرقت شمسي تناسيت ذكره / وأن جنّ ليلي بتّ منه على ذُكر
وأني على ما نابني من جفائه / لأقنع منه بالخيال الذي يَسري
ولما شكت لي حُرقةً في فؤادها / ترقرق دمع العين في خدّها يجري
أرى قَطَراتِ الدمع في وَجَناتها / فأحسبها الياقوت رُصّع بالدرّ
هنالك ألقت راحتَيْها بوجهها / تُكَفكِف أسراباً من الدمع بالعشر
وقالت وقد كان النَشيج يصدّها / عن القول إلاّ عن كلام لها نَزر
سأحمل ما قد حَمَّلَتني يد الهوى / من الوجد حتى يحملوني إلى القبر
فقلت أما واللّه لو أن لي يداً / على كل حكم جاء من ظالم الدهر
لشدّدت في زجر المحبّين أن جَفَوْا / وعاقبت منهم من يميل إلى الهجر

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025