القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : أبو القاسم الشابي الكل
المجموع : 13
أتفنى ابتِساماتُ تِلْكََ الجفونِ
أتفنى ابتِساماتُ تِلْكََ الجفونِ / ويَخبو توهُّجُ تِلْكََ الخدودْ
وتذوي وُرَيْداتُ تِلْكَ الشِّفاهِ / وتهوي إلى التُّرْبِ تِلْكَ النَّهودْ
وينهدُّ ذاك القوامُ الرَّشيقُ / وينحلُّ صَدْرٌ بديعٌ وَجيدْ
وتربَدُّ تِلْكََ الوُجوهُ الصِّباحُ / وفتنةُ ذاكَ الجمال الفَريدْ
ويغبرُّ فرعٌ كجنْحِ الظَّلامِ / أنيقُ الغدائرِ جَعْدٌ مَديدْ
ويُصبحُ في ظُلُماتِ القبورِ / هباءً حقيراً وتُرْباً زهيدْ
وينجابُ سِحْرُ الغرامِ القويِّ / وسُكرُ الشَّبابِ الغريرِ السَّعيدْ
أتُطوَى سَمواتُ هذا الوجود / ويذهبُ هذا الفضاءُ البعيدْ
وتَهلِكُ تِلْكََ النُّجومُ القُدامى / ويهرمُ هذا الزَّمانُ العَهيدْ
ويقضي صَباحُ الحياةِ البديعُ / وليلُ الوجودِ الرهيبُ العتيدْ
وشمسٌ توشِّي رداءَ الغمامِ / وبدرٌ يضيءُ وغيمٌ يجودْ
وضوءٌ يُرَصِّع موجَ الغديرِ / وسِحْرٌ يطرِّزُ تِلْكَ البُرودْ
وبحرٌ فسيحٌ بعيدُ القرارِ / يَضُجُّ ويَدْوي دويَّ الوليدْ
وريحٌ تمرُّ مُرورَ الملاكِ / وتخطو إلى الغابِ خَطْوَ الرُّعودْ
وعاصفةٌ من نباتِ الجحيم / كأنَّ صَداها زَئيرُ الأسودْ
تَعجُّ فَتَدْوي حنايا الجبال / وتمشي فتهوي صُخورُ النُّجودْ
وطيرٌ تغنِّي خِلالَ الغُصونِ / وتَهْتِفُ للفجرِ بَيْنَ الورودْ
وزهرٌ ينمِّقُ تِلْكََ التِّلالَ / ويَنْهَلُ من كلِّ ضَوءٍ جَديدْ
ويعبَقُ منه أريجُ الغَرامِ / ونَفْحُ الشَّبابِ الحَيِيِّ السَّعيدْ
أيسطو على الكُلِّ ليلُ الفناء / ليلهو بها الموتُ خَلْفَ الوجود
ويَنْثُرَها في الفراغِ المُخيفِ / كما تنثرُ الوردَ ريحٌ شَرودْ
فينضُبُ يمُّ الحياةِ الخضمُّ / ويخمدُ روحُ الرَّبيعِ الوَلودْ
فلا يلثمُ النُّورُ سِحْرَ الخُدودِ / ولا تُنْبِتُ الأرضُ غضَّ الورودْ
كبيرٌ على النَّفسِ هذا العفاءُ / وصَعْبٌ على القلبِ هذا الهمودْ
وماذا على القَدَر المستَمرِّ / لوِ اسْتمرَأ النَّاسُ طعمَ الخلودْ
ولم يُخْفَروا بالخرابِ المحيط / ولم يُفْجَعوا في الحبيب الودودْ
ولم يسلكوا للخُلود المرجَّى / سبيلَ الرّدى وظَلامَ اللّحودْ
فَدامَ الشَّبابُ وسِحْرُ الغرامِ / وفنُّ الرَّبيعِ ولُطفُ الورودْ
وعاش الوَرَى في سلامٍ أمينٍ / وعيشٍ غضيرٍ رخيٍّ رغيدْ
ولكنْ هو القَدَرُ المستبدُّ / يَلذُّ له نوْحُنا كالنَّشيدْ
تَبَرَّمْتَ بالعيشِ خوفَ الفناءِ / ولو دُمْتُ حيًّا سَئمتَ الخلودْ
وعِشْتَ على الأَرضِ مثل الجبال / جليلاً رهيباً غريباً وَحيدْ
فَلَمْ تَرتشفْ من رُضابِ الحياة / ولم تصطَبحْ من رَحيق الوجودْ
وما نشوةُ الحبِّ عندَ المحبِّ / وما سِحْرُ ذاك الرَّبيعِ الوليدْ
ولم تدرِ مَا فتنةُ الكائناتِ / وما صرخَةُ القلبِ عندَ الصّدودْ
ولم تفتكر بالغَدِ المسترابِ / ولم تحتفل بالمرامِ البعيدْ
وماذا يُرجِّي ربيبُ الخلودِ / من الكونِ وهو المقيمُ العهيدْ
وماذا يودُّ وماذا يخافُ / من الكونِ وهو المقيمُ الأَبيدْ
تأمَّلْ فإنَّ نِظامَ الحياةِ / نِظامٌ دقيقٌ بديعٌ فريدْ
فما حبَّبَ العيشَ إلاَّ الفناءُ / ولا زانَه غيرُ خوفِ اللُّحودْ
ولولا شقاءُ الحياةِ الأليمِ / لما أَدركَ النَّاسُ معنى السُّعودْ
ومن لم يرُعْهُ قطوبُ الدّياجيرِ / لَمْ يغتبط بالصَّباحِ الجديدْ
إِذا لم يكن مِنْ لقاءِ المنايا / مَناصٌ لمَنْ حلَّ هذا الوجودْ
فأيّ غِنَاءٍ لهذي الحياة / وهذا الصِّراعِ العنيفِ الشَّديدْ
وذاك الجمالِ الَّذي لا يُملُّ / وتلكَ الأَغاني وذاك النَّشيدْ
وهذا الظَّلامِ وذاك الضِّياءِ / وتلكَ النُّجومِ وهذا الصَّعيدْ
لماذا نمرُّ بوادي الزَّمانِ / سِراعاً ولكنَّنا لا نَعودْ
فَنَشْرَبَ مِنْ كلِّ نبعٍ شراباً / ومنهُ الرَّفيعُ ومنه الزَّهيدْ
ومِنْهُ اللَّذيذُ ومِنْهُ الكَريهُ / ومِنْهُ المشِيدُ ومِنْهُ المبيدْ
ونَحْمِلُ عبْئاً من الذّكرياتِ / وتلكَ العهودِ الَّتي لا تعودْ
ونشهدُ أشكالَ هذي الوجوهِ / وفيها الشَّقيُّ وفيها السَّعيدْ
وفيها البَديعُ وفيها الشَّنيعُ / وفيها الوديعُ وفيها العنيدْ
فيُصبحُ منها الوليُّ الحميمُ / ويصبحُ منها العدوُّ الحقُودْ
وكلٌّ إِذا مَا سألنا الحَيَاةَ / غريبٌ لعَمْري بهذا الوجودْ
أتيناه من عالمٍ لا نراه / فُرادى فما شأْنُ هذي الحقُودْ
وما شأْنُ هذا العَدَاءِ العنيفِ / وما شأْنُ هذا الإِخاءِ الوَدودْ
خُلِقنا لنبلُغَ شأْوَ الكمالِ / وَنُصبح أهلاً لمجدِ الخُلُودْ
وتطهر أرواحنا في الحياة / بنار الأسى
ونَكْسَبَ مِنْ عَثَراتِ الطَّريقِ / قُوًى لا تُهدُّ بدأْبِ الصُّعودْ
ومجداً يكون لنا في الخلود / أَكاليلَ من رائعاتِ الوُرودْ
خُلِقنا لنبلُغَ شأْوَ الكمالِ / وَنُصبح أهلاً لمجدِ الخُلُودْ
ولكنْ إِذا مَا لبسنا الخلودَ / ونِلنا كمالَ النُّفوسِ البعيدْ
فهلْ لا نَمَلُّ دَوَامَ البقاءِ / وهلْ لا نَوَدُّ كمالاً جديدْ
وكيف يكوننَّ هذا الكمالُ / وماذا تُراهُ وكيفَ الحُدودْ
وإنَّ جمالَ الكمالِ الطُّموحُ / وما دامَ فكراً يُرَى من بعيدْ
فما سِحْرُهُ إنْ غدا واقعاً / يُحَسُّ وأَصبحَ شيئاً شهيدْ
وهلْ ينطفي في النُّفوسِ الحنينُ / وتُصبحُ أَشواقُنا في خُمودْ
فلا تطمحُ النَّفْسُ فوقَ الكمالِ / وفوقَ الخلودِ لبعضِ المزيدْ
إِذا لم يَزُل شوقُها في الخلودِ / فذلك لعَمْري شقاءُ الجُدودْ
وحربٌ ضروسٌ كما قَدْ عهدنُ / ونَصْرٌ وكسرٌ وهمٌّ مديدْ
وإنْ زالَ عنها فذاكَ الفناءُ / وإنْ كان في عَرَصَاتِ الخُلودْ
صَبِيَّ الحَيَاةِ الشَّقِيَّ العنيدْ
صَبِيَّ الحَيَاةِ الشَّقِيَّ العنيدْ / أَلا قدْ ضَلَلْتَ الضَّلالَ البعيدْ
أَتُنشدُ صوتَ الحَيَاةِ الرخيمَ / وأَنتَ سجينٌ بهذا الوجودْ
وتَطْلُبُ وَرْدَ الصَّبَاحِ المخ / ضَّبَ مِنْ كفِّ حَقْلٍ حَصِيدْ
إلى المَوْتِ إنْ شِئْتَ هَوْنَ الحي / اة فَخَلْفَ ظلامِ الرَّدى مَا تُرِيدْ
إلى المَوْتِ يا ابنَ الحَيَاةِ التعيسَ / ففي الموتِ صَوْتُ الحَيَاةِ الرخيمْ
إلى المَوْتِ إن عَذَّبَتْكَ الدُّهورُ / ففي الموتِ قَلْبُ الدُّهورِ الرَّحيمْ
إلى المَوْتِ فالموتُ رُوحٌ جميلٌ / يُرَفْرِفُ مِنْ فوقِ تِلْكَ الغُيومْ
فَرُوحاً بفَجْرِ الخُلُودِ البهيجِ / وما حَوْلَهُ مِنْ بَنَاتِ النُّجومْ
إلى المَوْتِ فالموتُ جامٌ رَوِيٌّ / لمنْ أَظْمَأَتْهُ سُمُومُ الفَلاةْ
ولَسْتَ براوٍ إِذا مَا ظَمِئْتَ / من المنبعِ العذْبِ قبلَ المَمَاتْ
فما الدَّمعُ إلاَّ شرابُ الدُّهورِ / وما الحزنُ إلاَّ غِذَاءُ الحَيَاةْ
إلى المَوْتِ فالموتُ مهدٌ وَثيرٌ / تَنَامُ بأَحضانهِ الكَائناتْ
إلى المَوْتِ إن حاصَرَتْكَ الخُطوبُ / وسَدَّتْ عليكَ سَبيلَ السَّلامْ
ففي عالمِ الموتِ تَنْضُو الحَيَاةُ / رِداءَ الأَسى وقِنَاعَ الظَّلامْ
وتبدو كما خُلِقَتْ غَضَّةً / يَفيضُ على وَجْهِها الإِبْتِسامْ
تُعيدُ عليها ظِلالَ الخُلودِ / وتهفو عليها قُلُوبُ الأَنامْ
إلى المَوْتِ لا تَخْشَ أعماقه / ففيها ضياءُ السَّماءِ الوَديعْ
وفيها تَمِيسُ عذارى السَّماءِ / عواريَ يُنْشِدْنَ لحناً بَديعْ
وفي رَاحِهنَّ غُصُونُ النَّخيلِ / يُحَرِّكْنَها في فَضَاءٍ يَضُوعْ
تضيءُ بهِ بَسَمَاتُ القُلُوبِ / وتخبو بهِ حَسَراتُ الدُّموعْ
هو الموتُ طيفُ الخلودِ الجميلُ / ونِصْفُ الحَيَاةِ الَّذي لا يَنُوحْ
هنالكَ خلفَ الفضاءِ البعيدِ / يَعيشُ المنونُ القَوِيُّ الصَّبُوحْ
يَضُمُّ القُلُوبَ إلى صَدْرِهِ / ليأسوَ مَا مَضَّها مِنْ جُروحْ
ويبعثَ فيها رَبيعَ الحَيَاةِ / ويُبْهِجُها بالصَّباحِ الفَرُوحْ
كلُّ مَا هبَّ وما دبَّ وما
كلُّ مَا هبَّ وما دبَّ وما / نامَ أَو حامَ على هذا الوُجُودْ
مِنْ طيورٍ وزُهورٍ وشذًى / وينابيعَ وأَغصانٍ تميدْ
وبحار وكهوف وذرى / وبراكين ووديان وبيد
وضياءٍ وظلالٍ ودجًى / وفصولٍ وغيولٍ ورعودْ
وثلوجٍ وضبابٍ عَابرٍ / وأَعاصيرَ وأَمطارٍ تجودْ
وتَعاليمَ ودِينٍ ورؤًى / وأَحاسيسَ وصَمْتٍ ونشيدْ
كلُّها تحيا بقلبي حرَّةً / غَضَّةَ السّحْرِ كأَطفالِ الخُلُودْ
ههُنَا في قلبيَ الرَّحْبِ العميقْ / يرقُصُ الموتُ وأَطيافُ الوجودْ
ههُنَا تَعْصِفُ أَهوالُ الدُّجى / ههُنَا تخفُقُ أَحلامُ الورودْ
ههُنَا تهتُفُ أَصداءُ الفَنا / ههُنَا تُعزَفُ أَلحانُ الخلودْ
ههُنَا تَمْشي الأَماني والهوى / والأَسى في موكبٍ فخْمِ النَّشيدْ
ههُنَا الفجرُ الَّذي لا ينتهي / ههُنَا اللَّيلُ الَّذي لَيْسَ يَبيدْ
ههُنَا ألفُ خِضَمٍّ ثَائرٍ / خالدِ الثَّورَةِ مجهولِ الحُدودْ
ههُنَا في كلِّ آنٍ تَمَّحي / صُوَرُ الدُّنيا وتبدو مِنْ جديدْ
يا أَيُّها الغابُ المُنَمْ
يا أَيُّها الغابُ المُنَمْ / مَقُ بالأَشعَّةِ والوردْ
يا أَيُّها النُّورُ النَّقِيٌّ / وأيُّها الفجرُ البعيدْ
أين اختفيتَ وما الَّذي / أَقْصاكَ عن هذا الوُجُودْ
آهٍ لقدْ كانتْ حَياتي / فيكَ حالمةً تَمِيدْ
بَيْنَ الخَمائِلِ والجَداوِلِ / والتَّرنُّمِ والنَّشيدْ
تُصغي لنجواكَ الجميلَةِ / وهي أُغنِيَةُ الخٌلودْ
وتعيشُ في كونٍ من / الغَفَلاتِ فتَّانٍ سَعيدْ
آهٍ لقدْ غنَّى الصَّباحُ / فدَمْدَمَ اللَّيلُ العَتيدْ
وتأَلَّقَ النَّجمُ الوضِيءُ / فأَعْتَمَ الغيمُ الرَّكُودْ
ومضَى الرَّدى بسَعَادتي / وقضى على الحُبِّ الوَليدْ
يَوَدُّ الفتى لوْ خاضَ عاصِفَةَ الرَّدَى
يَوَدُّ الفتى لوْ خاضَ عاصِفَةَ الرَّدَى / وصَدَّ الخميسَ المَجْرَ والأَسَدَ الوَرْدا
ليُدْرِكَ أَمجادَ الحُروبِ ولوْ دَرَى / حقيقَتَها مَا رامَ مِنْ بيْنها مَجْدا
فما المجدُ في أنْ تُسْكِرَ الأَرضَ بالدِّما / وتَرْكَبَ في هَيْجَائها فرساً نهْدا
ولكنَّهُ في أَنْ تَصُدَّ بِهمَّةٍ / عَن العالمِ المرْزُوءِ فيْضَ الأَسى صَدَّا
عذبة أنت كالطفولة كالأح
عذبة أنت كالطفولة كالأح / لام كالحن كالصباح الجديد
كالسَّماء الضَّحُوكِ كاللَّيلَةِ القمراءِ / كالوردِ كابتسامِ الوليدِ
يا لها مِنْ وَداعةٍ وجمالٍ / وشَبابٍ مُنعَّمٍ أُمْلُودِ
يا لها من طهارةٍ تبعثُ التَّقدي / سَ في مهجَةِ الشَّقيِّ العنيدِ
يا لها رقَّةً تَكادُ يَرفُّ الوَرْ / دُ منها في الصَّخْرَةِ الجُلْمودِ
أَيُّ شيءٍ تُراكِ هلْ أَنْتِ فينيسُ / تَهادتْ بَيْنَ الوَرَى مِنْ جديدِ
لتُعيدَ الشَّبابَ والفرحَ المعس / ولَ للعالمِ التَّعيسِ العميدِ
أَم ملاكُ الفردوس جاءَ إلى الأَر / ضِ ليُحيي روحَ السَّلامِ العهيدِ
أَنتِ مَا أَنتِ أَنْتِ رسمٌ جميلٌ / عبقريٌّ من فنِّ هذا الوُجُودِ
فيكِ مَا فيهِ من غموضٍ وعُمْقٍ / وجَمَالٍ مقَدَّسٍ معبودِ
أنتِ مَا أنتِ أَنتِ فجرٌ من السّحرِ / تجلَّى لقلبيَ المعمودِ
فأراه الحَيَاةَ في مُونِقِ الحُسْنِ / وجلّى له خفايا الخلودِ
أَنتِ روحُ الرَّبيعِ تختالُ ف / ي الدُّنيا فتهتزُّ رائعاتُ الورودِ
وتهبُّ الحَيَاة سَكرى من العِط / رِ ويدْوي الوُجُودُ بالتَّغريدِ
كلَّما أَبْصَرَتْكِ عينايَ تمشينَ / بخطوٍ موقَّعٍ كالنَّشيدِ
خَفَقَ القلبَ للحياة ورفَّ الزَّه / رُ في حقلِ عمريَ المجرودِ
وانتشتْ روحيَ الكئيبَةُ بالحبِّ / وغنَّتْ كالبلبلِ الغِرِّيدِ
أَنتِ تُحيينَ في فؤاديَ مَا قدْ / ماتَ في أَمسيَ السَّعيدِ الفقيدِ
وَتُشِيدينَ في خرائبِ روحي / مَا تلاشَى في عهديَ المجدودِ
مِنْ طموحٍ إلى الجمالِ إلى الفنِّ / إلى ذلك الفضاءِ البعيدِ
وتَبُثِّينَ رقَّةَ الشوقِ والأَحلامِ / والشَّدوِ والهوى في نشيدي
بعد أنْ عانقتْ كآبَةُ أَيَّامي / فؤادي وأَلجمتْ تغريدي
أَنتِ أُنشودَةُ الأَناشيدِ غنَّاكِ / إِلهُ الغناءِ ربُّ القصيدِ
فيكِ شبَّ الشَّبابُ وشَّحهُ السّحْرُ / وشدوُ الهَوَى وعِطْرُ الورودِ
وتراءى الجمالُ يَرْقُصَ رقصاً / قُدُسيًّا على أَغاني الوُجُودِ
وتهادتْ في أُفْق روحِكِ أَوْزانُ / الأَغاني ورِقَّةُ التَّغريدِ
فتَمَايلتِ في الوُجُودِ كلحنٍ / عبقريِّ الخيالِ حلوِ النَّشيدِ
خطواتٌ سكرانةٌ بالأَناشيد / وصوتٌ كَرَجْعِ نايٍ بعيدِ
وقَوامٌ يَكادُ يَنْطُقُ بالأَلحانِ / في كلِّ وقفةٍ وقعودِ
كلُّ شيءٍ موقَّعٌ فيكِ حتَّى / لَفْحَةُ الجيدِ واهتزازُ النّهودِ
أَنتِ أَنتِ الحَيَاةُ في قدْسها السَّا / مي وفي سِحْرها الشَّجيِّ الفريدِ
أَنتِ أَنتِ الحَيَاةُ في رِقَّةِ ال / فجر في رونق الرَّبيعِ الوليدِ
أَنتِ أَنتِ الحَيَاةُ كلَّ أَوانٍ / في رُواءٍ من الشَّبابِ جديدِ
أَنتِ أَنتِ الحَيَاةُ فيكِ وفي / عَيْنَيْكِ آياتُ سحرها الممدودِ
أَنتِ دنيا من الأَناشيدِ والأَحلامِ / والسِّحْرِ والخيال المديدِ
أَنتِ فوقَ الخيالِ والشِّعرِ والفنِّ / وفوقَ النُّهى وفوقَ الحُدودِ
أَنتِ قُدْسي ومعبدي وصباحي / وربيعي ونَشْوتي وخُلودي
يا ابنةَ النُّورِ إنَّني أنا وحدي / من رأى فيكِ رَوْعَةَ المَعْبودِ
فدعيني أَعيشُ في ظِلِّكِ العذْبِ / وفي قُرْبِ حُسنكِ المَشْهودِ
عيشةً للجمالِ والفنِّ والإِلهامِ / والطُّهْرِ والسَّنى والسُّجودِ
عيشَةَ النَّاسكِ البتُولِ يُناجي الرَّ / بَّ في نشوَةِ الذُّهول الشَّدِيدِ
وامنحيني السَّلامَ والفرحَ الرُّو / حيَّ يا ضوءَ فجريَ المنشودِ
وارحميني فقد تهدَّمتُ في كو / نٍ من اليأْسِ والظَّلامِ مَشيدِ
أنقذيني من الأَسى فلقدْ أَمْسَ / يْتُ لا أستطيعُ حملَ وجودي
في شِعَابِ الزَّمان والموت أَمشي / تحتَ عبءِ الحَيَاة جَمَّ القيودِ
وأُماشي الوَرَى ونفسيَ كالقب / رِ وقلبي كالعالم المهدُودِ
ظُلْمَةٌ مَا لها ختامٌ وهولٌ / شائعٌ في سكونها الممدودِ
وإذا مَا استخفَّني عَبَثُ النَّاسِ / تبسَّمتُ في أَسًى وجُمُودِ
بَسْمَةٌ مرَّةٌ كأنَّني أَستلُّ / من الشَّوكِ ذابلاتِ الورودِ
وانْفخي في مَشاعِري مَرَحَ الدُّنيا / وشُدِّي مِنْ عزميَ المجهودِ
وابعثي في دمي الحَرارَةَ عَلِّي / أَتغنَّى مع المنى مِنْ جَديدِ
وأَبثُّ الوُجُودَ أَنغامَ قلبٍ / بُلْبُليٍّ مُكَبَّلٍ بالحديدِ
فالصَّباحُ الجميلُ يُنْعِشُ بالدِّفءِ / حياةَ المُحَطَّمِ المكدودِ
أنْقذيني فقد سئمتُ ظلامي / أنقذيني فقدْ مَلِلْتُ ركودي
آه يا زهرتي الجميلةَ لو تدرينَ / مَا جدَّ في فؤادي الوحيدِ
في فؤادي الغريبِ تُخْلَقُ أَكوانٌ / من السّحرِ ذاتُ حُسْنٍ فريدِ
وشموسٌ وضَّاءةٌ ونُجومٌ / تَنْثُرُ النُّورَ في فَضاءٍ مديدِ
وربيعٌ كأنَّهُ حُلُمُ الشَّاعرِ / في سَكرة الشَّباب السَّعيدِ
ورياضٌ لا تعرف الحَلَك الدَّاجي / ولا ثورَةَ الخريفِ العتيدِ
وطيورٌ سِحْرِيَّةٌ تتناغَى / بأَناشيدَ حلوةِ التَّغريدِ
وقصورٌ كأنَّها الشَّفَقُ المخضُوبُ / أَو طلعَةُ الصَّباحِ الوليدِ
وغيومٌ رقيقةٌ تتهادَى / كأَباديدَ من نُثارِ الورودِ
وحياةٌ شِعْرِيَّةٌ هي عندي / صُورةٌ من حَياةِ أَهْل الخلودِ
كلُّ هذا يَشيدُهُ سِحْرُ عينيكِ / وإِلهامُ حُسْنِكِ المعبودِ
وحرامٌ عليكِ أَنْ تهدمي مَا / شادهُ الحُسْنُ في الفؤادِ العميدِ
وحرامٌ عليكِ أَنْ تسْحَقي آم / الَ نفسٍ تصبو لعيشٍ رغيدِ
منكِ ترجو سَعادَةً لم تجدْهَا / في حياةِ الوَرَى وسِحْرِ الوُجُودِ
فالإِلهُ العظيمُ لا يَرْجُمُ العَبْدَ / إِذا كانَ في جَلالِ السُّجودِ
أنتَ يا شِعْرُ فلذةٌ مِنْ فؤادي
أنتَ يا شِعْرُ فلذةٌ مِنْ فؤادي / تَتَغَنَّى وقِطْعةٌ مِنْ وُجُودي
فيكَ مَا في جوانحي مِنْ حنينٍ / أبديٍّ إلى صميمِ الوُجُودِ
فيكَ مَا في خواطري مِنْ بكاءٍ / فيكَ مَا في عواطفي مِنْ نشيدِ
فيكَ مَا في مَشَاعري مِنْ وُجُومٍ / لا يُغَنِّي ومِنْ سُرورٍ عَهيدِ
فيكَ مَا في عَوَالمي مِنْ ظلامٍ / سَرْمديٍّ ومِنْ صباحٍ وَليدِ
فيكَ مَا في عَوَالمي مِنْ ضبابٍ / وسرابٍ ويقظةٍ وهُجُودِ
فيكَ مَا في طفولتي مِنْ سلامٍ / وابتسامٍ وغبطةٍ وسُعودِ
فيكَ مَا في شبيبتي مِنْ حنينٍ / وشجونٍ وبَهْجةٍ وجُمودِ
فيكَ إن عانقَ الرَّبيعُ فؤادي / تتثنَّى سَنَابِلي وَوُرُودي
ويغنِّي الصَّباحُ أُنشودَةَ الحبِّ / على مَسْمَعِ الشَّبابِ السَّعيدِ
ثُمَّ أَجْني في صيفِ أَحلاميَ / السَّاحِرِ مَا لَذَّ من ثمارِ الخُلودِ
فيكَ يبدو خريفُ نَفْسي مَلُولاً / شاحِبَ اللَّوْنِ عاريَ الأُمْلودِ
حَلَّلته الحَيَاةُ بالحَزَنِ الدَّا / مي وغَشَّتْهُ بالغيومِ السُّودِ
فيكَ يمشي شتاءُ أَيَّاميَ البا / كي وتُرغي صَوَاعقي ورُعُودي
وتَجِفُّ الزُّهورُ في قلبيَ الدَّا / جي وتهوي إلى قرارٍ بعيدِ
أَنْتَ يا شِعْرُ قصَّةٌ عن حياتي / أَنْتَ يا شِعْرُ صورةٌ مِنْ وُجودي
أَنْتَ يا شِعْرُ إنْ فَرِحْتُ أغاريدي / وإنْ غنَّتِ الكآبَةُ عُودي
أَنْتَ يا شِعْرُ كأسُ خمرٍ عجيبٍ / أَتلهَّى به خلالَ اللُّحودِ
أتحسَّاهُ في الصبَّاحِ لأنسى / مَا تقضَّى في أمسيَ المَفْقودِ
وأُناجيه في المساءِ ليُلْهِيني / مَرْآهُ عن الصَّباحِ السَّعيدِ
أَنْتَ مَا نلتُ من كهوفِ اللَّيالي / وتصفَّحتُ مِنْ كتابِ الخلودِ
فيكَ مَا في الوُجُودِ مِنْ حَلَكٍ دا / جٍ وما فيه مِنْ ضياءٍ بعيدِ
فيكَ مَا في الوُجُودِ مِنْ نَغَمٍ / حُلْوٍ وما فيه من ضجيجٍ شَديدِ
فيكَ مَا في الوُجُودِ مِنْ جَبَلٍ وَعْ / رٍ وما فيه مِنْ حَضيضٍ وهِيدِ
فيكَ مَا في الوُجُودِ مِنْ حَسَكٍ يُدْ / مِي وما فيه مِنْ غَضيضِ الوُرودِ
فيكَ مَا في الوُجُودِ حَبَّ بنو الأَر / ضِ قصيدي أَمْ لَمْ يُحبُّوا قَصيدي
فسواءٌ على الطُّيورِ إِذا غنَّ / تْ هُتافُ السَّؤُوم والمُسْتَعيدِ
وسواءٌ على النُّجومِ إِذا لاحتْ / سكونُ الدُّجى وقَصْفُ الرُّعودِ
وسواءٌ على النَّسيمِ أَفي القف / رِ تُغَنِّي أَمْ بَيْنَ غَضِّ الوُرودِ
وسواءٌ على الوُرودِ أَفي الغيرانِ / فاحَتْ أَمْ بَيْنَ نَهْدٍ وَجِيدِ
يا عَذَارى الجمالِ والحُبِّ والأحلامِ
يا عَذَارى الجمالِ والحُبِّ والأحلامِ / بَلْ يا بَهاءَ هذا الوجودِ
خُلِقَ البُلبلُ الجَميلُ ليشدو / وخُلِقْتُنَّ للغرامِ السَّعيدِ
والوُجودُ الرحيبُ كالقَبْرِ لولا / مَا تُجَلِّينَ من قُطوبِ الوُجودِ
والحياةُ التي تخرُّ لها الأحْلامُ / موتٌ مُثَقَّلٌ كالقُيودِ
والشَّبابُ الحبيبُ شيخوخةٌ تسعى / إلى الموتِ في طريق كَؤودِ
والرَّبيعُ الجميلُ في هاته الدُّنيا / خريفٌ يُذْوي رفيفَ الوُرودِ
والوُرودُ العِذابُ في ضفّة الجَدول / شَوْكٌ مُصَفَّحٌ بالحديدِ
والطُّيورُ التي تُغنِّي وتقضي / عيْشَها في ترنُّمٍ وغَريدِ
إنَّها في الوجودِ تشكو إلى الأيام / عِبءَ الحَياةِ بالتَّغريدِ
والأناشيدُ إنَّها شَهَقاتٌ / تَتَشَظّى من كُلّ قَلْبِ عَميدِ
صورَةٌ للوجودِ شوهاءُ لولا / شفقُ الحُسْنِ فوقَ تِلْكَ الخُدودِ
يا زهورَ الحياةِ للحبِّ أنتنَّ / ولكنَّهُ مخيفُ الورودِ
فَسَبيلُ الغرامِ جَمُّ المهاوي / وافرُ الهولِ مُسْتَرابُ الصَّعيدِ
رُغمَ مَا فيه من جمالٍ وفنٍّ / عبقريٍّ مَا إن لهُ من مَزيدِ
وأناشيدَ تُسْكِرُ الملأَ الأعلى / وتُشْجي جَوانحَ الجلمودِ
وأريجٍ يَكادُ يَذْهَبُ بالألبابِ / مَا بَيْنَ غامضٍ وشديدِ
وسَبيلُ الحياةِ رحْبٌ وأنتنّ / اللواتي تَفْرُشْنَهُ بالوُرودِ
أنْ أرَدتُنَّ أن يكون بهيجاً / رائعَ السِّحْر ذا جمالٍ فريدِ
أو بشوكٍ يُدمي الفَضيلةَ والحُبَّ / ويقضي على بهاءِ الوُجودِ
إن أردتُنَّ أنْ يكونَ شنيعاً / مُظْلِمَ الأُفْقِ ميِّتَ التَّغريدِ
يا عَذارى الجمال والحُبِّ والأحلامِ
يا عَذارى الجمال والحُبِّ والأحلامِ / بَلْ يا بَهاءَ هذا الوُجودِ
قَدْ رأيْنا الشُّعورَ مُنْسَدِلاتٍ / كلّلَتْ حُسْنَها صباحُ الورودِ
ورَأينا الجفونَ تَبْسِمُ أو تَحْلُمُ / بالنُّورِ بالهوى بالنّشيدِ
ورَأينا الخُدودَ ضرّجَها السِّحْرُ / فآهاً من سِحْرِ تِلْكَ الخُدودِ
ورأينا الشِّفاهَ تَبْسِمُ عن دنْيا / من الوَردِ غَضّةٍ أُمْلودِ
ورأينا النُّهودَ تَهْتَزُّ كالأزهارِ / في نَشْوَة الشَّبابِ السَّعيدِ
فتنةٌ توقِظُ الغَرامَ وتُذْكيهِ / ولكنْ ماذا وراءَ النُّهودِ
مَا الَّذي خَلْفَ سِحْرِها الحالمِ السَّكرانِ / في ذلك القرار البعيدِ
أنُفوسٌ جميلةٌ كطيورِ الغابِ / تَشْدو بِساحِرِ التَغْريدِ
طاهراتٌ كأنَّها أرَجُ الأزهارِ / في مَوْلدِ الرَّبيعِ الجَديدِ
وقلوبٌ مضيئةٌ كنُجومِ اللّيلِ / ضَوّاعَةٌ كَغَضِّ الوُرودِ
أو ظَلامٌ كأنَّهُ قِطَعُ اللّيلِ / وهَوْلٌ يُشيبُ قلبَ الوليدِ
وخِضَمُّ يَموج بالإثمِ والنَّكْرِ / والشَّرِّ والظِّلالِ المَديدِ
لستُ أدري فرُبَّ زهرٍ شديِّ / قاتلٌ رُغْمَ حُسْنِهِ المَشْهودِ
صانَكُنَّ الإلهُ من ظُلْمةِ الرُّوحِ / ومن ضَلّة الضّميرِ المُريدِ
إنَّ لَيلَ النُّفوسِ ليلٌ مريعٌ / سَرْمَديُّ الأسى شنيعُ الخُلودِ
يرزَحُ القَلْبُ فيه بالألَم المرّ / ويَشقى بعيشِهِ المَنْكودِ
ورَبيعُ الشَّبابِ يُذبِلُهُ الدّهْرُ / ويمضي بِحُسِنهِ المَعْبودِ
غيرُ باقٍ في الكونِ إلاَّ جمالُ / الرُّوح غضًّا على الزَّمانِ الأبيدِ
ليتَ لي أنْ أعيشَ في هذه الدُّنيا
ليتَ لي أنْ أعيشَ في هذه الدُّنيا / سَعيداً بِوَحْدتي وانفرادي
أصرِفُ العُمْرَ في الجبالِ وفي الغاباتِ / بَيْنَ الصّنوبرِ الميَّادِ
لَيْسَ لي من شواغلِ العيشِ مَا يصرف / نَفْسي عنِ استماع فؤادي
أرْقُبُ الموتَ والحياةَ وأصغي / لحديثِ الآزالِ والآبادِ
وأغنِّي مع البلابلِ في الغابِ / وأُصْغي إلى خريرِ الوادي
وأُناجي النُّجومَ والفجرَ والأطيارَ / والنَّهرَ والضّياءَ الهادي
عيشةً للجمال والفنّ أبغيها / بعيداً عنْ أمَّتي وبلادي
لا أُعَنِّي نفسي بأحْزانِ شعبي / فَهْوَ حيٌّ يعيش عيشَ الجمادِ
وبحسبي من الأسى مَا بنفسي / من طَريفٍ مسْتَحْدَثٍ وتَلاد
وبعيداً عن المَدينةِ والنّاسِ / بعيداً عن لَغْوِ تِلْكَ النّوادي
فهوَ من مَعْدَنِ السَّخافةِ والإفْكِ / ومن ذلك الهُراء العادي
أينَ هوَ من خريرِ ساقية الوادي / وخفْقِ الصَّدى وشدوِ الشَّادي
وحفيفِ الغصونِ نمَّقها الطَّلُّ / وهَمْسِ النَّسيمِ للأولادِ
هذه عيشةٌ تقدِّسُها نفسي / وأدعو لمجدها وأنادي
أنتِ كالزهرةِ الجميلةِ في الغابِ
أنتِ كالزهرةِ الجميلةِ في الغابِ / ولكنْ مَا بَيْنَ شَوكٍ ودودِ
والرياحينُ تَحْسَبُ الحسَكَ الشِّرِّيرَ / والدُّودَ من صُنوفِ الورودِ
فَافْهِمي النَّاسَ إنَّما النَّاسُ خَلْقٌ / مُفْسِدٌ في الوجودِ غيرُ رشيدِ
والسَّعيدُ السَّعيدُ من عاشَ كاللَّيل / غريباً في أهلِ هذا الوجودِ
ودَعيهِمْ يَحْيَوْنَ في ظُلْمةِ الإثْمِ / وعيشي في طُهْرِكِ المحمودِ
كالملاك البريءِ كالوردة البيضاءِ / كالموجِ في الخِضَمِّ البَعيدِ
كأغاني الطُّيور كالشَّفَقِ السَّاحِرِ / كالكوكبِ البعيدِ السَّعيدِ
كَثُلوجِ الجبال يغمرُها النُّورُ / وتَسمو على غُبارِ الصَّعيدِ
أنتِ تحتَ السَّماءِ روحٌ جميلٌ / صاغَهُ الله من عَبيرِ الوُرودِ
وبنو الأرضِ كالقُرودِ وما أضْيَ / عَ عِطرَ الورودِ بَيْنَ القرودِ
أنتِ من ريشة الإله فلا تُلْقي / بفنِّ السّما لِجَهْلِ العبيدِ
أنتِ لم تُخْلَقي ليقْرُبَكِ النَّاسُ / ولكنْ لتُعْبَدي من بعيدِ
في جبالِ الهمومِ أنْبتُّ أغصاني
في جبالِ الهمومِ أنْبتُّ أغصاني / فَرَفّتْ بَيْنَ الصُّخورِ بِجُهْدِ
وتَغَشَّانيَ الضَّبابُ فأورقتُ / وأزْهَرتُ للعَواصفِ وَحْدي
وتمايلتُ في الظَّلامِ وعَطّرتُ / فَضاءَ الأسى بأنفاسِ وَردي
وبمجدِ الحياةِ والشوقِ غنَّيْتُ / فلم تفهمِ الأعاصيرُ قَصْدي
ورَمَتْ للوهادِ أفنانيَ الخضْرَ / وظلّتْ في الثَّلْجِ تحفر لَحْدي
ومَضتْ بالشَّذى فَقُلتُ ستبني / في مروجِ السَّماءِ بالعِطر مَجْدي
وتَغَزلْتُ بالرَّبيعِ وبالفجرِ / فماذا ستفعلُ الرّيحُ بعدي
غَنَّاهُ الأَمْسُ وأَطْرَبَهُ
غَنَّاهُ الأَمْسُ وأَطْرَبَهُ / وشَجَاهُ اليومُ فَما غَدُهُ
قَدْ كانَ لهُ قلبٌ كالطِّفْلِ / يدُ الأَحلامِ تُهَدْهِدُهُ
مُذْ كانَ له مَلَكٌ في الكونِ / جَميلُ الطَّلعَةِ يَعْبُدُهُ
في جوفِ اللَّيْلِ يُناجيهِ / وأَمامَ الفَجْرِ يُمَجِّدُهُ
وعلى الهَضَباتِ يُغنِّيهِ / آياتِ الحُبِّ ويُنْشِدُهُ
لولاهُ لما عَذُبَتْ في / الكونِ مَصَادِرُهُ ومَوارِدُهُ
ولَما فاضَتْ بالشِّعْرِ الح / يِّ مَشَاعِرهُ وقَصَائِدُهُ
تمشي في الغابِ فتَتْبَعه / أَفراحُ الحُبِّ وتَنْشُدُهُ
ويرى الآفاقَ فيُبْصِرُها / زُمَراً في النُّورِ تُراصِدُهُ
ويرى الأَطْيارَ فيَحْسَبُها / أَحلامَ الحُبِّ تُغَرِّدُهُ
ويرى الأَزهارَ فيَحْسَبُها / بَسماتِ الحُبِّ تُوارِدُهُ
فَيَخَالُ الكونَ يُناجيهِ / وجَمالَ العالَمِ يُسْعِدُهُ
ونُجومَ اللَّيلِ تُضاحِكُهُ / ونَسيمَ الغابِ يُطَارِدُهُ
ويَخالُ الوَرْدَ يداعِبُهُ / فرحاً فتعابثه يَدُهُ
ويرى اليُنْبوعَ ونَظْرَتَهُ / ونَسيمُ الصُّبْحِ يُجَعِّدُهُ
وخريرُ الماءِ لهُ نَغَمٌ / نَسَماتُ الغابِ تُرَدِّدُهُ
ويرى الأَعشابَ وقَدْ سَمَقَتْ / بَيْنَ الأَشجارِ تُشاهِدُهُ
ونِطاقُ الطِّفلِ تُنَمِّقُها / فَيَجُلُّ الحُبَّ ويَحْمدُهُ
يا للأَيَّامِ فكم سَرَّتْ / قلباً في النَّاسِ لتُكْمِدُهُ
هيَ مِثْلُ العاهِرِ عاشِقُها / تسقيهِ الخمرَ وَتَطْردُهُ
يُعْطيكَ اليومُ حلاوتها / كالشَّهْدِ ليَسْلُبَها غَدُهُ
بالأَمسِ يعَانِقُها فرحاً / ويضاجعُها فَتُوَسِّدُهُ
واليومَ يُسايِرُها شَبَحاً / أَضناهُ الحزنُ وَنَكَّدَهُ
يتلو في الغابِ مَرَاثيهِ / وجُذُوعُ السَّرْوِ تُسانِدُهُ
ويُماشي النَّاسَ وما أَحَدٌ / مِنْهُمْ يَشْجِيهِ تَفَرُّدُهُ
في ليلِ الوَحْشَةِ مسْراهُ / وبِكَهْفِ الوَحْدَةِ مرقَدُهُ
أَصواتُ الأَمسِ تُعَذِّبُهُ / وخيالُ الموتِ يُهَدِّدُهُ
بالأَمسِ لهُ شفَقٌ في الكونِ / يُضيءُ الأُفْقَ تورُّدُهُ
واليومَ لَقَدْ غَشَّاهُ اللَّيلُ / فما في العالمِ يُسعدُهُ
غنَّاهُ الأَمسُ وأَطْرَبَهُ / وشَجَاهُ اليَومَ فَما غَدُهُ

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025