القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : مَعرُوف الرُّصافِيّ الكل
المجموع : 29
جمالك يا وجه الفضاء عجيب
جمالك يا وجه الفضاء عجيب / وصدرك يأبى الانتهاء رحيب
وعينُك في أم النجوم كبيرةٌ / تضيء على أن الضياء لهيب
وما زلت تغضيها فنُخطئ قصدنا / وتفتحها برّاقةً فنصيب
فيحمرّ منها في الغَدّية مطلع / ويصفرّ منها في العشيّ مغيب
ويخلفها البدر المنير حفيدها / وعنها إذا جنّ الظلام ينوب
وليلٍ كأنّ البدر فيه مليحةٌ / أغازلها والنيّرات رقيب
سريت به والبحر رهوٌ بجانبي / وردُن النسيم الغضّ فيه رطيب
فشاهدت فيه الحسن أزهر مشرقاً / له في العلا وجهٌ أغرّ مهَيب
ورحت وأهل الحيّ في قبضة الكرى / وفي الليل صمتٌ بالسكون مشوب
فكنت كأنّي أسمع الصمت سارياً / له بين أحشاء الفضاء دبيب
ولو أنّ صمت الليل لم يك مطرباً / لما هزّ أعطاف النسيم هبوب
ألا أن وجه البحر بالنور ضاحك / طليق وثغر الماء فيه شنيب
ترقرق منساباً به الماء والسنى / فلم أدر أيّ اللامعين يسيب
وللبدر نورٌ يمنح البحر رونقاً / فيبدو كأنّ الماء فيه ضريب
إذا جمّش البحر النسيم تهلّلت / أسارير فيها للضياء وثوب
وقفت ولألاء السني يستخفّني / فتطرب نفسي والكريم طروب
أردّد بين البدر والبحر ناظري / قيصعد طرفي مرة ويصوب
تأمّلت في حسن العوالم مَوهِناً / فجاش بصدري الشعر وهو نسيب
كأنّي وعُّلويَّ العوالم عاشقَ / أطلّ من الأعلى عليه حبيب
فقام له مستشرفاً ويمينه / تشدّ ضلوعاً تحتهنّ وجيب
ولما رأيت الكون في الأصل واحداً / عجبت لأن الخلق فيه ضروب
ألا أن بطناً واحداً أنتج الورى / كثيرين في أخلاقهم لرغيب
وإن فضاءً شاسعاً قد تضاربت / بأبعاده أيدي القوى لرهيب
وإن اختلاف الآدميين سيرةً / وهم قد سلووا صورة لعجيب
وأعجب ما في الكائنات ابن آدم / فما غيره في الكائنات مريب
يذمّم فعل السوء وهو حليفه / ويحمد قول الصدق وهو كذوب
رأيت الورى كلاًّ يراقب غيره / فكلّ عليه من سواه رقيب
ومن أجل هذا قد نرى كل فاعل / إلى الناس في كلّ الفِعال ينيب
فكم حَمَل في مجمع القوم يُتّقى / به ثعلب عند الخلاء وذيب
ولو باح كلٌّ بالذي هو كاتمٌ / لما كان في هذا الأنام أديب
وليس يجدّ المرء إلاّ تكلُّفاً / وذاك لأن الطبع فيه لعوب
ويجتنب المرء العيوبَ لأنّها / لدى عائبيه لا لديه عيوب
رئاء قديم في الورى شقيت به / قبائل منهم جَمةٌ وشعوب
ورَّبتَ أخلاق يراها خبيثةً / اناس وعند الآخرين تَطيب
وحلم الفتى عند الضعيف فضيلةٌ / ولكنه عند القوىّ مّعيب
وقد يفتري المال الفضائل للورى / وليس لهم مما افتراه نصيب
وللفقر بين الناس وجهٌ تبينّت / به حسنات المرء وهي ذنوب
لقد أحجم المثري فسّموه حازماً / وأحجم ذو فقرٍ فقيل هيوب
وإن يتواضع مُعدمِ فهو صاغرٌ / وإن يتواضع ذو الغنى فنجيب
وذو العُدم ثرثار بكثر كلامه / وذو الوُجد منطيق به ولبيب
وللناس عادات كثير تقودهم / فكلّ امرئ منهم لهنّ جنيب
وهنّ إذا ما يأكلون أكيلهم / وهنّ إذا ما يشربون شريب
أبو أن يحيدوا ضلّة عن طريقها / وإن مسّهم من أجلهن لغوب
هي الداء أعيا الأولين فهل له / على عقمه في الآخرين طبيب
لمن تركت فنون العلم والأدب
لمن تركت فنون العلم والأدب / أما خشيت عليها من يد العطب
نلك المدارس قد أوحشتها فغدت / خلواً من الدرس والطلاب والكتب
ما إن تركت لها في العلم من وطر / ولا لمنتابها في الدرس من أرب
إن الألوسي محموداً عرته لدن / لاقاك محمود شكري خفة الطرب
فاهتزّ لابنٍ أبٌ قي قبره وغدا / يبدي الحفاوة خير ابن لخير أب
بحرين في العلم عجّاجين قد ثويا / فاتصبّ مضطرب في جنب مضطرب
من فخر أزماننا في العلم أنّهما / علاّمتا هذه الأزمان والحقب
عليك شكري غدت شكرى مدامعنا / تكفيك أدمعها السقيا من السحب
ما كنت فخر الألوسيّين وحدهم / بل كلّ من ساد من صيّابة العرب
ولا رزأت النهى والعلم وحدهما / بل قد رزأت صميم المجد والحسب
ولم يخصّ الأسى داراً نعيت بها / بل عمّ مبتعداً من بعد مقترب
من العراق إلى نجد إلى يمن / إلى الحجاز إلى مصر إلى حلب
لقد ترحّلت في يوم بنا انقلبت / حوادث الدهر فيه شرّ منقلب
حتى تقدّم ما في القوم من ذنبٍ / فصار رأساً وصار الرأس في الذنب
وبات يحسو الطلا بالكأس من ذهب / من كان يشرب رنق الماء بالعلب
فاذهب نجوت رعاك الله من زمن / من عاش فيه دعا بالويل والحرب
تستثقل الصدق فيه إذن سامعه / وتطرب القوم فيه رنّة الكذب
والخير قد ضاع حتى أنّ طالبه / لم يلق منه سوى المسطور في الكتب
أما الرجال فنار الشرّ موقدةٌ / فيهم وهم بين نفّاخ ومحتطب
أفعالهم لم تكن جدّاً ولا لعباً / لكن تراوغ بين الجد واللعب
إذا جلست إليهم في مجالسهم / تلقى القوارض فيها ذات مصطخب
أرقى الصحائف فيما عندهم أدباً / ما شذّ منها بهم عن خطّة الأدب
قد يطربون لشتم المرء صاحبه / كأنما الشتم مدعاة إلى الطرب
ويستلذّون من قوم سبابهم / كما استلذّ بحكّ الجلد ذو جرب
لا يغضبون لأمرٍ عمّ باطله / كأنهم غير مخلوقين من عصب
وليس تندى من النكراء أوجههم / كأنما القوم منجورون من خشب
يا راحلاً ترك الآماق سائلةً / يذرفن منسكباً في إثر منسكب
أجبت داعي موت حمّ عن قدر / وأي نفس لداعي الموت لم تجب
والناس أسرى المنايا في حياتهم / من فاته السيف منهم مات بالوصب
هذي جيوش الردى في الناس زاحفةً / لكنهنّ بلا نقع ولا لجب
بين الدواء وبين الداء معترك / فيه قضى ربنا للداء بالغلب
والناس فيه عتاد للحمام فلا / ينجون من عطب إلاّ إلى عطب
وإن للموت أسباباً يسببّها / من سدّ كلِّ طريق عنه للهرب
ولا يخلق الله مخلوقاً يجول به / دم الحياة بلا أم له وأب
ولا يميت بلا داء ولا سقم / ولا يعيش بلا كدٍ ولا تعب
وليس ذلك مِن عجزٍ بخالقنا / عن أن يزجّ بنا في قبضة الشجب
لكنّه جعل الدنيا مسبّبةً / لكل أمرٍ بها لابدّ من سبب
يا من إذا ما ذكرناه نقوم له / على الأخامص أو نجثو على الركب
لقد تركت يتيم العلم منتجاً / والكتب راثيةً منه لمنتحب
إن كنت في هذه الدنيا لمنقطعاً / إليه عن كل موروث ومكتسب
أعرضت عنها مشيحاً غير ملتفت / إلى المناصب فيها أو إلى الرتب
أولعت بالعلم تنميه وتجمعه / منذ الشباب وما أولعت بالنشب
فعشت دهراً حليف العلم تنصره / حتى قضيت فقيد العلم والأدب
نعى البرق من باريس ساسون فاغتدت
نعى البرق من باريس ساسون فاغتدت / ببغداد أم المجد تبكي وتندب
ولا غروَ أن تبكيه إذ فقدت به / نواطق أعمال عن المجد تعرب
لقد كان ميمون النقيبة كلما / تذوّقته في النفس يحلو ويعذب
تشير إليه المكرمات بكفّها / إذا سئلت أي الرجال المهذّب
ألا لا تقل قد مات ساسون بل فقل / تغوّر من أفق المكارم كوكب
فلا عجب أن راح في الغرب ثاوياً / فإن النجوم الزهر في الغرب تغرب
فقدنا به شيخ البرلمان ينجلي / به ليلة الداجي إذا قام يخطب
وكان إذا ما قال أوجز قوله / ولكنّه في فعله الخير مسهب
وكانت له في الترك قبلاً مكانة / بها كل ذي فضل من الترك معجب
وزين النهى لا يستخفّ حصاته / مع الغيد ملهى أو مع الصيد ملعب
تضجّ الملاهي وهو كالطود شامخ / فلم تلقه إلا من المجد يطرب
وما سرّه من دولة العجم رتبة / ولا غره من دولة العُرب منصب
لقد كان في الأوطان يرأب صدعها / فيسعى إلى الإصلاح فيها ويدأب
فأصغى لشكواها وزيراً ونائباً / وعالجها منه الطبيب المجرّب
وأبعد مرمى حبّها في شبابه / وجاهد في إسعادها وهوأشيب
لئن كنت يا ساسون غيبك الردى / لذكراك في العلياء لا تتغيب
رزئناك مِفضالاً ففقدك محزن / ومسعاك محمود وذكرك طيّب
أيّ مُضنَى يَمُدّها بالكتئاب
أيّ مُضنَى يَمُدّها بالكتئاب / أنّةً تترك الحشا في التهاب
يتشكّى والليلَ وحْف الاهاب / ضمن بيت جثا على الأعقاب
صفقته فمال كفّ الخراب /
تسمع الأُذن منه صوتاً حزيناً / راجفاً في حشا الظلام كمينا
يملأ الليل بالدعاء أنينا / ربّ كن لي على الحياة معينا
ربّ أن الحياة أصل عذابي /
وجع في مفاصلي دقّ عظمي / ودهاني ولم يَرِقّ لعُدمي
عاقني عن تكسُّبي قوت يومي / ربّ فارحم فقري بصحة جسمي
أن فقري أشدّ من أوصابي /
يا طبيباً وأين مني الطبيب / حال دون الطبيب فقر عصيب
لا أصاب الفقيرَ داءٌ مصيب / أن سُقم الفقير شئ عجيب
بطلت فيه حكمة الأسباب /
رجل معُسِر يسمى بشيرا / كان يسعى طول النهار أجيرا
كاسباً قُوته زهيداً يسيرا / مالكاً في المَعاش قلباً شكورا
راجياً في المَعاد حسُن المآب /
عال أختاً حَكَته خُلْقاً نزيها / عانساً جاوز الزواج سِنِيها
لزِمت بيت أمها وأبيها / مع أخيها تعيش عند أخيها
مثله في طعامه والشراب /
كلَّ يوم له ذهاب ومَأتَي / في معاش من كدّه يتأتّى
هكذا دأبه مَصيفاً ومَشتَى / فاعتراه داء المفاصل حتى
عاقه عن تعيّش واكتساب /
بينما كان في قواه صحيحا / ساعياً في ارتزاقه مستميحا
إذ عراه الضَنَى فعاد طَليحا / ورمته يد السقام طريحا
جسمه من سقامه في اضطراب /
بات يبكي إذا له الليل آوى / بعُيون من السهاد نَشاوى
فترى وهو بالبكا يتداوى / قطراتٍ من عينه تتهاوى
كشهاب يَنقضّ أثر شهاب /
أن سُقما به وعدماً ألمّا / تركاه يذوب يوماً فيوما
فهو حيناً يشكو إلى السقم عُدما / وهو يشكو حيناً إلى العدم سقما
باكياً من كليهما بانتحاب /
ظلّ يشكو للأخت ضَعفا وعَجزا / إذ تُعزّيه وهو لا يتعزّى
أيها الأخت عزّ صبريَ عزّا / أنّ للداء في المفاصل وخزا
مثل طعن القنا ووخز الحراب /
قد تمادى به السقام وطالا / وتراءى له الشفاء مُحالا
إذ قُلاباً به السقام استحالا / كان هَيْناً فصار داءً عُضالا
ناشباً في الفؤاد كالنُشّاب /
ظلّ مُلقىً وأعوزته المطاعم / مُوثَقاً من سقامه بالأداهم
مُنفِقاً عند ذاك بعض دراهم / رَبِحَتها من غزلها الأخت فاطم
قبل أن يُبتَلى بهذا المُصاب /
قال والأخت أخبرته بأن قد / كَرَبت عندها الدراهم تَنْفَد
أخبري السقم علّه يتبعّد / أيها السقم خلِّ عيشي المُنَكّد
لا تعُقني في عيشتي عن طلابي /
مرّضيني شقيقتيِ مرّضيني / وعلى الكسب في غد حَرِّضيني
وإذا مَسَّك الطَوىَ فارفُضيني / أو على الناس للمبيع اعرِضيني
علّهم يشترونني مما بي /
رام خبزاً والجوع أذكى الاُوارا / في حشاه فعلَّلَته انتظارا
ثم جاءت بالماء تُبدي اعتذارا / وهل الماء وهو يُطفئ نارا
يطفئ الجوع ذاكياً في التْهاب /
خرجت فاطم إلى جارتَيْها / ويه تُذري الدموع من مُقلتيها
فأبانت برِقّة حالتيها / من سقام ومن سُعاد لديها
وشَكَت بعدَ ذا خُلُوّ الوِطاب /
فانثنَت وهي بين ذُلّ وعزّ / تحمل التمر في يدٍ فوق خبز
وبأخرى سَمناً وبعض أرُزّ / منحوها به وذو العرش يَجزى
مَن أعان الفقير حسن الثواب /
ليلةٌ تَنْشُر العواصفُ ذُعرا / في دجاها حيث السحاب اكْفَهَرّا
ذا هَزِيم يَمُجّ في الأذن وقرا / حين تُبدي صوالجَ البرق تترى
كهربائيةٌ سَرَت في السحاب /
مدّ فيها ذاك المريض الأكُفّا / في فراش به على الموت أوفى
طرفه كالسُها يَبين ويَخْفَى / حيث يُغضي طرفاً ويفتح طرفا
عاجزاً عن تكلُّم وخطاب /
فدَعَتْه والعين تُذري الدموعا / اخته وهي قلبها قد ريعا
يا أخي أنت ساكت أفجوعا / ساكت أنت يا أخي أم هُجَوعا
فاشْفِني يا أخي برَجْع الجواب /
فرأت منه أنه لا يُجيب / فتدانت والدمع منها صَبيب
ثم أصغت وفي الفؤاد وَجيب / ثم هابت والموت شىءٌ مَهيب
ثم قامت بخشيةٍ وارتياب /
خرجت فاطم من البيت ليلا / حيثِ أرخَى الظلام سدلا فسدلا
وهي تبكي والغَيث يهطل هطلا / مثلَ دمع من مقلتَيْها استَهَلا
أو كماءٍ جرى من الميزاب /
ربّ أدرك باللطف منك شقيقي / وامنع الغيث ربّ عن تعويقي
ومُرِ البرق أن يُضيء طريقي / بريقٍ يُبديه أثر بريق
فعسى أهتدي به في ذهابي /
قَرعت في الظلام باب الجار / وهي تبكي الأسى بدمع جار
ثم تادت برقّة وانْكسار / أم سلمى ألا بحق الجِوار
فافتحي أنني أنا في الباب /
فأتتها سُعدى وقد عرَفتها / وعن الخَطْب في الدجى سألتها
ثم سارت من بعدما أعلمتها / تقتفيها وبنتها تَبِعَتها
فتخطَّيْن في الدجى بانسياب /
جِئن والسحب أقْلَعت عن حَياها / وكذلك الرعود قلّ رُغاها
حيث يأتي شِبه الأنين صداها / غير أن البروق كان ضياها
مومِضاً في السماء بين الرَباب /
فدخَلْن المحلّ وهو مُخيف / حيث انّ السكوت فيه كثيف
وضياء السراح نَزْرٌ ضعيف / وبه في الفراش شخص نَحيف
دبّ منه الحِمام في الأعصاب /
قالت الأخت أم سلمى انْظُريه / ثُكلت روح أمه وأبيه
فرأت منه إذ دنت نحو فيه / نَفَساً مبُطيء التردُّد فيه
ثم قد غالَه الرَدى باقتضاب /
وجَمَت حَيْرةً وبعد قليل / رمَقَت فاطماً بطرف كَلِيل
فيه حَمْل على العزاء الجميل / فعَلا صوت فاطم بالعويل
وبكت طول ليلها بانتِحاب /
فاستمرّت حتى الصباح تُوالي / زفارت بنارها القلب صال
فأتاها ودمعها في انْهمال / بعض جاراتها وبعض رجال
من صعاليك أهل ذاك الجَناب /
وقفوا موقفاً به الفقر ألْقى / منه ثِقْلاً به المعيشة تَشقى
فرأوا دمع فاطم ليس يرقا / وأخوها مَيْت على الأرض مُلقى
مُدرَجٌ في رثائث الثواب /
فغدت فاطم ترن رنينا / ببكاءٍ أبكت به الواقفينا
ثم قالت لهم مَقالاً حزينا / أيها الواقفون هل ترحمونا
من مُصاب دها وأيّ مصاب /
أيها الواقفون لا تُهملوه / دونكم أدمُعي بها فاغْسِلوه
ثم الثوب ضافياً كفِّنوه / وادفُنوه لكن بقلبي ادفنوه
لا تُواروا جبينه بالتراب /
بعد أن ظلّ لافتِقاد المال / وهْو مُلقىً إلى أوان الزوال
جاد شخص عليه بعد سؤال / بريال وزاد نصف ريال
رجل حاضر من الأنجاب /
كفَّنوه من بعد ما تمّ غسلا / وتمشَّوا به إلى القبر حَملا
فترى نعشه غداة استقلا / نعش من كان في الحياة مُقِلا
دون ستر مكسّرَ الأجناب /
ناحت الأخت حين سار وصاحت / اختك اليوم لو قَضَت لاستراحت
ثم سارت مدهوشة ثم طاحت / ثم قامت ترنو له ثم راحت
تسكبُ الدمع أيَّما تَسكاب /
أيها الحاملوه لا مشيَ رَكض / أن هذا يوم الفراق المُمِضّ
فاسألوه عن قصد أين يَمضي / أنه قد قضى ولم يكُ يَقضي
واجبات الصبا وشرخ الشباب /
أن قلبي على كريم السجايا / طاح والله من أساه شظايا
قاتل الله يا ابن أمّي المنايا / أنا من قبلُ مذ حسبت الرزايا
لم يكنُ رزء موتكم في حسابي /
أن ليلي ولست من راقديه / كلما جاءني وذكّرنيه
قلت والدمع قائل لي أيه / يا فقيداً اعاتب الموت فيه
ببُكائي وهل يُفيد عتابي /
رُحت يوماً وقد مضت سنتان / أتمشى بشارع الميدان
مَشيَ حيران خَطوُه مُتدان / أثقَلَته الحياة بالأحزان
وسقَتْه كأساً كطعم الصاب /
بينما كنت هكذا أتمشّى / عَرَضَتْ نظرة فأبصرت نعشا
بادياً للعيون غير مُغَشّى / نقش الفقر فيه للحزن نَقْشا
فبدا لوح أبْؤسٍ واكتئاب /
قلت سرّاً والنعش يقرُب منّي / أيّها النعش أنت أنعشتَ حزني
للأسَى فيك حالة ناسبتني / أن بدا اليوم فيك حزن فإني
أنا للحزن دائماً ذو انْتساب /
رحت أسعَى وراء مذ تعدّى / مسرعاً في خطايَ لم آل جهدا
مع رجال كأنجم النعش عدا / هم به ائرون سيراً مُجدّاً
فتراه يمرّ مرّ السحاب /
مذ لحدنا ذاك الدفين وعُدنا / قلت والدمع بلَّ منّي ردنا
أن هذا هو الذي قدُ وعِدنا / فأبينوا من الذي قد لحَدْنا
فتصّدَى منهم فتىً لجوابي /
قال أن الدفين أخت بشير / أخت ذاك المسكين ذاك الفقير
بَقِيَت بعده بعيش عسير / وبطرف باك وقلب كسير
وقضت مثله بداء القُلاب /
قلت أقصر عن الكلام فحَسْبي / منك هذا فقد تزلزل قلبي
ثم ناجيت والضراعة ثوبي / ربّ رُحماك ربّ رحماك ربي
ربّ رشداً إلى طريق الصواب /
ربّ إن العباد أضعف أن لا / يجدوا منك ربّ عفواً وفضلاً
فاعفُ عن أخذهم وأن كان عَدْلاً / أنت يا ربّ أنت بالعفو أولى
منك بالأخذ والجزا والعقاب /
قد وردنا والأرض للعيش حَوْض / واحد كلنا لنا فيه خَوض
فلماذا به مَشُوب ومَحْض / عَظُمت حكمة الاله فبَعْض
في نعيموبعضنا في عذاب /
أيها الأغنياء كم قد ظَلَمْتم / نِعَم الله حيث ما إن رحِمْتم
سهِر البائسون جوعاً ونِمتم / بهناءٍ من بعد ما قد طَعِمْتم
من طعام مُنَّوع وشراب /
كم بذلتم أموالكم في الملاهي / وركبتم بها مُتون السَفاه
وبخِلتم منها بحق الله / أيها المُوسِرون بعض انتباه
أفتدرون أنكم في تَباب /
هل الدهر إلا أعجميّ أخاطبه
هل الدهر إلا أعجميّ أخاطبه / فما لي إلى فهم الحديث أجاذبه
أيَثْني إلى وجه اللئيم بوجهه / ويرتدّ مُزورّاً عن الحُرّ جانبه
أراه إذا طارحته الجِدّ لاعباً / وما أنا ممن يا أميم يلاعبه
ويضرب أطناب المُنى لي هازلاً / وما أنا مخدوع بما هو ضاربه
وبيناه يبدي لي ابتسامة خادع / يُقطّب حتى لا تَبينَ حواجبه
لقد أضحكت غير الحليم شُؤونه / وأبكت سوى عين السفيه نوائبه
فيا أدباء القوم هل تنقضي لكم / شكاية دهر حاربتكم مصائبه
يَشُدّ عليكم بالسيُوف نكاية / وَأقلامكم وهو الأصمّ تعاتبه
هو الدهر لم يسلم من الغيّ أهله / كما الليلُ لم يأمَنْ من الشر حاطبه
إذا آنسوا نور الحقيقة رابهم / فتجثو على الأبصار منهم غَياهبه
تضاربت الأهواء فيهم فناكبٌ / عن الشرّ يُقصيه وآخر جالبه
طبائعهم شتّى على أن بينهم / كريماً تُواليه ووغداً تُجانبه
لعمرك حتى البرق خالف بعضَه / فقد خولفت بالموجبات سوالبه
أبت حركات الكون إلا تَبايناً / دوافعه فَعّالة وجواذبه
ولولا أختلاف شاءه اللّه في القوى / لما دار في هذا الفضاء كواكبه
سَبَرت زماني بالنُهَي ومَخَضْته / بتجربتي حتى تجلّت عواقبه
ولم أستشر في الناس إلاّ تجاربي / وهل يَصْدُق الأنسانَ إلاّ تجاربه
فلا ترتكب قرب اللئام فإنهم / لكالبحر محمول على الهول راكبه
وما عجبي في الدهر إلاّ لواحد / وأن كثرت في كل يوم عجائبه
وذلك أن العيش فيه مُطيَّب / لمن خَبُثت بالمخُزيات مكاسبه
ولو كان في أعماله الدهر عاقلاً / لما كان مثلي في الورى مَن يُحاسبه
ولو كان يكن في كل ما فيه خادعاً / لما أمَّ فيه صادقَ الفجر كاذبه
ألا ربّ شيطان من الأنس قد غدا / يُخاتلني خَلساً وعيني تراقبه
فقلت له أخسأ إنما أنت خائب / وقبلك أعيا الجنّ ما أنت طالبه
فوَلّى على الأعقاب يحبو وقد دَرى / وللّه دَرّى أنني أنا غالبه
فأتبَعَه مني شهاب تسامح / يَشُق ظلام الجهل بالحلم ثاقبه
ولو شئت أرسلت الخَديعة خلفه / تطارده حتى تضيق مذاهبه
ولكن أبي منّي الخِدالع مهذَّب / تعوَّدِ فعل الخير مُذ طَرُّ شاربه
وذي سفه أغضَيْت عنه تكَرُّماً / فَدَبّت على رجليّ غدراً عقاربه
فقمت له بالنَعل ضرباً فلم تزل / يدايَ به حتى اطمأنّت غواربه
وجنّبته السيف الجُراز لأنه / تعالت عن الكلب العَقور مَضاربه
لقد عابني جهلاً ولم يدر أنّه / أقلّ فِداءٍ للذي هو عائبه
له نسبة مجهولة غير أنه / مَغامزه معلومة ومعايبه
لا يبلُغ المرء منتهى أرَبه
لا يبلُغ المرء منتهى أرَبه / إلا بعلم يَجدّ في طلبه
فَأْوِ إلى ظلّه تعش رغَداً / عيشاً أميناً من سوء مُنقلبَه
واتعب له تسترح به أبداً / فراحة المرء من جَنى تعبه
ولذّة العلم من تَذَوَّقها / أضرب عن شهده وعن ضَربه
وأن للعلم في العلا فَلَكاً / كل المعالي تدور في قُطُبه
فاسعَ إليه بعزمِ ذي جَلَد / مُصمّم الرأي غير مضطربه
وأبذُل له ما ملكت من نَشَب / فالعلم أبقى للمرء من نشبه
لا تتّكل بعده على نَسَب / فالعلم يُغني النسيب عن نسبه
وأطّرح المجد غيرَ طارفه / وأجتنب الفخر غير مكتَسَبه
ما أبعد الخيرَ عن فتىً كَسِل / يسرح في لهوه وفي لَعِبه
كم رفع العلم بيت ذي ضَعَة / فقصّر الناس عن مدى حَسَبه
حتى تمنّى أعلى الكواكب لو / يحُلّ بيتاً يكون في صَقَبه
وودّت الشمس في أشعّتها / لو كنّ يُحْسَبْن من قوى طُنُبه
وأن يَسُد جاهل فسؤدده / بعد قليل يُفضي إلى عَطَبه
يرى امرؤ مجد جاهل عجباً / لو صحّ عقلاً لكفّ عن عجبه
كم كذب الدهر في فعائله / وسؤدد الجاهلين من كَذِبه
العلم فَيْض تحيا القلوب به / فأمتّح بسَجْل الحياة من قُلُبه
كل فَخار أسبابه انقطعت / إلا فخاراً يكون من سببه
للعلم وجه بالحسن مُنتقِب / وسافرٌ منه مثل منتقبه
ما حُسن وجه الفتى بمَفخَرة / أن لم يؤيَّد بالحسن من أدبه
ما أقدر العلمَ أنّ صَيْحته / يُمْعِن منها الخميس في هربه
من تَخِذ العلمَ عُدّة لوغىُ / أغناه عن دِرعه وعن يَلَبه
فأنتدِب العلم للخطوب فما / خاب لعمِري رجاء منتدِبه
العلم كالنور بل أفضله / ما أفقرَ النورَ أن يُشبَّه به
وإنما العلم للنُهى عَصَبٌ / والحسّ في الجسم جاء من عصبه
سَقياً ورعياً لروض معهده / وطالبيه وقارئي كتبه
ما الناس إلاّ رُوّاد نُجْعته / وناشروه وكاشفو حُجُبه
ومن غدا هاديا يعلّمه / وراح يشفي الجهول من وَصبَه
ومعهد أسِّست قواعده / في بلد شَفّني هوى عربه
شيّده للعلوم مدرسة / من كان نشر العلوم من دَأَبه
قد غَرَّد المجد في جوانبه / فاهتَزّ عِطف الفَخار من طربه
وأصبح العلم فيه مُزدهِراً / بكلّ ذاكي الذكاء ملتهبه
بمثله في البلاد قاطبةً / يُشفى عَقُور الزمان من كَلَبه
أضحت فلسطين منه مُمْرِعة / مذ جادها بالغزير من سُحُبه
تاهت به ايلياء فاخرة / على دمشق الشَآم أو حلبه
شكراً لبانيه ما أقام به / شُبّانه القاطنون في قُبَبه
لهذا اليوم في التأريخ ذكر
لهذا اليوم في التأريخ ذكر / به الآناف يفغمهنّ طيب
ويحسن في المسامع منه صوت / له تهتز بالطرب القلوب
ففي ذا اليوم نحن قدِ أحْتفَيْنا / بريحانيّنا وهو الأديب
فتىً كثُرت مناقبه فأضحى / له في كل مَكرُمة نصيب
نُجالس منه ذا خُلُق كريم / له بجليسه أثر عجيب
وأقسم لو يجالسه سفيهٌ / فواقاً لأغتدى وهو الأريب
كذاك يكون زهر الروض لمّا / تمرّ عليه ناسمةٌ تطيب
ولم يُنسب إلى الريحان إلاّ / وريحان الرياض له نسيب
له قلم به تحيا المعاني / كما يحيا من المطر الجديب
وتُشرق في سماء الشعر منه / كواكب ليس يدركها مغيب
لقد طارت بشهرته شَمال / كما طارت بشهرته جَنوب
وطبّق ِصيته الآفاق حتى / تعرفه القبائل والشعوب
فَدَيتك هل تُصيخُ فإن عندي / شَكاةً لا تصيخ لها الخطوب
إلى كم أستغيث ولا مغيث / وأدعو من أراه فلا يجيب
أقمت ببلدة مُلئت حُقوداً / عليّ فكل ما فيها مُريب
أمُرّ فتنظر الأبصار شَزراً / إليّ كأنما قد مرّ ذيب
وكم من أوجُه تُبدي ابتساماً / وفي طَيّ ابتسامتها قُطوب
سكنت الخان في بلدن كأني / أخو سفر تَقاذَفُه الدروب
وعشت معيشة الغرباء فيه / لأني اليوم في وطني غريب
وما هذا وأن آذى بدائي / ولا هو أمره أمرٌ عَصيب
ولكني أرى أبناء قومي / يدبّر أمرهم مَنِ لا يُصيب
يقدَّم فيهم الشِرّير دفعاً / لشِرَّته ويُحتقَر الأديب
فهذا الداء مُنتشِب بقلبيِ / وفي قلب العُلا منه وجيب
فكيف شفاؤه ومتى يُرجّى / وأين دواؤه ومَن الطبيب
وأن أكُ قد شكوت فما شَكاتي / إلى ذي خلّة شيء مَعيب
سأنصِب للهواجر حُرّ وجه / يعود إلى الشروق به الغروب
وأضرِب في البلاد بغير مكث / أجوب من المهامِهِ ما أجوب
إلى أن أستظلّ بظلّ قوم / حياة الحرّ عندهم تطيب
وإلاّ فالحياة أمَرّ شيء / وخير من مرارتها شَعوب
ظلموك أيّتها الفتاة بجهلهم
ظلموك أيّتها الفتاة بجهلهم / إذ أكرهوك على الزواج بأشْيَبا
طمِعوا بوفر المال منه فأخجلوا / بفضول هاتيك المطامع أشعبا
أفكوكب نَحْس يُقارن في الورى / من سعد أخبية الغواني كوكبا
فإذا رفَضْتِ فما عليك برفضه / عارٌ وأن هاج الوليّ وأغضبا
أن الكريمة في الزواج لحُرّةٌ / والحرّ يأبى أن يعيش مذبذبا
قلب الفتاة أجلّ من أن يُشترَى / بالمال لكن بالمحبّة ُيجتَبَي
أتُباع أفئدة النساء كأنها / بعض المتاع وهنّ في عهد الصبا
هذا لعمر اللّه يأبى مثله / مَن عاش ذا شرفٍ وكان مُهَذَّبا
بيت الزواج إذا بَنَوْه مجدّداً / بالمال لا بالحبّ عاد ُمخرَّبا
يا مَن يساوِم في المُهُور ُمغالياً / ويميل في أمر الزواج إلى الحبا
أقصِر فكم من حرّة مذ اُنزلت / في منزل الرجل الغني بها نبا
أن الزواج محبّةٌ فإذا جرى / بسوى المحبّة كان شيئاً متعبا
لا مهر للحسناء إلا حبُّها / فبحبّها كان القران ُمحَبَّبا
خير النساء أقلّها لخطيبها / مهراً وأكثرها إليه تحبُّبا
وإذا الزواج جرى بغير تعارف / وتحابب فالخير أن نترهّبا
هو عندنا َرميُ الشِباك بلُجَّةٍ / أتُصيب أخبَثَ أم تصادف أطيبا
أو مثل محتطب بليل دامس / أيَدوس أفعى أم يلامس عقربا
ولقومنا في الشرق حال كلما / زدت أفتكاراً فيه زدت تعجُّبا
تركوا النساء بحالة يرثى لها / وقضَوْا عليها بالحجاب تعصُّبا
قل للاُلى ضربوا الحجاب على النسا / أفتعلمون بما جرى تحت العبا
شرف المليحة أن تكون أديبةً / وحجابها في الناس أن تتهذّبا
والوجه أن كان الحياء نقابه / أغنى فتاة الحيّ أن تتنَقّبا
واللؤم أجمع أن تكون نساؤنا / مثل النعاج وأن نكون الأذْؤبا
هل يعلم الشرقيّ أن حياته / تعلو إذا ربّى البنات وهذّبا
وقضى لها بالحق دون تحكُّم / فيها وعلّمها العلوم وأدّبا
فالشرق ليس بناهض إلا إذا / أدنى النساء من الرجال وقَرّبا
فإذا أدّعَيت تقدماً لرجاله / جاء التأخُّر في النساء مُكَذِّبا
من أين يَنهض قائماً مَن نصفه / يشكو السقام بفالِج ُمتَوَصِّبا
كيف البقاء له بغير تناسبٍ / والدهر خصّص بالبقاء الأنسبا
والشعر ليس بنافع أنشاده / حتى يكون عن الحقيقة معربا
تلك الحقيقة للرجال أزفّها / ولها اُقيم من القوافي مَوْكبا
أصبحت أوسعهم لوَماً وتثريبا
أصبحت أوسعهم لوَماً وتثريبا / لما امتطَوْا غارب الإفراط مركوبا
وألهبت منهم الأهواء جاريةً / إلى التفرٌّق اُلْهْبا فألهوبا
وأرسلوهنّ مُرخاةً أعِنّتها / يُوغِلن في الأمر إحضاراً وتقريبا
فأرهجوا الشرّ حتى أن هَبْوَتَه / مَدّت سُرادقها في اللوح مضروبا
راموا الصلاح وقد جاءوا بلائحة / خرقاء تترك شمل الشعب مشعوبا
قد كلّفوا شططا فيها حكومتهم / وخالفوا الحزم فيها والتجاريبا
عَدُّوا النصارى وعدوا المسلمين بها / ونحن نعهدهم طرّاً أعاريبا
قد حكّموا الدين فيها فعي مُعربَة / عمّا يكون لدعوى القوم تكذيبا
من مبلغ القوم أن المصلحين لهم / أمسوا كمن لبِس الجِلباب مقلوبا
ما بالهم وطريق الحق واضحةٌ / لا يسلكون إلى الإصلاح مَلحوبا
أفي مصالح دنياهم وهم عرب / جاءوا على حسب الأديان ترتيبا
ما ضرّهم لو نحَوْا في الأمر جامعةً / تنفي الكنائس عنها والمحاريب
لكنهم أمة تأبى مشاربهم / إلا التعصب للأديان مشروبا
قد حاولوا الحق واشتطّوا بمطلبه / حتى بدا وجهه كالليل غِربيبا
قد يطلب الحق طيّاش فيُبطله / ما كل طالب حقّ نال مطلوبا
قاموا يُريدون إصلاحاً فقمت لهم / استنطق الشعر تأهيلاً وترحيبا
ورحت أحتثّهم حدواً بقافية / غازلت في صدرها الآمال تشبيبا
حتى إذا مخضوا آراءهم ظهرت / للناس زُبدتها ثأياً وتخبيبا
ساروا وسرت فكان السير مختلفاً / يرمي لوَجهين تشريقاً وتغريبا
كانوا أحقّ البرايا مطلباً فغَدوا / من أبطل الناس في الدنيا مطاليبا
راموا انشقاق العصا بالشَغْبِ ملتهباً / والحقد مضطرماً والضِغن مشبوبا
إني لأبصر في بيروت قائبةً / للشَرّ مُوشِكةً أن تُخرج القُوبا
أو أكرة من دناميت إذا انفجرت / فنارها تنسف الشبان والشيبا
وقد رأيت أناساً واصلين بها / وهم بباريز مِلْبارود أنبوبا
وآخرين بمصر يطلبون لها / تفرقعاً يجعل المعمور مخروبا
ويترك الناس في دهياءَ مظلمة / يَرتدُّ منها بياض الشمس حُلبوبا
قل للعُرَيْسيّ والأنباء شائعة / والصحف تروي لنا عنه الأعاجيبا
علام تعقِد في باريز مؤتمراً / ما كنت فيها برأي القوم مندوبا
وهل تعمّد حقي العظم فَعلته / لما نمى خبراً للطان مكذوبا
إذا راح يستنجد الافرنج منتصفاً / كأنه حَمَل يستنجد الذيبا
خافوا التذبذُب في أعمال دولتهم / من أن يجُرّ على الأوطان تخريبا
وكان خوفهم حقاً لو أنهم / لم يعدِلوا عن طريق الحق تنكيبا
لكنهم جاوزوا نهج الصواب إلى / وادي تُهُلِك فاستقصوا به الحُوبا
ولم يُبالوا بما أبدَوْا من جَنَف / أن يُمسي الوطن المحبوب محروبا
فهم كمن فرّ من قَطر يُبلّله / ثَم انْتحى السيل أو جاء الميازيبا
لو كان في غير باريز تألُّبهم / ما كنت أحسبهم قوماً مناكيبا
لكنّ باريز ما زالت مطامعها / ترنو إلى الشام تصعيداً وتصويبا
ولم تزل كل يوم من سياستها / تُلقي العراقيل فيها والعراقيبا
هل يأمن القوم أن يحتلّ ساحتهم / جيش يدُكّ من الشام الأهاضيبا
يا أيها القوم لا يغرُركم نفر / ضجُّوا بباريز إفساداً وتشغيبا
جاءت رسائلهم بالشرّ مغريةً / تفتن في المكر أُسلوباً فأسلوبا
فطالعوهنّ بالأيدي مطالعةً / تسطو عليهن تمزيقاً وتأريبا
أن يصدُقوا أنهم لا يلبسون سوى / محض النصيحة في الدعوى الجلابيبا
فسوف يقرع كل سِنّةُ ندماً / ويُسبل الدمع في الخدين مسكوبا
هي النفس أغشى في رضاها المعاطبا
هي النفس أغشى في رضاها المعاطبا / وأحمل منها بين جنبَيّ قاضِبا
تكلّفني أن أخبط الليل بالسُرى / وأن أمتطي فيه من الهَول غاربا
وتُنهضني للمجد بالعزم ماضياً / وبالهمّ مقلاقاً وبالرأي صائبا
ولم ترضَ إلاّ كالجبال مَعزّةً / ولم تهوَ إلاّ كالشموس مناقباً
إذا أنا أنزلت النجوم لأرضها / أبَتهنّ إلاّ أن يكنّ ثواقبا
وترفُض مني كل عيش منعَّم / إذا ازوَرّ ذاك العيش بالذلّ جانبا
ولم تَبغ لي إلاّ الحقيقة بُغيةً / ولم ترض لي إلاّ الكريم مصاحبا
تقول إذا أوردتها ماء مِذنَب / رد البحر بي غَمراً وخلّ المذانبا
وإني لأشكوها إليها تظلُّماً / فأرجع عنها بعد شكواي خائباً
على أن لي منها حصاةً رَزينة / قتلت بها كل الأمور تجاربا
لقد تِعبَت فيما تروم من العلا / كذلك نفس الحرّ تلقى المتاعبا
ألم تر ما لاقى ابن لبنان في العلا / من الأْين لما ساح في الأرض ضاربا
تيمَّم من بعد الحجاز تهامة / وراح إلى صنعاء يُزجي الركائبا
وجاء إلى أرض العراقين مُبحراً / وكرّ إلى مجد يجوب السَباسبا
ليجمع من أبناء يعرب شملهم / ويَقضي حقاً للمَواطن واجبا
أخو هِمّة لو مدّ باعاً إلى العُلا / لأوشك منها أن ينال الكواكبا
له قلم عزّ القرائح شاعراً / كما ابتزّ فُرسان البلاغة كاتبا
لقد زُرت نجداً يا أمين فقل لنا / أتذكر من أخبار نجد جوائبا
فما حالة الإخوان فيها فإننا / نرى الناس عنهم يذكرون الغرائبا
فهل كفَّروا من ليس يُرسل لحية / وهل فَسّقوا من ليس يحفي الشواربا
وما أنا من قوم يدينون باللحى / ولم يقبلوا إلاّ من الحَلْق تائبا
ودع عنك أخبار العراق فإنني / لأعلم منها ما يَفُوق العجائبا
فويحاً لأهل الرافدين إذ انطووا / على اليأس من نور يشُق الغياهبا
لهم ملك تأبى عِصابة رأسه / لها غير سيف التيمسيين عاصبا
لقد عاش في عزّ بحيث أذلّهم / وقد ساءهم من حيث سرّ الأجانبا
وليس له من أمرهم غير أنه / يُعَدّد أياماً ويأخذُ راتبا
تبوَّأ عرش الملك لا بحُسامه / ولا كان في يوم له الشعب ناخبا
ولكن بطيّارات قوم تطايرت / فكانت من شُواظٍ سحائبا
ألا عَدّ عمّا في العراق فإنني / أراه بأخلاق الزمان مَعايبا
معايب لو أني هتكت ستارها / لأرسلت منها للمُعاند حاصبا
فلا تحسبنْه أنه ذو حكومة / ولو ضرّبوا ظلماً عليه الضرائبا
لئن ألَّفُوا بالكذب فيه وِزارة / فإنّ بها للكاذبين مآربا
وإنيّ لأهوى الفجر إن كان صادقاً / وتُنكر عيني الفجر إن كان ماذبا
تبسّم لبنان بعَوْد أمينه / وأضحى لأذيال المسرَّة ساحبا
أخا الفضل قد آنَست لبنان حاضراً / كما كنت قد أوحشت لبنان غائبا
وما أنت إلاّ يُبهج طالعاً / ويُحزن آفاق المواطن غاربا
محّييك في بغداد إذ جئت قادماً / يحييك في بيروت إذ جئت آيبا
سر في حياتك سير نابه
سر في حياتك سير نابه / ولُم الزمان ولا تُحابه
وإذا حللتَ بموطنٍ / فاجعل محلّك في هضابه
واختر لنفسك منزلاً / تهفو النجوم على قِبابه
ورُم العَلاء مخاطراً / فيما تحاول من لُبابه
فالمجد ليس يناله / إلا المخاطر في طِلابه
وإذا يخاطبك اللئي / مُ فصُمَّ سمعك عن خطابه
وإذا انبرى لك شاتماً / فاربأ بنفسك عن جوابه
فالروض ليس يَضيره / ما قد يطنطن من ذبابه
ولَرُبّ ذئب قد أتا / ك من ابن آدم في اهابه
ما امتاز قطّ عن ابن آ / وى شخصه بسوى ثيابه
وإذا ظفرت بذى الوفا / ء فحُطّ رحلك في رحابه
فأخوك مَن إن غاب عَنْ / ك رعى وِدادك في غيابه
وإذا أصابك ما يَسُو / ءُ مُصابك من مصابه
وتراه يَيْجَح إن شكو / ت كأنّ ما بك بعض مابه
يا قوم هَرِم الزما / ن من التمادي في انقلابه
فلذاك عند الهاجرا / ت يَسيل شيء من لعابه
ما زال من خَرَف به / للناس يهذر في كذابه
يأتي بكل عجيبة / تدعو اللبيب إلى ارتيابه
والناس في عطش تسي / رُ إلى ارتواء من سرابه
فمتى يجود لنا الزما / ن ولو بَمْذقٍ من وطابه
وإلى متى هو ساتر / وجه الحقيقة في ضَبابه
يتلو بصَرف الحادثا / ت لنا فصولاً من كتابه
كم يدّعي وطنيةً / من لم تكن مرّت ببابه
فتراه يَنفَح لاغياً / فيها وينفُخ في جِرابه
ليكون مكتسباً بها / مالاً تهالك في اكتسابه
فكأنما هو صائد / وكأنما هي من كلابه
وتراه يرمي المخلصي / ن بكل سهم من جِعابه
ويَعيب قوماً بالخيا / نة والخيانة بعض عابه
لا بدّ للوطن العزي / ز من المستكّن لاضطرابه
من مجلس للشعب ين / ظر بالتأمّل في مآبه
وينوب عن أبناّئه / إن صادقوه على منابه
حتّى ترى أمر البلا / د به يعود إلى نصابه
أبهت حكومتنا لهِ / والشعب ليس له بآبه
أترى الحكومة تبتغي / ه ونحن نعرض عن طلابه
هذا لعمر أبيك ما / يدعو الحليم إلى انتحابه
هلا يقول القاعدو / ن مسارعين إلى انتخابه
كي ينقذ الوطن الذي / صرف الومان له بنابه
وغدا يهدد بالبوا / ر بنيه بورٌ في ترابه
إن لم يكن تكونوا مدركي / ه فلا محالة من خرابه
آب المسافرُ للديا / ر على اضطرار في إيابه
لو كان يَجْمح للإيا / ب لما تعجّل في ذهابه
قد كان يمرح في التغرُّ / ب بالحفاوة من صِحابه
لا تَعَجبنّ لخامل / لبِس النباهة في اغترابه
فالسيف أحسن ما يكو / ن إذا تجرّد من قِرابه
أما العراق فإن لي / كل الرجاء بأُسد غابه
ينجاب يأسي بالرجا / ء إذا نظرتُ إلى شبابه
من كل من هو في ظلام الل / يل أضوأ من شهابه
لمع الذكاء بوجهه / كالبرق يلمع في سحابه
يا من زكت أحسابهم / فأتوا بأخلاق نوابه
ووجوههم بالنَيِّرا / ت من النجوم لها مَشابه
إني لأشكر فضلكم / شكر المُثاب على ثوابه
كالروض يشكر وابلاً / حيّا الأزاهر بانسكابه
دع مزعج اللوم وخلِّ العتاب
دع مزعج اللوم وخلِّ العتاب / واسمع إلى الأمر العجيب العُجاب
من قِصّة واقصة غصّة / تُضحك بل تدعو إلى الانتحاب
في الكرخ من بغداد مرّت بنا / يوماً فتاة من ذوات الحجاب
لَبَّتها مُوقَرةٌ بالحِلى / وكفّها مُشَبعة بالخِضاب
ووجهها يطمس سحناءه / عنّا ظلام من سواد النقاب
تمشي العِرَضْنَى في جلابيبها / مِشيةَ إحدى المومسات القحاب
تختلب اللبّ بأوضاعها / وكل ما يظهر منها خِلاب
قد وضعت تاجاً على رأسها / يلمع في الظاهر لمعَ الشهاب
يُحسَب من درّ بتَمْوِيهه / وهو إذا حققته من سِخاب
كاسيةَ الجسم أرقّ الكُسا / مَوْشِيّة الثوب بوَشيٍ كذاب
قد غُولط الناس بأثوابها / في أنّها من معمل الانتخاب
وهي لعمري دون ما رِيبةٍ / منسوجة في مَنسَج الاغتصاب
فالغِشّ في لحمتها والسَدى / وكلُّ ما يدعو إلا الارتياب
قال جليسي يوم مرّت بنا / من هذه الغادة ذات الحجاب
قلت له تلك لأوطاننا / حكومة جاد بها الانتداب
نحسبها حسناء من زيَها / وما سوى جنبول تحت الثياب
ظاهرها فيه لنا رحمةٌ / والويل في باطنها والعذاب
مُصابنا أمسى فظيعاً بها / يا ربّ ما أفظع هذا المُصاب
تالله قد حُقَّ لنا أننا / نحثو على الأرؤس كل التراب
منّي إلى مصر ذات المجد والحسب
منّي إلى مصر ذات المجد والحسب / تحية ذات ود غير منقضب
تدلي به دجلة اللسناء عن مِقَةٍ / منها إلى النيل ربّ الشعر والخطب
إذا العروبة حلّت عرش دولتها / فمصر تاج لها قد صيغ من ذهب
كم قام للعرب في أرجائها عَلَم / تهفو ذؤابته بالعلم والأدب
قامت بمعترك الأسياف دولتها / من قبل معترك الأقلام والكتب
من أفق فسطاطها في الشرق قد طلعت / شمس إذا غاب قرص الشمس لم تغِب
بيضاء لن تتوارى بالحجاب كما / قبلاً توارى اِيا الأهرام بالحجب
إني أرى مصر والتأريخ يشهد لي / تحيا بعرق بها من ضئضيء العرب
وليس فرعونها ممن يشط به / بُعد عن العرب العرباء في النسب
يَمتّ للعرب ماضيها وحاضرها / بنسبة غضة في المجد والحسب
ما شاد فيها فؤاد قد أقيِم على / ما شاد عمرو بها في سالف الحقب
كفى الجزيرة فخراً في مكارمها / قبر أناف بها قدراً على الشُهُب
قبر بتربتها قد ضمَ جوهرةً / من معدن الله لا من معدن التُرَب
قامت بصاحبه للعرب نهضتهم / تذكو بعزم لهم كالنار ملتهب
جاشت كتائبهم كالموج صاخبة / ترغو بمثل هزيم الرعد في السحب
تمخضوا من سماع الوحي عن همم / نالوا بها أنجم الجوزاء من كثب
قد وحّدوا الله عن علم فوحّدهم / روحاً فخِيلُوا لأم كلّهم وأب
إذ أصبحوا كبني الأعيان تجمعهم / لله وحدنهم في كل مُطَّلَب
بذلكم نهضوا للمجد نهضتهم / ودوّخوا الأرض بالهندية القضب
في الشرق والغرب كم رايٍ لهم ركزت / في مدة هي بين الوِرْد والقَرَب
حتى لقد ملكوا الأمصار مملكة / كانت بسرعتها من أعجب العجب
العدل شيمتهم والعفو عادتهم / والصبر دَيْدنهم في كل مُحْتَرَب
ما كنت في أيام دولتهم / إلاّ سواسية في الحكم والرتب
من أجل ذاك الرعايا فيهم اندمجوا / مستعربين وما كانوا من العرب
والعرب في يومنا كالَطْيس إن حسبوا / كانوا ثمانين مليوناً لمحتسب
بني العروبة هُبّوا من مراقدكم / إلى متى نحن نشكو صَولة النُوَب
فقد لعمري افترقنا شرّ مفتَرَق / وقد لعمري انقلبنا شرَّ منقَلَب
أما تغارون يا أهل الحِفاظ على / حقّ لكم بيد الأعداء مغتصب
لا تكتفوا بافتخار في أوائلكم / فنشوة الخمر لا تغني عن العنب
بل انهضوا للمعالي مثلَ نهضتهم / واستعصموا باتحاد مُحكم السبب
كانت أوائلكم في وحدة تركت / أعداءهم قِدداً في قبضة الرَهَب
سلوا بذلكم اليرموك واديَه / فإنه بسوى ما قلت لم يُجب
عن خالد بطل الأبطال يخبرنا / إذ فلّ جيش العدى بالقتل والهرب
والقادسية عن سعد مِحدثة / يقتل رستم ربّ العسكر الجِب
إذا علمنا بأن النصر طالعهم / من أفق وحدتهم لم يبق من عجب
ما ضرّ لو نحن وحّدنا ثقافتنا / قبل السياسة بالتعليم والكتب
تلك الجزيرة ترنو نحو وحدتكم / في العلم والحكم والانجاد والطلب
ما أرض مصر ولا أرض العراق لها / إلاّ جناحان من عطف ومن حدب
قد استمّرا قروناً من حَنانهما / على الجزيرة في خَفق ومضطرب
أقول والبرق يسري في مراقدهم / يا ساري البرق أيقظ راقدا العرب
ألا انهض وشمِّر أيها الشرق للحرب
ألا انهض وشمِّر أيها الشرق للحرب / وقبِّل غِرار السيف واسل هوى الكتب
ولا تغتر أن قيل عصر تمدُّن / فإن الذي قالوه من أكذب الكذب
ألست تراهم بين مصر وتونس / أباحُوا حِمى الإسلام بالقتل والنهب
وما يُخذ الطليان بالذنب وحدهم / ولكن جميع الغَرب يؤخذ بالذنب
فإني أرى الطليان منهم بمنزل / يُعدّ وهم يُغرونه منزل الكلب
فلولاهم لم يَنقُضِ العهد ناقض / ولا ضاع حقّ في طرابُلُس الغرب
بلاد غدت في الحرب تندب أهلها / فتبكي وتستبكي بني الترك والعُرب
قد اغتالها الطليان وهي بمضجع / من الأمن لم يُقضِض برعب على الجنب
فما انتهبت إلاّ لصرخة مِدفع / وما نهضت إلاّ إلى موقف صعب
فأمست وأفواه المدافع دونها / تمُجّ عليها النار كالوابل السكب
صواعق من سُحب الدخان تدُكّها / وتنسفها نسف الزلازل للهضب
غدت ترتمي فيها عشيّاً وبُكرة / فلا يابساً أبقت ولم تُبق من رطب
وما أن شكا من عضّة الحرب أهلها / ولكنهم شاكونْ من غصَة الجدب
فما خفقت عند الهياج قلوبهم / ولا أخذت أعصابهم رجفة الرُعب
ولكن جرت نُكب الرياح بأرضهم / فجرَّت عليها كلكل الحِجج الشهب
يعزّ علينا أهل برقة أنكم / تدور عليكم بالدمار رَحى الحرب
وأنا إذا ما تستغيثون لم نجد / إليكم على بُعد المسافة من درب
وقد علم الأعداء أن سيوفنا / تململ في الأغماد شوقاً إلى الضرب
ولكن هو البحر الذي حال بيننا / فلم نستطع زحفاً على الضُمَّر القُب
ولولاه فاجأنا العدوّ بفيلق / يبين ضحاً من هَوله مطلع الشهب
فيا بحر فاجمد أو فغُر إن جيشنا / عليك غدا كالبحر يَزخَر بالعتب
ويا سحب هلاَ تنزلين فتحملي / إلى الحرب جيشنا ينشر النقع كالسحب
ويا ريح قد ضِقنا فهل لك طاقة / بحمل منايانا إلى المعرك الرحب
إلى خير أرض داسها شرّ معشر / بأرجلهم قُطّعن من أجرل جُرب
أما والعلا يا أرض برقة إننا / لنشرَق من جرَاك بالبارد العذب
نراك على بُعد تُسامين ذِلةً / فيحزُننا أن لم نكن منك بالقُرب
وما نحن إلاّ الليث شُدَّت قيوده / وأُلقي حياً شبله في فم الذئب
يرى الشبل مأكولاً فيزأر مُوثَقاً / ويضرب كفَّيه على الأرض للوثب
فلا يستطيع الوثب إلاّ تمطِّياً / وزَأراً وانشابَ المخالب بالترب
ويا أهل بنغازي سلام فقد قضت / صوارمكم حق المّواطن في الذَب
حميتم حمى الأوطان بالموت دونها / وذاك بما فيكم لهنّ من الحبّ
ومن مبلغ عنا السَنوسيّ أنه / يمدّ لهذا الصدع منه يدَ الرَأب
فإنا لنرجو أن يقود إلى الوغى / طلائع من خيل ومن إبل نُجْب
فيَحمي بلاد المسلمين من العدى / وينهض كشافاً لهم غُمّة الخطب
فإن حشا الإسلام أصبح دامياً / إلى الله يَشكو قلبه شدة الكرب
فقم أيها الشيخ السنوسي مُدرِكاً / جنود بني عثمان في الجبل الغربي
وكن أنت بين الجُند قطب رحى الوغى / وهل من رحى إلاّ تدور على قُطب
ويا معشر الطليان قُبّحت معشراً / ولا كنت يا شعب المخانيث من شعب
تركت وراء البحر مَزحف جيشنا / وأججت ناراً في طرابلس الغرب
أتحسب هاتيك الديار وقد خَلَت / من الجند تخلو من ضراغمة غُلْب
فما هي إلاّ أرض أكرام معشر / من العُرب لم تنبت سوى البطل الندب
سترجع عنها بالفضيحة ناكصاً / وتَذكرك الأيام باللعن والسَبّ
مشيتم إلينا معجَبين بجمعكم / تظنون حرب المسلمين من اللعب
فلما حللتم أرضنا ذقتم الردى / بأسيافنا حتى صحوتم من العُجب
سنُلبسكم ثوب المهالك ضافياً / ونحملكم منها على مَركب صعب
ونستَمطِر الأهوال حتى نُخيضكم / بسيل دم فوق البسيطة منصّب
وما دعوة البابا لكم مستجابة / فقد أغضبت طغواكم غَيرة الرَبّ
أجل إنكم أغضبتم الله فاتقُوا / وإن رضِيَت تلك الحكومات في الغرب
أيا زعماء الغرب هل من دلالة / لديكم على غير الخديعة والكذب
تقولون إن العصر عصر تمدُّن / أمن ذلكم قتل النفوس بلا ذنب
ألم تُبصروا القَتْلى تمجّ دماءها / على الأرض والجرحى يئنون في الحرب
أفي الحق أم في العلم أن لا يسوءكم / ويُخجلكم شنّ الإغارة للغصب
وهل أغْلَفَت هذي العلومُ قلوبكم / بأغْطِية قُدّت من الحجر الصُلب
كذبتم فإن العصر عصر مطامع / تُقَدّ لها الأوداج بالصارم العضب
فلا تُغضبوا الإسلام إن سيوفه / مواضٍ كما قد كُنّ في سالف الحُقب
حيَاكم الله أيها العرب
حيَاكم الله أيها العرب / فاستمعوا لي فقصّتي عجب
قد بِتّها ليلة مُطَّولة / يَعقِد جَفني بنجمها الوَصَب
أنجمها الزُهر غير سائرة / كأنما كل كوكب قُطُب
تحسَبني في مضاجعي حَسَك / يقلبني وخزه فأنقلب
أمشي إلى النوم وهو منهزم / مَشيِي دبيب ومشيه خَبَب
حتى بدا الفجر لي وقد طفِقت / تغرق في فيض نوره الشهب
عندئذ خَدَّر الأسى عَصَبي / فنِمت والنوم جرّه التعب
فطاف بي طائف لرَوْعته / يرتجف القلب وهو مُرتعِب
رأيتني قائماً على نَشَزٍ / من شاحل البحر وهو مضطرب
والأفق محمرّة جوانبه / كأنما الجوّ ملؤه لَهَب
وفي عنان السماء قد طلعت / أهِلّة في إزائها صُلُب
والأرض قد بُعثِرت ضرائحها / مكشوفة لا تغمّها التُرَب
والموت كالكبش في جوانبه / يرعى نفوساً كأنها عُشُب
وبين تلك القبور غانية / يلمع في حُرّ وجهها الحسب
لها جبين كأنه قمر / تحت شعور كأنها الذهب
ووجنة باللطم دامية / وساعد بالدماء مختضِب
قد أذبل الجوع ورد وجنتها / فاصفرّ وامتصّ ماءه اللَغَب
شاخصة الطرف وهي جاثية / تحملها دون سوقها الرُكَب
حاسرة الرأس غير ناطقة / إلا بدمع لسانه ذَرِب
فلحظها فوق رأسها صُعُدٌ / ودمعها تحت رجلها صَبَب
مكتوفة الساعدين منكسرٌ / مِن حَزَن طرفها ومكتئب
قد وتَّدُوا القَيد في مُخَلخَلها / ومدّدوه كأنه طُنُب
ترى خُدوشاً على مُقَلَّدها / كأنها في صفيحة شُطَب
وحولها أنفس مصرَّعة / يسرح فيها ويمرح العَطَب
واحتَوَشَتها كلاب مَجزَرة / مهترشات يَهيجها الكَلَب
تنهشها تارةً وآوانَةً / تنبح من حولها وتصطخب
وفوقها الطير وهي حائمة / تبعد من رأسها وتقترب
بيض المناقير ذات أجنحة / خُضر وريش كأنه العُطُب
يَقدُمها طائر قوادمه / تلمع كالبرق حين يلتهب
تضطرب الأرض والسماء له / إذا غدا بالجَناح يضطرب
وقفت أرنو إلى ملامحها / ووجهها بالدموع منتقب
حتى تعلّمت أن سَحْنَتَها / للعرب الأكرمين تنتسب
وبينما كنت ممعناً نظري / فيها وقلبي كقلبها يجب
إذ هاتف في السماء يهتِف بي / كأنه في الغمام مُحتَجِب
يقول لي إنها طرابُلُس / تبكي على أهلها وتنتحب
وهذه الطير حيث تُبصرها / محمد والصحابة النُجُب
فتلك رؤياي غيرَ كاذبة / فهل تُغيثون أيها العرب
يا شيخ روما ومَن لرايته / وتاجه ينتمي وينتسب
لست ولا قومك اللئام بمَن / تُعرف أمّ لمثلهم وأب
وإنما أنتم بنو زمن / إذا ذكرناه تخجل الحقب
برومة قبل وهي مبوَلة / بالكم الدهر وهو مُغترِب
فعشتم في الورى سواسيةً / لا حسب عندكم ولا أدب
ما أوقد الدهر نار مُخزية / إلاّ وأنتم لنارها حَطَب
أغسل شعري إذا هجوتكم / لأنه من هجائكم جُنُب
طرب الشعر أن يكون نسيبا
طرب الشعر أن يكون نسيبا / مذ أجالت لنا القوام الرطيبا
وتجلّت في مسرح الرقص حتى / أرقصت بالغرام منّا القلوبا
أقبلت تنثني بقدٍّ رشيقٍ / ألبسته البرد القصير قشيبا
قصّرت منه كمّه عن يديها / وأطالت إلى النهود الجيوبا
حبس الخصر حيث ضاق ولكن / أطلق النحر بادياً والتريبا
هو زيّ يزيد في الحسن حسناً / من تزيّا به وفي الطيب طيبا
خطرت والجمال يخطر منها / في حشا القوم جيئةً وذهوبا
وعلى رؤس الأصابع قامت / تتخطّى تبختراً ووثوبا
يعبس الأنس أن تروح ذهاباً / ويعيد ابتسامه أن تؤوبا
فهي أن أقبلت رأيت ابتساماً / وهي أن أدبرت رأيت قطوبا
نحن منها في الحالتين ترانا / نرقب الشمس مطلعاً ومغيبا
تضحك الجوّ في الصباح طلوعاً / ثم تبكيه في المساء غروبا
أظهرت في المجال من كل عضو / لعباً كان بالقلوب لعوبا
حيّرتنا لما أرتنا عجيباً / فعجيباً من رقصها فعجيبا
شابهت عظفة الغصون انثناءً / وحكت خطرة النسيم هبوبا
تلفت الجيد للرجوع انصياعاً / كفطيم رأى على البعد ذيبا
تثب الوثبة الخفيفة كالبر / ق صعوداً في رقصها وصبوبا
حركات خلالها سكنات / يقف العقل بينهنّ سليبا
وخطاً تفضح العقود اتساقاً / نظمتها تسرعاً ودبيبا
بسمت كوكباً ومرّت نسيماً / وشدت بليلاً وفاهت خطيبا
لو غدا الشعر ناطقاً لسان / لتغنّى بوصفها عندليبا
أو غدا الحسن شاعراً ينظم الحبّ / قريضاً أبدى بها التشبيبا
هي كالشمس في البعاد وأن كا / ن إلينا منها الشعاع قريبا
عمّت الناس بالغرام فكلّ / قد غدا عاشقاً لها ورقيبا
زهرة تبهج النواظر حسناً / ورواءً وتنعش الروح طيبا
هي دائي إذا شكوت من الدا / ء وطبّي إذا أردت طبيبا
وأتت بعدها من الغيد أخرى / يقتفى أثرها الجمال جنيبا
فأرتنا من الجبين صباحاً / ومن الخدّ كوكباً مشبوبا
حملت بندقيّة صوّبتها / نحو مستهدفٍ لها تصويبا
واستمرّت رمياً بها عن بنان / لطفه ضامن له أن يصيبا
تحشن الرميَ تارةً مستقيما / وإلى الخلف تارة مقلوبا
وانكباباً إلى الأمام واقعا / ساً كثيراً إلى الوراء عجيبا
وهي في كل ذا تصيب الرمايا / مثلما طرفها يصيب القلوبا
لو أردات رميَ الغيوب وأغضت / لأصابت خفيّها المحجوبا
مشهد فيه للحياة حياة / تترك الواله الحزين طروبا
قد شهدناه ليلة جعلتنا / نحمد الدهر غافرين الذنوبا
بين رهطٍ شمّ العرانين ينفى ال / همّ عنّي حديثهم والكروبا
كرُموا أنفساً وطابوا فعالا / وسمَوا محتداً وعفّوا جيوبا
تلك والله ليلة لست أدري / في بلادي قضيتها غريبا
كدى أنسى بها العراق وأن أب / قى ندوباً بمهجتي فندوبا
يا سواد العراق بيّضك الده / ر فأشبهت مقلتي يعقوبا
شملت ريحك العقيم وقد كا / نت لقوحاً تهبّ فيك جنوبا
أين أنهارك التي تملأ الأر / ض غلالا بسيحها وحبوبا
إذ حكت أرضك السماء نجوماً / ما حياتٍ أنوارهنّ الجدوبا
لهف نفسي على نضارة بغدا / د استحالت كدورةً وشحوبا
أين بغداد وهي تزهو علوماً / وزروعاً وأربعا ودروبا
أقفرت أرضها وحاق بها الجه / ل فجاشت دواهياً وخطوبا
تذكرت في أوطانيَ الأهل والصحبا
تذكرت في أوطانيَ الأهل والصحبا / فأرسلت دمعاً فاض وابله سكبا
وبتّ طريد النوم أختلس الكرى / بشاخص طرفٍ في الدجى يرقب الشهبا
كئيب كأن الدهر لم يلق غيره / عدوّاً فآلى لن يهادنه حربا
يقلّ كروباً بعضها فوق بعضها / إذا ما رمى كرباً رأى تحته كربا
وإنّي إذا ما الدهر جرّ جريرةً / لتأنف نفسي أن أكلّمه عتبا
وقد علم القوم الكرام بأنني / غلام على حبّ المكارم قد شباً
وإني أخو عزم إذا ما انتضيته / نبا كل عضب عنه أو أنكر الضربا
وإني أعاف الماء في صفو القذى / وإن كان في أحواضه بادراً عذبا
ولكنّ لي في موقف الشوق عبرة / تُساقط من أجفانيَ اللؤلؤ الرطبا
إذا ضربت أوتار قلبي شجونه / بدت نغمات ترقص الدمع منصبّا
وقاطرةٍ ترمي الفضا بدخانها / وتملأ صدر الأرض سيرها رعبا
لها منخر يبدي الشواظ تنفساً / وجوف به صار البخار لها قلبا
تمشّت بنا ليلاً تجرّ وراءها / قطاراً كصفّ الدوح تسحبه سحبا
فطوراً كعصف الريح تجري شديدةً / وطوراً رخاءً كالنسيم إذا هبّا
تساوى لديها السهل والصعب في السرى / فما استسلهت سهلاً ولا استصعبت صعبا
ندكّ متون الحزن دكاً وإنها / لتنهب سهل الأرض في سيرها نهبا
يمرّ بها العالي فتعلو تسلّقاً / ويعترض الوادي فتجتازه وثبا
وتخترق الطود الأشم إذا انبرى / وقد وجدت من تحت فنّته نقبا
يرنّ بجوف الطود صوت دويّها / إذا ولجت في جوفه النفق الرحبا
لها صيحة عند الولوج كأنها / تقول بها يا طود خلّ ليَ الدربا
وتمضي مضيّ السهم فيه كأنما / ترى افعواناً هائجاً دخل الثقبا
تغالب فعل الجذب وهي ثقيلة / فتغلب بالدفع الذي عندها الجذبا
طوت بالمسير الأرض طيّا كأنها / تسابق قرص الشمس أن يدرك الغربا
وما أن شكت أينا ولا سئمت سرىً / ولا استهجنت بعداً ولا استحسنت قربا
عشيّة سارت من فروق تقلّنا / وتقذف من فيها بوجه الدجى شهبا
فما هي إلا ليلة ونهارها / وما قد دعونا من سلانيك قد لبّى
فجئنا ولم يعي الصفار مطيّنا / كأن لم نكن سفراً على ظهرها ركبا
تعاليت يا عصر البخار مفضّلاً / على كل عصر قد قضى أهله نحبا
فكم ظهرت للعلم فيك معاجز / بها آمن السيف الذي كذّب الكتبا
تظاهرت من فعل البخار بقوّة / يُذلّل أدنى فعلها المطلب الصعبا
وأُقسم لو لا الكهرباء فوقه / لقلت على كل القوى ته به عجبا
هو العلم يعلو في الحياة سعادة / ويجعلها كالعلم محمودة العقبى
فكلّ بلاد جادها العلم أمرعت / رباها وصارت تنبت العزّ لا العشبا
متى ينشئ الشرق الذي اغبّر أفقه / سحابة علم تمطر الشرف العذبا
فإنّ دبور الذلّ ألوت بعّزه / وكادت سموم الجهل تحرقه جدبا
تبصّر إذا دارت رحى الشرق هل ترى / سوى الجهل في أثناء دورتها قطبا
لعمرك أن قصر البحر قصرٌ
لعمرك أن قصر البحر قصرٌ / به يسلو مواطنه الغريب
وتمتلئ العيون به ابتهاجاً / إذا نظرت وتنشرح القلوب
تروق الناظرين بجانبيه / مناظر دونها العجب العجيب
فمن شمس يصافحها طلوع / ومن شمس يعانقها غروب
ومن سفن تجئ بها شمال / ومن سفن تروح بها جنوب
وأخرى حوله خمدت لظاها / وأخرى في الفؤاد بها لهيب
أطلّ على المياه فقابلته / بوجهٍ لا يمازده شحوب
يقبّل جانبيه البحر حتى / كأن البحر مشغوف كئيب
أحاط به فكان له رقيباً / ومغناه الأنيق له حبيب
وما هذا التموّج من هواءٍ / ولكن من هوىً فهو الوجيب
كأن الموج في الدأما رجال / وهذا القصر بينهم خطيب
تخاطبهم مبانيه فيعلو / من الأمواج تصفيق مهيب
قلمّ به المسرّات ازدياراً / فتعرفه وتجهله الكروب
وما انفردت به بيروت حسناً / ولكنّ القصور بها ضروب
تبسّمت البلاد بكلّ أرض / وما زال العراق به قطوب
فها هو من تكاسل قاطنيه / تجرّ عليه كلكلها الخطوب
إذا تدعو الرجال به لخيرٍ / يجيبك من تخاذلهم مجيب
فيا لهفي على بغداد أمست / من العمران ليس لها نصيب
سأبكي ثم استبكى عليها / إذا نضبت من العين الغروب
أيا بغداد لا جازتك سحبٌ / ولا حلّت بساحتك الجدوب
تطاول ساكنوك عليّ ظلماً / فضاق علي مغناك الرحيب
وكم نطقوا بألسنةٍ حدادٍ / يسيل لها من الأشداق حوب
رماني القوم بالالحاد جهلاً / وقالوا عنده شك مري
ألا يا قوم سوف يجد جدّي / وسوف يخيب منكم من يخيب
فمن ذا منكم قد شقّ قلبي / وهل كشفت لكم فيّ الغيوب
فعند اللّه لي معكم وقوف / إذا بلغت حناجرها القلوب
يقيني شرّ فريتكم يقيني / بأنّ الله مطّلع رقيب
ولم تخفر لكم عندي ذمام / ولكن عادة الريح الهبوب
وفدفدٍ قاتم الأعماق متسع
وفدفدٍ قاتم الأعماق متسع / طويت أجوازه طيّ المكاتيب
بتَومبيل جرى في الأرض منسرحاً / كما جرى الماء من سفح الأهاضيب
ينساب مثل انسياب الأيم تحمله / عوامل عجلات من دواليب
كأنها وهي بالمطّاط منعلةٌ / تمشي بأخفاف أنواق مطاريب
يمرّ كالريح لم تسمع لأرجله / سوى حفيف كنفخ في الأنابيب
وتنكر الخيل أن جارته في سنن / ما تعرف الخيل من حضرٍ وتقريب
تظلّه قبّة فيه منجّدة / قد زانها حسن تنجيد وتقبيب
يخال من حلّ فيها نفسه ملكاً / يزهى بتاج على الفودين معصوب
ركبته وبياض الصبح تحسبه / صدر المليحة مكشوف التلابيب
والبدر في الأفق الغربيّ ممتقع / يرنو إلى الفجر في ألحاظ مرعوب
وللنجوم بقايا في جوانبه / كالعقد منفرطاً من جيد رعبوب
وللنسيم هبوب في مدارجه / ما ينعش الروح من نشر ومن طيب
فطار من غير تحليق براكبه / بل مرّ يمطر مطراً فوق ملحوب
وسار سيراً دِراكاً ملء مهيعه / كالوبل يتبع شؤبوباً بشؤبوب
فكنت أبصر حولي الأرض جاريةً / كمثل تيّار بحر وهو يجري بي
يلوح فصل الربا وصلاً فأحسبها / من سعرة المرّ قد صفّت بترتيب
ما زال يجتاز بي ما في البسيطة من / سهل ومن جبل عالي الشناخيب
حتى بلغت به أقصى مدىً عجزت / عنه العتاق من الجرد السراحيب
وكم علا بي أنشازاً تسلقها / وشاب في السير تصعيداً بتصويب
لا يعرف الأين منه أين موقعه / ولو يواصل ادلاجاً بتأويب
وكيف يتعب من لا حسّ يتبعه / ولا يسير على ساقٍ وظنبوب
وإنما هو يجري في مسالكه / دفعاً بقّوة غازٍ فيه مشبوب
جرّبته هابطاً أجزاع أودية / وطالعاً في الثنايا والعراقيب
وملهباً في سهول الأرض ينهبها / نهباً ويخلط الهوباً بالهوب
فكان أسبق مركوبٍ لغايته / وكنت أقرب طّلاب لمطلوب
تلك المطيّة لا ما كان يذكرها / أديب ذبيان من عيرانة النيب
لو امتطاها لبيد قبل تاه بها / على الحواضر قدماً والأعاريب
ولم يهم لو رأى ابن العبد منظرها / من وصف عوجائه في كل اسلوب
ولا أطال ابن حجرٍ وصف منجرد / عالي السراة كميت اللون يعبوب
لقد جمع الشيخ هذي الكتب
لقد جمع الشيخ هذي الكتب / فأنقذها من أكفّ العطب
ورتّبها فهي معروضة / لمن يتناولها من كتب
وكانت لعمرك رهن الغبا / ر مكدسة في زوايا الشجب
يمرّ بها الدهر مطمورة / تعاني الدمار وتدعو الحرب
نسيح العناكب من فوقها / ومن تحتها السوس فيها انسرب
يعيث بها آكلاً طرسها / كما تآكل النار جزل الحطب
وكانت على علم حرّاسها / تحفّ الظنون بها والريب
فمدّ إليها معالي الوزي / ر يداً دأبها الغوث عند الكرب
فأخرج منها كنوز العلو / م لأهل الفنون وأهل الأدب
فها أن ارواح من أوقفوا / مرفرفة فوقها من طرب
كما أن أرواح من ألّفوا / قد ابتسمت كالتْماع الشهب
لقد رضي العلم عن فعله / وإن أخذ الجاهلين الغضب
فما بال قوم غدوا يصرخو / ن صراخاً به يقصدون الشغب
يقولون هذا خلافٌ لما لدى / الناس في وقفها من أرب
فيا للعقول لهذا الغبا / ويا للفحول لهذا العجب
أ للسّوس أوقفها الواقفو / ن أن للعناكب أم للترب
إلى كم نظلّ لأغراضنا / نعارض من دون أدنى سبب
ونجمدُ فيغفلة هكذا / ونمرَح في لهونا واللعِب
أرى هؤلاء ضعاف العقو / ل وإن قد نراهم غلاظ الرقب
تضيق عن الحق أرواحهم / وإن لبسوا واسعات الجبب
فهم يقطعون على المصلحي / ن طريق القيام بما قد وجب
فسر في طريقك مستعلياً / وخلّ ضفادعهم تصطخب
فللشرّ ما صخب الصاخبو / ن وللخير جمعك هذي الكتب
لقد صنتها من طروق البلى / وخلصتها من يد المستلب
وأعددتها لشفاء العقو / ل من الجهل وهو أشدّ الوصب
وما كنت في الرأي بالمستبدّ / ولا كنت في الفعل بالمضطرب
وقد كان عزمك فيما أرد / ت يفل ظبي المرهفات القضب
فمن كان جذلان فليبتسم / ومن كان غضبان فلينتحب

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025