المجموع : 12
عندما ظلَّلني الوادي مساءَ
عندما ظلَّلني الوادي مساءَ / كان طيفٌ في الدجى يجلس قربي
في يديه زهرةٌ تقطرُ ماءَ / عَرفتْ عيني بها أدمعَ قلبي
قلتُ من أنتَ فلبَّاني مجيبا / نحن يا صاحِ غريبانِ هنا
قد نزلنا السهلَ والليلَ الرهيبا / حيث ترعاني وأرعاكَ أنا
قلت يا طيفُ أثرتَ النفس شَكا / كيف أقبلتَ وقُلْ لي من دعاكَا
قال أشفقتُ من الليلِ عليكا / فتتبَّعْتُ إلى الوادي خُطاكا
ودنا مني وغنَّاني النشيدا / فعرفتُ اللحنَ والصوتَ الوديعا
هو حُبِّي هامَ في الليل شريدا / مثلما هِمْتُ لنلقاكَ جميعا
وتعانقنا وأجهشنا بكاءَ / وانطلقنا في حديثٍ وشجونْ
ودنا الموعدُ فاهتجنا غناءَ / وتنظّرناكَ والليلُ عيونْ
أقبلَ الليلُ فأقبِلْ موهنا / والتمسْ مجلسنا تحتَ الظلالِ
وافِني نصدحْ بألحانِ المنى / ونعب الكأسَ من خمر الخيالِ
أقبلِ الليلةَ وانظر واسمعِ / كلُّ ما في الكونِ يشدو بمزارِكْ
جئتُ بالأحلامِ والذكرى معي / وجلسنا في الدجى رهنَ انتظاركْ
سترى يا حسنُ ما أعددتُه / لكَ من ذخرٍ وحسن ومتاعِ
هو قلبي في الهوى ذوَّبته / لكَ في رفَّافِ لحنٍ وشعاعِ
وهو شعرٌ صَورتْ ألوانُه / بهجةَ الفجرِ وأحزان الشفقْ
ونشيدٌ مثَّلتْ ألحانُهُ / همساتِ النجم في أُذْن الغسقْ
ذاك قلبي عارياً بين يديكْ / أخذتْهُ منك روْعاتُ الإله
فتأملْه دماً في راحتيكْ / وذَماءً منكَ يستوحي الحياهْ
باكيَ الأحلامِ محزونَ المنى / ضاحكَ الآلام بسّامَ الجراحْ
لم يكن إلَّا تقياً مؤمنا / بالذي أغرى بحبيكَ الطماحْ
يتمنَّى فيكَ لو يَفْنى كما / يتفانى الغيمُ في البحرِ العُبابْ
أو يُلاشي فيك حَيّا مثلما / يتلاشى في الضحى لُمح الشهابْ
زهرةٌ أطلعها فردوسُ حُبِّكْ / استشفَّتْ فجرَها من ناظريكْ
خفقت أوراقُها في ظلِّ قربِكْ / وسَرَتْ أنفاسها من شفتيكْ
هيَ من حسنكَ تحيا وتمونْ / فاحمِها يا حسنُ إعصارَ المنونْ
أوْلها الدفءَ من الصدرِ الحنونْ / أو فهبْها النورَ من هذي العيونْ
دمعُها الأنداءُ والعطرُ الشَّجا / وصدى أنَّاتِها همسُ النسيمْ
فاحبُها منكَ الربيعَ المرتجى / تصدحِ الأيامُ باللحنِ الرخيمْ
إملأي الأرضَ من حدادٍ وغيهبْ
إملأي الأرضَ من حدادٍ وغيهبْ / مالَ نجمُ البيان عنكِ وغرَّبْ
وخبا من مصابحِ الفكر نورٌ / كان أمضى من الشهاب وأثقبْ
وطوى الموتُ هالةً كان يُنْمَى / كلُّ أفقٍ إلى سناها ويُنْسَبْ
يا سماءَ الخيالِ ما كلّ يومٍ / من بني الشعر تظفرينَ بكوكبْ
ذهبَ الشاعرُ الذي ردَّدَ الشر / قُ صدى شعره الجميلِ المحبّبْ
ومضى الناثرُ الذي صوَّرَ النفسَ / وجلّى سرّ الضميرِ المحجّبْ
الأديبُ العريقُ في لغة الضّا / د وقاموسُها الصحيحُ المرتَّبْ
لم يكن شاعرَ القديم ولا كا / ن لآداب عصرِهِ يتعصّبْ
كان يُعْنَى بكل فذٍ من القو / لِ ويُزْهى بِكلِّ حسنٍ ويعجبْ
شاعرُ الحبِّ والجمالِ وربُّ ال / منطقِ الحقِّ واليراعِ المؤدّبْ
شعرُه من ينابع السحر ينسا / بُ وفي عالم الحقيقة ينصبْ
عاطفيُّ القصيدِ يعبثُ بالأل / بابِ أسلوبهُ الرشيقُ ويلعبْ
وخيالٌ يسمو إلى ما وراءِ ال / كون من عالم اليقين ويذهبْ
يُنْفِذُ الفكر في مجاهل دنيا / هُ فيبدو له الخفيُّ المغيّبْ
ومعانٍ أرقُّ من نسمة الفجرِ / ولفظٌ من سلسل الخمرِ أعذبْ
وبيانٌ يسيلُ في كل نفسٍ / فعلهُ من غرائبِ السحر أغربْ
وقوافٍ كأنها نغماتٌ / هاجها الشجوُ في يراعٍ مثقّبْ
وكأنَّ الأوزانَ شتَّى مثانٍ / ترقص النفسُ وفقهن فتطربْ
بؤساءَ الحياةِ من لكمو اليو / مَ على الحادثات والعيشُ أخطبْ
ضاقت الأرضُ بالحنانِ وفاضتْ / بالأذى أبحراً تضجُّ وتصخبْ
فابحثوا في شعابها عن مقيلٍ / وانشدوا من منافِذ النَّجم مهربْ
قد فقدتم نصيرَكم وسُلبتم / عَضُداً شَدّ أن يُغال ويُسلبْ
عَقَلَ الموتُ مِقولاً منه عضباً / وطوى مهجةً وأطبق هيدبْ
وخلا اليومَ مِنْ شجاكم فؤادٌ / ذابَ من رحمةٍ لكم وتصبَّبْ
وغَفَتْ أعينٌ بكتكم بدمعٍ / لم تدَعْ منه ما يُراق ويُسكبْ
الرفيقُ الحاني على كلّ قلبٍ / أنشبَ البؤسُ فيه ناباً ومخلبْ
والخفيفُ الخطى إلى كل نفسٍ / مال عنها نصرُها وتنكَّبْ
فاذكروه على الليالي إذا ما / زحمَ الدهرُ ركنَكم وتألَّبْ
منْ لصرعى الهمومِ بعدَك يا حا / فظُ من للحزينِ من للمعذّبْ
كنتَ براً بهم وأحنى عليهم / من فؤاد الأب الشفيقِ وأحدبْ
عَجَبٌ صبرُهم على خطبك الدَّا / وي وصبرُ البأساءِ من ذاك أعجبْ
قُمْ وشاهد مآتمَ الشرقِ وانظرْ / كيف يُبكى البيانُ فيك ويُندبْ
قَسَماً لو يُرَدُّ هيجو إلى العي / شِ لألقى لكَ الزمامَ وقرَّبْ
ومشى في يمينه غارُ باري / سَ إلى رأسكَ الكريمِ وعصّبْ
وتمنّى الذي كتبتَ عن البؤ / س وردّ الأصيلَ دون المعرّبْ
فُجِعَتْ نهضةُ البلاد ببانٍ / شدّ من ركنها وشادَ وطنَّبْ
وحباها من شعرهِ وحجاهُ / ما أفادَ الجهادَ فخراً وأكسبْ
هزّ أشبالها الكماةَ وأحيا / أملاً في صدورهم يتوثبْ
لو شهِدتم غداةَ ثورتها الكب / رى لجَاجَ النفوسِ وهي تلهّبْ
لرأيتم في ثورةِ النفسِ منه / مُحنقاً من قساورِ الغيل مُغْضَبْ
لم يَزَل منه في المسامع صوتٌ / تتوقّى الظُّبى صداهُ وترهبْ
نافذٌ في الصميم من باطلِ القو / م كما ينفذُ السِّنانُ المذرّبْ
حافظَ الودِّ والذمامِ سلاماً / لم يَعُدْ بعدُ من يُوَدُّ ويُصحَبْ
كنت نعم الصديقِ في كل آنٍ / حين يُرجى الصديقُ أو حينُ يُطلبْ
لم تغَيِّرْكَ من زمانِكَ دنيا / وحياةٌ بأهلها تتقلّبْ
خُلُقٌ رضته على شرعةِ الصد / قِ وإن خانكَ الرجاءُ وكذّبْ
وإباءٌ حميتَهُ من صغارٍ / وبريق من المواعد خُلّبْ
وفؤادٌ لغير عاطفة الوج / دان لا يدَّني ولا يتقرّبْ
وضميرٌ لا يبلغُ المالُ منه / وبلوغُ النجومِ من ذاك أقربْ
ولسانٌ حفظته من سؤالٍ / لا يَمينُ الكلامَ أو يتذبذبْ
يلفظُ الروحَ صادياً وإذا لم / يَصف للماء موردٌ ليس يشرب
صفحاتٌ نقيةٌ بمدادِ السحق / في مجتلى العظائم تُكتبْ
خانني فيك منطقي وعصاني / قلَمٌ طالما أفاضَ وأسهبْ
آب بالشعر من مصابكَ يبكي / رزءَه فيك والرجاءَ المخيَّبْ
أنتَ من أمةٍ بهم بعثَ الله / هداهُ إلى الشعوبِ فثوّبْ
لم يزَلْ منكمو على الأرض ظِلٌ / وشعاعٌ هادٍ وغيثٌ مُصوّبْ
ويجوبُ الحياة في كل آنٍ / هاتفٌ منكمو وطيفٌ تأوَّبْ
حُضَّر في القلوب أنتم وإن كن / تُم على ملتقى النواظر غيَّبْ
قفْ من الليل مصغياً والعبابِ
قفْ من الليل مصغياً والعبابِ / وتأملْ في المزبداتِ الغضابِ
صاعداتٍ تلوك في شدقها الصخر / وترمي به صدورَ الشعابِ
هابطاتٍ تئنُّ في قبضةِ الري / حِ وتُرغي على الصخورِ الصلابِ
ذلك البحرُ هل تشاهدُ فيه / غيرَ ليلٍ من وحشةٍ واكتئابِ
ظلماتٌ من فوقها ظلماتٌ / تترامى بالمائجِ الصخَّابِ
لا ترى تحتهنَّ غير وجود / من عبابٍ وعالم من ضبابِ
أيها البحر كيف تنجو من الليْ / لِ وأين المنجي بتلك الرحابِ
هو بحرٌ أطمُّ لجّاً وأطغى / منك موجاً في جيئةٍ وذهابِ
أوَ ما تبصرُ الكواكبَ غرقى / في دياجيه كاسفاتٍ خوابي
وترى الأرضَ في نواحيه حيرى / تسألُ السحبَ عن وميض شهابِ
ويك يا بحرُ ما أنينك في ال / لَيل أنينَ المرَّوع الهيّابِ
إمضِ حتى ترى المدائنَ غرقى / وترى الكونَ زخرةً من عُبابِ
إمض عبر السماءِ واطغ على الأف / لاكِ واغمرْ في الجوِّ مسرى العقابِ
ذاك أو يهتكَ الظلامُ دياجيه / وينضو ذاك السوادَ الكابي
وترى الشمس في مياهكَ تُلقي / خالصَ التبر واللجين المذابِ
أقبلَ الفجرُ في شفوفٍ رقاقٍ / يتهادى في منظرٍ خلابِ
حُللٌ من وشائعِ النور زُهْرٌ / يتماوجن في حواشي السحابِ
وإذا الشَّاطىءُ الضحوك تغنى / حوله الطير بالأغاني العذابِ
ونسيمُ الصباح يعبث بالغا / بِ ويثني ذوائبَ الأعشابِ
ومن الشمس جمرة في ثنايا ال / موجِ يذكو ضرامُها غيرَ خابي
ومن البحر جانب مطمئنٌ / قُزَحيُّ الأديمِ غضُّ الإهابِ
نزلت فيه تستحمُّ عذارى / الضوءِ من كل بضةٍ وكعابِ
عارياتٍ يسبحن في اليم لكنْ / لفَّها الرغو في رقيقِ الثيابِ
خفراتٌ من الأشعة خودٌ / نسَّقتها أنامل الأربابِ
فإذا البحر يرقصُ الموج فيه / وإذا الطير صُدَّحٌ في الروابي
راقصاتِ الأمواج علِّمْنَ قلبي / رقصاتِ المغرِّدِ المطرابِ
وأفيضي عليه من سلسل الوح / يِ نميراً كالجدول المنسابِ
واستثيري عواطفي ودعيني / أسمعُ البحرَ أغنيات الشبابِ
لي وراءَ الأمواج يا بحرُ قلبٌ / نازحُ الدار ما له من مآبِ
نزعته مِنّي الليالي فأمسى / وهو مُلقىً في وحشة واغترابِ
ذكرياتٌ تُدني القصيَّ ولكنْ / أين مني منازل الأحبابِ
أنا وحدي هيمانُ في لجك الطا / مي غريقٌ في حيرتي وارتيابي
أرمق الشاطىء البعيدَ بعينٍ / عكفت في الدجى على التسكابِ
فسواءٌ في مسمعي من ذَراهُ / صدحةُ الطير أو نعيقُ الغرابِ
وسواءٌ في العين شارقةُ ال / فجرِ أو الليل أسودُ الجلبابِ
بيد أني أحسُّ فيكَ شفاءً / من سقامي ورحمةً من عذابي
أنت مهد الميلادِ والموتِ يا بحر / ومثوى الهموم والأوصابِ
فأنا فيك أطرحُ الآن آلا / مي وعبءَ الحياة والأحقابِ
ذكِّريني فقدْ نسيتُ ويا
ذكِّريني فقدْ نسيتُ ويا / رُبَّ ذكرى تعيدُ لي طَربي
وارفعي وَجهكِ الجميلَ أرى / كيفَ هذا الحياءُ لَمْ يَذُبِ
واسندي رأسَكِ الصغيرَ إلى / ثائرٍ في الضلوع مُضطربِ
ذلك الطفلُ هَدْهديهِ فما / ثابَ من ثورةٍ ومن صَخَبِ
وامنحي عينيَ النُّعاسَ على / خُصَلاتٍ من شعركِ الذَّهبي
ظمأي قاتلي فما حَذري / مَوردي منكِ مَوْردَ العَطَبِ
ثرْثِري واصنعي الدموعَ ولا / تحفِلي إنْ هَمَمْتِ بالكذبِ
بي نزوعٌ إلى الخيال وبي / للتمنِّي حنينُ مُغتربِ
وا عَجَبي منكِ إنْ نسيتِ وما / أسفي نافعٌ ولا عَجَبي
لم أزَلْ أرقبُ السماءَ إلى / أن أطَلَّ الشتاءُ بالسُّحُبِ
موعِدُنا كانَ في أصائلِهِ / ضِفَّة سُندسيَّةُ العُشُبِ
نرقبُ النيلَ تحت زورقنا / وخفوقَ الشِّراعِ عن كثبِ
وظلالَ النخيل في شَفَقٍ / سالَ فوق الرمالِ كاللَّهبِ
كأسُنا مترَعٌ وليلتُنا / غادةٌ من مضارِبِ العربِ
ويكِ لا تنظري إلى قدَحي / نظرَاتِ الغريبِ واقتربي
شفتاكِ النَّديتانِ بهِ / فيهما رُوحُ ذلك الحَببِ
شَهِدَ المنتَشِي بخمرهما / أنَّ هذا الرحيقَ من عِنبي
سرى القمرُ الوضَّاحُ بين الكواكبِ
سرى القمرُ الوضَّاحُ بين الكواكبِ / يُفكِّرُ فيما تحتهُ من غياهبِ
فناداهُ من وادي الخلِّيينَ هاتفٌ / بصوتِ محبٍّ في الحياةِ مُقاربِ
يقول له يا روعةَ الحسنِ والصِّبا / وأجملَ أحلامِ الليالي الكواعبِ
أنا العاشقُ الوافي إذا جنَّني الدَّجى / وراعيكَ بين النيِّراتِ الثواقبِ
ألا ليتني حُرٌّ كضوئِكَ أرتقي / عوالمَكَ الملأى بشتى العجائبِ
ويا ليتَ لي كنزَ ابتساماتِكَ التي / تُبعثرها في الكونِ من غير حاسِبِ
فأصغى إليهِ الضوءَ في صفوِ جذلانِ / وأضفى على الوادي شعاعَ حنانِ
وجاسَ خلال السُّحْبِ والماءِ والثرى / فلم يرَ في أنحائها وجهَ إنسانِ
فصاحَ بهِ يا صاحبي ضلَّ ناظري / فأين تُرى ألقاك أمْ كيف تلقاني
فأوما له إني هنا تحت شُرفتي / وراءَ زجاجيها أخذتُ مكاني
أبى البردُ أن أستقبلَ الليلَ قائماً / وأن أنزل الوادي بحيث تراني
وحسبُ الهوى من عاشقٍ لك وامقٍ / تَزَوُّدُ عيني من سنا ضوئكَ الحاني
فألقى عليه الضوءُ نظرةَ حائر / وأعرضَ عنهُ بابتسامةِ ساخرِ
وقال له يا صاحبي قد جهلتني / ويا رُبَّ شعرٍ ساقهُ غيرُ شاعرِ
أنا الموثَقُ المكدودُ طالتْ طريقهُ / طريقُ أسيرٍ في رعايةِ آسرِ
تجاذبني طاحونةُ الشمس كلما / وقفتُ وتمضي بي سِياط المقادِرِ
وما بسمتي إلا دموعٌ من اللظى / قد التمعتْ في وجهِ سهمانَ حاسِرِ
فدعْ عنكَ يا أعجوبةَ الحبِّ عالمي / فقبلكَ لم يَلقَ الأعاجيبَ ناظري
وأمعنَ في تفكيرهِ القمرُ الزاهي / فمرَّ بأرضٍ ذاتِ عشْبٍ وأمواهِ
يناجيهِ منها عاشقٌ ذو ضراعةٍ / مناجاةَ صُوفيٍّ لِطَيْفِ إلهِ
يقول له يا مُشهدي كلَّ ليلةٍ / جمالَ مُحيَّا رائعِ الحسنِ تيَّاهِ
شبيهٌ بهذا الضوءِ نورُ جبينهِ / على أنَّهُ في الناسِ من غير أشباهِ
وترسمُ لي الأشباحُ طيفَ خيالهِ / فأدنو لضمٍّ أو للثمِ شفاهِ
تمنَّيْتُ لو وَسَّدْتَ خدّك راحتي / وصدرُكَ خفَّاقٌ وجفنُك ساهي
فرفَّ على الوادي الشاعُ طروبا / وناداهُ من بين الظلالِ مُجيبا
أزحْ هذه الأغصانَ عنكَ لعلّني / أصافحُ وجهاً من هواك حبيبا
فجاوَبهُ يا قرّةَ العين إنني / قد اخترتُ من شطِّ الغدير كثيبا
إذا أتعَبَتْ عيني السماءُ تطلُّعا / وخالستُ لحظاً للنجومِ مُريبا
ففي صفَحات الماءِ نهزة عاشقٍ / يراكَ على بُعْدِ المزار قريبا
خلوتُ به أرعاك أوْفى قسامةً / وأوفرَ من سحرِ الجمالِ نصيبا
فغاضَ ابتسام الضوءِ من فرط حيرةٍ / وصاحَ نجيِّي أنتَ حقَّرتَ سيرتي
هو الكونُ مرآتي ومجلى مفاتني / وما لغديرٍ أن يُمثِّلَ صورتي
وما نظرَ العشَّاقُ إلَّا لعالمٍ / يُعَظِّمُ في المعشوقِ كلَّ صغيرةِ
أعيذُ الذي شبَّهتَني بجماله / أديمَ مُحيَّا مثل صمَّاء صخرَتي
أنا الفحمةُ البيضاءُ إن جنَّني الدُّجى / أنا الحمة السوداءُ رأدَ الظهيرةِ
فدَعْ عالم الأفلاك واقنعْ بلجَّةٍ / وغازلْ من الأسماك كلَّ غزيرةِ
وبينا يهيمُ الضوءُ في سُبُحاتهِ / وقد غطّ هذا الكونُ في سُخرياتِهِ
رأى شبحاً في قربِ نارٍ كأنما / يودِّعُ طيفاً غابَ عن نظراتِهِ
يمدُّ ذراعيه ويُرسلُ صوتَه / بلوعةِ قلبٍ ذابَ في نبراتِهِ
إلى القمر الساري مُحيَّاهُ شاخصٌ / كصاحبِ نُسْكٍ غارقٍ في صلاتِهِ
فحامَ عليه الضوءُ واستمهلَ الخُطى / وأجرى سناهُ الطلْقَ في قسَماتِهِ
وصاحَ به يا شيخُ ما أنت قائلٌ / تكلَّمْ فإنَّ الليلَ في أخرياتِهِ
فقالَ له يا باعثَ الحبِّ والمنى / سلِمْتَ وحيّتك العوالمُ والدُّنى
شفيتَ جوى شيخٍ أحبَّك يافعاً / وعاش بهذا الحبِّ جذلانَ مؤمنا
وأفنيتُ عمري أرتقي عالي الذُّرى / إلى أنْ بلغتُ اليومَ مثوايَ ههنا
وأوقدُ ناري كي تراني وأنثني / لأطلقَ ألحاني وأدعوكَ مَوهِنا
وقيلَ ضنينٌ لا يجودُ بوصله / فهأنذا ألقاك يا ضوءُ محسنا
تساوتْ كلابٌ تنبح البدرَ سارياً / ونُوَّامُ ليلٍ أنكروا آيةَ السنا
فحدَّقَ فيه الضوءُ وارتدَّ مُغضَبا
فحدَّقَ فيه الضوءُ وارتدَّ مُغضَبا /
وقال له أفنيتَ في سُخفِك الصِّبا /
ولمَّا تُرِحْ جفناً من السهدِ مُتْعبا /
وسُخريةٌ بالنار أن تتقرَّبا /
كأنَّ شعاعي في جفونك قد خبا /
ومن عَبَثِ مثواكَ في هذه الرُّبى /
على حين لم تبلغ من النور مَرْقبا /
وما كنتَ إلَّا الواهمَ المترقِّبا /
وثالثَ عشَّاقٍ بهمْ ضِقتُ مذهبا /
وكانوا لأمثال الخلّيين مضربا /
فوا أسفا ما كنتُ في الدهر مذنِبا /
فأُجزى بنجوى من تعشَّق أو صبا /
وساق على حبي الدليلَ المكذَّبا /
سَلِ العاصيَ الهاوي من الخلدِ هل نبا /
به الليل لمّا آثر الأرض واجتبى /
أأبصرَ قبلي في الدُّجنَّة كوكبا /
أضاءَ له الدرْبَ السحيقَ المشعَّبا /
وهلْ في سنا غيري تملّى وشبَّبا /
بحواءَ واهتاجَ اليراعَ المثقَّبا /
حويتُهما روحاً طريداً مُعذَّبا /
فذاب حيائي منهما وتصبّبا /
وأورثني هذا الشحوبَ وأعقبا /
رأيتُ فماً يدنو ووجهاً تخضَّبا /
وصدراً خفوقاً فوق صدرٍ توثَّبا /
غرائزُ فيها الغيُّ والنقصُ ركِّبا /
تَلمَّسُ في ضوئي الأثامَ المحبّبا /
فيا شيخُ دَعْ هذا الوشاحَ المذهبا /
تَرَ الحمأَ المسنون في الكأسِ ذُوِّبا /
طفا الراحُ فيه والترابُ ترسَّبا /
وإنّ كلابَ الأرضِ أشرفُ مأربا /
ينيرُ لها ضوئي الظلامَ لتجنبا /
خُطى اللصِّ يستارُ الطريقَ المحجَّبا /
فإن نبحَتْ ضوئي تسمَّعتُ معجبا /
بأرخمِ لحنٍ رنّ في الليل مطربا /
تحيّةَ مُثنٍ بي أهَلَّ مُرحِّبا /
بني آدمٍ إنْ لم يكن آدمُ الأبا /
رجوت لكم من عالم الرجس مهربا /
وآثرتكم بالكلبِ جَدّاً مهذَّبا /
وأجملُ بالإنسان أن يتكلبا /
ومالَ عن الأرض الشعاعُ وغرَّبا /
ووسوسَ في صدرِ الدُّجى فتأَلَّبا /
هيَ حانةٌ شتَّى عجائبها
هيَ حانةٌ شتَّى عجائبها / معروشةٌ بالزّهْرِ والقصبِ
في ظُلَّةٍ باتت تُداعبُها / أنفاسُ ليْلٍ مُقمِرِ السُّحُبِ
وزَهَتْ بمصباحٍ جوانبُها / صاف الزُّجاجةِ راقصِ اللهَبِ
باخوس فيها وهو صاحبُها / لم يخْلُ حين أفاق من عَجبِ
قد ظنَّها والسحر قالبُها / شِيدَت من الياقوت والذهبِ
إبريقهُ حَلْيٌ من الدُّرَرِ / يُزْهى به قَدَحٌ من الماسِ
وكأنَّ ما حوليه من صُورِ / متحركاتٌ ذاتُ أنفاسِ
تركتْ مواضعها من الأُطُرِ / ومشتْ له في شِبْهِ أعراسِ
منهنَّ عازفةٌ على وتَرٍ / مُتَفَجِّرٍ بأرقِّ إحساسِ
وغريرةٌ حوراءُ كالقمرِ / تحنو على شفتيهِ بالكاسِ
أوَ تلكَ حانتُهُ فوا عجبا / أم صُنْعُ أحلامٍ وأهواءِ
ومَنِ الخيالُ أهلَّ واقتربا / فينُوس خارجةً من الماءِ
في موكب يتمثَّلُ الطَّرَبا / ويميلُ من سحرٍ وإغراءِ
وبكلِّ ناحيةٍ فتىً وثبا / متعلقاً بذراعِ حسناءِ
يتوهجون صبابةً وصِبا / يتمثَّلونَ غريبَ أزياءِ
حُمْرُ الثيابِ تخالُ أنهمو / يَفِدونَ من حانوت قصّابِ
جلسوا نشاوى مِثلما قُدِموا / يترقبونَ منافذَ البابِ
يتهامسون وهمسُهُمْ نغمُ / يسري على رنَّاتِ أكوابِ
إن تسألِ الخمَّارَ قال هُمُو / عُشاقُ فَنٍّ أهل آدابِ
لولا دُخانُ التَّبغ خلتَهمو / أنصافَ آلهةٍ وأربابِ
من كلِّ مرسِل شَعرِهِ حِلَقا / وكأنها قِطعٌ من الحَلَكِ
غليونهُ يَستشرفُ الأُفُقا / ويكادُ يُحرقُ قُبَّةَ الفَلَكِ
أمسى يُبعثرُ حوله وَرقَا / فكأنه في وسْطِ مُعْتَرَكِ
فإذا أتاهُ وحْيُهُ انطلقا / يُجري اليَراعَ بكفِّ مرتبكِ
ويقول شعراً كيفما اتفقا / يُغري ذوات الثُّكل بالضحكِ
باخوسُ يروي عن غرائبهمْ / شتى أحاديثٍ وأنباءِ
قصصٌ تداوَلُ عن صواحبهمْ / وعن الصبايا فِتنةِ الرائي
وعن الخطيئةِ في مذاهبهمْ / بدأتْ بآدمَ أم بحوَّاءِ
والمُلْهِمَأتُ إلى جوانبهمْ / يُكثرْنَ من غمزٍ وإيماءِ
يَعجبنَ من فعل الشرابِ بهم / ويَلذْنَ من سأمٍ بإغفاءِ
وتلفتوا لما بدا شَبَحُ / فنانةٌ دَلَفَتْ من البابِ
سمراءُ بالأزهار تتَّشحُ / ألقتْ غُلالتها بإعجابِ
ومشت تُراقصهم فما لمحوا / إلَّا خُطى روحٍ وأعصابِ
وسرى بسرِّ رحيقهِ القدَحُ / في صوتِ شاجي اللحنِ مِطرابِ
وشدا بجوِّ الحانةِ الفرَحُ / لإلهةٍ فرَّتْ من الغابِ
هي رقصةٌ وكأنها حُلُمُ / وإذا بفينوس تمدُّ يدا
الكأسُ فيها وهي تضطرمُ / قلبٌ يهزُّ نداؤه الأبدا
زنجيةٌ في الفنِّ تحتكمُ / قد ضاع فنُّ الخالدين سُدى
فأجابت السمراءُ تبتسمُ / الفنُّ روحاً كان أم جسدا
يا أيها الشعراءُ ويحَكُمُ / الليلُ ولَّى والنهارُ بدا
لا تتركي زورقَنا المُجْهَدا
لا تتركي زورقَنا المُجْهَدا / يجري به اليأسُ ويمضي العذابْ
لا تُسلمِي مجدافه للرَّدى / فالشاطئُ الموعودُ وشكَ اقترابْ
سيّان أرغى الموجُ أم أزْبَدا / لن نحنيَ الرأسَ أمام الصعابْ
هذي يدي مُدِّي إليها يَدا / نقتحم النوءَ ونطوِ العبابْ
نادَى بروحي منكِ روحٌ شرودْ / لبيْكِ يا رُبَّانتي الهاتفهْ
شرائعُ الناس بهذا الوجودْ / أعجزُ من أنْ تقهرَ العاطفهْ
ودِدْتُ لو حطَّمت هذي القيودْ / وجئتُ ألقاكِ على العاصفهْ
يُضيء وجهينا بريقُ الرعودْ / فننثني بالبسمةِ الخاطفهْ
وحدكِ أنتِ الآن إنَّا هنا / روحانِ شبَّا في ظلال الكفاحْ
شراعنا الخفَّاق لن يَسكُنا / لليأس مهما مزَّقتهُ الرياحْ
ونجمُنا ما زال طَلْقَ السَّنى / يُطالع الأفقَ ويلقَى البطاحْ
إذا الغواشي السُّودُ مرَّتْ بنا / ألقى لنا الضوءَ ومدَّ الجناحْ
حُبُّكِ رُبَّانُ الهدى والسلامْ / ما لان للأخطار أو أذعنَا
لا تنزِعِي من قبضتيهِ الزمامْ / ولا يَرُعْ قلبكِ هذا الضنَى
كم ثار نوء وتدجَّى ظلامْ / وهذه أنتِ وهذا أنا
إنَّا بلونا الهولَ باسم الغرامْ / جنباً لجنبٍ ورجونا المُنى
ثِقي بملَّاحكِ في المأزقِ / إنّي أنا ابنُ الموج والعاصفاتْ
الشعَراتُ البيضُ في مفرقي / تُنبِيكِ عن أياميَ الخالياتْ
آثارُ عمر مُرعدٍ مُبرقِ / تعصف فيه أروعُ الحادثاتْ
ما كدَّرَتْ من روحيَ المشرقِ / تلك الليالي القُلَّبُ المظلماتْ
حبيبتي من أيِّ قلبٍ حزينْ / وأيِّ روحٍ عبقريِّ الألمْ
وأيِّ وادٍ للأسى أو معينْ / فجَّرتِ لحناً من أرقِّ النغمْ
وصَفْتِ فيه زهرة الجورِجينْ / حارسةَ الميْتِ بوادي العَدمْ
وخِلتِها كالكأسِ ذات الرنينْ / برَّاقةً فيها الردى يبتسِمْ
بكيتِ بالدمع السخين الذريفْ / على غرامٍ خِلتِهِ قد مضى
وأبْصَرَتْ عيناكِ ظلَّ الخريف / يُجللُ الأرض ويغشَى الفضا
تخضبُ كفَّاه النضيرَ الوريف / ورْساً وتُدمِي الزنبقَ الأبيضا
وتُخرس الطير بليلٍ شفيف / يروعُ فيه القلبَ أن ينبِضا
هذا الخريف الجهمُ تمشي خُطاهْ / على الربيع الذَّابلِ المحتضَرْ
كآبةٌ تحجبُ أُفقَ الحياهْ / سحابةً تخنقُ ضوءَ القمرْ
أُختاهُ هذا الحبُّ غضٌّ صِباهْ / أيُّ عذابٍ صاغ هذي الصورْ
لم يَبرحِ الشاطئَ إنِّي أراه / كعهدِهِ في الموعد المنتظرْ
كان حديثُ القَدرِ المبهَم / مثارَ هذا الخاطر المفزعِ
برغم قلبي صحتُ لا تُقدمي / وكان ما كان فلم تسمعي
أشفقتُ أن تَشْقي وأن تألمي / معي فناشدتُكِ أنْ تَرجعي
لكنْ أبى الحبُّ فلم نأثم / وكان أن أبقى وتبقي معي
أكان حلماً أم قضاءً دعا / ماذا يُفيد العاشقين الحذرْ
شئنا فلم نقدرْ وعُدنا معا / يا أختَ روحي ذاك حكم القدرْ
لم ندَّخِرْ جهداً ولا أدمعا / ولا دماً ما نحن إلَّا بشرْ
ما أمجدَ الحبَّ وما أروعا / إذا تحدَّى العاشقان الخطرْ
الحبُّ ما زالَ وهذا سناهْ / يُلهبُ حتى الجذوةَ الخامدهْ
تذوِي الأزاهيرُ وتذوي الشفاه / وهو ربيعُ الأنفس الواجِدهْ
قلوبُنا منه تُصيبُ الحياه / وتستمدُّ النَّضرةَ الخالدهْ
إذا أضعناهُ فوارحمتاه / لنا وبؤسَى لليدِ الجاحدهْ
ألا ما لهذا الليلِ تَدجى جوانبُهُ
ألا ما لهذا الليلِ تَدجى جوانبُهُ / على شَفَقٍ دامٍ تلظَّى ذوائبُهْ
وما ذلك الظلُّ المَخوفُ بأُفْقِهِ / يُطِلُّ فترتدُّ ارتياعاً كواكبُهْ
أأيتها الأرضُ انظري ويكِ واسمعي / توثَّبَ فيكِ الشرُّ حمْراً مخالبُهْ
أرى فِتنةً حمْراءَ يَلْفُظُها الثرى / دُخاناً تُغَشِّي الكائناتِ سحائبُهْ
وأشتمُّ من أنفاسها حَرَّ هَبْوَةٍ / كأنَّ هجيرَ الصيف يلفحُ حاصبُهْ
أرى قبضةَ الشيطان تستلُّ خنجراً / توهَّجُ شوقاً للدماءِ مَضارِبُهْ
تسلَّلَ يبغي مقتلاً مِن محمدٍ / لقد خُيّبَ الباغي وخابَتْ مآرِبُهْ
تقدَّمْ سليلَ النَّارِ ما الباب موصدٌ / فماذا توقَّاهُ وماذا تُجانبُهْ
تأمَّلْ فهَلْ إلَّا فتىً في فراشه / إلى النورِ تَهفو في الظَّلامِ ترائبُهْ
يُسائِلُكَ الأشياعُ زاغَتْ عيونُهم / وأنتَ حَسيرٌ ضائعُ اللُّبِّ ذاهبُهْ
تُرانا غفوْنا أم تُرى عَبرتْ بنا / نُفاثةُ سِحْرٍ خدَّرَتْنا غرائبُهْ
وما زال منا كلَّ أشوسَ قابضاً / على سيفهِ لم تخْلُ منه رواجبُهْ
تُرى كيف لم تُبصِرْ غريمك سارياً / وأين تُرى يمضي وتمضي ركائبُهْ
تقدَّمْ وجُس في الدار وهْناً فما ترى / لقد هَجَر الدارَ النبيُّ وصاحبُهْ
يحثَّان في البيداء راحلتَيْهما / إلى جبلٍ يُؤوي الحقيقةَ جانبُهْ
فقفْ وتنظَّرْ حائراً نَصْبَ غارهِ / تحدَّاكَ فيه ورْقُهُ وعناكبُهْ
لتعلمَ أن الحق رُوحٌ وفكرةٌ / يذلُّ لها الطاغي وتعْنو قواضبُهْ
فطِرْ أيها الشيطان ناراً أو انطلق / دُخاناً فأخْسِرْ بالذي أنت كاسبُهْ
خَسِئتَ ولو لم يَعصِمِ الحقَّ ربُّه / طوى الأرض ليل ما تزول غياهبُهْ
هَوىً لكِ فيهِ كلُّ ردىً يُحَبُّ
هَوىً لكِ فيهِ كلُّ ردىً يُحَبُّ / فديتُكِ هل وراءَ الموت حُبُّ
فديتُك مصرُ كلُّ فتىً مشوقٌ / إليكِ وكلُّ شيخٍ فيكِ صَبُّ
ويحلُمُ بالفِدَى طفلٌ فطيمٌ / وكلُّ رضيعةٍ في المهدِ تحْبو
أراك وأينما ولَّيتُ وجهي / أرى مُهَجاً لوجهك تشرئبُّ
وأرواحاً عليكِ محوِّماتٍ / لها فوق الضِّفافِ خُطىً ووثبُ
عليها من دمِ الفادين غارٌ / له بيديكِ تضفيرٌ وعَصْبُ
حَمتكِ صدورُها يومَ التَّنادي / ووقَّتكِ الليالي وهي حَرْبُ
إذا رامتكِ عاديةٌ وشقّتْ / فضاءَكِ غيلةً ورماكِ خَطبُ
دَعَتْ بالنَّهر فهْوَ لظىً ووقدٌ / وبالنَّسماتِ فهي حصىً وحصْبُ
وبالشجر المنوِّر فهو غيلٌ / وكلُّ غُصونِهِ ظُفرٌ وخُلْبُ
حقائقُ عن يدِ الإِيمانِ ترمي / صواعقَ ومضُها رُجْمٌ وشُهْبُ
لها في مهجة الجبّار فتكٌ / وفي عينيهِ إِيماضٌ وسكْبُ
صنائعُ كالغنائيَّات يَشدُو / بها شرقٌ ويُلقي السمعَ غربُ
ويُبْعثُ في الحياةِ على صداها / فراعنُ أو حواريُّون عُرْبُ
أهلُّوا بالصباحِ فثمَّ ركبٌ / تموجُ به الضِّفافُ وثمَّ ركبُ
بأرواحٍ مجنحةٍ نشاوى / إِليكِ بكلِّ جارحةٍ تدبُّ
لقد بُعثتْ من الأحقابِ مِصرٌ / أَجل بُعِثت وهبَّ اليوم شعْبُ
توحَّدَ في الزعامة فهو فردٌ / وأُفرِدَ بالأمانةِ فهو صُلْبُ
فيا لكِ مِصرُ ما لجلالِ أمسٍ / عَلَتْهُ غَبَرةٌ وطوتهُ حُجْبُ
وأُبهِمَ فهو رجْعُ صدىً وطيفٌ / بعيدٌ ليس يستجلِيهِ قُرْبُ
دَوت ريّاً ملامحهِ وحالتْ / مناقبهُ فهنّ أذىً وثلبُ
أكان دمُ الفدائيِّينَ صِدْقاً / وأصبَحَ وهو بعدَ الأمسِ كذْبُ
فيُهدمُ ما بنى ويقالُ شادوا / وتُصدعُ وَحْدَةٌ ويُقال رأبُ
علامَ إِذنْ أُريقَ بكلِّ وادٍ / فأوْرقَ مُجدِبٌ وأنارَ خِصْبُ
وجاد به شبابٌ عبقريٌّ / وولدانٌ كفرخِ الطَّيرِ زُغْبُ
أحقّاً ما يُقال شيوخُ جيلٍ / على أحقادهم فيه أكبُّوا
وكانوا الأمسِ أرسخَ من جبالٍ / إذا ما زُلزلَتْ قِممٌ وهُضْبُ
فمالهمو وَهَتْ منهم حُلومٌ / لها بيدِ الهوى دَفْعٌ وجَذْبُ
أأرحامٌ مقطَّعَةٌ وأرضٌ / تَعادى فوقَها أهلٌ وصَحْبُ
وأسواقٌ تُباع بها وتُشْرى / ضمائرُ هُنَّ للأهواءِ نَهْبُ
يطوف بها النِّفاقُ وفي يديه / صحائفُ أُفْعمتْ زوراً وكُتْبُ
يكاد الليلُ أن يَنْسى دُجاهُ / إذا نُشِرَتْ ويأخذَ منه رُعْبُ
تعالوا يا بني قومي تعالوا / إلى حقٍّ وحَسْبُ الشعبِ حَسْبُ
هو الدستور منه جَنىً قطفْنا / ونهرُ حياتنا ملآنُ عَذْبُ
فما للشَّرْبِ والجانينَ ثاروا / عليه بعد ما طَعموا وعَبُّوا
فأُهْدِرَ مَرَّةً وأُبيحَ أخرى / وعِيبَ وما له عيبٌ وذنبُ
إذا ما الأكثريةُ فيه فازتْ / تحرَّكتِ الدسائسُ وهي إِلْبُ
وإن هيَ حورِبَتْ عنه وذيدَتْ / تحدَّثَ باسمِهِ فَرْدٌ وحِزْبُ
عجائب لم تقَعْ إلَّا بمصر / وأحداثٌ لهن يَطيش لُبُّ
تَعالوا يا بَني قوْمي إليْهِ / فما في حُكمِهِ قَسْرٌ وغَصْبُ
وما هو أسْطُرٌ كُتِبَتْ ولكنْ / معان في القلوب لهنَّ عَلْبُ
تحررتِ الشعوبُ فكلُّ شعبٍ / طليقٌ والمجال اليوم رَحْبُ
وَهَبّتْ في نواحي الأرضِ دُنيا / لحقٍّ يُجتَبَى ومُنىً تُلَبُّ
أنلعبُ والزمانُ يقول جدُّوا / ونرقدُ والحياةُ تصيحُ هُبُّوا
فلا تقفوا بحريَّاتِ شَعْبٍ / وآمالٍ له للمجدِ تصْبو
فما تثني خُطى شعبٍ طموح / زعازعُ في ظلامِ الليل نُكْبُ
إذا عصفتْ تلقَّاها بصدرٍ / وراءَ ضلوعِهِ نارٌ تُشَبُّ
سألتكمو اليمينَ وحُبّ مصرٍ / ألم يخفِقْ لكم بالحب قلبُ
إذا عَبَسَ الزمانُ لمصرَ أوْمَتْ / إلى الفاروقِ وهيَ رضىً وحبُّ
فقبَّلها وظلَّلها هواهُ / وندَّى قلبَها والعيشُ جَدْبُ
وباسمكَ أيها الملكُ المفدّى / تَقَشَّعُ غُمَّةٌ ويزولُ كَرْبُ
وباسمكَ لا يُضامُ لمصرَ حَقٌّ / وباسمكَ لا يُضارُ بمصرَ شَعْبُ
وباسمكَ من عُضالِ الداءِ تُشْفَى / وباسمكَ كلُّ داءٍ يُسْتطبُّ
بحقِّ عُلاكَ وهو هُدىً ونورٌ / وحقِّ هَواكَ وهو عُلاً وكسْبُ
إليكَ توجّهَتْ بالروحِ مصرٌ / وأنتَ لمصرَ بعد اللّه ربُّ
أسألكم ويح من يجيبُ
أسألكم ويح من يجيبُ / ما خطبكم لم يمُت نجيبُ
ما مات من أضحك المآسي / من قدَرٍ صنعُه عجيبُ
وصيّر الدمعَ في المآقي / على ابتساماتهِ يذوب
وجمّل العيش للحزانى / فكل حالٍ به تطيب
وأنصف الدهر من حظوظٍ / تخطىء في الناس أو تصيب
ومثّل الزيّف من حياةٍ / مرقع ثوبها القشيبُ
كادت لتمثيله الليالي / تبكي وتستعبر الخطوب
وكاد منه الزمان يغضي / خزيا وتستغفر الذنوب
معلّم ما له ضريب / معهدهُ المسرحُ الحبيبُ
فتىً كطيرِ الربيع روحا / موهوبةٌ نفسه وهوبُ
ألبارعُ اللفظ في بيانٍ / يحارُ في صوغه الأديب
كأنّه مائلٌ لعيني / وعهده بالنوى قريب
حلو الإشارات في سماتٍ / له بتصويرها ضروب
وصوته ملء كل سمع / تهفو لإيقاعه القلوب
أستاذ جيل إلى نداه / عواطف الجيل تستجيب
يعلم الشعب أو يسلي / من شفّه الهمّ واللغوب
في قصة مرّة حوتها / ملهاته الحلوة الطروب
أو ملحة عذبةٍ جلاها / أسلوبه الساحر اللعوب
يلقي بها ضاحكا ويمشي / وقلبه ساهم كئيب
حياتنا مثلما رآها / صوّرها ناقد لبيب
مصرية الذوق لم يثُبها / تصنّعٌ لفظه مشوب
ولم تلفق ولم تنمق / بها الأباطيل والعيوب
حقائقٌ لم يوار منها / مجاملٌ هازلٌ هيوبُ
مدرسة ما بها كتاب / ومنبرٌ ما له خطيب
لا سنّ للدارسين فيها / طلّابها فتيةٌ وشيب
ويستوي جاهلٌ لديها / وعالمٌ فاهمٌ أريبُ
ألكل فيها لهم متاعٌ / وفرٌ ومن علمه نصيب
يا لهفةَ الفن حين أودى / وما اعترى نجمَه شحوبُ
ولا زوى أفقه ظلامٌ / له على موجه وثوب
في لحظةٍ لم يجل بذهنٍ / قضاؤها الفاجع الرهيب
حيث ينادي وحيث يزجى / مشيبه الرائع الخصيب
قم يا نجيب انفض المنايا / واسمع تجد أمّةً تجيب
صحت على موكبٍ هلوعٍ / يخنقهُ الحزن والنحيب
مصر التي قدّرتك حبا / يا أيها النابغ الغريب
بمثل ما شيعتك يوم الو / داع لم تسمع الشعوب
وأنت بالعهد من هواها / ربيبها وابنها النجيب
أقدم فداكَ حديدها ولهيبها
أقدم فداكَ حديدها ولهيبها / واغنم مجادتها فأنت ربيبها
مجد الفتوح الغرّ أنت وريثه / والحرب أنت على المدى موهوبها
ما الحرب إلا ما شرعت وما رأت / أممٌ تذود عن الحقوق شعوبها
نادت فهبّ على الدماء ضريجها / يمشي ويقتحم السعير خضيبها
شرف المحارب أن يعفّ سلاحه / إن جارت الهيجاء وهو حريبها
ليجير شعباً أو يحرّر أمّة / لا تستباح ولا يضامُ نجيبها
النصر أن تلقى الطغاة بضربةٍ / شعواء لم يضب الطغاة ضريبها
فخذ العدوّ المستخفّ بطعنةٍ / إن لم تمته غدا تمته ندوبها
والمجد أن تحمي وراءك قرية / ضاعت مسالكها وضاق رحيبها
جنّ الحديد بأرضها وسمائها / فجرى وطار تصيبه ويصيبها
شدّت يد الفولاذ حول نطاقها / حلقا تصيح النار كيف أذيبها
بالروح والإيمان أنت قهرتها / بأساً فلان على يديك صليبها
حتى إذا أعيا العدوّ جلادُها / ووهت جحافِله وطاش وثوبُها
عضّت على كفّيه والتفّت على / ساقيه وانسدّت عليه دروبها
ومشت له منها ضراغم غابة / كلّ الردى أخلابُها ونيوبُها
قذفت به عنها وغودر جيشه / بددا تعقّبه الخوف وحوبها
جثثا تعاف البيد شرب دمائها / ويعفّ كاسرها ويأنف ذيبها
شرفا كماة النيل أيّ بطولةٍ / راع الكماة فنونها وضروبها
ومواقف لكمو تشيد بذكرها / دول وراء النار قام رقيبها
وملاحم الأبطالِ في فلوجه / قصص الكفاح غريبها وعجيبها
هومير ما غنّى بها طروادة / وكمثلها ما ألهمته حروبها
ضربوا الحصار على الكماة فجاءهم / فطِنُ الشجاعة في الحروب أريبها
متمرس بطباعها متفرّسٌ / في روعها يقط الخطى مرهوبها
فادٍ أحمّ كأنما احترقت به / حربٌ من الميلاد كان نشوبها
فنما وشبّ عليه من يحمومها / أدمٌ زهاه من السمات مهيبها
طلعت به إفريقيا وتطلّعت / آجامها وجبالها وسهوبها
يزرى بما نصب الدهاة لصيده / ويضلّ أشراك الردى ويخيبها
ما زال مصطرعا يصول ودونه / بيداء يغشاها اللظى ويجوبها
ساق الطغاة لها فرائس فتنةٍ / حمراء ينفخ في الجحيم ربوبها
عرضت مآثمها بهم وتقدّمت / أمم تمور على الرمال ذنوبها
حتى رأته كوى السماء ففتّحت / وتلألأت بسنى السلام ثقوبها
ومشى الكميّ أشمّ بين رجالهِ / أبطالِ حربٍ لا يقرّ سليبُها
لن يستذلّ ثرىً عليه دماؤهم / سالت لقد روى الحياة صبيبها
يا أيها الأبطال مصرُ إليكمُ / بالغار يستبق الشبيبةَ شيبها
وعقائلٌ خلفَ الخدور هواتفٌ / كالطير أذن بالصباح هبوبها
ينثرنَ بالريحان فوق رؤوسكم / طاقاتِ وردٍ ليس يذهبُ طيبها
وهفت غمائمُ في السماء تظلُّكم / ويرفُّ مصعدُها لكم ومصيبها
وعلى طريق المجد من فالوجةٍ / مهجٌ حوائمُ في التراب وجيبها
شهداؤكم ودُّوا هناك لو اَنَّهم / قدموا بألويَّةٍ يروعُ خضيبها
طلعوا بنور الفجر فوق مآذنٍ / تدعو ورحمن السماء يجيبها
هاتوا حديث الحرب كيف تطامنت / لكمُ مفازعها وهان عصيبها
في قرية محصورة كسفينة / في لجة هاجت وماج غضوبها
لم تدر فيها الريح أين قرارُها / والشمس أين شروقها وغروبها
كم حدثوا عنها وقالوا في غد / للقاع تهوي أو يحين رسوبها
وبِمصرَ والدنيا عيونُ أحِبةٍ / السُّهدُ والألم الممِضُّ حبيبها
ترعى النهار وتتقي غسق الدجى / هذا يطمئنها وذاك يريبها
إيهٍ حماةَ الشرق كم بجهادكم / تشدو العصور بعيدها وقريبها
هذي الضفاف وهذه داراتكم / دارات شمس لا يحول شيوبها
ترنو لكم وتكاد من أشواقها / تمشي وكيف حراكها ودبيبها
لِمَ لا أغنيكم قوافيَّ التي / غنَّى بملحمة الحياة طروبها
هي من روائعكم ووحيُ جديدها / منكم ومني في البيان وَجيبُها
بالله إن طفتُم بساحة عاهل / ترعاه مصر عيونها وقلوبها
فتقدموا تحت اللواء وقرّبوا / هذي السيوف الداميات عزوبها
أحيت له ولمصر أيّ مجادةٍ / هي ذخرهُ المأثورُ وهو وهوبها
هيهات تنبت تربة غير العلى / ما دام يسقى بالدماء خصيبها