المجموع : 14
كان وجهُ الثرى كوجهِ الماءِ
كان وجهُ الثرى كوجهِ الماءِ / رائقَ الحسنِ مستفيضَ الضياءِ
حينَ ولى الدّجى وأقبلَ فجرٌ / واضحُ النورِ مشرقُ اللألاءِ
بَهَجٌ في السماءِ والأرض يُهدى / من غريب الخيالِ والإيحاءِ
صفَّقتْ عنده الخمائلُ نشوى / وشدا الطيرُ بين عودٍ وناءِ
مَظْهَرٌ يبهرُ العيونَ وسحرٌ / هَزَّ قلبَ الطبيعةِ العذراءِ
وجلا من بدائع الفنِّ روضاً / نمَّقَتْهُ أناملُ الإغراءِ
ما الربيعُ الصَّناعُ أوفى بناناً / مِنْهُ في دِقةٍ وحسنِ أداءِ
نَسَقَ الأرضَ زينةً وجلاها / قَسَماتٍ من وجههِ الوضَّاءِ
ربوةٌ عند جدولٍ عند روضٍ / عند غيضٍ وصخرةٌ عند ماءِ
فَزَها الفجرَ ما بدا وتجلَّى / وازدهى بالوجودِ أيَّ ازدهاءِ
قال لم تُبْدِ لي الطبيعةُ يوماً / حين أقبلتُ مثلَ هذا الرُّواءِ
لا ولم يَسْرِ مِلءَ عيني وأذني / مثل هذا السَّنى وهذا الغناءِ
أيُّ بشرى لها تجمَّلت الأر / ضُ وزافتْ في فاتناتِ المرائي
علَّها نُبِّئَتْ من الغيب أمراً / حَمَلَتْهُ لها نجوم المساءِ
قال ماذا أرى فردَّدَ صوت / كصدى الوحي في ضمير السماءِ
إنَّ هذا يا فجرُ ميلادُ شاعِرْ /
حيَّاك أرضاً وازدهاكِ سماءَ
حيَّاك أرضاً وازدهاكِ سماءَ / بحرٌ شدا صخراً وصفَّقَ ماءَ
يحبو شعابَكِ في الضحى قبلاته / ويرفُّ أنفاساً بهن مساءَ
متجدِّدَ الصبواتِ أودعَ حبَّهُ / شتى الأشعةِ فيكِ والأنداءَ
وَلِعٌ بتخطيطِ الرمال كأنه / عرَّافةٌ تستطلع الأنباءَ
ومصوّرٌ لبقُ الخيال يصوغُ من / فنِّ الجمالِ السِّحرَ والإغراءَ
نسق الشواطئ زينةً وأدقها / صوراً بريَّا صفحتيهِ تراءى
يجلو بريشته السماءَ وإنما / زادت بريشته السماءُ جلاءَ
لا الصبحُ أوضحُ من مطالعِهِ بِها / شمساً ولا أزهى سنىً وضياءَ
كلا ولا الليل المكوكبُ أفقُهُ / بأغرَّ بدراً أو أرقّ سماءَ
يا رُبَّ زاهيةِ الأصيلِ أحالها / أُفقاً أحمّ ولجَّةً حمراءَ
وكأنما طوتِ السماءَ ونشَّرَتْ / لهباً وفجَّرتِ الصخورَ دِماءَ
ولربَّ عاطرةِ النسيمِ عليلةٍ / طالعتُ فيها الليلةَ القمراءَ
رقصت بها الأمواجُ تحتَ شُعاعِها / وسرَتْ تجاذبُ للنسيم رداءَ
حتى إذا رانَ الكرى بجفونها / ألقت إليكِ بسمعها إصغاءَ
تتسمَّعُ النوتيَّ تحت شراعهِ / يشدو فيبدعُ في النشيدِ غِناءَ
هزَّت ليالي الصيفِ ساحرَ صوتهِ / فشجى الشواطئَ واستخفَّ الماءَ
وأثارَ أجنحةَ الطيورِ فحوَّمتْ / في الأفقِ حيرى تتبعُ الأصداءَ
صُورٌ فواتنُ يا شواطئُ صاغها / لكِ ذلكَ البحرُ الصناعُ رواءَ
فتنظّريهِ على شعابكِ مثلما / رجعَ الغريب إلى حماهُ وفاءَ
كم ظلّ يضربُ في صخورِكِ موجُهُ / مما أجَنَّ محبَّةً ووفاءَ
عذراً إذا عَيَّتْ بمنطقه اللُّغى / فهوَ العَيِيُّ المفحِم الفُصحاءَ
فخُذي الحديثَ عليه واستمعي لهُ / كم من جمادٍ حدَّثَ الأحياءَ
وسليهِ كيف طوى الليالي ساهداً / وبَلا الأحبَّةَ فيكِ والأعداءَ
كم ليلةٍ لك يا شواطئُ خاضَها / والهولُ يملأ حولكِ الأرجاءَ
والسفنُ مرهفةُ القلاعِ كأنما / تطأ السحابَ وتهبطُ الدأماءَ
حملتْ لمصرَ الفاتحينَ وطوّحتْ / بالنيل منهمْ جَحْفلاً ولواءَ
ولو استطاع لردَّ عنكِ بلاءَهم / وأطارَ كلَّ سفينةٍ أشلاءَ
أو كان يملك قدرةً حشَدَ الدُّجى / ونضا الرجومَ وجنَّد الأنواءَ
ودعا غواربَه الثقالَ فأقبلتَ / فرمى بها قدراً وردَّ قضاءَ
فاستعرضي سِيرَ الحياة وردِّدي / ما سرَّ من أنبائهنَّ وساءَ
وخُذي ليومكِ من قديمكِ أُهبةً / ومن الجديد تعِلَّةً ورجاءَ
إيهِ شواطئَ مصرَ والدنيا مُنىً / تهفو إليكِ بنا صباحَ مساءَ
ناجيتِ أحلامَ الربيعِ فأقبلتْ / وأشرتِ للصيف الوسيمِ فجاءَ
يحبوكِ من صفوِ الزمانِ وأنسه / ما شئتِ من مَرحِ الحياةِ وشاءَ
وغداً تضيءُ على جبينكِ لمحةٌ / طبعَ الخلودُ سماتها الغرّاءَ
وترفُّ منه على ثغورِك قبلةٌ / أصغى النسيم لها وغضَّ حياءَ
فاستقبلي الصيفَ الجميلَ وهيِّئي / للشعرِ فيكِ خميلةً غنّاءَ
وتسمّعي لحنَ الخيالِ وأفردي / لي فوق مائكِ صخرةً بيضاءَ
واستعرضي حورَ الجنانِ وأطلقي / لغة السماء وألهمي الشعراءَ
حلفتُ بالخمرِ والنساءِ
حلفتُ بالخمرِ والنساءِ / ومجلسِ الشعرِ والغناءِ
ورحلةِ الصيفِ في أوربا / وسحر أيامِها الوضاءِ
رفعتُ فيها لواءَ مصرٍ / ورأس مصرٍ إلى السماءِ
لم أنسكم قطُّ أصدقائي / ولم يحُلْ عنكمُ إخائي
أُحبكمُ فوق كلِّ حبٍّ / وهانَ في حبكم فنائي
فما تظنّون في وفيٍّ / أربى هواهُ على الوفاءِ
إذا احتواهُ الصعيدُ ليلاً / وهيمنتْ نَسمة المساءِ
وتاهتِ الأقصر اختيالاً / بالغيدِ في موسم الشتاءِ
صَدفتُ عنها إلى وجوهٍ / عرفتُ فيهنَّ أصدقائي
أنتم وهل لي سوى خيالٍ / يجمعكم بي على التنائي
فانتظروني ولا تظنوا الظْ / ظنون واستمطروا ثنائي
ماذا تركتَ بعالم الأحياء
ماذا تركتَ بعالم الأحياء / وأخذتَ من حبٍّ ومن بغضاءِ
لكَ بعد موتكَ ذكرياتٌ حيَّةٌ / جوَّابةُ الأشباحِ والأصداءِ
هتكت حجابَ الصمتِ عنكَ وربما / هتكتْ غشاءَ المقلةِ العمياءِ
فرأتْ مخايلَ وادعٍ متواضعٍ / في صورةٍ من رقَّةٍ وحياءِ
متطامنِ النظراتِ إلا أنها / نفَّاذةٌ لمكامن الأهواءِ
متفرِّساتٍ في سكينةِ قانصٍ / لم يخْلُ من حذرٍ وفرط دهاءِ
شيخٌ أطلَّ على الشتاء وقلبُه / متوقِّدٌ كالجمرةِ الحمراءِ
مرَّ الرفاقُ به فشيَّع ركبهم / وأقام فرداً في المكانِ النائي
وطوى الحياةَ كدوحةٍ شرقيةٍ / أمستْ غريبةَ تربةٍ وسماءِ
لبستْ جلال وحادِها وترفَّعتْ / بالصمت عن لغوٍ وعن ضوضاءِ
لم تنزل الأطيارُ فيءَ ظلالها / أو تَبْنِ عُشّاً أو تَحُمْ بغناءِ
حتى إذا عرّى الخريف غصونها / من وشي تلك الحلَّة الخضراءِ
عَبَرت بها صدَّاحةٌ في سجعها / لُغةُ الهوى ورطانةُ الغرباءِ
وارحمتا للنسر يخفُق قلبهُ / بصبابة القُمريّة البيضاءِ
هي لُمعةُ القَبَسِ الأخير وقد خبا / نجمُ المساءِ ورعشةُ الأضواءِ
وتوثُّبُ الروح الحبيس وقد شدا / ثَمِلاً بسحرِ الليلةِ القمراءِ
وحنايةُ الحسنِ الغريرِ إذا رمى / فشريقُ دمعٍ أو غريقُ دماءِ
ومهاجرٍ ضاقتْ به أوطانُه / وتأثَّرتْهُ مخاوفُ الطرداءِ
لم تثنه شيخوخةٌ مكدودةٌ / دون السِّفارِ ولا صقيعُ شتاءِ
متطلبٍ حقَّ الحياةِ لخافِقٍ / أمسى مهيضَ كرامةٍ وإباءِ
من كان في أمسٍ يسوسُ أمورَهم / ضنُّوا عليه بفرحةِ الطُّلقاءِ
يقضونَ باسمِ المال فيه كأنما / ضمِنُوا لمصرَ مصادرَ الإثراءِ
هلَّا قضوا لمقاصفٍ ومصارفٍ / مغفورةٍ منهومةِ الأحشاءِ
أكلتْ دمَ الفلَّاح ثم تكَفَّلَتْ / بحصادِ حنطتِهِ وجلدِ الشاءِ
حبٌّ بلوتَ به العذابَ ومثلهُ / مِقَتُ السياسةِ وهي شرُّ بَلاءِ
عَصَفَتْ بأحلامِ الرجالِ وسفهت / رأيَ اللبيبِ ومنطقَ الحكماءِ
كم فوق ساحِلها خُطىً مطموسةٌ / كانت سبيل هدايةٍ ورجاءِ
وسفينةٌ مهجورةٌ محطومةٌ / حَمَلتْ لها البشرى طيورُ الماءِ
أين اللواءُ وربُّهُ وجماعةٌ / كانوا طليعةَ موكبِ الشهداءِ
وأخو يراعٍ في الصفوفِ مدافعٌ / بيَديْ حواريٍّ وصدرِ فدائي
لم يُنْصَفوا حتى ببعض حجارةٍ / خرساءَ ماثلةٍ لعين الرائي
ومضوا فما وجدوا كفاءَ صنيعهِم / تمثالَ حبٍّ أو مثالَ وفاءِ
تأبى السياسةُ غيرَ لونِ طباعِها / وتريدُ غيرَ طبائعِ الأشياءِ
قالوا أحبَّ الإنكليزَ وزادهم / ودَّ الحميم وموثق القرناءِ
ها قد أتى اليوم الذي صاروا به / أوفى الدعاةِ وأكرمَ الحلفاءِ
بتنا نغاضب من يغاضبهم ولا / نأبى رعايتهم على الضَّراءِ
رأيٌ أُخِذْتَ به وليس بعائبٍ / ذمَمَ الرجالِ مآخذُ الآراءِ
لكن سكتَّ فقيلَ إنَّك عاجزٌ / عن ردِّ عادية ودفعِ بلاءِ
صَمْتٌ تحيَّرَ فيه كلُّ مُحدِّثٍ / والصمتُ بعضُ خلائق الكرماءِ
في عالمٍ يُنسي الحليمَ وقارَهُ / ويُري البنينَ عداوةَ الآباءِ
وتَرى التوائمَ فيه بينَ عشيَّةٍ / متنافراتِ طبيعةٍ ورواءِ
جهدُ الكرامِ به افترارُ مباسمٍ / وتكلُّفٌ في القولِ والإصغاءِ
صُوَرٌ عرفتَ لُبابَها ولحاءَها / فكأنما خُلِقَت بغير لحاءِ
قد كنتَ تُخلصُ لي الودادَ فهاكهُ / شعراً يصونُ مَودَّةَ الخلصاءِ
يجدُ الرجالُ به على حسناتِهم / مدحِي وعن هنواتِهم إغضائي
فاصعدْ لربِّكَ فهو أعدلُ حاكمٍ / وهو الكفيلُ برحمةٍ وجزاءِ
وتلَقَّ من حكمِ الزمانِ وعدلِهِ / ما شاءَ من نقدٍ ومن إطراءِ
ربَّتي ربَّةُ أشعاري وحُبِّي وغنائي
ربَّتي ربَّةُ أشعاري وحُبِّي وغنائي /
هي حوريَّةُ غابٍ لم تَبنْ للشعراءِ /
وعروسٌ من بنات الجنِّ لم تبْدُ لرائي /
مثلَها لم يَرَ صَيَّادٌ على صفحةِ ماءِ /
فِتنةُ الشاعر في وحدتهِ كلَّ مساءِ /
غنَّتِ الأحلامُ في غرفتهِ لحنَ اللِّقاءِ /
وسرَتْ ترْقُصُ حوليْهِ على خَفق الهواءِ /
ورفيفِ السُّحبِ والأنجم والشهبِ الوضاءِ /
ولغيري لم تكنْ تخطرُ في هذا الرواءِ /
لا ولم تروِ كهذا اللحنِ في هذا الصّفاءِ /
وليالي الصيفِ منها كأماسيِّ الشتاءِ /
بِتُّ أسقيها وتسقيني على محض الوفاءِ /
خمرةً ما قبَّلتْ غير شفاهِ الأنبياءِ /
خمرةً في الغيبِ كانت قطراتٍ من ضياءِ /
خُتِمَتْ بالشفَق الورديِّ في أصفى إناءِ /
جُبلتْ فخّارتاهُ من صفاءٍ ونقاءِ /
حدَّثوا عنها وما أحلى حديثَ الندماءِ /
قال منهم واحدٌ في غير زهوٍ وادِّعاءِ /
هذه الخمرةُ كانتْ لملوكٍ أتقياءِ /
عصروها من جنى الربَّاتِ في فجر شتاءِ /
ثم آلتْ لغلامٍ رائعٍ جمِّ الذكاءِ /
شرِهِ النظرة عربيدٍ شديدِ الغُلواءِ /
عشقَ البحرَ وعافَ القصرَ مرفوعَ البناءِ /
ومضى يضربُ في الكون على غير اهتداءِ /
عاش كالقرصانِ يطوي كلَّ بحرٍ وفضاءِ /
بشراعٍ صُنْعُهُ إحدى أعاجيبِ الخفاءِ /
غَزلاً يملك بالشعر مقاليدَ النساءِ /
كلما هام بأُنثى أو صَبا بعد اشتهاءِ /
وشكا الكأسُ إليهِ طولَ هجرٍ وجفاءِ /
همَّ أن يشربَ فارتدَّ فأغضى في حياءِ /
ضَنَّ بالقطرة منها وكذا شرعُ الولاءِ /
ومضى جيلٌ وجيلٌ وهو مشبوبُ الدماءِ /
ضارباً في العاصفِ الثائرِ والرِّيح الرُّخاءِ /
وأتاهُ القدرُ الساخرُ أو حكم القضاءِ /
فدعا الرَّباتِ واستصرخَ من فرطِ عياءِ /
فأتَتْهُ ربَّة الشعر على رغم التنائي /
قال إنْ متُّ فما أجدرُ مثلي بالرثاءِ /
ورثاءٌ منك يُحييني على رغم الفناءِ /
وحباها سِرَّهُ الخالدَ أو سرَّ البقاءِ /
هامساً والنُّورُ في ناظره وَشْكَ انطفاءِ /
لكِ ما اسُتودِعتُ أو ما صُنتُ في هذا الإناءِ /
لا تذودي عنه معشوقكِ يا بنتَ السماءِ /
إنه مَلاحُ بحرٍ ما لهُ من نُظراءِ /
فيهِ أحيا وبه أنشرُ في البحر لوائي /
هذه خَمرة أشعاري وحُبِّي وغنائي /
في قصيدٍ مُحدَثٍ أو في حديثِ القدماءِ /
طال انتظاري ومضى موعدي
طال انتظاري ومضى موعدي / وأنتِ مثلي ترقبينَ المساءْ
كم لكِ عندي في الهوى من يدِ / يا زَهرَاتي أنتِ رمزُ الوفاءْ
يا زهراتي ويكِ لا تسأمي / لا يَرُعكِ الزّمنُ الدائرُ
لا تُطرِقي وابتهجي وابسِمي / عمّا قليل يُقبِلُ الزائرُ
عما قليلٍ سوف تلقينه / أجمل ما تصبو إليه العيونْ
يَطرُقُ بابي مُعلناً إنهُ / كلُّ اصطبار في هواه يهونْ
أقول هل أبطأ في خطوهِ / أم هل ترى أخطأ ميعادَهُ
أم ضلّلته وهو في لهوهِ / أرجاءُ حيٍّ قبلُ ما ارتادَهُ
تعلّلي مثلي وقولي لعلْ / أم أنتِ لا تدرينَ سِرَّ الغرام
ما أنتِ إلَّا بسماتُ الأملْ / إن خيَّم الصمتُ وساد الظلام
كم أخواتٍ لكِ شاطرنني / فجرَ لقاءٍ رائعِ المطلعِ
وكم مساءٍ فيه سامرْنني / وبتن فيهِ ساهراتٍ معي
يا حسنها فيهنّ من زهرةٍ / ظنَّت جفوني بالكرى مثقلاتْ
مسَّتْ جبيني وهي في حيرةٍ / كأنما توقظني من سُباتْ
ساهرةً تخفقُ أوراقُها / على فمي آناً وآنا يدي
كأنَّ أشواقيَ أشواقُها / أو أنها صاحبةُ الموعدِ
خلا بنا يا زهَراتي المكانْ / وزايلَ الشرفةَ ضوءُ القمرْ
اليلةٌ ما مرَّ أم ليلتانْ / إبقَيْ معي حتى يلوح السَحَرْ
سألتكِ الحبَّ وعهدَ الوفاءْ / يا زهراتي لا تملِّي البقاءْ
ما زال عندي أملٌ في اللقاءْ / وإن مضى اليومُ وحلَّ المساءْ
خلفَ زجاجِ الباب طيفٌ سرى / يدنو إلى بابي من السُّلَّمِ
خفَّ له قلبي وما صوَّرا / غير ذراعيْ شبحٍ مُبهَمِ
أظلُّ أرنو نحوه مُرهِفاً / سمعي وما يكذبني ناظري
يا حسرتا ما لاح حتى اختفى / وزالَ مثل الحُلُمِ العابرِ
وكم خُطىً أحْسَسْتُها في دمي / أقولُ قد جاءَ وهذي خطاه
أُصْغي وأُحْصي دَرَجَ السلّمِ / لكنَّهُ يمضي وينأى صداهْ
يا زهراتي كم حديثٍ لنا / عن موعد في ليلة أو نهارْ
يعجبُ منا كلُّ ما حولنا / أما سئِمنا بعد طولِ انتظارْ
ناشدْتُكِ الحبَّ فإنْ تؤثري / جدّدتِ أسماركِ في مخدعي
فانسَيْ مواعيدَ الهوى واذكري / أيَّ فتىً في الحبِّ لم يُخْدَعِ
أشباحُ جنٍّ فوق صدر الماءِ
أشباحُ جنٍّ فوق صدر الماءِ / تهْفُو بأجنحةٍ من الظلماءِ
أم تلكَ عُقْبانُ السماءِ وثَبْنَ من / قُننِ الجبالِ على الخضمِّ النائي
لا بل سفينٌ لُحْنَ تحت لواءِ / لمَن السفينُ تُرى وأيُّ لواءِ
ومَن الفَتى الجبَّارُ تحت شراعها / متربِّصاً بالموج والأنواءِ
يُعْلي بقبضته حمائلَ سيفهِ / ويَضُمُّ تحت الليل فضلَ رداءِ
ويُنيلُ ضوءَ النجم عاليَ جبهةٍ / من وسْمِ إفريقية السمراءِ
ذهَبٌ ببوتقة السَّنَى من ذوبهِ / مَسَحَتْ مُحيَّاهُ يدُ الصحراءِ
لونٌ جَلَتْ فيه الصحارَى سحرَها / تحت النجوم الغُرِّ والأنداءِ
وسماءِ بحرٍ ما تطامنَ موجُهُ / من قبلُ لابن الواحةِ العذراءِ
بحرٌ أساطيرُ الخيال شطوطُهُ / ومسابحُ الإلهامِ والإيحاءِ
ومدائنٌ سحْريَّةٌ شارفنَهُ / بنَخيلها وضفافها الخضراءِ
ومعابدٌ شمٌّ وآلهةٌ على / سُفُنٍ ذواهبَ بينهنَّ جوائي
أبطالُ يونانٍ على أمواجه / يطوون كل مفازة وفضاءِ
يتجاذبون الغارَ تحت سمائه / يتناشدونَ ملاحمَ الشعراءِ
مازال يرمي الرَّومَ وهو سليلهم / ويُديلُ من قرطاجة العصماءِ
حتى طَلَعْتَ بهِ فكنتَ حديثهُ / عجباً وأيُّ عجائبِ الأنباءِ
ويسائلونَ بِكَ البروقَ لوامعاً / والموجَ في الإزبادِ والإِرغاءِ
من عَلَّمَ البدويَّ نشرَ شراعها / وهَدَاهُ للإبحار والإرساءِ
أين القفارُ من البحارِ وأين من / جنِّ الجبالِ عرائسُ الدأماءِ
يا ابن القِبَاب الحُمرِ ويحك من رَمى / بِكَ فوق هذه اللجَّةِ الزرقاءِ
تغزو بعينيكَ الفضاءَ وخلفَهُ / أُفُقٌ من الأحلامِ والأضواءِ
جُزُرٌ مُنَوَّرَةُ الثغور كأنّها / قطراتُ ضوءٍ في حفافِ إناءِ
والشرقُ من بُعْدٍ حقيقةُ عالمٍ / والغربُ من قُرْبٍ خيالةُ رائي
ضحِكتْ بصفحته المُنى وتراقصتْ / أطيافُ هذي الجنَّةِ الخضراءِ
وَوَثَبْتَ فوق صخورها وتلمَّسَتْ / كفَّاكَ قلباً ثائرَ الأهواءِ
فكأنما لك في ذُرَاها مَوعِدٌ / ضَرَبَتْهُ أندلسيةٌ للقاءِ
ووقفتَ والفتيانُ حولكَ وانبرتْ / لكَ صيحةٌ مرهوبةُ الأصداءِ
هذي الجزيرةُ إنْ جهلتم أمرَها / أنتمْ بها رهطٌ منَ الغُرباءِ
البحرُ خلفي والعدوُ إزائي / ضاعَ الطريق إلى السفين ورائي
وتلفتوا فإذا الخضمُّ سحابةٌ / حمراءُ مُطبِقةٌ على الأرجاءِ
قد أحرقَ الرُّبانُ كلَّ سفينةٍ / من خلفه إلَّا شراعَ رجاءِ
ألقى عليه الفجرُ خَيطَ أشعّةٍ / بيضاءَ فوقَ الصخرة الشمَّاءِ
وأتى النهارُ وسار فيه طارقٌ / يبني لِمُلكِ الشرق أيَّ بناءِ
حتى إذا عَبرَتْ ليالٍ طوَّفَتْ / أحلامُه بالبحر ذاتَ مساءِ
يرعى على الأُفقِ المُرصَّع قريةً / أعظِمْ بها للغزو من ميناءِ
مَدَّ المساءُ لها على خُلجانها / ظِلاً فنامتْ فوق صدرِ الماءِ
إسمعي أيَّتُها الروحُ أفي الكون غِناءُ
إسمعي أيَّتُها الروحُ أفي الكون غِناءُ /
وانظري هل في نواحي الأرض بالليل ضياءُ /
لا تُرَاعي أنْ يكنْ قصَّرَ عنكِ البُشراءُ /
فالنواقيس التي حيَّتكِ أشجاها القضاءُ /
الشَّجَى رَجْعُ صداها والأسى والبُرحاءُ /
والتراتيلُ من البيعَة نوحٌ وبكاءُ /
ردَّدتهنَّ الثكالى واليتامى الشهداءُ /
والمصابيحُ التي كان بها يُزهى المساءُ /
خنقتْها قبضةُ الشرِّ فما فيها ذَماءُ /
صبغوها بسوادٍ فهيَ والليلُ سواءُ /
مأتمٌ للنور قام الويلُ فيه والشقاءُ /
تحت ليلٍ ما له بدءٌ ولا منهُ انتهاءُ /
أيها المبعوث لا ضنَّتْ برُجعاكَ السماءُ /
أُنظرِ الأرضَ فهل في الأرض حُبٌّ وإخاءُ /
نسِيَ القومُ وصاياكَ وضلُّوا وأساءوا /
وكما باعوكَ يا منقذُ بِيعَ الأبرياءُ /
ليلةَ الميلاد والدنيا دموعٌ ودماءُ /
في ربوعٍ كانَ فيها لكِ بالسلم ازدهاءُ /
باسمه يشدو المغنُّون ويشدو الشُّعراءُ /
أين ولَّتْ هذه الفرحةُ أم أين الصَّفاءُ /
لم تصافحكِ من الأطفال أحلامٌ وِضاءُ /
رقدوا غيرَ عيونٍ رِيعَ منهنَّ الفضاءُ /
ترقب الآباءَ هلْ عادوا وهل حان اللقاءُ /
بين أيدي أُمهاتٍ بِتنَ والليل جفاءُ /
في طوايا النفس يبكين وقد عزَّ الرجاءُ /
ويحهم أين تُراهم هؤلاء الأشقياءُ /
هم وراء الليل أجسادٌ وأرواحٌ هباءُ /
ووجوهٌ رسَمَ الرعبُ عليها ما يشاءُ /
خندقوا في مأزقِ الموتِ وما منهُ نجاءُ /
بين موجٍ من سعيرٍ يتوقَّاه الفناءُ /
وجبالٍ من رُكام الثلج يُرسيها الشتاءُ /
وحديدٍ طائرٍ يحذر مسراه الهواءُ /
وعجيبٌ فيمَ للموت يُساق التعساءُ /
في سبيل الخبز والخبز اكتسابٌ ورضاءُ /
في سبيل الحقِّ والحقُّ لدى القوم طلاءُ /
في سبيل المجد والمجدُ من البغي براءُ /
أو في المجزرة الكبرى تنالُ المجدَ شاءُ /
كذب الباغي وللسيف بكفَّيه مَضاءُ /
وخداعٌ كلُّ ما قال وزورٌ وافتراءُ /
أيها الشرق الذي خصَّته بالرُّوح السماءُ /
هذه الروح التي شيدَ بكفَّيها البناءُ /
والتي من نورها العالم يُجْلى ويُضاءُ /
يا أبا الحكمة لا هانَ عليك الحكماءُ /
نادِ أوربا فقد ينفعها منك النداءُ /
حانتِ الساعةُ يا أختاهُ أم حقَّ الجزاءُ /
دِنتِ بالقوَّة حتى صَرَعَتكِ الكبرياءُ /
أرقصي في النَّار أنتِ اليوم للنار غذاءُ /
واشربي في حانة الشيطان ما فاض الإناءُ /
حانةٌ للموتِ فيها من دَمِ القتلى انتشاءُ /
نادِمي مَن شئتِ فيها فالمنايا الندماءُ /
وارفعي الكأس وغنّي وعلى الدنيا العفاءُ /
يا قوياً لم يَهُنْ يوماً عليه الضعفاءُ /
وضعيفاً واسمه يفزعُ منه الأقوياءُ /
وأنا المسلمُ لا يجحَدُ عندي الأنبياءُ /
أنتَ في القرآن حُبٌّ وجمالٌ ونقاءُ /
عَجبٌ فِديتُك المُثلى وفي القول عزاءُ /
ألهذا العالَمِ الشرِّير قد ضاع الفداءُ /
هذي سماؤكِ أنغامٌ وأضواءُ
هذي سماؤكِ أنغامٌ وأضواءُ / غنّاكِ داودُ أم حياكِ سيناءُ
أم النبيُّون قد أزجتْ سفائنَهم / موعودةٌ من ليالي النيل قمراءُ
أم طالعتكِ من السِّحر القديم رؤىً / يشدو بهنَّ الثرى والريحُ والماءُ
أم جاء طيبةَ من أربابها نباًٌ / أم أنّ كهّانها بالوحي قد جاؤوا
أم سار عمرو بنور الفتح فائتلقتْ / به زبرجدةٌ في الشطِّ خضراءُ
ماجت خمائلَ بالبشرى وأوديةً / فهن فاكهةٌ تَندى وصهباءُ
يا مصرُ ذلكَ يوم الملتقى وعلى / صَباحه قَدِم الرُّسْلُ الأجلَّاءُ
أسرتْ إليك بهم روحٌ وعاطفةٌ / وكم إليك بسرِّ الروحِ إسراءُ
دعا فلبّوهُ صوت من عروبتهم / كما يلبّي هتافَ الأمّ أبناءُ
لا بل أهاب بهم يومٌ صنائعهُ / من أمرها الناسُ أمواتٌ وأحياءُ
إن لم تَصُنْ فيه أيديهم تُراثَهمو / فقد تَبدَّدَ والأيامُ أنواءُ
طاحتْ بناصيةِ الضعفى وسخَّرها / كما يشاء الأشدّاءُ الألبّاءُ
أحرارُ دهر همو المستيقظون لها / ومن غفوا فهمو الموتى الأرقَّاءُ
بَني العروبةِ دارَ الدهرُ واختلفت / عليكمو غِيَرٌ شتَّى وأرزاءُ
مضى بضائقتيها الأمسُ وانفسحتْ / أمام أعينكم للمجد أجواءُ
اليوم شيدوا كما شادت أبوّتكم / شرقاً دعائمه كالطود شمَّاءُ
دستوره وَحدةٌ مُثلى وشرعتهُ / بالحق ناطقةٌ بالحبِّ سَمْحاءُ
لكم بحاضركم من دهركم نُهَزٌ / فيها لغابركم بعثٌ وإحياءُ
شُدُّوا على العروة الوثقى سواعدكم / لا يَصدَعنَّكمو بالخلف مشَّاءُ
لم تنأَ بغدادُ عن مصر ولا بَعُدَتْ / لبنانُ والمسجدُ الأقصى وشهباءُ
أيُّ التخوم تناءَتْ بين أربعها / لها من الروح تقريبٌ وإدناءُ
أرضٌ عليها جرى تاريخنا وجرى / دمٌ به كَتَبَ التاريخَ آباءُ
مباركٌ غرسُهُ منه بأندلس / والقادسيّة واليرْمُوكِ أجناءُ
خوالدُ النفح لم يذهبْ بنَضرَتها / حرٌّ وقرٌّ وإصباحٌ وإمساءُ
إيهٍ بني الشرق فالأبصارُ شاخصةٌ / لما تُعدُّونَ والآذان إصغاءُ
يستطلعُ الشرقُ ما يجري به غدُه / يا شرقُ إنَّ غداً هدمٌ وإنشاءُ
بصيحة السِّلم لا يأخذْكَ إغراءُ / فللمطامع إغراءٌ وإغواءُ
تفتَّحتْ صُحفُ الأيام وانبعثتْ / أقلامُها وصَغَتْ كتبٌ وأنباءُ
وطأطأتْ أممٌ مقهورةٌ ورنا / أنصارُ حقٍّ على الجلَّى أودَّاءُ
مسّتهمو الحربُ مسّ المرمَضين بها / فما تشكو ولا شكّوا ولا راؤوا
في عالم الغد ماذا قد أُعدَّ لهم / وما ترَى أُممٌ في الحرب غلباءُ
خَطَّت مواثيق للإنسان واشترعتْ / بناءَ دنيا لها الإحسانُ بنّاءُ
إني أخاف عليها أن تضيعَها / يدٌ مُبرَّأة للسلم بيضاءُ
في ساعةٍ من خُمار النصر سامرُها / لما جرى من عهود الأمس نسَّاءُ
فقُدْ شراعكَ لا تُسلِم أزمَّته / لغير كفّكَ إنَّ الريحَ هوجاءُ
يا شرقُ مجدُكَ إنْ لم تُرس صخرتهُ / يداكَ أنت فقد أخلتهُ أهواءُ
يا شرقُ حقُّكَ إنْ لم تحمِ حوزتَهُ / صدورُ قومك لم تُنقذهُ آراءُ
والكونُ ملحمةٌ كبرى جوانبها / دمٌ ونارٌ وإعصارٌ وظلماءُ
أكان عندكَ هذا الموتُ يصنعه / بكفّهِ آدمُ العاصي وحواءُ
من ذات أجنحة يخشى مسابحها / غولٌ ونسرٌ وتِنِّينٌ وعنقاءُ
شأتْ خطاها بساطَ الريح وانطلقت / والأرضُ من هولها سوداءُ حمراءُ
تعلو وتنقضُّ وشكَ اللَّمْحِ صاعقةً / يكاد منها يُصيب النجمَ إغماءُ
وزاحفاتٍ من الفولاذ قد هُصِرَتْ / من ثقلهنّ لصدر الأرض أحناءُ
إنْ صَعَّدتْ فالجبالُ الشمُّ هاويةٌ / أو عربدت فالصخورُ الصمُّ أشلاءُ
لم يَخلُ من شرها ماءٌ ويابسةٌ / أو تنجُ من غدرها غابٌ وصحراءُ
يا شرقُ يومُك لا تُخطئ سوانحه / فليس تُغفَرُ بعد اليوم أخطاءُ
في عهد فاروق طاب الملتقى وعلى / جنَّاتِهِ لقِيَ القربى الأحبَّاءُ
حَمَى العروبةَ أعراقاً ومدَّ لها / خِصباً لها فيه إنباتٌ وإزكاءُ
وباكرتها سماءٌ من مآثره / فيها لكلِّ صنيعٍ منه لألاءُ
عباقرُ الشَّرق هم آباؤه وهمو / ملوكُهُ الصِّيد والشمُّ الأعزاءُ
يا عصبة الوحدة الكبرى وعصمتَها / هذي طوالعكم جلواءُ غراءُ
ودِدْتُ لو شِدْتُ بالأسماء شاديةً / بها ربوعٌ حبيباتٌ وأرجاءُ
وما أُسمِّي فتىً شتَّى مناقبُهُ / إنَّ المناقب للفتيان أسماءُ
المصطفى وحواريُّوهُ إنْ ذُكِرُوا / فالشرقُ مَنبهةٌ والغربُ أصداءُ
وكلكم عن حمى أوطانه بطلٌ / مستقتلٌ قرشيُّ الرُّوح فدَّاءُ
باللّهِ إن جئتمو الوادي وناسمكم / ثرَاهُ فهو أزاهيرٌ وأنداءُ
وطاف بالذكريات الأمسُ واستبقتْ / بالدمع عينٌ وبالأشواقِ حوباءُ
فاقضوا حقوقَ إخاءٍ تستجير به / أُختٌ لكم في صراع الدهر عزلاءُ
طعامها من فُتات العيش مسغبةٌ / وريُّها منهُ إيلامٌ وإشقاءُ
أحَلَّها ذَهَبُ الشَّاري وحرَّمَها / عصرٌ به حُرِّرَ القومُ الأذلَّاَءُ
حَرْبانِ أثخنتاها أدمعاً ودماً / تنزو بها مهجةٌ كلْمى وأحشاءُ
هذي فلسطين أو هذي روايتُها / ماذا تقولون إنْ لم يُحسَمِ الداءُ
تطلَّعتْ لكمو ولهى أليس لها / على يديكم من العلَّاتِ إبراءُ
حملتمو العهدَ فيها عن أبوّتكم / إنَّ البنين لحمل العهد أكفاءُ
مسراكَ نورٌ وأنسامٌ وأنداءُ
مسراكَ نورٌ وأنسامٌ وأنداءُ / فاخفقْ شراعي وطِرْ يصدحْ لك الماءُ
يا أيها القلقُ الحيرانُ كم أملٍ / تشدو به موجةٌ في البحر عذراءُ
يحدوكَ بالنغم السكرانِ أرغنُها / في مَسْبحٍ ماؤه زهرٌ وصهباءُ
أما ترَى البحرَ يبدو في مفاتنهِ / لكل حُبٍّ جديدٍ فيه أجواءُ
وفجرهُ صائدٌ طارتْ بمهجتِهِ / حوريَّةٌ في فجاج اليمِّ شقراءُ
وليلهُ مرقصٌ تغشاهُ غانيةٌ / في مُطرَفٍ أسود وشَّاهُ لألاءُ
شتَّى مواكبَ من حورٍ وآلهةٍ / لها التفاتٌ إلى الماضي وإصغاءُ
تهزُّها بقديم الشوقِ أشرعةٌ / مرنَّحاتٌ تُغنِّيهن أنواءُ
يقودهنَّ على الأمواج في مَرحٍ / ملاَّح وادٍ له بالتِّيه إِغراءُ
ما بين عينيه سال البرقُ مبتسماً / واستضحكتْ قلبَهُ مُزنٌ وهوجاءُ
زوَتهُ عنها السنون السبعُ واختلفتْ / عليه من بعدها نُعْمَى وبأساءُ
مُغَرَّباً في ديارٍ من عشيرته / بها الأحبَّةُ حُسَّادٌ وأعداءُ
وقيلَ كفَّتْهُ عن دنيا شواردهِ / بيضاءُ من شَعَراتِ الرأس غرّاءُ
لا يا غرامي وهذا الفنُّ مِلءُ دمي / بالنَّار والصَّبواتِ الحمر مشَّاءُ
ما أَفلَتتْ من يدي غيداءُ عاصيةٌ / إلا وعادتْ إليها وهي سمحاءُ
وذاك شاطئنا المسحور تزحُمُهُ / من ذكرياتكَ أطيافٌ وأصداءُ
على الصخور الحواني من مَشارفهِ / ربَّاتُ وحيٍ وأشواقٌ وأهواءُ
أقمن منتظراتٍ ما شكونَ ضنىً / وقد تعاقبَ إِصباحٌ وإِمساءُ
حتى رأتني على بُعْدٍ مطوَّقةٌ / مجروحةُ الصوتِ ولهى اللحن سجواءُ
همَّتْ تُغنّي فكانت نبأةً وصدىً / صَحَتْ لوقعهما دوحٌ وأفياءُ
عرائسَ الشعر قد عاد الحبيبُ وفي / عينيه سهدٌ وتعذيبٌ وإِضناءُ
آب المغامرُ من دنيا متاعبه / أما لهُ راحةٌ منها وإِغفاءُ
دعِيهِ يحلُمْ بأن البحر في دعةٍ / والريحَ ناعمةٌ والأرضَ قمراءُ
وأنها في ظلال السِّلم نائمةٌ / وأنها جنَّةٌ للحبِّ غنَّاءُ
وقرِّبي كأسهُ واصغي لمزهره / يُسْمِعْكِ أَشجى نشيدٍ زفَّهُ الماءُ
وقيل لبنانُ سحرُ الشرق فاندفعتْ / سفينةٌ وهفتْ بالشوق دأماءُ
أَوحى له الشرقُ أنَّا من أحبَّتِهِ / وأننا في الهوى أهلٌ أودَّاءُ
فقرَّبتنا وشفَّتْ عن بشاشته / به قُرىً كربوع الخلد شجراءُ
في كل مُنْحدرٍ منها ومرتفع / مسحورةُ النَّبع ريَّا النَّبت جلواءُ
فَعُلِّقَتْ بمغانيه نواظرُنا / وقبَّلتْ نسمات الأرز حوباءُ
واستقبلتنا طيورٌ في مناقرها / شدوٌ وزيتونةٌ للشرقِ خضراءُ
تُرقِّصُ الموجَ إنْ مَسَّتْهُ أجنحُها / كقلبِ آدمَ إذ مَسَّتْهُ حواءُ
في ساحلٍ من خرافاتٍ وأخْيلةٍ / بهنَّ لبنانُ روَّاحٌ وغدَّاءُ
لاحتْ على سفحه بيروتُ فاتنةً / صبيَّةً وهي مثلُ الدهر شمطاءُ
توسَّدتْ صخرةَ الآباد والتفتتْ / ترعى سفائنُ من راحوا ومن جاؤُوا
أتلك بيروتُ أم من بابلٍ صُوَرٌ / معلقاتٌ لها بالسحر إِيحاءُ
شُغْلُ العباقرة الشادين من قِدَمٍ / مجددين لهمْ في المجد أسماءُ
وأومأتْ بالهوى عاليُّ فاعتنقتْ / من حولنا ثَمَّ أظلالٌ وأضواءُ
قامتْ تُنَسِّقُ من ماءٍ ومن شجرٍ / فكلُّ ناحيةٍ زهرٌ وأجناءُ
كأنما نُبِّئَتْ من عشتروت لقىً / فازَّينتْ فهي سيقانٌ وأثداءُ
تقول يا ربَّةَ الحسن انظري وصِفي / أفوقَ واديكِ مثلي اليوم حسناءُ
عاليُّ رِفقاً بأَبصارٍ مُدلَّهَةٍ / لَها إِلى الحُسنِ بالأَلبابِ إِفضاءُ
عاليُّ إنَّا نشاوى من هوىً وأسىً / إنَّا محبُّون يا عاليُّ أنضاءُ
وحانَ بَعدُ وداعٌ من فرادسها / وقد جَرَتْ بخُطى الشمس المُليْساءُ
فاغرورقتْ بدموعِ الوجدِ أعيننا / وأشفَقَتْ من وجيب القلب أحناءُ
وسار عنها شراعٌ حائرٌ قلِقٌ / له إلى الغَرْبِ بالأسفارِ إِيماءُ
يا بحرُ ما بكَ هل مَسَّتكَ عاصفةٌ / أم استخفَّكَ إِزبادٌ وإِرغاءُ
أشاقك الغربُ أم شفَّتكَ موجدةٌ / لما خَبَتْ من ربوعِ الشرق أسناءُ
هذي السماءُ صفاءٌ والدُّجى قمَرٌ / للحسن فيه وللعشَّاق ما شاؤوا
يا بحرُ ما بكَ ما بي مصرُ ما بَعُدَتْ / ولي إليها بهذا الشعر إِسراءُ
عَجِبْتُ والعصرُ حرّ كيف في يدها / هذا الحديدُ له حَزٌّ وإِدماءُ
أقسمتُ لا رجعتْ بي فيكَ جاريةٌ / إنْ لم تجىء عن جلاءِ القوم أنباءُ
وأن مصر بحريَّاتها ظفِرتْ / فأهلها اليوم أحرارٌ أعزَّاءُ
أقسمتُ إلَّا إذا نادتْ بِفتيتها / فهبَّ مستقتلٌ عنها وفدّاءُ
قالتْ تُعاتبُني أراكَ مَنَعْتني
قالتْ تُعاتبُني أراكَ مَنَعْتني / من قطفِ هذي الوردة الصفراءِ
وبسحرِ هذا اللون كم غنَّيتَني / وهتفتَ بالشقراءِ والصهباءِ
قلتُ اغفري لي يا حبيبةُ نظرتي / إِني أعيدُ الحسنَ من أهوائي
أخشى ظنونَ الناس فيكِ وأتقي / سِمَةَ الضَّنى والغيرة الحمقاءِ
وأذود عَنْ عينيكِ ذكرى ليلةٍ / شابتْ ونجمٍ شاحبِ الأضواءِ
في لونِ خدَّيْكِ اقطِفِي ما شِئتِهِ / من زهرةٍ أو كوكبٍ وضّاءِ
قالتْ أتمنعني الذي أحببتُهُ / في نظرةٍ لكَ وادِّكارِ وفاءِ
في عرضِكَ الماضي ونبشِكَ ما ذوى / من ذكرياتِ شبيبةٍ هوجاءِ
وبسخرياتكَ بي وبسمتِكَ التي / تلقى بها المفضوحَ من إِغوائي
وشحوبِ وجهكَ إِن أرِقتَ صبابةً / حيرانَ بين قطيعةٍ ولقاءِ
كم شهيدٍ فيكِ مهدور الدِّماء
كم شهيدٍ فيكِ مهدور الدِّماء / لا تُراعِي أنتِ أمُّ الشُّهداءْ
كلُّ غالٍ من مناعٍ ودمٍ / لكِ يا مصرُ وما عزَّ الفداءْ
إيهِ يا مصرُ خُذي ما شئتِهِ / ولداعي المجد منا ما يشاءْ
قيل أودى بأمين قاتلٌ / كيف يُودي ببنيك الأُمنَاءْ
كيف يُودَى بفتىً من خُلقِهِ / كلُّ معنىً من سماحٍ ووفاءْ
كمنَ الغدر لهُ ثم رمى / عن يدٍ عسراءَ شعواءَ الرّماءْ
صاعداً يرقى على سُلَّمهِ / دَرَجَ المجد ومرموقَ العلاءْ
دمُهُ المسفوك حُبٌّ وندىً / ومزاجٌ من حياءٍ وإِباءْ
ورحيقٌ عَطِرٌ من نفحه / يثْمَل الأعداءُ قبل الأصدقاءْ
وهوىً للوطن الحر الذي / خرَّ في حومته بعض ذماءْ
لو أتاهُ نبأٌ عن قتله / قال وهمٌ وأحاديثُ افتراءْ
فتنةٌ حمراءُ شَبَّتْ نارها / شهواتٌ يَنتحينَ الأبرياءْ
عربدتْ هوجاءَ واستشرتْ قُوى / واستبدَّتْ بعقول الضعفاءْ
باطلٌ إن مرّت الرِّيحُ به / طارَ عن صاحبهِ وهو هباءْ
وإِذا ما لمح النُّورَ جَرَى / وتخفَّى تحت جنحٍ من مساءْ
لا تقولوا طائشٌ في رأيهِ / إِنما الرأيُ من الغدر براءْ
إِنما الناسُ لهمْ آراؤهم / وهمو الأحرار فيها الطُّلقاءْ
وعلى ودٍّ وبرٍّ وهدى / لهمو فيها فراقٌ ولقاءْ
غير ما مسَّ دماً فاجهر به / وتَحدَّ الحاكمين الأقوياءْ
واذكر الأوطان لا تأخذ بما / يكتب الحقدُ ويُمليهِ العداءْ
ليس من مصر ولا من أهلها / مُزْهِقُ الأرواح أو مُجري الدماءْ
يا زعيمَ الشعب هذي محنةٌ / فوق ما يحمل طوقُ الزعماءْ
ليست الأُولى وقد كنتَ لها / غَرَضاً منه لك الرُّوحُ وقاءْ
قدَّرَ اللّه وما قدَّرهُ / ليس يُعْفى منه سكانُ السماءْ
من يكن مثلَكَ في إِيمانه / كيف أدعوه لصبرٍ أو عزاءْ
إِنني أرثي لمصر رجلاً / مصرُ منا فيهِ أحرى بالرثاءْ
يا فرحتي للبحرِ أرجعُ ثانياً
يا فرحتي للبحرِ أرجعُ ثانياً / متفرداً بعبابهِ وسائهِ
أقصى منايَ سفينة ممشوقة / وبزوغُ نجم أهتدي بضيائهِ
وصريرُ دفّتها وعَزفُ رياحهِ / وخفوقُ قلعٍ أبيضٍ في مائه
وأرى الضباب يرفُّ فوقَ جبينهِ / في شاهبٍ من لونهِ وروائهِ
يجلوه ألاق رماديّ السنى / متطلعٌ بالفجرِ خلفَ فضائهِ
يا فرحتي للبحر أرجعُ ثانياً / كيما ألبّي المدّ في طفراتهِ
هذا المزمجرُ لست أنكرُ صوتهُ / إنّ الوضوحَ يشيع في نبراتهِ
أقصى منايَ لديه يومٌ عاصفٌ / يهفو رقيق الغيم في سبحانهِ
ورشاشُ موجٍ مستطارٌ تحتهُ / زبدٌ يفور الرغو ملءَ كراتهِ
وضجيج زُمّج مائهِ متخبطا / بالموج وهو يثيرُ من صرخاتهِ
يا فرحتي للبحرِ أرجع ثانيا / جوّابَ آفاقٍ غريب مسالك
أطوي مسارح طيره ومسابحاً / للحوت عبرَ طريقيَ المتشابكِ
حيثُ الرياح كأنما وخزاتها / حدُّ المدى وشبا الحسام الفاتكِ
أقصى منايَ روايةٌ محبوكةٌ / من نسيجِ قرصانِ طروبٍ ضاحكِ
ولذيذُ أحلامٍ وقد طاب الكرى / وتزايلت صورٌ هناك تواركي
إن يكُن قلبك الشجيّ المعنّى
إن يكُن قلبك الشجيّ المعنّى / أرهقتهُ حياتُنا أعباء
مثل نسرٍ دامي الجناحين مضنى / مستميتاً يصارعُ الإعياءَ
حاملا فوق مسترَقّ جناح / مثل قلبي من بؤسِ هذي الحياة
عالما قاتلاً سحيقَ النواحي / بارد الجوّ حالك الظلمات
رازحاً في عذابه يتلوّى / مثقَلاً في فوادحِ الأعباء
كلّما ضجّ تحتهنّ تنزّى / جرحُه الخالدُ السخين الدماء
أو يكُن بات لا يرى الحب هذا ال / كوكب الهادي الصدوقَ الوفيّا
من له وحده يضيء ويجلو ال / كون في ناظريه أفقا وضيّا
أو تكُن روحك السجينة عافت / ذلك الخبزَ في الحياة طلابا
هو زاد الأسير في القيدِ باتت / نفسه من موارد الحتف قابا
يتَلَقّاه مكرَهاً بيدَيه / ملقيا من يمينه المجدافا
وهو يحني للبحر شاحب وجهِ / بينما يندبُ الحياة اعتسافا
وهو بينا يقتافُ في الهدّارِ / منفذا بين موجه للفرارِ
إذ يرى فوقَ منكبٍ منه عاري / وصمةَ الذلّ صوّرَت بالنار
أو يكُن جسمُك الحيّ عرَتهُ / هزّةٌ من عواطفٍ كامنات
بعد ما ملّ عالما أرهقته / في حماه جوارح النظرات
باحثاً في قصيّ تلك الحزون / ليُداري جماله الفتّانا
عن مكانٍ من العيون مصونِ / فيه يحمي جلاله أن يهانا
أو تكُن منك عافتِ الشفتانِ / كاذبَ القول تستقيه سماما
أو يكن قد تورّدَ الخدّان / خَجَلاً من رؤىً ملئنَ أثاما
فاهجري المدن وارحلي لا يسمك / ذلّ عيش فيهنَ غيرُ طليقِ
إرحلي الآن لا ينل قدميكِ / دنَسٌ من غبارِ هذا الطريق
أشرقي من سماء فكركِ حينا / وانظريها في ذلّة وإسار
نصِبَت للخلائقِ المرهقينا / كصخورٍ قدّت من الأقدار
وانظري للحقول والغاباتِ / حرّةً طلقةً كهذا البحرِ
حولَ تلكَ الجزائرِ المعتماتِ / ولتَكُن في يديكِ طاقة زهرِ
تجدين الطبيعةَ الان منكِ / في انتظارٍ رهيبة الإصغاء
والثرى مرسلا على قدميك / من تعاشيبه سحاب الماء
وإذا الأرضُ من غروبِ الشمسِ / رتّحتها تنَهّدات الوداعِ
وإذا هذهِ الزنابقُ تمسي / وهي تهتزّ بالأريجِ المضاعِ
واختفى في فضائه الجبل النا / ئي ومدّت معابد الصفصاف
ناصلات الألوانِ في صفحةِ الما / ء غصونا نفيّة الأفوافِ
وتهادى هنالك الشفَقُ العا / ني ليلقى وساده في الوادي
فوقَ عشبٍ من الزمرّد فتّا / ن وعشبٍ مذهّبِ الأبرادِ
تحت هذه الجزوع مستحيياتِ / حيث هذا النبعُ الفريد النائي
بين هذي الخمائل الحالماتِ / وهي تهتزّ رغدةً في الفضاء
حيث يسري متخفياً في حجبهِ / لائذا بالكروم مثل الظل
ملقيا في الغدير شاهبَ ثوبِه / فاتحا في المساء سجنَ الليلِ
فوقَ طودي نَبتٌ كيف تحامى / خطواتِ الصياد عند الدبيب
عالياً عن جباهنا يتسامى / وهو مثوى الراعي ومأوى الغريبِ
فتعاليَ هنا نجدد ذماما / ونخبّىء خطيئة وغراما
قدّسَت من خطيئة لا أثاما / قد دفعنا لفعلها إلهاما
وإذا كان ذلك العشبُ خفضا / وهو يهتزّ هزّة المرتاع
فتعالي إني أدحرج أرضا / لك تحت الظلام بيت الراعي
هو بيتٌ يسري على عجلاتِ / سمتَ عينيك سقفهُ المزدان
عاطرُ البابِ معتمُ الرحباتِ / مثل خدّيكِ لونه المرجان
فيه ظلّ وفي زهرٌ نضيرُ / بينها خلوة لنا وتداني
مخدعٌ صامت الفراش وثيرُ / يلتقي فيه شعرنا في حنانِ