القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : مَعرُوف الرُّصافِيّ الكل
المجموع : 246
إذا كان جهل الناسَ مدعاة غيّهم
إذا كان جهل الناسَ مدعاة غيّهم / فليس سوى التعليم للرُشد سُلَّم
فلو قيلَ من يستنهض الناس للعلا / إذا ساءَ محياهم لقلت المعلمّ
معلّم أبناء البلاد طبيبهم / يُداوي سَقام الجهل والجهل مُسقِم
وما هو إلاّ كوكب في سمائهم / به يهتدي الساري إلى المجد منهم
فلا تَبخسَنْ حق المعلّم أنه / عظيم كحقّ الوالدين وأعظم
فإن له منك الحجا وهو جوهر / وللوالدين العظم واللحم والدم
ألا إنما تعليمنا الناس واجب / وأن على الجهال أن يتعلّموا
وما أخذ اللّه العهود على الورى / بأن يعلَموا حتى قضى أن يُعلِّموا
لدار شِنِلَّر في القدس فضل
لدار شِنِلَّر في القدس فضل / به تَنْسَى تَيَتُّمها اليتامى
وبحمده من الفقراء طفل / يذُمّ لفقد والده الحِماما
بها يجد اليتيم لهُ مقاماً / إذا ما الدهر أفقده المقاما
يرى عن أمه أماً عَطوفا / عليه وعن أبيه أباً هُماما
تُمِيت نهارها فيه ليَحْيا / وتُحْيي الليل فيه لكي يناما
فتُشْرِب نفسَه حبّ المعالي / وتطعم جسمه منها الطعاما
وتَرْأم كل من فُجعوا بيُتم / صغاراً قبل ما بلغوا الفِطاما
ويدخلها يتيم القوم طفلاً / فتُخرجه لهم يَفَعاً غلاما
عليماً بالحياة يسير فيها / على علم فيَخْترِق الزحاما
وقد لبِس الفضيلة وارتداها / وشَدّ عليه من حَزمِ حزاما
وقفت بها أعاطيها التَحايا / وأستسقي لساكنها الغَماما
وأشكر فضلها والشكر عَجْز / إذا هو لم يكن إلا كلاما
أدار شنلّر لا زلت مأوىً / لأبناء الأرامل والأيامى
أثابَكِ مالك الملكوت عنهم / مَثُوبة كل من صلّى وصاما
ضَمِنتِ لهم رغيد العيش حتى / أخذت على الزمان لهمِ ذماما
وجار الدّهر مُعتدِياً عليهم / فكنت لهم من الدهر انتقاما
إذا ما أبكت الدنيَا يتيماً / أعدتِ بكاءه منه ابتساما
لقد هَوَّنت رُزء اليتم حتى / غفرنا للزمان بك الأثاما
وكاد إذا رأى مغناك راء / يَوَدّ بأن يكون من اليتامى
ليَمْكُث فيك مُغتبطَاً سعيداً / ويكسب عندك الشرف الجُساما
ويعلم كيف يدّرع المعالي / ويعرِف كيف يَبْتِدر المَراما
وما فَقَد المسيحَ الناسُ لمّا / أعدتِ لهم خلائقه الكراما
فنُبْت عن المسيح وقمت حتى / لقد شكر المسيح لك القياما
ولا عجبٌ فقد جَدَّدت منه / عواطف كان عمّ بها الأناما
شَمَخْت على رُبا القدس اعتلاءً / فكنت لهنّ من شرف وساما
ولُحْت بأفْقها بدراً منيراً / جلا من ليل أبْؤسها الظلاما
ألا أن النجوم بشِعرَيَيَهْا / لتَحَسُد من مَرابعك الرغاما
هزَزْت الطُور فهو يكاد يمشي / إليك على تَقَدُّسه احتراما
وجاذَبْتِ الكرامة خير قبر / به دُفِن المسيحِ ومنه قاما
تباهي القدس مكة فيك حتى / تفاخر فيك مشَعرَهَا الحراما
فلا برِحتُ رُبوعك عامرات / نسُلّ على الشقاء بها حساما
إلى كم أنت تهتِف بالنشيد
إلى كم أنت تهتِف بالنشيد / وقد أعياك إيقاظ الرقود
فلست وإن شددتُ عرا القصيد / بمُجد في نسيدك أو مُفيد
لأنّ القوم في غَيّ بعيد /
إذا أيقَظْتَهم زادوا رُقادا / وإن أنهضتهم قعدوا وئادا
فسُبحان الذي خلق العِبادا / كأنّ القوم قد خُلقوا جَمادا
وهل يَخلو الجماد عن الجُمود /
أطلتُ وكاد يُعييني الكلام / مَلاماً دون وقعته الحُسام
فما انْتَبَهوا ولا نفَع الملام / كأن القوم أطفال نيام
تُهزّ من الجهالة في مُهود /
إليكِ إليك يا بغداد عنّي / فإني لست منكِ ولست منّي
ولكنّي وأن كبُر التَجَنّي / يَعِزّ عليّ يا بغداد أني
أراك على شَفا هَوْل شديد /
تتابعت الخطوب عليك تترىَ / وبُدّل منك حُلو العيش مرّا
فهلاً تُنجِبين فتىً أغرّا / أراك عقمت لا تلدين حرّا
وكنتِ لمثله ازكىَ ولود /
أقام الجهل فيك له شُهودا / وسامَك بالهَوان له السُجودا
متى تُبْدين منك له جُحُودا / فهلاّ عُدت ذاكرةً عهودا
بهنّ رَشدت أيامَ الرشيد /
زمانَ نُفُوذُ حكمِك مُستَمرّ / زمانَ سحابُ فَيْضك مُستدِرّ
زمانَ العلمُ أنتِ له مقرّ / زمان بناءُ عزّك مُشمَخِرّ
وبدر علاك في سَعد السُعود /
برحت الأوج مَيلا للحَضيض / وضِقت وكنت ذات علا عريض
وقد أصبحت في جسم مريض / وكنت بأوجُهٍ للعزّ بيض
فصرت بأوجه للذُل سود /
ترقّى العالمون وقد هبطنا / وفي دَرْك الهَوان قد انحططنا
وعن سَنَن الحضارة قد شَحَطنا / فقطْنا يا بني بغداد قطنا
إلى كم نحن في عيش القرود /
ألم تكُ قبلنا الأجداد تبني / بناءً للعلوم بكلّ فنّ
لماذا نحن يا أسرى التَأنّي / أخذنا بالتقَهقُر والتدنّي
وصِرنا عاجزين عن الصعود /
كأنْ زحل يشاهد ما لدينا / لذاك احمرّ من حَنَق علينا
فقال مُوَجِهاً لوماً إلينا / لو أنّي مثلكم أمسيت هينا
أذن لَنَضَوت جلبات الوجود /
ركَدتم في الجهالة وهي تُعشي / وعِشتم كالوحش أخسّ عيش
أما فيكم فتىً للعزّ يمشي / تبارك من أدار بنات نعش
وصفّدكم بأصفاد الركود /
حكيتم في تَوَقُفكم جُدَيّا / فصِرتم كالسُها شعباً خَفيّا
ألا تجرون في مَجرى الثُريّا / تَؤُمّ بدَوْرها فَلَكاً قصيّا
فتبرز منه في وضع جديد /
حكومة شعبنا جارت وصارت / علينا تستبدّ بما أشارت
فلا أحداً دعنه ولا استشارت / وكل حكومة ظلمت وجارت
فبشّرها بتمزيق الحدود /
حكومتنا تميل لباخسيها / مجانية طريق مؤسسيها
فلا يَغرُرْك لِينُ ملابِسيها / فهم كالنار تحرق لامسيها
وتَحْسُن للنواظر من بعيد /
لقد غَصّ القَصيم بكل نذل / وأمسى من تخاصمهم بشغل
فريقاً خُطَّتَيْ غَيٍّ وجهل / كلا الخصمين ليس له بأهل
ولكن من لتنكيل المَريد /
إليهم أرسلت بغداد جندا / ليهلك فيه عن عبث ويُفدى
لقصد ابن الرشيد أضاع قصدا / فلا ابن الرشيد بلغت رشدا
ولا بلغ السعودَ ابنُ السعود /
مشَوْا يتحرّكون بعزم ساكن / ورثّة حالهم تُبْكي الأماكن
وقد تركوا الحلائل في المساكن / جنود ارسلت للموت لكن
بفَتْك الجوع لافتك الحديد /
قدِ التْفَعَوا بأسمال بَوَال / مُشاةً في السهول وفي الجبال
يَجِدُّون المسير بلا نعال / بحال للنواظر غير حال
وزِيٍّ غير ما زي الجنود /
مشوا فيَ منهج جهِلوه نهجاً / يَجُوبون الفلا فَجّاً ففجا
إلى حيثُ السلامة لا تُرجى / فيا لهفي على الشبان تُزجى
على عَبَث إلى الموت المُبيد /
وكلّ مذ غَدَوْا للبيت أمّا / فَوَدّع أهله زوجاً وأمّا
وضمّ وليده بيدٍ وشَمّا / بكى الولد الوحيد عليه لمّا
غدا يبكي على الولد الوحيد /
تقول له الحَليلة وهو ماشٍ / رويدك لا برِحت أخا انتعاش
فبعدكَ من يحصّل لي معاشي / فقال ودمعه بادي الرَشاش
وَكَلْتكم إلى الرَبّ الوَدود /
عساكر قد قضوْا عُرياً وجوعا / بحيث الأرض تبتلع الجُموعا
إلى أن صار أغناهم رُبوعا / لفَرط الجوع مُرتضياً قَنوعا
بقِدٍّ لو أصاب من الجلود /
هناك قضَوْا وما فتحوا بلادا / هناك بأسرهم نفدوا نفادا
هناك بحَيْرةٍ عَدِموا الرشادا / هناك لرَوْعهم فقَدوا الرُقادا
هناك عَرْوا هناك من البُرُود /
أناديهم ولي شَجَن مَهِيج / وأذكرهم فينبعث النشيج
ودمع محاجري بدمٍ مزيج / ألا يا هالكين لكم أجيج
ذَكَا بحشايَ محتَدِمَ الوُقود /
سكنّا من جهالتنا بقاعا / يَجور بها المُؤَمَّر ما استطاعا
فكِدنا أن نموت بها ارتياعا / وهَبْنا أمةً هلكت ضَياعا
تَوَلّى أمرها عبد الحميد /
أيا حريّة الصحف ارحمينا / فإنا لم نزل لكِ عاشقينا
متى تَصِلين كيما تُطلِقينا / عِدِينا في وصالك وَامْطلِينا
فإنّا منكِ نقنع بالوُعود /
فأنتِ الرُوح تَشِفين الجُروحا / يُخَرِّج فَقْدُك البلد الفَسيحا
وليس لبلدة لم تَحْوِ روحا / وأن حَوَت القصور أو الصروحا
حياةٌ تُستَفاد لمُستَفِيد /
أقول وليس بعض القول جدّاً / لسلان تَجَبَّر واستبدّا
تَعَدّىَ في الأمور وما استعدا / ألا يا أيها الملك المُفَدّى
ومَن لولاه لم ثَك في الوجود /
أنِمْ عن أن تَسُوسن الملك طَرفا / أقِمْ ما تشتهي زمراً وعَزفا
أطلِ نُكْر الرَعية خَلِّ عُرفا / سُمِ البُلدان مهما شئت خَسفا
وأرسلَ من تشاء إلى اللُحُود /
فدتْك الناس من ملك مُطاع / أبِن ما شئت من طُرُقِ ابتداع
ولا تَخشَ الإله ولا تُراع / فهل هذي البلاد سوى ضِياع
ملكت أو العبادُ سوى عبيد /
تَنَعّم في قُصورك غير دارِ / أعاش الناس أن هم في بَوار
فإنّك لم تُطالبَ باعتذار / وهَبْ أن الممالك في دَمار
اليس بناء يِلدِزَ بالمَشيِد /
جميع ملوك هذي الأرض فُلْك / وأنت البحر فيك نَدىّ وهُلْك
فأنّى يبلغوك وذاك إفْك / لئن وَهَبُوا النقود فأنت مَلْك
وَهوب للبلاد وللنقود /
علام حُرِمنا منذ حينٍ تلاقيا
علام حُرِمنا منذ حينٍ تلاقيا / أفي سفر قد كنت أم كنت لاهيا
عهدناك لا تَلهو عن الخِلّ ساعةً / فكيف علينا قد أطلت التجافيا
وما لي أراك اليوم وحدك جالساً / بعيداً عن الخُلاّن تأبَى التدانيا
أنابَكَ خَطب أم عَراك تعشُّقٌ / فإنّي أرى حزناً بوجهك باديا
وما بال عينيك اللتين أراهما / تُديران لحظاً يحمل الحزن وانيا
وأيُّ جَوىً قد عُدت اصفر فاقعاً / به بعد أن قد كنت أحمر قانيا
تكلّم فما هذا الوُجوم فأنني / عهدتك غِرِّيداً بشعرك شاديا
تَجَلَّد تجلّد يا سليم ولا تكن / بما ناب من صرف الزمان مُباليا
ولا تبتئس بالدهر أن خطوبه / سحابة صيف لا تَدوم ثوانيا
فقال ولم يملِك بوادرَ أدمع / تناثَرْن حتى خلتهنّ لآليا
لقد هجتني يا أحمد اليومِ بالأسى / وذكَّرتني ما كَنت بالأمس ناسيا
أتعجَبُ من حزني وتعلمَ أنني / قَرِيع تباريح تُشيب النواصيا
لقد عشت في الدنيا أسيفاً وليتني / تَرَحّلت عنها لا عليَّ ولا ليا
وقد كنت أشكو الكاشحين من العدى / فأصبحت من جور الأخِلاّء شاكيا
وما رحت أستشفي القلوب مداوياً / من الحِقد إلاّ عدت عنها كما هيا
ودارَيت حتى قيل لي متملِّق / وما كان من داء التَمَلُّق دائبا
وحتى دعاني الحزم أن خَلِّ عنهم / فإن صريح الرأي أن لا تُداريا
وربّ أخ أوْقَرت قَلبي بحبّه / فكنت على قلبي بحُبِّيه جانيا
أراد انقيادي للهوان وما درى / بأنيَ حر النفس صعب قياديا
إذا ما سمائي جاد بالذُلّ غَيْثها / أبَيْت عليها أن تكون سمائيا
ألا فَابْك لي يا أحمد اليوم رحمةً / ودعني وشأني والأسى وفؤاديا
فإنّ أحقَّ الناس بالرحمة امرؤٌ / أضاعِ وداداً عندَ من ليس وافيا
وما كان حَظي وهو في الشعر ضاحك / ليظهر إلاّ في سوى الشعر باكيا
ركِبت بحور الشعر رَهْواً ومائجاً / وأقْحَمْت منها كلّ هَوْلٍ يراعيا
وسَيَّرت سُفْني في طِلاب فنُونه / وألْقيت في غير المديح المَراسيا
وقلت اعصِني يا شعر في المدح إنني / أرى الناس مَوْتَى تستحق المرانيا
ولو رضِيَت نفسي بأمرٍ يَشيِنها / لما نطقت بالشعر إلاّ أهاجيا
وكم قامَ ينعَى حين أنشدت مادحاً / إليّ الندى ناعٍ فأنشدت راثيا
وكم بشّرتَنْي بالوفاء مقالة / فلما انتهت للفعل كانت مناعيا
فلمّا بكى أمسكت فَضلِ ردائه / وكفكفت دمعاً فوق خَدَّيْه جاريا
وقلت له هَوِّن عليك فإنما / تَنوب دواهي الدهر من كان داهيا
وما ضَرّ أن أصفَيْت وُدّك مَعشراً / من الناس لم يَجْنُوا لك الوُدّ صافيا
كفى مَفخراً أن قد وفَيْت ولم يَفُوا / فكنت الفتى الأعلى وكانوا الأدانيا
لعلّ الذي أشجاك يُعقب راحة / فقد يَشكر الأنسان ما كان شاكيا
ألاّ ربّ شرّ جرّ خيرا وربما / يجُرّ تجافينا الينا التصافيا
فلو أن ماء البحر لم يك مالحاً / لرُحنا من الطوفان نشكو الغواديا
ولولا اختلاف الجذب والدفع لم تكن / نجوم بأفلاك لهنّ جواريا
وكيف نرى للكهرباء ظواهراً / إذا هي في الأثبات لم تلق نافيا
تموت القوى أن لم تكن في تبايُنٍ / ويَحَيْين ما دام التبايُنُ باقيا
فلا تعجبَنْ من أننا في تنافر / ألم تر في الكون التنافر ساريا
وهَبْهم جَفَوْك اليوم بُخْلاً بوُدّهم / ألم تَغْنَ عنهم أن ملكت القوافيا
فطِرْ في سموات القريض مرفرفا / وأطلع لنا فيها النجوم الدراريا
فأنت امرؤٌ تُعطي القوافيَ حقّها / فتبدو وأن أرخصتهن غواليا
يجيبك عفواً أن أمرت شَرودها / وتأتيك طوعاً أن دعوت العواصيا
فقال وقد ألْقَي على الصدر كفّه / فشدّ بها قلباً من الوجد هافيا
لقد جئتني بالقول رَطباً ويابساً / فداويت لي سُقماً وهيّجت ثانيا
فإني وأن أبدي لي القوم جفوةً / أُمَنّي لهم مما أحبّ الأمانيا
وما أنا عن قومي غنيّاً وأن أكن / أطاول في العزّ الجبال الرواسيا
إذا ناب قومي حادث الدهر نابني / وأن كنت عنهم نازح الدار نائيا
وما ينفع الشعر الذي أنا قائل / إذا لم أكن للقوم في النفع ساعيا
ولست على شعري أروم مَثوبةً / ولكنّ نُصح القوم جُلّ مراميا
وما الشعر إلاّ أن يكون نصيحة / تنشِّط كسلاناً وتُنهض ثاويا
وليس سَرِيّ القوم من كان شاعراً / ولكن سري القوم من كان هاديا
فعلّمهم كيف التقدم في العلا / ومن أيّ طُرْق يبتغون المعاليا
وأبْلَى جديد الغَيّ منهم برُشده / وجدّد رشداً عندهم كان باليا
وسافر عنهم رائداً ِخصب نفعهم / يَشق الطَوامي أو يَجوب المواميا
وأن أفسدتهم خُطّة قام مُصلِحاً / وأن لَدَغَتْهمِ فتنةٌ قام راقيا
كل ابنِ آدم مقهور بعادات
كل ابنِ آدم مقهور بعادات / لهنّ يَنقاد في كل الارادات
يَجري عليهنّ فيما يبتغيه ولا / يَنفكّ عنهنّ حتى في الملّذات
قد يَستلِذّ الفتى ما أعتاد من ضرر / حتى يرى في تعاطيه المسرّات
عادات كل امرىءٍ تأبى عليه بأن / تكون حاجاته إلاّ كثيرات
أنّي لفي أسْر حاجاتي ومن عَجبِ / تَعوُّدي ما به تزداد حاجاتي
كل الحياة افتقار لا يفارقها / حتى تنال ِغناها بالمنيّات
لو لم تكن هذه العادات قاهرةُ / لما أسيغت بحالٍ بنت حانات
ولا رأيت ِسكارات يدخّنها / قوم بوقت انفراد واجتماعات
أن الدخان لثانٍ في البلاء إذا / ما عُدّتِ الخمر أولى في البليّات
وربّ بيضاءِ قيدِ الأصبع احترقت / في الكفّ وهي احتراق في الحشاشات
أن مَرّ بين ِشفاه القوم أسودها / ألقي اصفراراً على بيض الثنيّات
وليتها كان هذا حظُّ شاربها / بل قد تفُتّ بكفّيه المرارات
عوائد عمّت الدنيا مصائبُها / وإنما أنا في تلك المصيبات
أن كلّفَتْني السكاري شُربَ خمرتهم / شربت لكن دخاناً من سكاراتي
واخترت أهون شرّ بالدخان وأن / أحرقت ثَوبي منه بالشرارات
وقلت يا قوم تكفيكم مشاركتي / أياكم في التذاذ بالمُضِرّات
أنّي لأمتصَ جمراً ُلفَّ في وَرَق / إذ تشربون لَهيباً ملء كاسات
كلاهما حُمُق يَفتّر عن ضرر / يَسُمّ من دمنا تلك الكُرَيّات
حسبي من الحمق المُعتاد أهونه / أن كان لابد من هذي الحماقات
يا مَن يدخّن مثلي كل آوِنةٍ / لُمْني أَلُمْك ولا تَرض َأعتذاراتي
أن العوائد كالأغلال تَجمعنا / على قُلوب لنا منهنّ أشتات
مقيَّدين بها نمشي على حَذَر / من العيون فنأتي بالمداجاة
قد نُنكِر الفعل لم تألفه عادتنا / وأن علمناه من بعض المُباحات
وربّ شَنعاء من عاداتنا حَسُنت / في زعمنا وهي من أجلَى الشناعات
عناكب الجهل كم ألقت بأدمغة / من الأنام نسيجاً من خرافات
فحرّموا وأحَلّوا حسب عادتهم / وشَوّهوا وَجه أحكام الديانات
حتى تراهم يرون العلم مَنقَصةٌ / عند النساء وأن كنّ العفيفات
وحجّبوهنّ خوف العار لَيتهم / خافوا عليهنّ من عار الجهالات
لم تُحصِ سيّئةَ العادات مقدرتي / مهما تَفَنّنت منها في عباراتي
فكم لها بِدَع سُود قد أصطَدَمت / في الناس منهنّ آفات بآفات
لو لم يكُ الدهر سوقاً رابح باطلها / ما راجتِ الخمر في سوق التجارات
ولا أستمرّ دخان التَبغ ُمنتشراً / بين الورى وهو مطلوب كأقوات
لو أستطعت جعلت التبغ محتكَراً / فوق أحتكار له أضعافَ مَرّات
وزِدت أضعاف أضعاف ضَريبته / حتى يَبيعوه قيراطاً ببدْرات
فيستريحَ فقير القوم منه ولا / يُبْلى به غير مُثرٍ ذي سفاهات
الحُرّ من خرق العادات مُنْتَهِجاً / نهج الصواب ولو ضدّ الجماعات
ومن إذا خَذَل الناس الحقيقة عن / جهل أقام لها في الناس رايات
ولم يَخَف في أتّباع الحق لائمةً / ولو أتَته بحدّ المَشرَفِيّات
وعامل الناس بالإنصاف مُدَّرعا / ثوب الأخوّة من نسج المساواة
أغبىَ البريّة أرفاهم لعادته / وأعقل الناس خرّاق لعادات
أما آن أن تُنْسى من القوم أضغان
أما آن أن تُنْسى من القوم أضغان / فيُبنَي على أسّ المؤاخاة بنيان
أما آن يُرمَى التخاذُل جانبا / فتكسبَ عزاً بالتناصُر أوطان
علام التعادي لأختلاف ديانة / وأن التعادي في الديانة عُدوان
وما ضَرَّ لو كان التعاوُن ديننا / فتَعْمُرَ بلدان وتأمنَ قطّان
إذا جمعتنا وحدة وطنيّة / فماذا علينا أن تَعَدَّد أديان
إذا القوم عَمَّتْهم أمور ثلاثة / لسان وأوطان وباللَّه إيمان
فأيّ اعتقادٍ مانعٌ من أخوّة / بها قال أنجيل كما قال قرآن
كتابان لم يُنزلهما اللَّه ربنا / على رُسْله إلاّ ليَسعَد أنسان
فمن قام باسم الدين يدعو مُفّرِقاً / فدعواه في أصل الديانة بُهتان
أنَشقى بأمر الدين وهو سعادة / إذاً فإتباع الدين يا قوم خُسران
ولكن جهل الجاهلين طَحا بهم / إلى كل قول لم يؤيّده برهان
فهامُوا بتَيْهاء الأباطيل كالذي / تخَبَّطَه من شدة المَسّ شيطان
مَواطنكم يا قوم أُمّ كريمة / تدُرّ لكم منها مدى العمر ألبان
ففيِ حضنها مهدٌ لكم ومَباءةٌ / وفي قلبها عطف عليكم وتَحْنان
فما بالكم لا تُحسنون وواجب / على الابن للام الكريمة أحسان
أصبراً وقد أمسَى العدوّ يُهينها / أما فيكم شَهْم على الام غَيْران
أجل أنكم تأبى الحياة نفوسُكم / إذا لم يكن فيها على المجد عُنوان
ألستم من القوم الذين عَلاؤُهم / تَقاعس عنه الدهر وأنحطّ كيوان
نمَتْكم إلى المجد المُؤثَّل تغلبٌ / كما قد نمتكم للمكارم غَسّان
فلا تُنكروا عهد الأخاء وقد أتت / تصافحكم فيه نزار وعدنان
أجبْ أيها النَدْب المسيحيّ مسلماً / صفا لك منه اليوم سرٌّ وأعلان
فلا تَحرِما الأوطان أن تتحالفا / يداً بيدٍ حتى تؤكَّد أيمان
ألا فانهضا نحو العِدي وكلاهما / لصاحِبه في المأزِق الضَنْكِ معوان
وقولا لمن قد لام صَهْ وَيْك أننا / على حال في المواطن أخوان
فمَنْ مبلغُ الأعداءِ أن بلادنا / مَآسِد لم يَطرُق َذراهنّ سرحان
وأنّا إذا ما الشّر أبدى نُيوبه / رددناه عنا بالظُبي وهو خَزيان
سنَستَصرخ الآساد من كل مَربض / فتمشي إلى الهَيْجاءِ شيب وشُبان
أسود وغىً تأبى الحياة ذَمِيمةً / وتلبس بالعزّ الرَدىَ وهو أكْفان
مَقاحِيم تَصْلَى المَعمَعان مُشِيحةً / إذا أحتَدَمت في حَوْمة الحرب نيران
وتكسو العَراء الرَحب مسْح عجاجة / يَمُجّ بها السيفُ الرَدى وهو عُريان
سننهض للمجد المخلَّد نهضة / يقرّ بها حَوران عيناً ولُبنان
وتعتزّ من أرض الشَآم دمشقها / وتهتز من أرض العراقَيْن بغدان
وتطرَب في البيت المقدَّس صخرة / وترتاح في البيت المحرَّم أركان
وتَحسُن للعُرب الكرام عواقب / فيحمَدها مُفتٍ ويشكر مطران
ولو أنصفتنا ساسة الغرب لأغتدت / دمشق لها من ساسة الغرب أعوان
ورقّت قلوب للعراق وأهله / وأصغت إلى شكوى فلسطين آذان
ولكنهم رانت عليهم مطامع / فأمسَوْا وهم صُمٌّ عن الحق عُميان
لقد قيل أن الغرب ذو مدنيّة / فقلت وهل معنى التمدن عُدوان
وأيّ فَخارٍ كائنٌ في تمَدُّن / إذا لم يقُم في الغرب للعدلِ ميزان
إذا كانت الأخلاق غير شريفة / فماذا عسى تُجْدي علوم وعِرفان
بنفسي أفدي في العراق مَنابتاً / يفوح بها شِيحٌ ويَعبَق حَوْذان
رياض رَعَتْها النائبات بأذْؤب / من الجَور فأرتاعت ظباء وغِزلان
لقد كان فيها الرَنْد والبان زاهياً / فأصبح لارند هناك ولا بان
وأصبح مَرْصوداً بها كل مَنْهَل / عليه من التَرْنيق بالظلم ثعبان
وظلّ ابنها عن كل حَوْض مُحَلأً / يَحُوم على سَلساله وهو عطشان
سأبكي عليها كلما هبّت الصَبا / فمالت بها من حول دجلة أغصان
ومَن ذَرَفت آماقه الدمعَ لؤلؤاً / ذرفت عليها أدمُعي وهي مَرْجان
الشعر مفتقر مني لمبتكر
الشعر مفتقر مني لمبتكر / ولست للشعر في حالِ بمفتقر
دعوت غُرّ القوافي وهيِ شاردة / فأقبلت وهي تمشي مشيِ معتذر
وسلّمتنيَ عن طَوع مقادتها / فرُحت فيهنّ أجري جري مقتدر
إذا أقمت أقامت وهي من خَدَمي / وأينما سرت سارت تقتفي أثري
صرّفت فيهنّ أقلامي ورحت بها / أعرّف الناس سحر السمع والبصر
ملكْنَ من رقّة رقّ النفوس هوىً / من حيث أطرْ بن حتى قاسيَ الحَجَر
سقيتهنّ المعاني فارتَوْين بها / وكنّ فيها مكان الماء في الثمر
كم تَشرئَبّ لها الأسماع مُصغيةً / إذا تُنُوشدن بين البدوِ والحَضَر
طابقت لفظيَ بالمعنى فطابقه / خلواً من الحَشْوِ مملوءاً من العِبَر
أنّي لأنتزع المعنى الصحيح على / عُرْيٍ فأكسوه لفظاً قُدَّ من دُرر
سل المنازل عني إذ نزلت بها / ما بين بغداد والشهباء في سفري
ما جئت منزلة إلاّ بَنَيت بها / بيتاً من الشعر لابيتاً من الشَعَر
وأجود الشعر ما يكسوه قائله / بِوَشْي ذا العصر لا الخالي من العُصُر
لا يَحسُن الشعر إلا وهو مبتكَر / وأيّ حسن لشعر غير مبتكر
ومن يكنْ قال شعراً عن مفاخَرَة / فلست واللَّه في شعرٍ بمفتخر
وإنما هي أنفاس مصعَّدةٌ / ترمي بها حسراتي طائرَ الشَرَر
وهنّ إن شئت منّي أدمع غُزُر / أبكي بهنّ على أيامنا الغُرَر
أبكي على أمة دار الزمان لها / قبلاً ودار عليها بعدُ بالغِيَر
كم خلّد الدهر من أيامهم خبراً / زان الطُروس وليس الخُبْر كالخَبَر
ولست أدّكر الماضين مفتخراً / لكن أقيم بهم ذكرى لمُدَّكر
وكيف يفتخر الباقون في عَمَهٍ / بدارس من هُدى الماضين مندثر
لهفي على العُرب أمست من جمودهم / حتى الجمادات تشكو وهي في ضَجَر
أين الجَحاجح ممن ينتمون إلى / ذُؤابة الشرف الوضّاح من مُضر
قوم هم الشمس كانوا والورى قمر / ولا كرامةَ لولا الشمس للقمر
راحوا وقد أعقبوا من بعدهم عَقِباً / ناموا عن الأمر تفويضاً إلى القَدَر
أقول والبرق يسري في مراقدهم / يا ساهر البرق أيقظ راقد السَمُر
يا أيها العرب هُبّوا من رقادكم / فقد بدا الصبح وأنجابت دجى الخطر
كيف النجاح وأنتم لا أتفاق لكم / والعود ليس له صوت بلا وتر
مالي أراكم أقلّ الناس مَقدُرةً / يا أكثر الناس عدّاً غير منحصِر
لهذا اليوم في التأريخ ذكر
لهذا اليوم في التأريخ ذكر / به الآناف يفغمهنّ طيب
ويحسن في المسامع منه صوت / له تهتز بالطرب القلوب
ففي ذا اليوم نحن قدِ أحْتفَيْنا / بريحانيّنا وهو الأديب
فتىً كثُرت مناقبه فأضحى / له في كل مَكرُمة نصيب
نُجالس منه ذا خُلُق كريم / له بجليسه أثر عجيب
وأقسم لو يجالسه سفيهٌ / فواقاً لأغتدى وهو الأريب
كذاك يكون زهر الروض لمّا / تمرّ عليه ناسمةٌ تطيب
ولم يُنسب إلى الريحان إلاّ / وريحان الرياض له نسيب
له قلم به تحيا المعاني / كما يحيا من المطر الجديب
وتُشرق في سماء الشعر منه / كواكب ليس يدركها مغيب
لقد طارت بشهرته شَمال / كما طارت بشهرته جَنوب
وطبّق ِصيته الآفاق حتى / تعرفه القبائل والشعوب
فَدَيتك هل تُصيخُ فإن عندي / شَكاةً لا تصيخ لها الخطوب
إلى كم أستغيث ولا مغيث / وأدعو من أراه فلا يجيب
أقمت ببلدة مُلئت حُقوداً / عليّ فكل ما فيها مُريب
أمُرّ فتنظر الأبصار شَزراً / إليّ كأنما قد مرّ ذيب
وكم من أوجُه تُبدي ابتساماً / وفي طَيّ ابتسامتها قُطوب
سكنت الخان في بلدن كأني / أخو سفر تَقاذَفُه الدروب
وعشت معيشة الغرباء فيه / لأني اليوم في وطني غريب
وما هذا وأن آذى بدائي / ولا هو أمره أمرٌ عَصيب
ولكني أرى أبناء قومي / يدبّر أمرهم مَنِ لا يُصيب
يقدَّم فيهم الشِرّير دفعاً / لشِرَّته ويُحتقَر الأديب
فهذا الداء مُنتشِب بقلبيِ / وفي قلب العُلا منه وجيب
فكيف شفاؤه ومتى يُرجّى / وأين دواؤه ومَن الطبيب
وأن أكُ قد شكوت فما شَكاتي / إلى ذي خلّة شيء مَعيب
سأنصِب للهواجر حُرّ وجه / يعود إلى الشروق به الغروب
وأضرِب في البلاد بغير مكث / أجوب من المهامِهِ ما أجوب
إلى أن أستظلّ بظلّ قوم / حياة الحرّ عندهم تطيب
وإلاّ فالحياة أمَرّ شيء / وخير من مرارتها شَعوب
حَبَبْت العلا منذ الصبا حبّ شاعر
حَبَبْت العلا منذ الصبا حبّ شاعر / وقمت إليها ساعياً سعيَ قادر
أأقدِر فيها أن أصيخ للأئم / وقد ملكت مني جميع المشاعر
تقول ابنة الأقوام وهي تلومني / وأدمعها رَقْراقة في المحاجر
إلى كم تُجدّ البَيْن عنّي مسافراً / أما تستلِذّ العيش غير مسافر
وأسكتها عنّي نشيج فلم تزل / تردّده منها بأقصى الحناجر
إلى أن تفاني الصبر فافترّ مَدمعي / كمدمعها عن لؤلؤ مُتناثر
ولا غروَ أن أبكي أسىً من بكائها / فأعظم ما يشجي بكاء الحرائر
وقلت لها أني امرؤ لي لُبانة / مَنوط مداها بالنجوم الزواهر
تعوّدت أن لا أستنيم إلى المني / وأن لا أرى إلاّ بهيئة ثائر
وأن أُمضِيَ الهمّ الذي هِو مُقلقي / بطيّ الفيافي أو بخَوْض الدياجر
أما تَرَيِنّ الوجه مني شاحباً / لكثرة ما عرّضته للهواجر
ولست أبالي أنني عادم الغنى / إذا كان جَدّي في العلا غير عائر
ذريني أزُرْ في هَضْب لُبنان أربعاً / تعالت بحيث العزّ مُرخَى الضفائر
بحيث أرى تلك الليوث خوادراً / تسارق ألحاظاً عيونَ الجآذر
ليوث إذا ما عَبَّست في مُلِمَّة / تبسّمَت الدنيا تبّسُم ناصر
وألقت جُيوش الفاخرين سلاحها / إذا خفقت راياتها بالمفاخر
فأكرم بلبنان مَقَرّاً لِنابهٍ / ومأوىً لمنكودٍ ومَهدىً لحائر
ألا إنما لبنان في الأرض عاهل / تَبّوَأ عرشاً من جليل المآثر
وزحلة في لبنان تاج لرأسه / قد أزدان من أبنائها بالجواهر
وما هي إلا روضةٌ أنبتت له / أزاهير من تلك الحسان الغرائر
أزحلة إني تارك فيك مهجتي / تُعاطيك منَ بعدي محبّة شاكر
فتشكرك الشكر الذي أنتِ أهله / طَوالَ الليالي خالداً في الدفاتر
وفاء أمرىء ما عوّد الغدرَ نفسه / ولا وَدّ إلاّ مخلصاً في الضمائر
ومن عجب أن الشُوَ يعر لامني / ببيروت لوم الشاتم المتجاسر
ومَن كان مثلي شاعراً لا تَسُوءُه / مقاذعةٌ جاءته من متشاعر
على أنني من عاذريه وأن يكن / لي الحق في عذري له غير عاذر
وكم في رُبا لبنان من ذي فصاحة / مُجيدٍ بيوم الحفل قَرْع المنابر
ومن أهل آداب كشارقة الضحى / ومن أهل علم كالبحار الزواخر
أ تونس أن في بغداد قوماً
أ تونس أن في بغداد قوماً / تَرِفّ قلوبهم لكِ بالوِداد
ويجمعهم وأياك انتساب / إلى مَنُ خصّ منطقهم بضاد
ودينٍ أوضحت للناس قبلاً / نواصع آيِهِ سبل الرشاد
فنحن على الحقيقة أهل قُربى / وأن قضت السياسة بالبِعاد
وما ضَرَّ البغاد إذا تدانت / أواصر من لسان وأعتقاد
وأن المسلمين على التَآخي / وأن أَغرىَ الأجانب بالتعادي
أ تونس أن مجدك ذو انتماء / إلى عُليا نِزار أو إياد
لنا بثعالبِيّك خير مُلقٍ / على أشتاتنا حبل اتّحاد
وأكبر حامل بيد اعتزام / لحُب بلاده عَلَم التَفادي
وأسمَى من سما أدباً وعلماً / وأفصح من تكلّم عن سَداد
دع القول المريب وقائليه / وسل عنه المنابر والنوادي
تَجِدْهُ خطيبها في كلّ خطبٍ / ومِدْرَهَها لدى كل احتشاد
فتى صَرُحت عزائمه وجَلَّت / عن الرَوَغان في طلب المُراد
تَغَرَّب ضارباً في الأرضَ يبغي / مَدىً من دونه خرط القتاد
فأوغل في المفاوُز والمَوامي / وطَوّف في الحواضر والبوادي
وكان طوافه شرقاً وغرباً / لغير تكسُّب وسوى ارتِفاد
ولكن ساح لأستِنهاض قوم / حكَوْا بجمودهم صفة الجماد
يغار على العُروبة أن يراها / مهدّدة المصالح بالفساد
فأنّى سار كان له هدير / يهُزّ دوِيّه أقصى البلاد
وكم قد قام في نادٍ خطيباً / بمُحكمة المقاصد والمبادي
تُنير بكهربائيّ المعاني / أموراً كنّ كالظُلَم الدَآدي
تحُلّ من القلوب إذا وَعَتْها / محلّ الحب من شَغَف الفؤاد
إلى أن جاء حاضِرة نماها / أبو الأمناء ذو الشرف التِلاد
فكان نُزوله في ساكنيها / نزول الماء في المُهَج الصوادي
فيا عبد العزيز أقِم عزيزاً / بحيث الأرض طيّبة المراد
يحيّيك العراق برافدَيه / تحية مخلص لك في الوِداد
إن رمت عيشاً ناعماً ورقيقاً
إن رمت عيشاً ناعماً ورقيقاً / فاسلك إليه من الفنون طريقا
واجعل حياتك غَضّة بالشعر والت / مثيل والتصوير والموسيقى
تلك الفنون المُشتهاة هي التي / غصن الحياة بها يكون وريقا
وهي التي تجلو النفوس فتَمتَلي / منها الوجوه تلألُؤاً وبريقا
وهي التي بمذاقها ومشاقها / يُمسي الغليظ من الطباع رقيقا
تَمضي الحياة طريّة في ظلها / والعيش أخضر والزمان أنيقا
إن الذي جعل الحياة رواعداً / جعل الفنون من الحياة بروقا
وأدَرّها غَيث اللذاذة مُنبتاً / زهر المسرة سوسناً وشقيقا
وأقام منها للنفوس حوافزاً / تدع الأسير من القلوب طليقا
فتحُلّ عقدة من تراه معقّداً / وتفُكِ ربقة من تراه ربيقا
تلك الفنون فطِر إلى سَعة بها / إن كنت تشكو في الحياة الضيقا
وإذا أردت من الزمان مضاحكاً / فَتَحَسَّ منها قَرقَفاً ورحيقا
ما فاز قط بوصلها من عاشق / إلاّ وكان لعارفيه عشيقا
فهي ابتسامات الدُنى وبغيرها / ما كان وجه الحادثات طليقا
رطِّب حياتك بالغناء إذا عرا / هَمٌ يُجَفِّف في الحُلوق الريقا
إن الغناء لمُحدث لك نَشوة / في النفس تُطفىء في حشاك حريقا
وأترك مجادلة الذين توَهّموا / هَزَج الغناء خلاعة وفُسوقا
أفأنت أغلظ مُهجةً من نوقهم / فقد أستَحثّوا بالحُداء النوقا
أرقى الشعوب تمدناً وحضارة / من كان منهم في الفنون عريقا
وأحَطُّهم من أن سمعت غناءهم / فمن الضفادع قد سمعت نقيقا
فالفنّ مقياس الحضارة عند مَن / حازوا الرُقِيَّ وناطَحوا العَيُّوقا
الشعر فَنٌ لا تزال ضُرُوبه / تتلو الشعور بألْسُن الموسيقى
ويُجيد تقطير العواطف للورى / فتخاله لقلوبهم أنبيقا
ومسارح التمثيل أصغر فضلها / جَعْل الكليل من الشعور ذليقا
وإذا رأى فيها الوقائع غافل / من نوم غفلته يكون مُفيقا
تنْمي الحميد من الخِصال وتنقي / ما كان منها بالفَخار خَليقا
وتَجيء من عِبَر الزمان بمَشْهَد / يُلقي خشوعاً في النفوس عميقا
ويكون مَنظرُه الرهيب مُمَهّداً / لمُشاهديه إلى الصلاح طريقا
أما المُصوِّر فهو فنّان يرى / ما كان من صُوَر الحياة دقيقا
تأتيك ريشته بشعر صامت / ولقد يفوق الشاعر المِنْطيقا
وبدائع التصوير من حسناتها / أن يستفيد بها الشعور سموقا
فهي الجديرة أن تكون ثَمينةً / وتكون أنفق من سواها سوقا
أن الحياة على الكُدورة لم تجد / مثل الفنون لنفسها راووقا
من كان في المجد المُؤثَّل راغباً
من كان في المجد المُؤثَّل راغباً / فَلْيَطَّلبْه بهمّة البارودي
فخري الذي ابتكر المفاخر وأغتدى / منهنّ مفتخراً بكلّ جديد
وأبى سوى غُرِّ المَساعي إذ سعى / مُتشبِّثاً منها بكل مُفيد
وبنى له بدمشق مجداً طارفاً / من بعد مجد في دمشق تَليد
أن كان محمود الفِعال فإنه / ورِث المكارم عن أب محمود
نفع البلاد بماله وبسَعْيِه / وبحسن رأيٍ في الأمور سديد
ورأى الشَتات بها فقام مُوَحِّداً / فيها المساعيَ أيّما توحيد
ودعا الرجال بها فألَّف شِركةً / ترمي إلى غرض أغرَّ حميد
تغني البلاد بسعيها عن غيرها / وتُعيد عهد ثرائها المفقود
وتقوم بالعمل المفيد لأهلها / من نسج أردِيَة لهم وبُرود
حتى تكون عن الأجانب في غِنىً / وتعيش غير أسيرة التقليد
أو ما ترى أهل البلاد تقيّدوا / للغرب من حاجاتهم بقُيود
الغرب يكسوهم ملابس هم بها / يَعرَوْن من مال لهم ونُقود
وتراه يَسْلَخهم بمصنوعاته / سلخ الشياه فهم بغير جلود
هذي سفائنهم تروح وتغتدي / ببضائع لم تُحص بالتعديد
فكأنما هي لامتصاص دمائنا / بعض المحاجم أو كبعض الدود
حتى متى نَشْقى ليَسْعَد غيرنا / ونُذلِّل القُربى لعِزّ بعيد
ونُجانب الوطنيّ من أشيائنا / ولو أنّه من أحسن الموجود
أن البلاد لتشتكي من أهلها / وتقول قول الرازح المجهود
يا سادة الأوطان لستم سادةً / ما عِشتم من فقركم كعبيد
أفسيّد من عاش وهو لغيره / في حاجة بل ذاك عيش مَسود
أن السيادة تستدير مع الغنى / في حالتَيْ عدم له ووجود
لا يستقلّ بسيفه الشعب الذي / لا يستقلّ بنقده المنقود
من كان مَحلول العُرا في ماله / وجب انحلال لوائه المعقود
يا قومنا أنتم كغارس كرمة / وسواه منها قاطف العُنقود
كم تزرعون بأرضكم ولغيركم / مما زرعتم حَبّ كل حَصيد
فتبصّروا يا قوم في أحوالكم / وتنبَّهوا من غفلة ورقود
من شاء منكم أن يُعزَّ بلاده / فَلْيَسْعَ سعيَ مُعزّها البارودي
أشَرّ فعل البرايا فعل منتحر
أشَرّ فعل البرايا فعل منتحر / وأفحش القول منهم قول مفتخر
أن التمدُّح من عُجب ومن أشَرٍ / والمرء في العُجب ممقوت وفي الأشر
يا راجيَ الأمر لم يطلب له سبباً / كيف الرماية عن قوس بلا وتر
ليس التسبّب من عَجز ولا خَوَر / وإنما العجز تفويض إلى القدر
دع الأناسِيَّ وأنسبني لغيرهم / أن شئت للشاء أو أن شئت للبقر
فإن في البشر الراقي بخلقته / من قد أنِفت به أنّي من البشر
ألبِس حياتك أحوال المحيط وكن / كالماء يلبس ما للظَرف من جُدُر
وأن أبَيْت فلا تجزع وأنت بها / عارٍ من الأُنس أو كاسٍ من الضجر
أن رُمت عزاً على فقر تُكابده / فأستغنِ عن مال أهل البَذْخ والبَطَر
فإنما النفس ما لم تَنْءَ عن طمع / فريسة بين ناب الذل والظُفُر
إذا نظرت إلى الجزئيّ تُصلحه / فأرقُبه من مرقب الكُلّيّ في النظر
فإن نفعك شخصاً واحداً ربما / يكون منه عموم الناس في الضرر
قد يَقبُح الشيء وضعاً وهو من حسن / كالنعشُ يدهش مرأىً وهو من شجر
فالقبح كالحسن في حكم النهى عَرَض / وليس يَثبُت إلاّ عند مُعتَبِر
لا تعجبنّ لذي عقل يروح به / ليَنتِج الشرّ خيراً غير مُنتظَر
فإنما لمعات الخير كامنة / بين الشرور كمُون النار في الحجر
سبحان من أوجد الأشياء واحدة / وإنما كثرة الأشياء بالصُوَر
هَبْ منشأ الكونَ يبقى مبهماً أبداً / فهل ترى فيه عقلاً غير مُنبَهِر
الحب والبغض لا تأمنِ خداعهما / فكم هما أخذا قوماً على ِغرَر
فالبغض يُبدي كُدُوراً في الصفاء كما / أن المحبة تبدي الصفوَ في الكدر
وأشنع الكذب عندي ما يُمازجه / شيء من الصدق تمويها على الفِكَر
فإن أبطال هذا في النهي عَسِرٌ / وليس أبطال محض الكذب بالعسر
قالوا عشِقتَ معيب الحسن قلت لهم / كُفّوا الملام فما قلبي بمُنزَجر
ما العشق إلاّ العمى عن عيب مَن عشِقَت / هذي القلوب ولا أعني عمي البصر
قالوا ابن مَن أنت يا هذا فقلت لهم / أبي امرؤ جَدّه الأعلى أبو البشر
قالوا فهل نال مجداً قلت وأعجبي / أتسألوني بمجد ليس من ثَمَري
لاَ درّ درّ قصيد راح يَنظمه / من ليس يعرف معنى الدَرْ والدُرر
يَبكي الشعورُ لشعر ظلَ ينقُده / من لا يفرّق بين الشعر والشَعَر
قالت نَوار وقد أنشدتها سَحَراً / ممّن تعلّمت نفث السِحر في السَحَر
فقلت من سحر عينيك الذي سُحرت / به المشاعر من سمع ومن بصر
كل ما في البلاد من أموال
كل ما في البلاد من أموال / ليس إلاّ نتيجة الأعمال
أن يطِب في حياتنا الأجتما / عيّة عيش فالفضل للعمّال
وإذا كان في البلاد ثراء / فبفضل الأنتاج والأبدال
نحن خَلق المُقدَّرات وفيها / لا حياة للعاطل المكسال
عندنا اليوم للحياة نظام / قد حوى كل باطلٍ ومُحال
حيث يسعى الفقير سعي أجير / لغنيّ مستأثر بالغلال
فترى المُكثرين في طيب عيش / أرغدته لهم يد الأقلال
وترى الغائصين في البحر أمسى / لسواهم ما أخرجوا من لآل
وترى المُعسرين في كل أرض / كعبيد والموسِرين موالي
أكثر الناس يكدحون لقوم / قعدوا في قصورهم والعَلالي
واحد في النعيم يلهو وألف / في شقاء وأبؤس واعتلال
حالة في معاشنا أسلكتنا / طُرُقات المخاتل المحتال
فترانا بعضاً لبعض لبِسنا / من خياناتنا مُسوك الثعالي
تلك عادٌ مستهجنات ورثنا / ها قديماً من العصور الخوالي
فإلى كم نشقى وحتام نبقى / هكذا في عَماية وضلال
إنما الحق مذهب الأشترا / كيّة فيما يختصّ بالأموال
مذهب قد نحا إليه أبو ذرٍّ / قديماً في غابر الأجيال
ليس فرض الزكاة في الشرع إلا / خُطوة نحو مبتغاه العالي
مبدأ ذو مقاصد ضامنات / ما لأهل الحياة من آمال
موصلات إلى السعادة في العي / ش هوادٍ إلى طريق التعالي
ليس للمرء أن يعيش بلا كدٍّ / وإن كان من عظام الرجال
كل مجدُ يبنى على غير سعيٍ / فهو مجد مهدّد بالزوال
ليس قدر الفتى من العيش إلاّ / قدر انتاج سعيه المتوالي
ما رءوس الأموال إلا أداة / للمساعي كالحبل للأحمال
مثل شدّ الأحمال شدّ المساعي / ودنانيرنا لها كالحبال
صاح ماذا تُجدي الدنانير لولا / همم الدائبين في الأشغال
أفتأتي من الطعام بديلاً / أفتُغنى عن كسوة ونعال
حاجة المرء أكلةٌ وكساء / وسوى ذاك بسطة في الكمال
أن للعيش حَومة في وغاها / لا تحق الحياة للبطّال
أنها مثل حومة الحرب ما دا / رت رَحاها إلاّ على الأبطال
وسوى الحِذق ما بها من سلاح / وسوى الكدّ ما بها من قتال
بطل الحرب مثله بطل السع / يِ ومنه الأعمال مثل الصيال
ونشاط منه لبيض المساعي / مثل أشراعه لسمر العوالي
أيها العاملون أن أتحاداً / بينكم مرخص لكم كل غال
ما لعيش تشكون منه سَقاماً / بسوى الأتحاد من ابلال
فليكن بعضكم لبعض نصيراً / ومُعيناً له على كل حال
وإذا قلت أنكم أنتم النا / س جميعاً فلا أكون المُغالي
فأعلموا دائبين غير كسالى / وأرقُبوا ما به ستأتي الليالي
ثم قولوا معي مقالاً رفيع الصَ / وْت فلتحي زمرة العُمّال
عقل وتجرِبة وجِدّ زائد
عقل وتجرِبة وجِدّ زائد / هذي صفات حازها المتقاعد
جعلوا التقاعد للجنود كرامة / كي يستريح من الجهاد مجاهد
ليس التقاعد للرجال بَطالة / أن البطالة للرجال مفاسد
لكنه عمل جديد نافع / عمّا تقوم به الحكومة حائد
بالسعي تزدهر الحياة وإنما / لون الحياة بغير سَعيٍ كامد
أن الحياة ليقظة فعّالة / فالراقد الكسلان فيها بائد
لن تبلغ العلياءَ في ساحاتها / هِمَمُ مثبَّطة وعزم راقد
أنظر تجدْ شُعَب الحياة كثيرة / فيها من السعي الحثيث مَشاهد
فكأنّ أشغالَ الحياةَ مراجلٌ / والسعيَ نارٌ والبلادَ مواقد
يا أيها المتقاعدون ألا اتّقوا / نقداً يصول به عليكم ناقد
علمت تجاربكم وأيقن رأيُكم / أن الحياة تعاوُنٌ وتعاضد
فاستمسكوا بعُرا المودة بينكم / كي لا يكون تباغُض وتحاسُد
كونوا جميعا في الحياة كأنكم / رجل إذا دهت الدواهي واحد
في الحرب طاب لكم جلاد فلْتَطِب / في السلم أعمال لكم ومقاصد
تركَتْ أكُفّكم السيوف وعندها / منكم أشدّ من السيوف سواعد
كل الحياة معارك لكنّما / فيها سلاح المرء جُهد جاهد
ولربما كانت سلاحاً نافذاً / عند اللئام دسائس ومكايد
فأْتُوا من الأعمال ما هو صالح / للناس فيه مصالح وفوائد
وتتبعوا سبل الحياة ولا يكُن / منكم إلى غير المكارم قاصد
وتصرّفوا في أمرها بمهارة / وذروا السيوف فأنهنّ جوامد
ما عاب من سَلّ المهنَّد أنه / للسيف من بعد التجالُد غامد
يعيش الناس في حال أجتماع
يعيش الناس في حال أجتماع / فتحدُث بينهم طرق انتفاع
وتكثُر للتعاوُن والتفادي / على الأيام بينهم الدواعي
ولو ساروا على طرق انفراد / لما كانوا سوى هَمَجَ رعاع
رأيت الناس كالبنيان يسمو / بأحجار تُسَيَّع بالسِياع
فيُمسك بعضه بعضاً فيَقْوى / ويمنع جانبَيه من التداعي
كذاك الناس من عجم وعُرْب / جميعاً بين مَرعِيّ وراع
قد اشتبكت مصالحهم فكلٌ / لكلٍ في مجال العيش ساع
ولولا سعيُ بعضهم لبعض / لعاشوا عيش عادية السباع
إذا ربّ الحسام ثَناه عَجزٌ / تدارك عجزه رب اليراع
وأن قلم الأديب عراه زَيْغ / تلافي زيغه سيف الشجاع
وأن صَفِرت يدٌ من رَيْع زرع / أعيد ثراؤها بيدٍ صَناع
بذاك قضى اجتماع الناس لمّا / أن اعتصموا بحبل الاجتماع
يساند بعضهم في العيش بعضاً / مساندة ارتفاق وانتفاع
فتعلو في ديارهم المباني / وتُخصِب في بلادهم المراعي
وتستعلي الحياة بهم فتُمسي / من العيش الرغيد على يَفاع
وما مدينّة الأقوام إلاّ / تعاوُنهم على غُرّ المساعي
ولم يَصْلُح فساد الناس إلا / بمال من مكاسبهم مُشاع
تشاد به الملاجىء لليتامى / وتُمتار المطاعم للجياع
وتبنى للعلوم به مبان / تُفيض العلم مؤتلقَ الشعاع
وإلاّ فالشقاء لهم حليف / وما حمل الشقاء بمستطاع
ومما سرَّني أني أناجي / رجالاً في الفَخار ذوي ابتداع
سعَوْا لحماية الأطفال منّا / بما أُوتُوه من كرم الطباع
فقاموا بالذي يُعلي ويُسلي / يصونون الضعاف من الضَياع
وما هذي الحياة سوى صراعٍ / يتم بفوز مفتول الذراع
وما سادت شعوب الخلق إلاّ / بتهيئة البنين لذا الصراع
إذا لم يُعْن بالأطفال قوم / فهَضْبة مجدهم رهن انصداع
ولا تزكو المَناشىء في أناس / يرون الطفل من سَقَط المتاع
وما هاج العواطف في فؤادٍ / كحال الطفل في زمن الرَضاع
فشكراً للكرام وكلَّ شكر / لمن عضدوا الكرام بمَدِّ باع
أيَّ قدس يضُمَ هذا البناء
أيَّ قدس يضُمَ هذا البناء / حسدت أرضه عليه السماء
أن يكن فوق هذه الأرض شيء / فيه قدسيّةٌ فهذا البناء
هو من هذه البَنيّات لكن / شرُفت بالمقاصد الأشياء
كلما جئته مُلمّاً تجلّت / لي من تحت أسّه العلياء
هو بِكر في ذي البلاد وللأط / فال فيه حماية عذراء
لم نكن قبل ذا نُفكّر فيما / فكّرت فيه قبلنا الرُحماء
كان للبُؤس في المواطن لفح / من سَموم تذوي به الرضعاء
ربّ طفل أودت به قِلّة الدَرّ / على أن أمّه ثَدياء
أمّه من أبيه آمت فأمست / ينهك البؤس جسمها والشقاء
فحكى شخصها الخَيالة إذ لا / ح ذبول بجسمها وأرتخاء
وأرتمى ثديها وفيه جَفاف / لم يكن للرضيع فيهِ غذاء
فهو أن لم يعِش فموت مُريح / وهو أن عاش عاش فيه الداء
هكذا كانت المواليد تحيا / ولها من حياتها افناء
ومن اللؤم أن نرى عندنا الأط / فال تفنى لأنهم فقراء
لا غذاء في جَوفهم لا كساء / لا غطاء من فوقهم لا ِوطاء
علّ ميتاً لو عاش منهم لأضحى / فيه للناس مأمل ورجاء
ربّ من مات منهِم مات معه / شرف باذخ لنا وعَلاء
ليس موت الأطفال هيناً فقد ين / بُغ منهم نوابغٌ أذكياء
إنما هم كمثل أصداف بحر / لست تدري دُرّ بها أم خلاء
فلعلّ الطفل الذي مات منهم / مات عقل بموته ودهاء
أنه مثل وردة قطفتها / قبل ما فتحها يدٌ عسراء
جلّ هذا البناء حسناً وقدراً / فهو فيه فخامة ورُواء
وعلا في معارج الحمد حتى / لم تُطاوله في العُلا الجوزاء
كلّما جال في مبانيه طرفي / لمعت لي من جُدره العلياء
ولقد دلّ أنّ مَن شيّدوه / سادة في طباعهم كُرَماء
شكر اللّه سعيهم من كرام / بلغوا من فَخارهم ما شاءوا
سوف يبقى لهم على الدهر ذكر / فيه حمد لهم وفيه ثناء
فاز مَن شيّدوه بالحمد وأسوَدّ / ت وجوهاً بخزيها البخلاء
لا تُرَع أيها البناء المُعلّى / فلمرضى الأطفال فيك شفاء
ولهم فيك مرضعات حوانٍ / ولهم فيك طبّهم والدواء
ولهم فيك مأمن وملاذ / ولهم فيك صحّة ونماء
في عَلاليك من فنون المعالي / ما بفحواه عَيَّت الشعراء
كلّمتنا منك المباني كلاماً / فيه منها فصاحة خرساء
إنما أنت غرّة الدهر تُتلى / فيك منّي قصيدة غرّاء
دار السلام تفاخرت برجال
دار السلام تفاخرت برجال / قاموا بأمر حماية الأطفال
وعُنُوا بتربية البنين عنايةً / زادوا بها شمماً على الأجبال
وبنَوْا لهم داراً بما جادت به / أيدي الكرام لهم من الأموال
صانوا بها الأنسال من أمراضها / ومن الحقوق صيانة الأنسال
دار تقيهم بالأواقي كلّ ما / يُخشَى من الأوجاع والأوجال
لم يَخشَ فتكَ السقم فيها رُضَّعٌ / في البؤس قد ولدوا وفي الأقلال
ضمنت لأيتام الأرامل طبّهم / وغذاءهم وبشائر الأبلال
للّه تَلك الدار من متبوَّأ / بذّ النجوم بقدره المتعالي
هي مَفزَع للمعسرين وملجأ / يأتيه كل ضَنٍ من الأطفال
أحماة أطفال الأيامى أنكم / جدراء بالتعظيم والإجلال
مرّت لكم تلك السنون وكلها / غُرَرٌ تزان بأنفع الأعمال
كافحتم الأدواء في أيتامنا / دَأباً بغير كلالة وملال
في حَومة الإحسان طال صيالكم / حقاً فأنتم أشرف الأبطال
سيدوم مسعاكم ويبقى دأبكم / في الدهر غير مهدَّد بزوال
ولسوف يذكركم ويشكر سعيكم / مَن سوف يخلُفُكم من الأجيال
للّه أنتم من أفاضل خُلَّص / فاقوُا الأنام بأشرف الأفضال
أني أُحاول أن أكون معينكم / لولا موانع يعترِضنِ حوالي
لو أن ذات يدي استطاعت رفدكم / ما فاق نَولُ الرافدين نوالي
ولو أن أيامي تجود بصحتي / ما جال أقوى العاملين مجالي
إن لم أُعنكم بالفَعال فإنني / ما زلت من أعوانكم بمقالي
فاليكمو هذا الثناء مخلّداً / من مادح في المدح غير مُغال
بني وطني ماذا أُؤمّل بعدما
بني وطني ماذا أُؤمّل بعدما / تفشّت سعايات لكم بالتجسّس
أقول لمن قد لامني في تشدٌّدي / على كل تدليسٍ أتى من مدلّس
لو أسوَدّ وجه المرء من قُبح فعله / لما كنت تَلقي بيننا غير مُدفِس
ولو نال بالأخلاص مُثرٍ ثراءه / لما كنت تلقي بيننا غير مفلس
نحاول عزاً بابتذال نفوسنا / فنشري خسيساً بالثمين المقدّس
ومن جهلنا استكراهُنا في معاشنا / شقاءً نزيهاً للنعيم المدنّس
سأرحل عنكم للذي قد أقامني / على مُوحش من أمركم غير مؤنس
أبَيت لنفسي أن تحُلّ مكانة / من العيش إلاّ فوق عزٍّ مؤسَّس
ولو أنّ هذا الصبح كان انبلاجه / بغير شروق الشمس لم يتنفّس
فلا أبتغي بالذلّ عيشاً مرفَّهاً / ولو عشت في العُزّى بفول مدمّس
وما أنا كابن العبد إذ عانق الردى / لجَدْوَى أبتها رغبة المتلمّس
إذا ابتسمت لي عزتي ونزاهتي / فلست أبالي بالزمان المعبّس
أقابل أخلاق الرجال بمثلها / وأعرف منهم وجهها بالتفرُّس
فأعنُو لمن يعنو وأقسو لمن قسا / وأظهر كالغِطريس للمتغطرس
ولست أجازي المعتدي باعتدائه / ولكن بصفح القادر المتحمّس
وما أنا من أهل الدَعارة والخنى / ولا من أولي حمل السلاح المسدّس
ولكنّ لي فيكم يراعاً إذا شدا / أتاكم بكافٍ من علاه ومخرس
وما خالق الأكوان إلاّ مهندس / وإن جلّ عن تعريفه بالمهندس
تجلّى على أكوانه بصفاته / وأغلس فيهم كنهُهُ كلَّ مُغلَس
وأقبسهم نوراً شديداً جلاؤه / فساروا به كالعُمي في كلِ حندس
وألبسهم حمر الغرائز فأغتنَوْا / بحمرتها عن كل ثوب مُوَرّس
وما مقبِس عند النهى غير قابس / ولا لابس عند النهي غير مُلبس
فأيّان جان الطرف لم يَرْءَ غيره / إذا كان في ألحاظه غير مبلِس
حقيقة مخلوقاته لم تكن سوى / حقيقته دع عنكَ حدس المحدّس
ألا أنني للكائنات موحذِد / ولو أرغمت كل المذاهب معطسي
أكبّ على الخِوان وكان خِفّا
أكبّ على الخِوان وكان خِفّا / فلمّا قام أثقله القيام
ووالَىِ بينها لُقماً ضِخاماً / فما مَرِئت له اللُقم الضخام
وعاجَل بلعَهنّ بغير مضغ / فهنّ بفيه وضع فالْتهام
فضاقّت بطنه ِشبعا وشالت / إلى أن كاد ينقطع الحزام
فأرسلت اللحاظ إليه شَزْراً / وقلت له روَيدك يا غلام
أرى اللقمات تأخذها حلالاً / فتدخل فاك وهي به حرام
قد انتضدت بجوفك مُفردات / تخلَّل بينها الداء العُقام
أتزدرد الطعام بغير مضغ / على أيام صحتك السلام
فلا تأكل طعامك بأزدراد / معاجلةً فيأكلَك الطعام
ألا أن الطعام دواء داء / به ابتُليَت من القِدم الأنام
فداوِ سَقام جُوعك عن كَفاف / فأكثار الدواء هو السَقام
وما أكل المطاعم لألتِذاذ / ولكن للحياة بها دوام
طعام الناس أعجب ما أحبّوا / فمنه حياتهم وبه الحِمام
يقودهم الزمان إلى المنايا / وما غير الطعام لهم ِزمام
وأعجب منه أن الناس راموا / تنَوُّعه ألا بئس المرام
إذا أستَعصى القَفار عليك أكلاً / كفاك من القَراح له أدام
حَذارِ حذار من جَشَع فإني / رأيت الناس أجْشعها اللئام
وأغبى العالمين فتىً أكول / لفِطنَتِه ببِطنَتِه انهزام
ولو أني استطعت صيام دهري / لصمت فكان دَيدَنيَ الصيام
ولكن لا أصوم صيام قوم / تكاثر في فُطورهم الطعام
إذا رمضان جاءهم أعَدُّوا / مَطاعم ليس يُدركها انهضام
فإن وضح النهار طَوَوا ِجياعاً / وقد نهِموا إذا اختلط الظلام
وقالوا يا نهار لئن تُجِعنا / فإن الليل منك لنا انتقام
وناموا مُتْخَمين على امتلاء / وقد يتجَشّؤُون وهم نيام
فقل للصائمين أداء فرض / ألا ما هكذا فُرض الصيام

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025