القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : مَعرُوف الرُّصافِيّ الكل
المجموع : 246
لعمرك أن الحرّ لا يتقيّد
لعمرك أن الحرّ لا يتقيّد / ألا فليقل ما شاء في المٌفنِّد
إذا أنا قصّدت القصيد فليس لي / به غيرَ تبيان الحقيقة مَقصد
نَشدت بشعري مطلباً عَزّ نَيْله / وأن هان عند الشعر ما كنت أنشُد
فللنجم بعدٌ دون ما أنا ناشد / وللدُرّ قدر دون ما أنا مُنشِد
وكم جَنَّبَتْني عزّة النفس مَنهَلاً / يطيب به لكن مع الذُل مَوْرد
وما أنا إلاّ شاعر ذو لُبانة / أنواح بها حيناً اغَرِّد
ولي بين شِدْقَيَّ في الهَرِيتين صارم / بُسَلّ على الأيام طوراً ويُغْمَد
ولا عجب أن عابني الشاعر الذي / يقول سخيف الشعر وهو مُقلِّد
فإن ابن بُرد وهو أكبر شاعر / تَنَقَّصه في الشعر حَمّاد عَجْرد
تعوّدت تصريحي بكل حقيقة / وللمرء من دنياه ما يتعوَّد
إذا رُمْتُ نُصحاً جئت بالنصح واضحاً / وما كان من شأني الكلام المُعَقَّد
وقد أبصر الداء الدفين الذي بنا / كما أبصر الأمواه في التُرب هدهد
يقولون لي استنهض إلى العلم قومنا / بشعر معانيه تُقيم وتُقْعد
أما علموا أن الحياة بعصرنا / مدارس في كل البلاد تُشيَّد
وما ينفع القول الذي أنت قائل / إذا لم يكن بالفعل منك يؤيَّد
فيا قومنا أن العلوم تجدّدت / فإن كنتم تهوَوْنا فتجدّدوا
وخلّوا جمود العقل في أمر دينكم / فإن جمود العقل للدين مُفسِد
وإن شئتم في العيش عزّاً فأقدموا / فكم نيل بالإقدام عزٌّ وسؤدد
وأمضوا سديد الرأي دون تردُّد / فما يَبْلُغ الغايات من يتردّد
ولا تقبلوا قَيْداً بقول مجرّد / فما قَيَّد الأحرار قول مجرّد
وأطلالِ علم لا تزال شواخصاً / تُذكر بالعهد القديم وتشهد
أراها فأبكي وهي رهنُ يد البلى / بدمع كما ارفَضّ الجُمان المُنضّد
وما أنا سالٍ عهدها حين لم تَسِل / دموعي ولكنّي امرؤ مُتجلِّد
فإن تُكبِوا تبديد دمعي لأجلها / فإن دمي من أجلها سيُبَّدد
ومعهد علم أسسته عِصابة / من القوم تسعَى للنجاح وتَجْهَد
شباب مشَوا للمكرمات بعَزْمة / تقاعس عنها الكواكب المتوقّد
سأستودع الأيام كل قصيدة / يَطيب لهم فيها الثناء المُخَلَّد
أقول لهم قولاً به أستزيدهم / وأشكرهم شكراً جزيلاً وأحمدَ
أما وخلالٍ فيكم عربية / وذا قَسَمٌ لو تعلمون مؤكَّد
يسُرّ العلا أن ينَهض القوم للعلا / وأن يَجْمَعَ الشبان للعلم معهد
تُريد ليَ الأيام أن أتقيّد
تُريد ليَ الأيام أن أتقيّد / وأطلُب فيها أن أكون المُجِّددا
وتقعد بي دون المدى في خطوبها / وغاية همّ النفس أن أبلغ المدى
كفى بصريح العقل قيداً لمطلَق / من الناس يَبغي أن يكون مقيَّدا
لعمر الهدى أن النُهى ليس من صُوىً / سواها لمن ضلّوا الطريق إلى الهدى
فما بال هذا العقل أمسى معطَّلاً / لدينا كأن الله أوجده سُدى
أيُخلقنا كرّ الجديدَيْن ضِلّةً / ولم نتقمّص فيهما ما تِجدّدا
فيا مُنجِدي فيما أريد من العلا / ولولا العلا لم أطلُب الدهرَ منجدا
أعنّي على ما لو تحقَّق كونُه / لما كان لي بل للأناسِيّ مُسعدا
تَجهّز من الحُسنى بما أنت قادر / عليه ولا تَقبل سوى العقل مُرشدا
وأحسِن إلى من قد أساء تكرُّماً / وإن زاد بالإحسان منك تمرُّدا
وحِبَّ الذي عاداك ان رمت قتله / فإني رأيت الحبّ أقتل للعدى
فليس مُضرّاً بالعلا في الذي أرى / على كلّ حال أن تحبّ من اعتدى
إذا دُفِع الشرُّ القبيحُ بمثله / تَحصَّل شرّ ثالث وتَوَلَّدا
وأمست دواعي الشرّ ذات تسَلسُل / مَديد وصار الشرّ في الناس سرمدا
فما الرأيُ عندي أن تمّحضت الوغى / سوى أن يَظَلَّ السيف في الغِمْد مُغمَدا
وأن تُجمِع الدنيا على ردّ طامع / أشار إلى أسيافه مُتَهدِّدا
فإن كان هذا في العصور التي خَلَت / عسيراً ففي هذا الزمان تمهّدا
فإنّ جميع الأرض أمست كبلدة / بها كل جمع عُدَّ في الحكم مفردا
ولي خُلُق يأبى عليّ انطباعه / على الخير تسليمي إلى الشرّ مِقْوَدا
واضرب عن جهل الجهول ولم أكُنْ / لأضرب في الأيام للغدر موعدا
إذا أيقظتني للعِداء اعتداءة / شربت لها من خالصِ العَفوِ مُرْقِدا
وتكرهُ نفسي كل عبد مُذَلَّل / فقد كرِهت حتى الطريق المُعبَّدا
إذا ما اتَّقَت نفس رداها بذِلّة / فعنديَ نفس تتّقي الذُلّ بالردى
ولو طلَبت نفسي الغنى بامتهانها / لأصبحتُ في المثرين أطولهم يدا
ولكنّني آليتُ أن لا أذيقَها / من العيش إلاّ ما استُطِيب وحُمّدا
سجَّية نفس لم أحُل عن عهودها / وأن لامني الأعمى عليها وفنّدا
وما ضرّني إذ عضّني مُتشادق / شَحا بفم قد كان في العضّ أدردا
ولي وطن أفنَيْت عمري بحبّه / وشتَّتُّ شملي في هواه مُبدّدا
ولم أر لي شيئاً عليه وإنما / عليّ له في الحبّ أن أتشدّدا
تعلَّقته منذ الصبا مُغرَماً كما / تعلّق ليلى العامريُّ مُعَمَّدا
وسَيَّرت فيه الشعر فخراً فطالما / شدوت به في مَحفِل القوم منشدا
وكم رام اسكاتي أناس أبى لهم / خَنى الطبع إلاّ أن يروا لي حُسّدا
ومن عجب أن يَعشَقَ الروض بلبل / ويمنعه ذِبّانه أن يُغرِّدا
وما الناس إلاّ اثنان في الشرق كلِّه / جهول تَلَهّى أو حليم تَبَلَّدا
ولم أر مثل الفضل في الشرق مُخفِقاً / ولا مثل جدّ المرء للمرء مُسعدا
تأمَّل قليلاً في بَنيه مفكّراً / لتَشهد منهم للعجائب مَشهدا
فتُبصِرَ أيقاظاً يُطيعون هُجَّداً / وتبصرَ أحراراً يخافون أعُبدا
وكم فأرة في الشرق تُحسَب هرّة / وكم عَقعَق في الشرق سُميَ هدهدا
ألا ربّ شاك قال لي وهو آسف / أما آن للتهذيب أن يتبغددا
فقلت له أبْشِر بخير فإنه / ببغداد للتهذيب اسس منتدى
أمارِس دهراً من جديدَيّ داهرا
أمارِس دهراً من جديدَيّ داهرا / وما زال ليلي بالعراقَين ساهرا
أبى الحق إلاّ أن أقوم لأجله / على الدهر في كل المَواطن ثائرا
وأن أتمادَى في جدال خصومه / وأقرعَ منهم بالبيان المُكابرا
وإني لأهوى الحق كالطِيب ساطعاً / وكالريح هَبّاباً وكالشمس ظاهرا
ستَبقى لنفسي في هواه سَريرة / إذا الدهر أبْلى من بنيه السرائرا
وتَكره نفسي أن أكون مخادعاً / لأدرك نفعاً أو لأدفع ضائراً
ومن أجل مقتي للمخانيث أنكرت / يدي أن تُحَلّىَ في الجنان أساورا
وما العَجز إلا أن أكون مُكاتِما / إذا ما تَقاضتني العلا أن أجاهرا
وما أنا ممّن يُبْهِم القَول لاحناً / فيُضمرَ فيه للجليس الضمائرا
ولولا طُموحي في الحياة إلى العلا / سكنت البوادي واجتنبت الحَواضرا
يقولون لي في مصر للعلم نهضة / تُفَتِّق أذهاناً وتجلو بصائرا
وإن بها للعلم قَدراً وحُرمة / وإن بها للحق عوناً وناصرا
وإن لأهل العلم فيه نوادياً / وإن لأهل الفضل فيها دساكرا
ألم تر أن القوم في كل مَحفِل / بها رفعوا للقائلين المنابرا
وقد ضربوا وعداً لتكريم شاعر / تملّك صِيتاً في الأقاليم طائرا
هو الشاعر الفحل الذي راح شعره / بانشاده في البَرّ والبحر سائرا
فلو قلتَ بعض الشعر في يوم حَفْلهم / تَشُدّ به منَا لمصر الأواصرا
فقلت أجل والشعر ليس بمُعجزي / ولن تَعدَموا مني على الشعر قادرا
ألا أن شوقي شاعرٌ جِدُ شاعر / يفوق الأوالي بل يَبُزّ الأواخر
تَمَلّك حرّ الشعر فهو رَقيقه / وقام عليه بالذي شاء آمرا
إذا رام جَزْلاً منه أنشد زاخِراً / وأن رام سَهلاً منه أنشد ساحرا
فلا عجب من أهل مصر وغيرهم / إذا عقدوا منهم عليه الخناصرا
بَنى لهم مجداً رَفيعاً بشعره / لذا جعلوا حسن الثناء وكائرا
ولكنني قد أنظر الحفلة التي / تُقام له ذا اليومَ في مصر ساخرا
إذا احتفلت مصر بشوقي فمالها / تُقيم على الأحرار في العلم حاجرا
فقد أسمعتنا ضَجّة أمطرت بها / عليّاً وطه حاصباً مُتطايرا
فما بال هذا عُدَّ في مصر مارقاً / وما بال هذا عدّ في مصر كافرا
إذا لم تك الأفكار في مصر حرّة / فليس لمصر أن تُكَرّم شاعرا
أيُرفِع قَدْر العلم يَنطِق ناظماً / ويُوضَع قدر العلم ينطق ناثرا
ويَختَص بالتبجيل من جاء مُنشداً / ويُقذَف بالتَجْهيل من جاء فاكرا
ألا أن هذا الشعرِ ليس بطائل / إذا كان عمّا يبلغ العلم قاصرا
كما أن هذا العلم ليس بنافع / إذا لم تكن فيه النفوس حرائرا
وتكريم ربّ العشر ليس بمفخر / لمن كان عن حرّية الفِكر جائرا
وإلاّ فعصر الجاهلية قبلنا / له السَبق في تكريم من كان شاعرا
هو الدهر لم يترك مَشَنَّ غِواره
هو الدهر لم يترك مَشَنَّ غِواره / على سابق من ليله أو نهاره
يثير غبار الحادثات بكَرِّه / وهل نحن إلاّ من مُثار غباره
وكم عِبَر مطويّة في صورفه / فهل من مُجيل فيه طرف اعتباره
خليليّ أن الأرض غربال قُدرة / تجمّعت الأحياء بين اطاره
تَميد به كفّ الزمانِ تحرّكاً / لمَحْوِ ضعيف أو لأثبات فاره
فيبقى به الأقوى قرين ارتقائه / كما يسقط الأوهى رهين اندثاره
فلا عيش في الدنيا لمن لم يكن بها / قديراً على دفع الأذى والمكاره
لعمرك ما هذه الحياة بملبَس / لمن حيك من عجز نسيج شعاره
ولكن لمن أمسى بأيْد وقوّة / يجرّ على الأيام فضلَ ازاره
أرى الشمس يُخفي ضوءُها كل شارق / وإن كان ينبو الطَرْف عن مستناره
وما ذاك إلاّ أنّها في تَّلَهُّب / يموج بنور ساطعَ وقْد ناره
فلم يستطع نجم طلوعاً تجاهها / إذا لم يَعُذْ بالليل غبَّ اعتكاره
كذاك ضعيف القوم أن كان جاره / قوياً يكن شِلواً أكيلاً لجاره
وما الليث لولا بأسه في عرينه / بأشرفَ من ضبّ الفلا في وجاره
ومن غاوره اليام غيرَ مُدجَّج / فلا يطعمَنْ في مَغنَم منَ مَغاره
ومن لم يُهِن صَرْف الزمان برحلة / تُهِنْهُ صروف الدهر في عُقر داره
وما شرفُ الدرِ الثمينِ فريدُه / إذا هو لم يَبْرَح بطون مَحَاره
أرى كل ذي فقر لدى كل ذي غنىً / أجيراً له مستخدَماً في عَقاره
ولم يعطه إلاّ اليسير وإنما / على كدّه قامت صروح يَساره
ويلبس من تذليله العزّ ضافياً / وينظره شزراً بعين احتقاره
يَشُدّ الغنى أزر الفتى في حياته / وما الفقر إلا مكسرٌ في فقاره
وليس الغنى إلاّ غنى العلم أنه / كنور الفتى يجلو ظلام افتقاره
ولا تحسَبنّ العلم في الناس مُنْجياً / إذا نكَّبَت أخلاقهم عن مناره
وما العلم إلاّ النور يجلو دجى العمى / ولكن تَزوغ العين عند انكساره
فما فاسد الأخلاق بالعلم مُفْلِحاً / وإن كان بجراً زاخراً من بحاره
سل الفلك الدوّار عن حركاته / فهل هو فيها دائر باختياره
وهل هو في هذا الفضاء مسافر / له غاية مقصودة من سِفاره
وهَبْنا جهلنا بدأه من تقادم / فهل يدرك العقل انتهاء مداره
متى ينجلي ليل الشكوى عن النُهى / وترفع كفُّ العلم مُرْخى ستاره
ألا وَرْيَ في زند الزمان فنهتدي / بسقط ضئيل من سقيط شراره
أرى الدهر ليلاً كلّه غيرَ مُبصر / وإن كان في رَأد الضحا من نهاره
وأهليه ساروا خابطين ظلامه / وإن ركبوا في السير متن بخاره
لعمرك أن الدهر يجري لغاية / فإن شئت أن تحيا سعيداً فجاره
وها هو ذا يعدو فيبتدر المدى / وينهب أعمارَ الورى في ابتداره
لقد فاز من بارى جديده جدّةً / وخار الذي في جدّة لم يباره
وليست حياة الناس إلاّ تجِدّداً / مع الدهر في إيباسه واخضراره
وما الناس إلاّ الماء يحييه جَرْيُه / ويُرديهُ مكث دائم في قراره
لك الخير هل للشرق يقظة ناهض / فقد طال نوم القوم بين دياره
ألم تر ان الغرب أصلت سيفه / عليهم وهم لاهون تحت غِراره
وبادرهم كالسيل عند انحداره / وهم في مهاوي غفلة عن بِداره
أما آن للساهين أن يأبهو له / وقد أصبحوا في قبضةٍ من اساره
تراهم جميعاً بين حيران واجمٍ / وآخر يُطري ماضياً من فَخاره
أرى الدهر لا يألو بسَتر الحقائق
أرى الدهر لا يألو بسَتر الحقائق / إذا افتر عن صبح تلاه بغاسق
يجرّ ذيول الخطب فوق طريقها / ليعفوَ منه ما له من سلائق
ولو لمَ يجئنا كل يوم موارباً / لما كان فجر كاذب قبل صادق
كأن ليالي الدهر غضبي على الورى / فتنظر شزراً بالنجوم الشوارق
وما طلعت كي تَهدي القومَ شمسُه / ولكن لتُصليهم جحيم الودائق
وقد تُنطق الأيام بالحق أعجماً / وتُسكِت عن تبيانه كلَّ ناطق
وكم مُدّع فضل التمدّن ما له / من الفضل إلاّ أكله بالملاعق
وكم عاقل قد عدّه الناس أحمقاً / وما هو لو يُبْلَى سوى متحامق
وربّ ذكيّ لم يكن من ذكائه / سوى ما رووه من ذكاء اللقالق
وقد تُعرِض الأسماعُ عن ذي فصاحة / وتُصغى إلى ذي اللُكنة المتشارق
ومن شِيمَ الأيام في الناس انها / تجور عليهم باقتطاع العلائق
وأطلف جَورْ الدهر نرى به / تدلّل معشوق وذِلّة عاشق
وما كان كذب القوم في القو وحده / ولكنّه في كُتْبهم والمهارق
وأقبح مَيْن في الزمانُ خرافةٌ / تَخُطّ بها طرساً يراعة نامق
ضلال على مرّ الجديدين لم تزل / مغاربنا من أمره كالمشارق
فعدِّ عن الأيام إذ لم تَجِد بها / سوى لَغَطٍ يزري بفضل المناطق
نَفَضتُ من الدنيا يَدَيّ لأنني / تعرّفتُ منها ما بها من خلائق
فما أنا وقّاف بها عند منزل / ولا أنا باك من حبيب مُفارق
ولا عذّبَتْني في العُذَيب صبابة / ولا شاقني برق لربع ببارق
تعشقت فيها حسن كل حقيقة / وأعرضت عن حسن الحسان الغَرائق
ولي عند أخوان الصفا أريحيّة / إلى كل خلّ في الزمان موافق
إذا ما عقدنا مجلس الأنس بالطِلا / فبيني وبين السُّكر خمس دقائق
أقوم إلى كبرى الزُجاجات مُدْهِقاً / بمُستقطَر من خالص التمر رائق
فأقرع بالكأس الرَوِيّة جبهتي / بشُرب كما عبّ القَطا متلاحق
اسابق ندماني إلى السكر طائراً / بجنحِ من الأنس المضاغف خافق
فما هي إلاّ بعد شربي سُوَيْعة / وقد دبّ من رأسي الطلا في المفارق
فنادت أصحابي على غيرِ حشمة / وقلت لهم ما قلت غير منافق
وأغنيتهم عن نَقْلهم في شرابهم / بمُزٍّ طريٍّ من نُقول الحقائق
ولم يُبدِ فيّ السُكر عند اشتداده / سوى شكر خِلّي أو سوى حمد خالقي
تعّودت سبقي في الفَخار فلم أرِد / من السكر أن أحظي به غير سابق
كما أعتاد سبقاً في المكارم خزعل / بلا سابق فيها عليه ولاحق
أمير نَمَتْه للمكارم والعلا / جحاجح من كعب كرام المعارق
كذلك أعلى اللّه في الناس كعبه / بحظّ من المجد المؤثّل فائق
إذا سار سار المجد في طيّ بُرْده / يرافقه أكرم به من مرافق
فيرحل من أنسابه في مواكب / وينزل من أحسابه في سُرادق
وأن جاء أغضى من رآه تهيّباً / سوى نظر منهم بعينَيْ مسارق
جواد إذا استمطرته جاد كفّه / بأغزر من وبل الغيوم الدوافق
بك القصر في الفيلية الدهر عامر / فخيم مبانيه كثير المرافق
أحاطت به من كل صَوب حدائق / كوجهك حسناً في العيون الروامق
وفاحت به للناشقين أزاهر / كأخلاقك الغّراء طيباً لناشق
تكامل حسناً صُنعه وفخامةً / وأحسن منه ما لكم من خلائق
أناف على أعلى السحاب معارضاً / بجُودك للعافين جَوْد البوارق
حوى منك قرماً بأسه ضامن له / بذلّ أعاديه وعزّ الأصادق
فلا غروَ أن ينتابه كل خائف / فيأمن من وقع الخطوب الطوارق
ويرجع عنه من يوافيك راجلاً / على لاحق الآطال من نسل لاحق
فدىً كل قصر في العراق ومن جوى / لقصر زها منكم بحامي الحقائق
هنيئاً لك العيد الذي أنت مثله / لدى الناس عيد غير أن لم تفارق
آبا الأمراء الصيد جئتك شاكياً / إليك جنايات الزمان المماذق
أجرني رعاك اللّه منها فإنها / رمت كل عظيم فيّ منها بعارق
أترضى وأني صقر بغداد أنني / تقدّمني فيها فراخ العقاعق
لئن أنكروا حقي فسوف تُحقّه / شواهد أقلام بكفّي نوامق
أصوغ بها حُرّ الكلام لخزعل / مديحاً كعِقد اللؤلؤ المتناسق
هل الدهر إلا أعجميّ أخاطبه
هل الدهر إلا أعجميّ أخاطبه / فما لي إلى فهم الحديث أجاذبه
أيَثْني إلى وجه اللئيم بوجهه / ويرتدّ مُزورّاً عن الحُرّ جانبه
أراه إذا طارحته الجِدّ لاعباً / وما أنا ممن يا أميم يلاعبه
ويضرب أطناب المُنى لي هازلاً / وما أنا مخدوع بما هو ضاربه
وبيناه يبدي لي ابتسامة خادع / يُقطّب حتى لا تَبينَ حواجبه
لقد أضحكت غير الحليم شُؤونه / وأبكت سوى عين السفيه نوائبه
فيا أدباء القوم هل تنقضي لكم / شكاية دهر حاربتكم مصائبه
يَشُدّ عليكم بالسيُوف نكاية / وَأقلامكم وهو الأصمّ تعاتبه
هو الدهر لم يسلم من الغيّ أهله / كما الليلُ لم يأمَنْ من الشر حاطبه
إذا آنسوا نور الحقيقة رابهم / فتجثو على الأبصار منهم غَياهبه
تضاربت الأهواء فيهم فناكبٌ / عن الشرّ يُقصيه وآخر جالبه
طبائعهم شتّى على أن بينهم / كريماً تُواليه ووغداً تُجانبه
لعمرك حتى البرق خالف بعضَه / فقد خولفت بالموجبات سوالبه
أبت حركات الكون إلا تَبايناً / دوافعه فَعّالة وجواذبه
ولولا أختلاف شاءه اللّه في القوى / لما دار في هذا الفضاء كواكبه
سَبَرت زماني بالنُهَي ومَخَضْته / بتجربتي حتى تجلّت عواقبه
ولم أستشر في الناس إلاّ تجاربي / وهل يَصْدُق الأنسانَ إلاّ تجاربه
فلا ترتكب قرب اللئام فإنهم / لكالبحر محمول على الهول راكبه
وما عجبي في الدهر إلاّ لواحد / وأن كثرت في كل يوم عجائبه
وذلك أن العيش فيه مُطيَّب / لمن خَبُثت بالمخُزيات مكاسبه
ولو كان في أعماله الدهر عاقلاً / لما كان مثلي في الورى مَن يُحاسبه
ولو كان يكن في كل ما فيه خادعاً / لما أمَّ فيه صادقَ الفجر كاذبه
ألا ربّ شيطان من الأنس قد غدا / يُخاتلني خَلساً وعيني تراقبه
فقلت له أخسأ إنما أنت خائب / وقبلك أعيا الجنّ ما أنت طالبه
فوَلّى على الأعقاب يحبو وقد دَرى / وللّه دَرّى أنني أنا غالبه
فأتبَعَه مني شهاب تسامح / يَشُق ظلام الجهل بالحلم ثاقبه
ولو شئت أرسلت الخَديعة خلفه / تطارده حتى تضيق مذاهبه
ولكن أبي منّي الخِدالع مهذَّب / تعوَّدِ فعل الخير مُذ طَرُّ شاربه
وذي سفه أغضَيْت عنه تكَرُّماً / فَدَبّت على رجليّ غدراً عقاربه
فقمت له بالنَعل ضرباً فلم تزل / يدايَ به حتى اطمأنّت غواربه
وجنّبته السيف الجُراز لأنه / تعالت عن الكلب العَقور مَضاربه
لقد عابني جهلاً ولم يدر أنّه / أقلّ فِداءٍ للذي هو عائبه
له نسبة مجهولة غير أنه / مَغامزه معلومة ومعايبه
سأبدي لدهري ناج المتضحّك
سأبدي لدهري ناج المتضحّك / ولو كانَ يجري بالذي هوُ مهلكي
فما أنا راجٍ بعد ذا اليوم خَيره / ولا خائف من شرّه المتحَرِّك
إذا الدهر لم يُعتِب من الناس جازعاً / فأضيَع ما فيه شكاية مُشتك
علي أن ضحكي منه لا عن سفاهة / ولكن كضحك العَفّ من مُتهتِّك
ولو سَبَر الناس الحوادث بالنهي / لما حصلوا منها على غير مضحك
وما حادثات الدهر إلا خوابط / كعَشواء تمشيِ مشية المُتَرهوِك
وتَنهض للأرقال في غير مَنهضٍ / وتَبرُك أحياناً على غير مَبرَك
وما حكم هذا الدهر إلاّ تحكُّمٌ / كحكم فُصوص النرد في نقل مُهرَك
كأنا من الدنيا ببيت تقامر / حَوى من سهام القَمر كلّ مُدَمْلَك
فمن قامر قد فاز باليُسرِ قدحه / وآخَر مقمور بقِدح التصعلُك
وما الحِرف اللاتي نُجيد احترافها / سوى شَبَك منصوبة للتملّك
وأن طبيب القوم ناصب كفّة / ليصطاد فيها بالدواء الممصطك
ومن مضحكات الدهر حامل سُبحة / تُقبَّل جهلاً كفّه للتبرُّك
ويا ربّ تركيّ تعرّب وادَعي / على عربيّ هجنة المُتترّك
وتحديث غِرّ مُطرياً عدل دولة / برايتها رسم الصليب المشبّك
وما الناس إلا خادع أدرك المُنى / وآخَر مخدوع لها غير مدرِك
فلا تُبدِ منِ زير النساء تعجُباً / ولا تغترر بالزاهد المتنسِّك
فما دارت الأفلاك إلا وقُطبها / بحكم الهوى حُبّ الكَعاب المفلّك
وأن أبصرت عيناك يوماً حقيقة / تخالف ما قد قلتُه فتشكَّك
فإنّك لم يُنبِئك مثل مجّرِب / خبير ولم ينصحك مثل مُحنَّك
فهذا لعمر اللهّ رأيي فخُذ به / فقد فُزت منه بالجُذيل المُحكَّك
أطلت يا دهر نَحسي
أطلت يا دهر نَحسي / متى تجوِد بسعدي
فقد تضاءل صبري / كما تعاظم وَجْدي
إذا تعشّقت هنداً / منحتني وصل دَعد
وأن تعشّقت دعداً / منحتني وصل هند
أما تعوّدت إلاّ / بأن تجود بضدّ
إني أريد عدوّي / فهات بعض أوُدّي
وجُد عليّ بوصل / فقد رضيت بصدّ
كلا فإن مقالي / هَزْل وليس بجِدّ
بل أنت أحقر عندي / من أن تجود وتُجدي
أني وأن كنت أشقى / بأوجُهٍ منك رُبْد
ربأت عنك بذمّي / كما ربأت بحمدي
إذ لست أنت بكُفْوِي / ولست أنت بنِدّي
لو كنت يا دهر حرّاً / وجئت تخدم عندي
لما أرتضيتك عبداً / ولا خويْدم عبد
وكيف أرضاك عبداً / وأنت أوغد وغد
لقد طَوَّحَتْني في البلاد مُضاعا
لقد طَوَّحَتْني في البلاد مُضاعا / طوائح جاءت بالخطوبِ تباعا
فبارحت أرضاً ما ملأت حقائبي / سوى حبّها عند البَراح متاعا
عتَبْت على بغداد عَتْب مُوَدِّع / أمَضَّتْه فيها الحادثاتِ قراعا
أضاعَتْنيَ الأيام فيها ولو دَرَتْ / لعزّ عليها أن أكون مُضاعا
لقد أرضعتني كل خسف وأنني / لأشكرها أن لم تُتمَّ رَضاعا
وما أنا بالجاني عليها وإنما / نهضت خصاما دونها ودفاعا
وأعلمت أقلامي بها عربيّةً / فلم تُبدِ اصغاءً لها وسَماعا
ولو كنت أدري أنها أعجميّة / تَخِذت بها السيف الجُراز يراعا
ولو شئت كايَلْت الذين أنطَوَوا بها / على الحِقد صاعاً بالعِداء فصاعا
ولكن هي النفس التي قد أبَتْ لها / طباع المعالي أن تَسُوء طباعا
أبَيْت عليهم أن أكون بذِلّةٍ / وتأبى الضَواري أن تكون ضباعا
على أنني دارَيْت ما شاء حقدهم / فلم يُجْدِ نفعاً ما أتَيْت وضاعا
وأشقَى الورى نفساً وأضيعهم نُهىً / لبيبٌ يداري في نُهاه رَعاعا
تركت منِ الشعر المديح لأهله / ونزّهت شعري أن يكونِ قذاعا
وأنشدته يجلو الحقيقة بالنُهَى / ويكشِف عن وجه الصوابِ قناعا
وأرسلته عفواً فجاء كما ترى / قَوافيَ تَجتْاب البلادِ سراعا
وقفت غداة البَيْن في الكرخ وقفةً / لها كَرَبت نفسي تطير شَعاعا
أوَدّع أصحابي وهم مُحدِقون بي / وقدِ ضقت بالبين المُشِتّ ذراعا
أودّعهم في الكرخ والطرف مرسِل / إلى الجانب الشَرقيّ منه شُعاعا
وأدعَم رأسي بالأصابع مُطرِقاً / كأنّ برأسي يا أميمُّ صداعا
وكنت أظنّ البين سهلاً فمذ أتى / شَرَى البين مني ما أراد وباعا
وإنّي جبان في فراق أحِبّتي / وإن كنت في غير الفراق شجاعا
كأنّي وقد جَدَّ الفراق سفينةٌ / أشالت على الريح الهَجومِ شراعا
فمالت بها الأرواح والبحر مائج / وقد أوشكت ألواحها تتداعى
فتحسبني من هزّة فيّ أفْدَعاً / ترقَّى هضاباَ زُلزلت وتِلاعا
فما أنا إلاّ قومة وأنحناءة / وسِرٌّ إذاعته الدموع فَذاعا
رعى اللّه قوماً بالرُصافة كلما / تذكَّرتهم زاد الفؤاد نزاعا
أبيت وما أقوى الهموم بمَضجَع / تُصارعني فيه الهمومِ صراعا
وألْهو بذكراهم على السير كلما / هبَطتِ وهاداً أو علوت يَفاعا
هم القوم أما الصبر عنهم فقد عصى / وأما أشتياقي نحوَهم فأطاعا
لقد حكّموني في الأمور فلم أكن / لأنطِق إلاّ آمراً ومُطاعا
فلست أبالي بعد أن جَدَّ بَينهُم / زجرت كلاباً أم قَحَمْت سباعا
سلام على وادي السلام وأنني / لأجعل تسليمي عليه وَداعا
له اللّه من وادٍ تكاسَلَ أهله / فباتُوا عِطاشاً حوله وجياعا
رآهم عبيداً فاستبدّ بمائه / ولم يَجْر بين المُجْدِباتِ مُشاعا
جرى شاكراً صُنْع الطبيعة أنها / أبانَت يداً في جانبيه صَناعا
وما أنْسَ لا أنس المياه بدجلة / وأن هي تجري في العراق ضَياعا
ولو أنها تَسْقي العراق لما رَمَتْ / به الشمس إلاّ في الجنان شُعاعا
وما وَجَدَت ريح وأن قدتَنا وَحت / مَهَبّاً به إلا قُرىً وضياعا
سأجري عليها الدمع غير مُضيَّع / وأندُبُ قاعاً من هناك فقاعا
وأذكر هاتيك الرِباعَ بحسُنْها / فنعمتْ على شَحْط المَزار رباعا
بدت كالشمسَ يحضُنها الغروب
بدت كالشمسَ يحضُنها الغروب / فتاةٌ راع نَضْرتها الشُحوب
منزّهة عن الفحشاء خَوْد / من الخَفِرات آنسة عَروب
نَوار تستجِدّ بها المعالي / وتَبلى دون عفتها العيوب
صفا ماء الشباب بوجنتيها / فحامت حول رَوْنقه القلوب
ولكنّ الشوائب أدركتْه / فعاد وصفْوُه كَدِر مَشوب
ذوي منها الجمال الغَضّ وجداً / وكاد يَجِف ناعمه الرطيب
أصابت من شبيبتها الليالي / ولم يُدرك ذؤابتها المشيب
وقد خلَب العقول لها جبين / تلوح على أسرّته النُكوب
ألا أن الجمال إذا علاه / نقاب الحزن منظره عجيب
حليلة طيّب الأعراق زالت / به عنها وعنه بها الكروب
رعى ورعت فلم تر قطّ منه / ولم ير قط منها ما يَريب
تَوَثَّق حبل وُدّهما حضوراً / ولم يَنْكث توثّقه المغيب
فغاضب زوجَها الخلطاءُ يوماً / بأمر للخلاف به نُشوب
فأقسم بالطلاق لهم يميناً / وتلك ألِيَّةٌ خطأ وحوب
وطلّقها على جهل ثلاثاً / كذلك يجهل الرجل الغَضوب
وأفتى بالطلاق طلاق بَتٍّ / ذوو فتياً تعصّبهم عصيب
فبانت عنه لم تأت الدنايا / ولم يَعْلَقْ بها الذام المَعيب
فظلّت وهي باكية تنادي / بصوت منه ترتجف القلوب
لماذا يا نجيب صَرَمت حبلي / وهل أذنبت عندك يا نجيب
وما لك قد جفَوت جفاء قالٍ / وصرت إذا دعوتُّك لا تجيب
أبِن ذنبي إليَّ فدتك نفسي / فإني عنه بعدئذ أتوب
أما عاهدتني باللّه أن لا / يفرّق بيننا إلاّ شَعوب
لئن فارقتني وصددت عني / فقلبي لا يفارقه الوَجيب
وما أدماء ترتع حول رَوض / ويرتع خلفها رشأٌ ربيب
فما لفتت إليه الجِيد حتى / تَخَطّفه بآزمتَيْه ذيب
فراحت من تحرُّقها عليه / بداء ما لها فيه طبيب
تشُمّ الأرض تطلُب منه ريحاً / وتَنْحَب والبُغام هو النحيب
وتَمْزَع في الفلاة لغير وجهٍ / وآونةً لمَصْرَعه تؤوب
بأجزع من فؤادي يوم قالوا / برغم منك فارقك الحبيب
فأطرق رأسَه خجلاً وأغضى / وقال ودمع عينيه سَكوب
نجيبة أقصري عنّي فإني / كفاني من لظى الندم اللهيب
وما واللّه هجرك بإختياري / ولكن هكذا جرت الخطوب
فليس يزول حبّك من فؤادي / وليس العيشُ دونك لي يَطيب
ولا أسلو هواك وكيف أسلو / هوىً كالروح فيّ له دبيب
سلي عنيّ الكواكب وهي تسري / بجنح الليل تطلُع أو تغيب
فكم غالبتها بهواك سُهداً / ونجم القطب مُطّلع رقيب
خذي من نور رنْتَجْنٍ شعاعا / به للعين تنكشف الغيوب
وألْقِيه بصدريَ وأنظريني / ترىْ قلبي الجريح به ندوب
وما المكبول ألقيَ في خِضَمّ / به الأمواج تصعد أو تَصوب
فراح يغُطّه التيار غطّاً / إلى أن تمّ فيه له الرسوب
بأهلَكَ يا ابنة الأمجاد منّي / إذا أنا لم يعُد بكِ لي نصيب
ألا قل في الطلاق لمُوقِعِيه / بما في الشرع ليس له وجوب
غَلَوتم في ديانتكم غُلُوّاً / يَضيق ببعضه الشرع الرحيب
أراد اللّه تَيْسيراً وأنتم / من التعسير عندكم ضُروب
وقد حلّت بامتكم كُروب / لكم فيهنّ لا لَهم الذنوب
وهَي حبل الزواج ورقّ حتى / يكاد إذا نفختَ به يذوب
كخيط من لعاب الشمس أدلت / به في الجوّ هاجرةٌ حَلوب
يمزّقه من الأفواه نفثٌ / ويقطعه من النَسَم الهُبوب
فدى ابنَ القَيم الفقهاءُ كم قد / دعاهم للصواب فلم يُجيبوا
ففي أعلامه للناس رُشد / ومُزْدَجَر لمن هو مستريب
نحا فيما أتاه طريق علم / نحاها شيخه الحبر الأريب
وبيّن حكم دين اللّه لكن / من الغالين لم تعه القلوب
لعلّ اللّه يُحدث بعدُ أمراً / لنا فيَخيبَ منهم منَ يخيب
بغداد حسبك رقدة وسبات
بغداد حسبك رقدة وسبات / أوَ ما تُمضُّك هذه النكبات
ولِعَت بك الأحداث حتى أصبحت / أذْواء خَطبِك ما لهنّ أساة
قَلَبَ الزمانُ إليك ظهرِ مجَنِّه / أفكان عندكِ للزمانِ ترات
ومن العجائب أنَ يمَسَّك ضرّه / من حيث ينفع لورعتك رُعاة
إذ من ديالي والفرات ودجلة / أمست تحُلّ بأهلك الكُرُبات
أن الحياة لفي ثلاثة أنهُر / تجري وأرضكِ حولهنّ مَوات
قد ضلّ أهلُك رُشدَهم وهل اهتدى / قوم أجاهلهم هم السَرَوات
قوم أضاعوا مجدهم وتفرّقوا / فتراهم جَمْعاً وهم أشتات
لقد استهانوا العيش حتى أهملوا / سعياً مَغَبّة تركه الاعنات
يا صابرين على الأمور تَسومهم / خّسفاً على حين الرجال أباة
لا تُهملوا الضرر اليسير فإنه / أن دام ضاقت دونه الفلوات
فالنار تَلهَب من سقوط شرارة / والماء تَجمع سَيْله القَطَرات
لا تستنيموا للزمان توكُّلاً / فالدهر نزّاءٌ له وثبات
فإلى متى تستهلكون حياتكم / فَوْضَى وفيكم غفلة وأناة
تالله ان فَعالكم بخلافه / نزل الكتاب وجاءت الآيات
أفتزعُمون بأن ترك السعي في / هذي الحياة تَوكُّل وتُقاة
أن صحّ نَقْلكم بذاك فبيِّنوا / أو قام عندكم الدليل فهاتوا
لم تَلْقَ عندكم الحياة كرامةً / في حالة فكأنكم أموات
شقِيَت بكم لما شَقِيتم أرضكم / فلها بكم ولكم بها غَمَرات
وجهِلتم النهج السَوِيَّ إلى العلا / فترادفت منكم بها العَثَرات
بالعلم تَنْتظِم البلاد فإنه / لرُقِيِّ كل مدينة مِرقاة
أن البلاد إذا تخاذل أهلها / كانت منافعها هي الآفات
تلك الرُصافة والمياه تَحُفّها / والكرخ قد ماجت به الأزمات
سالت مياه الواديَيْن جوارفاً / فطَفَحْن والأسداد مُؤتَكِلات
فتهاجم الماءان من ضَفَوَيْهما / فتناطحا وتوالت الهَجَمات
حتى إذا اتّصل الفرات بدجلة / وتساوت الوَهَدات والرَبَوات
زَحَفت جيوش السَيل حتى أصبحت / بالكرخ نازلة لها ضَوْضاة
فسَقَت بيوت الكرخ شرّمُقَيِّىءٍ / منها فقاءت أهلَها الأبيات
واستَنْقَعت فيها المياه فطَحْلَبت / بالمُكث ترغو تحتها الحَمَآت
حتى استحال الكرخ مشهد أبْؤس / تبكي به الفتيان والفَتَيات
طُرُقاته مسدودة ودياره / مهدومة وعِراصه قَذِرات
يا كرخ عَزّ على المروءة أنه / لُجَج المياه عليك مُزدَحِمات
فلئن أماتتك السيول إنما / أمواجهنّ عليك مُلتَطِمات
مَن مُبلغ المنصور عن بغداد
مَن مُبلغ المنصور عن بغداد / خَبَراً تَفيض لمثله العَبَرات
أمست تُناديه وتَندبُ أربُعاً / طَمَست رسوم جمالها الهَبَوات
وتقول يا لأَبي الخلائف لو ترى / أركان مجدي وهي مُنهدِمات
لغدوت تُنكِرني وتبرحِ قائلاً / بتعجب ما هذه الخَربات
أين البروج بنيتهنّ مشِيدة / أين القصور عَلت بها الشُرُفات
أين الجنان بحيث تجري تحتها ال / أنهار يانعة بها الثمرات
أترى أبو الأمناء يعلم بعده / بغدادَ كيف تَروعها النكبات
لا دجلة يا للرزية دجلة / بعد الرشيد ولا الفرات فرات
كان الفرات يُمدّ دجلةَ ماؤه / بجداول تُسقَى بها الجنات
إذ بين دجلة والفرات مصانع / تفترّ عن شنب بها السنوات
يا نهر عيسى أين منك موارد / عذُبت وأين رياضك الخضلات
ماذا دهى نهرَ الرُفَيل من البلى / حيث المجاري منهُ مندرسات
إذ قصر عيسى كان عند مصبّه / وعليه منه أطلّت الغُرُفات
أم أين بركة زلزل وزُلالها الس / لسال تسرح حوله الظَبيَات
يا نهر طابَقَ لاعدمتك منَهلاً / أين الصَراة تحُفّها الروضات
أم أين كرخايا تمد مياهُه / نهر الدَجاج فتكثر الغَلاّت
أم أين نهر الملك حين سلسلت / فيه المياه وهن مُطَردات
قد كان تُزدَرَع الحبوب بأرضه / فتَسِحّ فيه بفَيضها البركات
أم أين نهر بطاطيا تأتيه من / نهر الدُجَيل مياهه المُجْراة
وله فروع أصلهن لشارع ال / كبش المجاري منه مُنتهيات
تنمو الزروع بسَقيِه فغِلاله / كل العراق ببعضها يقتات
لهفي على نهر المعُلّي إذ غدت / لا تستبين جنانه النضرات
نهر هو الفِردَوس تدخل منه في / قصر الخلافة شعبة وقناة
كالسيف مُنصَلِتاً تُضاحِك وجهَه ال / أنوارُ وهي عليه مُلتَمِعات
إذ نهر بِينٍ عند كَلْواذى به / مُلْد الغصون تَهزّها النسمات
وبقربه من نهر بُوقٍ دارة / تَنْفي الهموم مروجها الخَضِرات
يا قصر باب التبر كنت مُقَرَّناً / والنَفيُ يَصدُر منك والاثبات
أيامَ تُطلعك العدالةُ شمسَها / وتَرِفّ فوقَك للهدى رايات
أيام تُبصرك الحضارة في العلا / بدراً عليك من الثنا هالات
أيام تُنشدك العلوم نشيدها / فتَعود منك على العلوم صِلات
أيام تقصدكَ الأفاضل بالرجا / فتَفيض منك لهم جَداً وهِبات
أيام يأتيك الشكِيّ بأمره / فيروح عنك وما لديه شَكاة
تَمضي الشهور عليك وهي أنيسةٌ / وتَمُرّ باسمةً بك الساعات
ماذا دهاك من الهوان فأصبحت / آثار عزّك وهي مُنطَمِسات
قد ضيّعت بغداد سابق عزّها / وغدت تَجيش بصدرها الحسرات
كم قد سقاها السَيل من أنهارها / ضُرّاً وهنّ منافع وحياة
واليوم قلت بجانبيها أرخوا / دَفَق السُيول فماجت الأزمات
أرى الأيام ظامئة وليست
أرى الأيام ظامئة وليست / بغير دم الأنام تريد ريّا
ولو لم تَنْوِ حرباً ما تبدّى / بها شكل الأهِلّة خنجرِيّا
ودلّ على تقلّبها انقلاب / لجِرم الأرض حين غدا كُرِيّا
وأصْلَدَت الحقيقة في الليالي / فلمّا تَقتَدح زنداً وَرِيّا
نَفَضت يديّ من أبناء دهر / أهانوا الشَهم واحترموا الزرَيِا
وقَلّ حياؤهم حتى رأينا / ظَنين القوم يتّهم البَريّا
وساد الجاهلون فلست أدري / اعزّي العلم أم ابكي الدُريّا
لهم عَين تراعي الشرّ يقظي / وقلب ظلّ في عَمَهٍ كَرِيّا
تَقَلَّدت السيوف رُعاةُ مَعزٍ / وكانت قبلُ تحتمل الهِرِيّا
فجرَّد منهم الرعديد عَضباً / وهَزَّ أخو الجبَانة سمهريّا
وكم تَرِب تجسّس للأعادي / فاصبِح من تجسّسه ثريّا
وساعٍ كان يسرح بالمَواشي / فأمْطِي من سِعايته شَريّا
وأن لساسة الدنيا لقلباً / قَسياً في السياسة مرمريّا
قد اتخذوا الحُسام لهم لسناً / فقالوا البُطل واختلقوا الفريا
وكيف تُساس مملكة بعدل / إذا ما الحكم أصبح عسكريّا
ألا ما بال دمعي ليس يرقا / كأنّ بمُقلتي عِرقاً ضَرِيّا
إذا ذُكر العراق بكَيْت شجواً / بدمع طمّ سائله القَرِيّا
ولما سرت في جبل وسهل / وكابدت السمائم والعرِيا
نزلت بايلياء على كرام / وخيم العيش عاد بهم مَرِيّا
فكدت بقربهم أنسى بلادي / وأسلو الطفّ ثمة والغَريّا
ولم أر كالنشاشيبيّ ندباً / إلى العَلياءُ مبتدراً جَريّا
فتىً سعت المفاخر وهي عطشى / إلى آدابه فأصبنِ ريّا
تجَدَّد في العلاء فكان بِدْعاً / فعاش بمصره رجلاً طريّا
وأحرز في الورى شرِفاً رفيعاً / وصِيتاً في العُلى اسكندريا
ولم أر سيّداً كأبي سَرِيّ / ولا مثل ابنه ولداً سريّا
هما متشابهان فعبقريّ / من الآباء أنجب عبقريّا
أبٌ في المجد أرْوَع أحْوَريّ / نَمى للمجد أروع أحوريّا
إلى الشهم السكاكينيّ أهدي / ثناءً لا يزال به حَرِيّا
فتىً غرس المكارم ثم منها / جنى ثمر العلا غَضّاً طَرِيّا
يَعاف معاشه إلاّ شريفاً / ويأبى المجد إلاّ جَوهريّا
ابنوا المدارس واستقصوا بها الأملا
ابنوا المدارس واستقصوا بها الأملا / حتى نُطاول في بنيانها زُحلا
جودوا عليها بما دَرَّت مكاسِبُكم / وقابلوا باحتقار كل من بَخِلا
أن كان للجهل في أحوالنا عِلَل / فالعلم كالطبّ يَشْفي تلكم العِللا
سيروا إلى العلم فيها سَير معتَزِم / ثم أركبوا الليل في تحصيله جَمَلا
لا تجعلوا العلم فيها كل غايتكم / بل علّموا النَشء علماً ُينتج العملا
هذي مدارسكم شَروَى مزارعكم / فأنبتوا في ثراها ما علا وغلا
لا تتركوا الشَوك ينمو في مَنابتها / أعني بذلكم الأهواء والنّحلا
وأسّسوها على الأعمال قائمة / مُمهِّدين إلى المَحْيا بها سُبُلا
يلقى بها النشءُ للأعمال مختبراً / وللطباع من الأدران مُغتسَلا
وأمطروا روضها علما ومقدُرة / حتى تُفتحّ من أزهارها الأملا
فتُنبِت العالم الفنّان مخترعا / وتنبت الفارس المِغوار والبطلا
وتنبت الحارث الفلاّح مزدرعاً / وتنبت المِدْرَه المِنطيق مرتجلا
واسقوا المُتلمَذ فيها خمر مَكرُمة / عن خمرة الكرم تُمسي عنده بدلا
حتى إذا ما غدا خِرّيجها طَرِبا / من عزّة النفس خيل الشارب الثَمِلا
ربّوا البنين مع التعليم تربية / يُمسي بها ناقص الأخلاق مُكتَمِلا
وثقّفوهم بتدريب وتبصِرة / ثقافة تجعل المُعوَجّ معتدلا
وجنّبوهمِ على فعل معاقَبةً / أن العقاب إذا كرّرته قتلا
أن العقاب يزيد النفس شِرَّتها / وليس يُنْكِر هذا غير مَن جهِلا
بل أنشِئوا ناشىء الأحداث وهو على / حبّ الفضيلة في مَحْياه قد جُبِلا
بحيث يُمسي إذا شانته شائنة / من فعله أحمرّ منها وجهه خجلا
من يتركِ الشر خوفاً من معاقبة / فليس يحسب ذا فضل وأن فضَلا
فجّيِشوِا جيش علم من شبيبتنا / عرمرماً تضرِب الدنيا به المثلا
أن قام للحَرْث ردّ الأرض مُمرعة / أو قام للحرب دكّ السهل والجبَلا
وأن غزا مستظِلاً ظلّ رايته / هزّ البلاد وأحيا الأعصُر الأُولا
أنّا لمن أمة في عهد نهضتها / بالعلم والسيف قبلاً أنشأت دولا
هذا هو العلم لا ما تَدْأبون له / مما تكون به عقباكم الفشلا
ماذا تقولون في نقدي مناهجكم / وقد كفَيْتكم التفضيل والجُمَلا
وأيّ نفع لمن يأتي مدارسكم / أن كان يخرج منها مثلما دخلا
فأجمِعوا الرأيَ فيما تعلمون به / ثم أعلموا بنشاط يُنكِر المللا
ثم أنهجوا في بلاد العُرْب أجمعها / نهجاً على وحدة التعليم مُشتملا
حتى إذا ما انْتَدْبنا العرب قاطبة / كنّا كأنّا انتدبنا واحداً رجلا
أدب العلم وعلم الأدب
أدب العلم وعلم الأدب / شرف النفس ونفس الشرف
بهما يبلغ أعلى الرتب / كل رام منهما في هدف
أيها السابح في بحر الفنون / غائصاً في لُجّها الملتطِم
أنت واللَّه على رغم المنون / ذو وجود قاتل للعَدَم
قرنك الحاضر من أرقى القرون / خضع السيف به للقلم
فإذا شئت بلوغ الأرَب / فأغترف من بحره وأرتشف
فالمعالي أودعت في الكتب / كاللآلي أودعت في الصَدَف
أنت يا جاهل من قبل الممات / ميّت يمرح ما بين البُيوت
أوَ ما تعلم في هذي الحياة / أن رب العلم حيٌّ لا يموت
إذ قضى للعلم ربُّ الكائنات / بالعلا فهو زمام الملكوت
وعلى الجهل قضى بالعَطَب / فهو في الناس دليل التَلَف
فأفتكر أن شئت علم السبب / هل يكون النور مثلَ السَدَف
يا رعى الله زماناً لو يدوم / كان للدهر كأيام الصبا
أشرقت فيه من العلم نُجوم / ظنّ كل الناسِ أن لن تغرُبا
زمن قد ضحكت فيه العلوم / ونراها اليوم تبكي العَربَا
حيث منهم فَقَدَت خير أب / وأغتذت من يُتمها في شَظَف
يا عهود العلم ما شئت اندُبي / يا عيون المجد ما شئت اذرفي
هل أتاك الدهر فيما قد أتى / بحديث العُرب في الأندلس
حيث بالعزم أماطوا العَنَتا / وبنور العلم ليل الهَوَس
فأسألَنّ الغرب عمّا ثَبَتا / في ربوعٍ خَلَّفوها دُرُس
هل ترى ثَمّة من لم يُجِب / عن معاليهم ولم يعترف
آه لو يرجع ماضي الحُقُب / آه لو عاد زمان الشرف
سل رُبا بغداد عما قد مضى / لبني العباس في تلك الديار
وأسألنّ الشام عمّا قد أضا / للمُعاويّين فيها من فَخار
كم ترى للمجد سيفاً مُنْتضى / كم ترى للعلم فيها من مَنار
عجبي يا قوم كلَّ العجب / هذه الآثارَ لِمْ لا نقتفي
آهِ من رقدتنا وأحَرَبي / آهِ من من غفلتنا وا أسفي
يا أباةَ الضَيم من عُليا نِزار / أين منكم ذهبت تلك الطباع
كنتمُ كالسيف مشحوذ الغرار / والذي حلَّ حماكم لن يراع
كم إلى العلم أقمتم من مَنار / بعقول هي أسَنى من شُعاع
قَطفت أبواعكم عن كَثَب / كل مجد شاهق المُقتطَف
تلك واللَّه مزايا العرب / أورثوها خَلَفاً عن سَلَف
أنت يا شمس على كرّ السنين / قد تَقَلّبتِ طلوعاً في الورى
حدّثينا بحديث الأوّلين / فلقد شاهدت تلك الأعصرا
أفكانوا مثلَنا مختلفين / لا يغيثون إذا خطب عرا
أننا يا شمس في مُضطَرَب / قد ألِفْناه فلم نأتلف
أن بقينا هكذا فأحتجبي / عن بني الغبراء أو فانكسفي
يا بني يعرُب ما هذا المنام / أو ما أسفر صبح النُوَّم
أين من كان بكم يرعى الذِمام / ويُلّبي دعوة المُهْتَضَم
أفلا يَلذَعكم مني الملام / فلقد ألُفِظ جمراً من فمي
خارجاً في نَفَسِ كاللهب / مُحرقاً مهجة قلبي الدَنِفِ
أنا لولا فيض دمعي السَكِب / لتَحرّقت بنار الأسف
يا شباب القوم لولاكم لما / ساغ لي العذب وما أن لذّ لي
أنني أُبصر منكم أنجُما / لامعاتٍ في ظلام الأمل
فأصبروا اليوم على حرّ الظما / كي تنالوا الرِيّ في المستقبل
وأتعبوا اليوم فعُقبي التعب / راحةٌ مُشبَعة بالتَرَف
لتَقُونا أسوأ المنقلَب / إذ بناء القوم هاري الجُرُف
يا شباب القوم هُبّوا للبِراز / فبِكم يَبسم ثغر الوطن
وأرفُلوا أما بثوب الاعتزاز / أو بثوبٍ هو ثوب الكفن
وأعدّوا العلم لا السيف الجُراز / أنه عُدّة هذا الزمن
بسواه العزّ لم يُكتسَب / وهو المُنصف للمنتَصِف
أنه واللَّه لا عن كذِب / شرف النفس ونفس الشرف
كفى بالعلم في الظلمات نورا
كفى بالعلم في الظلمات نورا / يُبيّن في الحياة لنا الأمورا
فكم وجد الذليل به اعتزازاً / وكم لبِس الحزين به سرورا
تزيد به العقول هدىً ورشداً / وتَستعلي النفوس به شعورا
إذا ما عَقّ موطنَهم أناسٌ / ولم يَبنوا به للعلم دورا
فإن ثيابهم أكفان موتى / وليس بُيوتهم إلاّ قبورا
وحُقَّ لمثلهم في العيش ضنك / وأن يدعوا بدنياهم ثُبورا
أرى لبّ العلا أدباً وعلماً / بغيرهما العلا أمست قشورا
أأبناء المدارس أنّ نفسي / تؤمّل فيكم الأمل الكبيرا
فسَقياً للمدارس من رياض / لنا قد أنبتت منكم زهورا
ستكتسب البلاد بكم عُلُوّاً / إذا وجدت لها منكم نصيرا
فإن دجت الخطوب بجانبيها / طلعتم في دُجُنَّتها بدورا
وأصبحتم بها للعزّ حِصناً / وكنتم حولها للمجد سورا
إذا أرتوت البلاد بفيض علم / فعاجز أهلها يُمسى قديرا
ويَقوَى من يكون بها ضعيفاً / ويَغنَى من يعيش بها فقيرا
ولكن ليس مُنتَفِعاً بعلم / فتىً لم يُحرز الخُلُق النضيرا
فإن عماد بيت المجد خُلْق / حكى في أنف ناشفه العبيرا
فلا تَستنفِعوا التعليِم إلاّ / إذا هذّبتم الطبع الشَرِيرا
إذا ما العلم لابس حُسنَ خُلْق / فَرَجِّ لأهله خيراً كثيرا
وما أن فاز أغزرنا علوماً / ولكن فاز أسلمنا ضميرا
أأبناء المدارس هل مصيخٌ / إلى من تسألون به خبيرا
ألا هل تسمعون فإن عندي / حديثاً عن مواطنكم خطيرا
ورأياً في تعاوُنكم صواباً / وقلباً من تخاذُلكم كسيرا
قد انقلب الزمان بنا فأمست / بُغاث القوم تحتقر النُسورا
وساء تقلُّب الأيام حتى / حمِدنا من زعازعها الدَبورا
وكم من فأرة عمياء أمست / تسمّى عندنا أسداً هَضورا
فكيف نروم في الأوطان عزّاً / وقد ساءت بساكنها مصيرا
ولم يك بعضنا فيها لبعض / على ما ناب من خطب ظهيرا
ألسنا الناظمين عقود مجد / نزين من العصور بها النحورا
إذا لُجَجُ الخطوب طمت بنينا / عليها من عزائمنا جسورا
لِنَبْتَدر العبور إلى المعالي / بحيث نطاول الشِعر العَبورا
ألا يا ابن العراق إليك أشكو / وفيك أُمارس الدهر المَكورا
تنفَّض من غُبار الجهل وأهرع / إلى تلك المدارس مستجيرا
فهنّ أمان من خشيَ الليالي / وهنّ ضمان مَن طلب الظهورا
لا يبلُغ المرء منتهى أرَبه
لا يبلُغ المرء منتهى أرَبه / إلا بعلم يَجدّ في طلبه
فَأْوِ إلى ظلّه تعش رغَداً / عيشاً أميناً من سوء مُنقلبَه
واتعب له تسترح به أبداً / فراحة المرء من جَنى تعبه
ولذّة العلم من تَذَوَّقها / أضرب عن شهده وعن ضَربه
وأن للعلم في العلا فَلَكاً / كل المعالي تدور في قُطُبه
فاسعَ إليه بعزمِ ذي جَلَد / مُصمّم الرأي غير مضطربه
وأبذُل له ما ملكت من نَشَب / فالعلم أبقى للمرء من نشبه
لا تتّكل بعده على نَسَب / فالعلم يُغني النسيب عن نسبه
وأطّرح المجد غيرَ طارفه / وأجتنب الفخر غير مكتَسَبه
ما أبعد الخيرَ عن فتىً كَسِل / يسرح في لهوه وفي لَعِبه
كم رفع العلم بيت ذي ضَعَة / فقصّر الناس عن مدى حَسَبه
حتى تمنّى أعلى الكواكب لو / يحُلّ بيتاً يكون في صَقَبه
وودّت الشمس في أشعّتها / لو كنّ يُحْسَبْن من قوى طُنُبه
وأن يَسُد جاهل فسؤدده / بعد قليل يُفضي إلى عَطَبه
يرى امرؤ مجد جاهل عجباً / لو صحّ عقلاً لكفّ عن عجبه
كم كذب الدهر في فعائله / وسؤدد الجاهلين من كَذِبه
العلم فَيْض تحيا القلوب به / فأمتّح بسَجْل الحياة من قُلُبه
كل فَخار أسبابه انقطعت / إلا فخاراً يكون من سببه
للعلم وجه بالحسن مُنتقِب / وسافرٌ منه مثل منتقبه
ما حُسن وجه الفتى بمَفخَرة / أن لم يؤيَّد بالحسن من أدبه
ما أقدر العلمَ أنّ صَيْحته / يُمْعِن منها الخميس في هربه
من تَخِذ العلمَ عُدّة لوغىُ / أغناه عن دِرعه وعن يَلَبه
فأنتدِب العلم للخطوب فما / خاب لعمِري رجاء منتدِبه
العلم كالنور بل أفضله / ما أفقرَ النورَ أن يُشبَّه به
وإنما العلم للنُهى عَصَبٌ / والحسّ في الجسم جاء من عصبه
سَقياً ورعياً لروض معهده / وطالبيه وقارئي كتبه
ما الناس إلاّ رُوّاد نُجْعته / وناشروه وكاشفو حُجُبه
ومن غدا هاديا يعلّمه / وراح يشفي الجهول من وَصبَه
ومعهد أسِّست قواعده / في بلد شَفّني هوى عربه
شيّده للعلوم مدرسة / من كان نشر العلوم من دَأَبه
قد غَرَّد المجد في جوانبه / فاهتَزّ عِطف الفَخار من طربه
وأصبح العلم فيه مُزدهِراً / بكلّ ذاكي الذكاء ملتهبه
بمثله في البلاد قاطبةً / يُشفى عَقُور الزمان من كَلَبه
أضحت فلسطين منه مُمْرِعة / مذ جادها بالغزير من سُحُبه
تاهت به ايلياء فاخرة / على دمشق الشَآم أو حلبه
شكراً لبانيه ما أقام به / شُبّانه القاطنون في قُبَبه
أن من حاز في العلوم إجازه
أن من حاز في العلوم إجازه / لجدير برتبة ممتازه
وخليق بعيشة مُرتضاة / وافتخار بفضل ما قد حازه
إنما هذه الأجازة صك / بيد المرء ضامن اعزازه
وهي تَعوِيذة له من عيون / بالمَساوي هَمّازة غَمّازه
فهنيئاً لمن اجيز وشكراً / للذي في علومه قد أجازه
معهد العلم وهو حِرزٌ يفوق ال / أبلقَ الفرد مَنعةً وحرازه
تلجأ الناس في الحياة إليه / هَرَباً من جهالة وخّازه
حبّذا العلم يُكسِب المرء عزّاً / ويَقيه في عيشه أعوازه
في نفوس الذين لم يُرزَقوه / حسرات وفي القلوب حزازه
إنما العلم من معاجز عيسى / كم جهول أحياه وهو جنازه
صاحب العلم يَركب المْجد طِرفاً / جاعلاً غاية العلا مِهمازه
ويهُزّ الدنيا رجاء وخوفاً / بيدٍ من دِراية هزّازه
نحن سَفْرٌ وما الرواحل والزا / دُ سوى العلم والحياة مفازه
كل من لم يُعِدّه لاجتياز / لم تُيسّر يد النجاح اجتيازه
إن عقل الفتى ليصبح بالعل / م رزيناً بكفّ من قد رازه
والطباع العرجاء في كل شخص / تقتضي من ثقافة عُكازه
ألغز الدهر في الحقائق لكن / أفهم العلمُ أهلَه الغازه
وإذا الأمر قد غشته الغواشي / ضمن العلم للورى ابرازه
كان للعلم في القديم طريق / غير رحب يَشُقّ أن نجتازه
فجرى اليوم في طريق جديد / جُعل الشك واليقين طرازه
هو صيد ولم يَعُد يجعل المُص / طادُ منه غير التجاريب بازه
قد عرفنا حقيقة القول فيه / وتركنا للغافلين مجازه
وبحثنا عن جوهر الحق فيه / فبلغنا دفينه وركازه
بله أطناب شرحه بقياس / أن في تجرباته أيجازه
هو في الناس قدره متعالٍ / لم يَطُل صرح إيفلٍ أنشازه
وإذا المُلك لم يؤيده علم / فارتقِب سلبه ورَجّ ابتزازه
وإذا العلم فاه يوماً بوعد / ذهب اليأس آملاً أنجازه
وإذا أنشط الجبان لحرب / صال يرغو حماسة وحمازه
قلم المرء في بلوغ المعالي / فائق في وغي الحروب جُرازه
صاحب العلم في الأمور أمير / قد غدا كل حادث جلوازه
يبصر الخطب من هواديه حتى / ينتهي فيه مبصراً أعجازه
فلهذا نعم لهذا أهنّي / كل من حاز في العلوم أجازه
نعمت الدار للنفيّض دارا
نعمت الدار للنفيّض دارا / قد أقيمت للطالبين منارا
هي دارٌ يَنْتابها ولُد قوم / جعلوا العلم للحياة مَدرارا
نحن قوم نرى المفاخر إلاّ / من طريق العلوم ثوباً مُعارا
ما قصَدْنا بسَلِّنا السيف إلاّ / رَدَّ ليل الجهل المُمِيت نهارا
هل شددنا الرحال في الأرض للأس / فار إلا لنكتُب الأسفارا
كم طَوَينا من قبلُ في طلب العل / م فجاجاً وكم شَقَقْنا بحارا
واقتحمنا لأجله كل هَوْل / وركِبنا لأجله الأخطارا
إنما تصغُر الخُطوب لدى القو / م إذا كانت النفوس كبارا
ولقد هانت النوائب فيه / إذ لبسنا الصبر الجميل شعارا
سل بنا العلم والفنون جميعاً / هل ملكنا بغيرها الأقطارا
سل بنا العدل في جميع الرعايا / هل عَمَرْنا بغيره الأمصارا
سل بنا الغُرّ من كبار المساعي / هل طلبنا بغيرهنّ فَخارا
سل بنا هذه الدماء الدوامي / هل غسلنا بغيرهنّ العِمارا
سل بنا هذه النجوم الدَراري / هل رضينا تحت النجوم قرارا
كم رفعنا للعلم في الأرض بُرجاً / وبنَيْنا له كغُمدان دارا
لا يكن منك في الذي قلت شكٌ / وإذا شئت فانظر الآثارا
يعلم اللّه ذو الجلالة أنا / لسوى اللّه ما رجونا وقارا
إنما هذه المدارس روض / يُنبت المجد والعلا والفَخارا
تَتغذى بها النفوس غِذاء / هو يُنْمي العقول والأفكارا
جلَ فعلاً اكسيرها المتعالي / كيف يَجْلو القلوب والأبصارا
يدخل الناشئون فيها من النا / س نحاساً ويخرجون نُضارا
ربّ نفس كدرهم قد جلاها ال / علم حتى أعادها دينارا
نضُرت هذه المدارس روضاً / من بني القوم مُنبتاً أزهارا
تمنح العاجز الضعيف اقتداراً / موشكاً أن يغالب الأقدار
كانت الناس في القديم عبيداً / وبها اليوم أصبحوا أحرارا
فعليكم فيها بتحصيل علم / يُرغد العيش يُسعِد الأعمارا
أخْصِ في العلم إن أردت كمالاً
أخْصِ في العلم إن أردت كمالاً / ووصولاً إلى الفَخار الأتمّ
وإذا رُمت في التعلُّم حذفاً / فاتركِ النفس والذي هي ترمي
واجتنب قَسرها على ما أبَتْه / أن قسر الطباع أكبر ظلم
إنّما المّيل في الغرائز تَيّا / رٌ ومَن ذا يَرُدّ تيّار يَمّ
أطعِم العقل ما اشتهاه من العل / م وإلا اسْتقَأت من سوء هَضم
ليس في أرؤس الرجال دماغ / هاضم في ذكائه كل علم
فمِن النقص أن تحاوِل أن تض / رب في كل ذي العلوم بسهم
حُسن فهم الأخصّ أكثر نفعاً / لذويه من قبح فهم الأعمّ
وبُغاة العلوم مثل رُماة الصيَ / د فاعلم وليس مُنْمٍ كمُصمْ
وإذا ما اشتغلت بالجِدّ ساعا / ت فهازل سُويعةً واستجم
وتَرَفّقِ إذا جهدت فإن الر / فق يُذكي الفؤاد والعُنف يُعمي
ولقد يَبلغ العجول مَداه / بالتأني بلوغ خَضم بقَضم
كل مَن كانت العلوم لديه / جَمّةً كان نفعه غير جم
أيّ فضل لعالم غير بدع / ليس في العلمُ يرتجي للمهمّ
سارَ شوطاً لكلّ علم ولَكن / لم يَنَل فيه غاية المستَتمّ
هَبْه أبدى من العلوم نُجوماً / في ليال من المَشاكل دُهْم
أو ليس البدر التمام وإن كا / ن وحيداً يربو على ألف نجم
كن قوياً في كل ما تَدّعيه / إنما الفَوز للقويٍّ المِلَمّ
أيها العاجز الضعيف رُوَيداً / أقْرَن الضأن فاتك بالاجمّ

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025