المجموع : 246
أبو غازي قضى فاقيم غازي
أبو غازي قضى فاقيم غازي / فأنطَقنا التهاني والتعازي
وأطلقنا المدائح والمرائي / بإنشاد لهنّ وبارتجاز
وجئنا حاشدين بصدر يوم / حكى يومي عكاظ وذي المجاز
غداة قلوبنا امتلأت سروراً / وحزناً يجريان على التوازي
فهنّ بعاملَي فرح وحزن / خوافق في جوانحنا نواز
فكنّ من ابتهاج في هدوءٍ / وكنّ من اهتياج في اهتزاز
قضى بدر المكارم والمعالي / وحيدرة المعارك والمغازي
فياَ لله يوم نعاه ناعٍ / لمرزئة محت كل المرازي
رزئنا ابن الحسين فنحن منه / برزءٍ للحسين أولو اجتياز
فما ميز المحرم من جمادى / بفرق في البكاء ولا امتياز
له كفّ تفيض ندىً ونبلاً / لها بهما غنىً عن حَزو حازي
بني مجداً عراقياً جديداً / فأسسه على المجد الحجازي
وسار من السياسة في طريق / بحسن الرأي معلمة الطراز
فما ترك الجهود بلا نجاح / ولا فرصاً تمرّ بلا انتهاز
إذا اعتزم الأمور مضى وأمضى / وإن سلّ المهنّد قال ماز
أبا غازي فقدنا منك قرماً / يناجز دوننا يوم النجاز
حللت من العراق وأنت ركز / بحيث الأرض جيّدة الركاز
فحل اليمن منذ حللت فيه / وقبلاً كان عنه ذا انحياز
لقد وفقت بالقلم المعلّى / كما وقفت بالسيف الجراز
ومّهدت الأمور لنا ففزنا / من الآمال بالغرر العزاز
ودرت ذات أيدينا وكانت / كحلب النوق أيام الغراز
ولولا سعيك المشكور كنّا / كذي سفر يسير بلا جواز
إذا المكّاء أوتي منك حظاً / يطير إلى العلا بجناح باز
لأهل الرافدين عليك حزن / له بقلوبهم فضل ارتكاز
فأنت هديتهم سبل المعالي / كما جنّبتهم طرق المخازي
لئن لبسوا الحداد عليك حزناً / فقد ألبستهم ثوب اعتزاز
وما هم بالبكاء جزوَك شيئاً / ولكن الإله هو المجازي
لقد قوّيتنا من بعد عجز / به كنّا نحيد عن البراز
وكنّا كالبغات فقمت فينا / بما صرنا به مثل البوازي
فنحن اليوم إذ دهمت خطوب / نظرنا للخطوب بطرف هازي
نقوم إلى الهياج بلا توان / ونبتدر النزال بلا احتراز
فلسنا من صروف الدهر نخشى / عوادي ذات سلب وابتزاز
ونحن من الألى في كل عصر / عزاهم للمكارم كل عاز
نراعي الحق في سلم وحرب / ونترك في مغارمنا التجازي
ولو شكت الحقيقة لانتزعنا / شكايتها بتضحية المجاز
وقد علمت بنو آثور أنا / أولو عزم يعرقب كل ناز
فنحن بسيفك الماضي جززنا / نواصي جمعهم أيّ اجتزاز
أ فيصل ثم بقبرك مستريحاً / فإن الملك بعدك ملك غازي
ليس من غاية الحياة البقاء
ليس من غاية الحياة البقاء / فلذا خاب في الخلود الرجاء
غير أن الحياة بالعزّ عند الر / جل الحرّ غاية غرّاء
أيّ فخر للناعمين بعيش / لم تجلّله عزّة قعساء
حسب من رام في الحياة خلوداً / أنه بعد موته علواء
وكفى المرء بعد موت حياةً / أن ذكراه حلوة حسناء
قد قضى الكاظمي وهو جدير / أن تعزّى في موته الشعراء
عاش منسيّ عارفيه ولما / مات فاضت بنعيه الأنباء
ذكرته نعاته بنعوت / قبله حاز مثلها العظماء
فلئن كان ما يقولون حقاً / إنهم بالذي نسوا لؤماء
كيف ينسون في الحياة أديباً / عبقرياً عنت له الأدباء
أفينسى حياً ويذكر ميتاً / إن هذا ما تنكر العقلاء
إن هذا أمر يتيه ضلالاً / في بوادي تفسيره الحكماء
ضحكوا منه في الحياة ومذ ما / ت تعالى نحيبهم والبكاء
أيها النادبون غيريَ غرّوا / برح اليوم للبيب الخفاء
يكرم الميت بالثناء وتحيا / عندكم في المهانة الأحياء
غري الناس بالهوى فضلال / كل ما يفعلونه أو رياء
كلّ من يخبر الأناسي خبري / لا يبالي أأحسنوا أم أساءوا
أنا جرّبتهم إلى أن تساوى ال / يوم عندي سبابهم والثناء
أيها الكاظمي نم مستريحاً / حيث لا مبغض ولا إيذاء
عشت في مصر باحترام يؤدّي / ه إليك الأماثل الفضلاء
إن للنيل من جرائك شكراً / ستؤدّيه دجلة اللسناء
لم تعش عيشة الرفاه ولكن / لك في العيش عزّة وعلاء
أيّ حرّ في الشرق عاش سعيداً / لم تشُب صفو عيشه الأقذاء
وهنيئاً أن لم تعش في العراقين / مضاعاً تنتابك الأرزاء
من شقاء العراق أن ذوي الن / عمة فيه أجانب غرباء
إن جفتنا بلادنا فهي حبّ / ومن الحب يستلذّ الجفاء
لم نحُل عن عهودنا مذ جفتنا / بل لها الودّ عندنا والوفاء
قد بكينا شجواً عليها ومنها / وعنانا سقامها والشفاء
كم أردنا سخطاً عليها ولكن / غلب السخط في القلوب الرضاء
إنما هذه المواطن أم / مستحق لها علينا الولاء
إن خدمنا فلا تريد جزاء / ومن الأم هل يراد جزاء
إنما نحن مصلحون وما إن / غاية الامصلحين إلاّ الرفاء
نحن كالشمع حين ذاب اشتعالاً / فهدى المظلمين منه الضياء
قضَوا شهداء ليس لهم بواء
قضَوا شهداء ليس لهم بواء / فتمّ لهم على الدهر البقاء
قضوا لعزيز موطنهم ضحايا / فهم لعزيز موطنهم فداء
لهم في موتهم هذا حياة / مخلّدة يجلّلها الثناء
تباشرت الجنان بهم فأمست / بها من حسن مقدمهم بهاء
وحيّا جعفر الطيار منهم / نسوراً في الجنان لها اعتلاء
وطائرة مرفعة الذُنابى / بأجنحة الرياح لها ارتقاء
يجول بها من البنزين روح / كما جالت بأوردة دماء
بعصر الكهرباء أتت فأمسى / لعصر الكهرباء بها ازدهاء
تمرّ كأنها في الجو نَسر / إلى زهر النجوم له انتماء
وتختبط الهواء بساعدَيها / فتعصف منهما الريح الرخاء
فتمضي في الفضاء مضيّ سهم / عن القوس الضروح له ارتماء
فيبصر كالنجوم لها علوّ / ويسمع كالرعود لها رغاء
وقد ترمي الصواعق محرقاتٍ / بها في الأرض يندكّ البناء
قد امتطوُا الرياح بها فطاروا / إلى حيث احتفت بهم السماء
سموا فتضاءلوا فحكوا نجوماً / يصغّرها بأعيننا السناء
وفيهم كان للأوطان حبّ / وفي أوطانهم منهم رجاء
ألا يا طائرين قد استقلّت / بهم في الجوّ ريح جربياء
لقد نزل القضاء بكم أليماً / ولا منجاة إن نزل القضاء
فمتّم ميتةً بيضاء منها / بأعيننا قد أسودّ الفضاء
لقد عظمت مناحتكم فقامت / تنوح بها الحرائر والأماء
وشّققت الجُيوب لكم رجال / ولطمّت الخدود لكم نساء
غبطنا ميتة قد أعقبتكم / حياةً ليس يدركها الفناء
لكم بسقوطكم شرف ففيه / لموطنكم نهوض واعتلاء
ولا تأسَوا على الوطن المفدّى / ففي شبانه لكم الكفاء
فهم خلف لكم فيما أردتم / ولولا ذلكم عزّ العزاء
قضى والليل معتكر بهيم
قضى والليل معتكر بهيم / ولا أهل لديه ولا حميم
قضى في غير موطنه قتيلاً / تمجّ دمَ الحياة به الكلوم
قضى من غير باكية وباك / ومن يبكي إذا قتل اليتيم
قضى غضَّ الشبيبة وهو عفّ / مُطهّرة مآزره كريم
سقاه من الردى كأساً دهاقاً / عفاف النفس والعرض السليم
تجرّعها على طرب ولكن / بكف اليتم ليس له نديم
على حين الربابة في نواح / يساجلها به العود الرخيم
بحيث رقائق الألحان كانت / بها الأشجان طافية تعوم
كأنّ ترنم الأوتار نعيٌ / وصمت السامعين لها وجوم
فجاء الموت ملتفعاً بخزي / ومِلْء إهابه سفهٌ ولوم
فأطلق من مسدسه رصاصاً / به في الرمي تنخرق الجسوم
فخرّ إلى الجبين به نعيم / كما انقضّت من الشهب الرجوم
فإن مودّعاً بعد ارتثات / حياة لا تناط بها الوصوم
لئن لم تبك من أسف عليه / سفاهتنا فقد بكت الحلوم
ولودرت النجوم له مصاباً / بكته على ترفعّها النجوم
عسى الشهباء تثأره فتبدي / إلى الزوراء ما يبدي الخصيم
ولم يقتله إبراهيم فيما / أرى بل إن قاتله سليم
أليس سليم الملعون أغوى / نعيماً فهو شيطان رجيم
وأخرجه من الشهباء غراً / بتيماً ماله أبداً زعيم
وجاء به إلى بغداد حتى / تخرّمه بها قتل أليم
سأبكيه ولم أعبأ بسلاح / وأندبه وإن سخط العموم
ولّما أن ثوى ناديت أرّخ / ثوى قتلاً بلا مهل نعيم
نعى البرق من باريس ساسون فاغتدت
نعى البرق من باريس ساسون فاغتدت / ببغداد أم المجد تبكي وتندب
ولا غروَ أن تبكيه إذ فقدت به / نواطق أعمال عن المجد تعرب
لقد كان ميمون النقيبة كلما / تذوّقته في النفس يحلو ويعذب
تشير إليه المكرمات بكفّها / إذا سئلت أي الرجال المهذّب
ألا لا تقل قد مات ساسون بل فقل / تغوّر من أفق المكارم كوكب
فلا عجب أن راح في الغرب ثاوياً / فإن النجوم الزهر في الغرب تغرب
فقدنا به شيخ البرلمان ينجلي / به ليلة الداجي إذا قام يخطب
وكان إذا ما قال أوجز قوله / ولكنّه في فعله الخير مسهب
وكانت له في الترك قبلاً مكانة / بها كل ذي فضل من الترك معجب
وزين النهى لا يستخفّ حصاته / مع الغيد ملهى أو مع الصيد ملعب
تضجّ الملاهي وهو كالطود شامخ / فلم تلقه إلا من المجد يطرب
وما سرّه من دولة العجم رتبة / ولا غره من دولة العُرب منصب
لقد كان في الأوطان يرأب صدعها / فيسعى إلى الإصلاح فيها ويدأب
فأصغى لشكواها وزيراً ونائباً / وعالجها منه الطبيب المجرّب
وأبعد مرمى حبّها في شبابه / وجاهد في إسعادها وهوأشيب
لئن كنت يا ساسون غيبك الردى / لذكراك في العلياء لا تتغيب
رزئناك مِفضالاً ففقدك محزن / ومسعاك محمود وذكرك طيّب
حُقّ للدمع أن يكون نشيدا
حُقّ للدمع أن يكون نشيدا / في بكائي أبا أمين رشيدا
ألمعيّ تبوّع المجد حتى / حاز منه قريبه والبعيدا
وتعالى إلى أعاليه حتى / نال منه قديمة والجديدا
أنجبته أصول نخلة حتى / أطلعته للمجد طلعاً نضيدا
فنما في بواسق المجد فرداً / مستظلاً منهنّ ظلاَّ مديدا
كان شهماً إن جئته في الملمّا / ت وَقيذاً أوَيْت ركناً شديدا
شجاعاَ إن جئته يوم هج / تلق في الهيج بهمة صنديدا
وكريماً زكت سجاياه حتى / كان بدعاً في المكرمات فريدا
وفصيحاً إن أنشد القوم شعراً / كان في الشعر مفلقاً ومجيدا
إن شدا بالقريض لم تبصر السا / مع إلا مستحسناً مستعيدا
كان إطروفة الزمان ظريفاً / طربِاً شادياً رقيقاً سديدا
رقة فاقت النسيم إلى شدّ / ة بأس تفتّت الجلمودا
ساد في الناس يافعاً ثم كهلاً / ثم شيخاً في التجربات عميدا
جبلت نفسه على الخير حتى / لم تجده إلا لخير مريدا
بلغ المنتهى من المجد حتى / ليس في المستطاع أن تستزيدا
يا سليل الفقيد أعظم بمجدٍ / قد رزئناه في أبيك مجيدا
أنا شاطرتك الأسى بدموع / كنّ للحزن في الفؤاد وقودا
وتأملت منك حرّاً كريماً / خلفاً للفقيد ضاهى الفقدا
فلهذا أقول قول معز / لك يرجو عمراً طويلاً سعيدا
يا أمين الرشيد أودعك الرا / حل مجداً في الوارثين تليدا
كيف لا نرتجى وأنت أمين / أن تعيد المجد القديم جديدا
أن يكن مبدئين آباؤك الغرّ / فكن أنت يا أمين معيدا
أيّها الأنجم التي قد رأينا
أيّها الأنجم التي قد رأينا / عبراً في أفولها كالشموس
إن هذا الأفول كان شروقاً / في دياجير طالع منحوس
وسيأتي منه الزمان بسعد / تنجلي منه داجيات النحوس
شنقوكم ليلاً على غير مهل / ثمّ دسّوا جسومكم في الرموس
أفكانوا في ظلمة الليل تجراً / هربّوا المال من جباة المكوس
هكذا الجائف المريب يواري / فَعلة السوء منه بالتغليس
شنقوكم لأنكم قد جعلتم / علّم الجيش غير ما منكوس
شنقوكم لأنكم قد أبيتم / أن تكونوا في ربقة الأنكليس
فاستحقوا اللعن الذي كررّته / خاليات القرون في إبليس
سيديم الزمان لعناً عليهم / شائع الذكر في بطون الطروس
أيها الأنجم التي تركتنا / في أسىً من مصابها محسوس
في سبيل الأوطان متّم ففزتم / بأجلّ التحميد والتقديس
وستبقى الذكرى لكم ذات رمز / هو تعظيمكم بخفض الرءوس
وسيجري احترامكم في مجاري / شرف خالد لكم قد موس
إن يوماً به نعيتم إلينا / يوم بؤس كيوم حرب البسوس
قد حكاها طولاً وشؤماً وبغياً / وتلظّى بحرّ نار المجوس
فيه أبدت منّا الوجوه كلوحاً / في شحوبٍ وغبرةٍ وعبوس
إذ سكنّا وفي القلوب ارتجاج / مثل تيّار لجّة القاموس
وأطلنا عن الكلام سكوتاً / معرباً عن نشيجنا المهموس
ووجمنا حزناً وربّ وجوم / يتأتي من صاخبات النفوس
برئت ذمّة المروءة منّا / إن نُبسي يوم شنقكم أو تُنُوسي
يا مَن قضى بين المياة غريقا
يا مَن قضى بين المياة غريقا / أذكى فراقك في القلوب حريقا
قد كنت فينا درّة فلأجل ذا / تَخذ الحمام لك المياة طريقا
سعديك يا توماس إنك لم تمُت / ما دام ذكرك في الحياة عريقا
لكن رقيت إلى السماء لتجتبى / لله في أعلى السماء رفيقا
يا كوكباً عجل الردى بافوله / من بعد ما ملأ السماء شروقا
إن كنت غبِت عن العيون فإنما / اسكنت طيّ قلوبنا موموقا
عشقتك كل فضيلة وعشقتها / لله درّك عاشقاً معشوقا
هصرتك أيدي الموت غصناً ناضراً / يهتز في روض العلاء وريقا
إن العراق على بضاضة قطره / أمسى بفقدك يابساً معروقا
لله منعاك الجليل فإنه / أعيا البليغ وأخرس المنطيقا
إن كان شخصك بات في قَيد الثرى / فجميل ذكرك لا يزال طليقا
على قاسم شيخ الطريقة قد بكت
على قاسم شيخ الطريقة قد بكت / جواهر فضل مالها الدهر قاسم
بكاه التقى والعلم والحلم والنهى / وحسن السجايا والعلا والمكارم
فقدنا الذي قد كان في العلم عيلما / فماجت لمنعاه البحار العيالم
لئن قد طواه الموت عنّا فذكره / من العلم منشور على الدهر دائم
رزئناه حبراً في الطريقة مرشداً / به اتضحت للساكين المعالم
عفت أربع الإرشاد بعد ارتحاله / وكانت به منها تقوم الدعائم
حليف التُقى مادنّس الدهر ثوبه / باثم ولا مرت عليه المحارم
ترحل للأخرى وأبقى مناقباً / تضيء من الدنيا بهنّ المواسم
يصوم نهار الصيف لله طائعاً / ويحيي الليالي وهو لله قائم
إذا ما بدا للقوم لاحت بوجهه / دلائل من نور الهدى وعلائم
ولما مضى للخلد قلت مؤرخاً / لقد بات على أعلى الفراديس قاسم
عهِدتُك شاعر العرب المُجيدا
عهِدتُك شاعر العرب المُجيدا / فما لك لا تطارحنا النشيد
فنحن إليك بالاسماع نُصغي / فهل لك أن تُفيد فنستفيدا
بشعر لا تزال تنوط منه / بجيد بدائع الدنيا عقودا
إذا أنشدته الحسناءَ تاهت / كأن قَرَّطتها دراً فريدا
وأنت إذا قرعت به عبيداً / رددت إلى الحَرار بهالعبيدا
ولو تستنهض الجبناء يوماً / به لتقّحموا الهيجا اسودا
ولو كرّرته للقوم ألفاً / لأقسم سامعوه بأن تعُيدا
وكم تهتزّ أعطاف المعالي / إذا ما قلت قافيةً شرودا
فلو أنشدتنا في الفخر شعراً / تُذكِّرُنا به العهد البعيدا
تذكرنا الأوائل كيف سادوا / وكيف تبوّعوا الشرف المديدا
فقلت له وقد أبدى ارتياحاً / إليّ إذ ارتجلتُ له القصيدا
أجل أن القبائل من مَعَدٍّ / علّوْا فتسنّموا المجد المجيدا
وأن لهاشم في الدهر مجداً / بناه لها الذي هشم الثريدا
ومذ قام ابن عبد اللّه فيهم / أقام لكلّ مَكْرُمة عمودا
وأنهضهم إلى الشرف المُعَلّى / وكانوا عنه قبلئذٍ قعودا
فأصبح وارياً زَنْدُ المعالي / وقبلاً كان مَقْدَحُه صلودا
فهم فتحوا البلاد ودّوخوها / وقادوا في معاركها الجنودا
وهم كانوا أشد الناس بأساً / وأمنع جانباً وأعمّ جُودا
وأرجحهم لدى الجُلّى حلوماً / وأصلبهم لدى الغَمَرات عودا
ولكن أيها العربيّ أنّي / أراك لغير ما يُجدى مريدا
وما يجدي افتخارُك بالأوالي / إذا لم تفتخر فخراً جديدا
أرى مستقبل الأيام أولى
أرى مستقبل الأيام أولى / بمَطْمَح من يحاول أن يسودا
فما بلغ المقاصد غيرُ ساع / يردّد في غدٍ نظراً سديدا
فَوَجِّه وجه عزمك نحو آت / ولا تَلفِت إلى الماضين جيدا
وهل أن كان حاضرنا شقيّاً / نسود بكون ماضينا سعيدا
تقدّم أيها العربيّ شوطاً / فإن أمامك العيش الرغيدا
وأسّس في بنائك كل مجدٍ / طريف واترك المجد التليدا
فشرّ العالمين ذوو خُمول / إذا فاخرتهم ذكروا الجدودا
وخير الناس ذو حسب قديمٍ / أقام لنفسه حسباً جديدا
تراه إذا ادعى في الناس فخراً / تقيم له مكارمُه الشهودا
فدعني والفخارَ بمجد قوم / مضى الزمن القديم بهم حميدا
قد ابتسمت وجوه الدهر بيضاً / لهم ورأيننا فعبسن سودا
وقد عهدوا لنا بتراث ملك / أضعنا في رعايته العهودا
وعاشوا سادة في كل أرض / وعشنا في مواطننا عبيدا
إذا ما الجهل خيّم في بلاد / رأيت اسودها مُسِخَت قرودا
كتبت لنفسي عهد تحريرها شعرا
كتبت لنفسي عهد تحريرها شعرا / وأشهدت فيما قد كتبت الدهرا
ومن بعد اتمامي كتابة عهدها / جعلت الثريا فوق عنوانه طُغرى
وعلّقته كي لا تَناوّلَه يدٌ / بمنبَعَث الأنوار من ذروة الشعرى
لذاك جعلت الحق نصب مقاصدي / وصيّرت سرّ الرأي في أمره جهرا
وجرّدت شعري من ثياب ريائه / فلم أكْسُه إلا معانَيه الغُرّا
وأرسلته نظماً يروق انسجامه / فيحسبه المصغي لانشاده نثرا
فجاء مضيئاً ليله كنهاره / وإن كان بعض القوم يزعُمُه كفرا
اضّمنه معنى الحقيقة عارياً / فيحسّبه جُهالها منطقاً هُجرا
ويحمله الغاوي على غير وجهه / فيُوسعني شتماً وينظرني شزرا
رويدك أن الكفر ما أنت قائل / وأن صريح العُرف ما خِلتًه نُكرا
هل الكفر إلا أن ترى الحق ظاهراً / فتضرب للإنظار من دونه سترا
وأن تُبصر الأشياء بيضاً نواصعاً / فتُظهرها للناس قانية حمرا
إذا كان في عُري الجسوم قباحةٍ / فأحسن شئ في الحقيقة ان تَعرى
فيُبصرها من مارست عينه عمىً / ويسمعها من كابدت أذنه وَقرا
أحبّ الفتى أن يَستقلّ بنفسه / فيُصبِحِ في أفكاره مطلقاً حرّا
وأكره منه أن يكون مُقلِّداً / فيُحشَرَ في الدنيا اسيراً مع الأسرى
وما هذه الأوطان إلاّ حدائق / بها تُنبت الأفكار من أهلها زهرا
وما حُبّها إلا لأجل تحرّر / يكون إلى العَلياء بالناس مُنْجَرّا
وما حسنها إلاّ بأنّ سماءها / تضاحك من أحرارها أنجماً زُهرا
إذا كان في الأوطان للناس غاية / فحّرية الأفكار غايتها الكبرى
فأوطانكم لن تستقلّ سياسة / إذا أنتم لم تستقلّوا بها فكرا
إذا السيف لم يَعضُده رأيٌ محرَّر / فلا تأملنْ من حدّه ضربة بكرا
سواء على الإنسان بعد جموده / أحلّ بقفر الأرض أم سكن المصرا
إذا لم يَعش حرّاً بموطنه الفتى / فسمّ الفتى ميْتاً وموطنه قبرا
أحرّيتي إني اتخذتكِ قِبلةً / أوجّه وجهي كل يوم لها عشرا
وأمسك منها الرُكَنَ مستلماَ لهُ / وفي ركنها استبدلت بالحَجَر الحِجْرا
إذا كنت في قفر تخذتك مؤنساً / وإن كنت في ليل جعلتك لي بدرا
وإن نابني خطب ضممتك لاثماً / فقبّلت منك الصدر والنَحرَ والثغرا
وإن لامني قوم عليك فإنني / لملتمس للقوم من جهلهم عذرا
وضح الحق واستاقم السبيل
وضح الحق واستاقم السبيل / بعظيم هو النبيّ الرسول
قام بدعو إلى الهُدى بكتاب / عربيّ قرآنه ترتيل
طالباً غاية من المجد قُصوى / صدّه عن بُلوغها مستحيل
ووصولاً إلى مقام رفيع / عَزّ من قبله إليه الوُصول
همّة دونها الكواكب نوراً / واعتلاءً يَعلو بها ويطول
جرّد اللّه منه للحقّ سيفاً / كان ضدَّين حدّه والفلول
فيه عزم للمهلكات قَحُوم / واصطبار للنائبات حَمُول
ودهاء لو ما كرته دواهي الدّ / هر طُرّاً لاغتالها منه غول
تدلهِمّ الخُطوب والرأي منه / في دُجاها كأنّه قِنديل
كل أوصافه الجليلة بِدعٌ / فهو من عبقريّة مَجبول
أطلق الناسِ من تقاليد جهل / كل فرد منهم بها مغلول
وشفاهم بهَديهِ من ضلال / كل فرد منهم به مَعلول
أنهض القوم للعلاء وكانت / في دُنى القوم رقدة وخُمول
فاستقلّت به على الدهر يقظى / هِمم يعرُبيّة وعقول
تلك في الدين نهضة هي للعق / ل انتباه وللهدى تأثيل
نهضة عالميّة في وغَاها / من أمام البعير فرّ الفيل
هي كالبرق سرعة والتماعاً / كل أفق بفضلها مشمول
خضعت فارس لها عن صَغار / وتداعة إيوانها المستطيل
وإلى اليوم قام في الهند منها / أثَر مثل طَودها لا يزول
يعرف النيل فضلها وعلاها / من قديم ويشهد الدردنيل
وبها الأرض والسموات ترضى / وتُقِرّ التوراة والإنجيل
غير أنا عن نَهجها اليوم حِدنا / واستحَلْنا وكل حال تحول
حيث عُدنا وفي النهوض قعود / ورجعنا وفي الصعود نزول
واختلفنا في الدين حتى افترقنا / فِرَقاً لا يُسيغها المعقول
والتزمنا الفروع منه فضاعت / بالتزام الفروع منه الأصول
كل حزب بما لديه فَخور / ولمَن هم مخالفوه خَذول
بِدَع في حياتنا مُنكرات / غضب اللّه فوقها مسدول
حالة ساءت الرسول وساءت / كلَّ آيٍ بها أتانا الرسول
لو رآنا والشر فينا كثير / مستفيض والخير نزر قليل
وثغور الضلال مبتسمات / ووجوه الهدى عليها مُحول
والدعاوى في الحق منّا كبار / طال فيها التزمير والتطبيل
نعبُد اللّه والعبادة لحن / عند بعضٍ وعند بعض عويل
ونحِجّ القبور كالبيت حجّاً / يكثُر المسح فيه والتقبيل
ونَعُدّ الركوع للقبر حِلاًّ / وهو في الدين ما له تحليل
ونُزَحّي إلى القبور نذوراً / فضحايا مسوقةٌ وحُمول
ونقول التوحيد قولاً وكلٌّ / هو للشرك عامد وفَعُول
قال مستنكراً لما نحن فيه / ما بهذا قد جاءني جبريل
أين دين التوحيد منكم وأين ال / أوْب اللّه وحده والقُفول
أنا حرّمت كل ما كان فيه / شَبَه للأصنام أو تمثيل
كل مَن قال منكم أن هذا / هو دين الإسلام فهو جَهول
لمَ لم تحفَظوا أخوّة دين / جاءكم ناطقاً بها التنزيل
كان حبل الإخاء فيكم وثيقاً / كيف أمسى وعَقده محلول
لست منكم بيائس بل نُهوض / منكم بعد فترة مأمول
فاجمعوا الشمل ناهضين فإنّ ال / كُفر في الدين عجزكم والخمول
يقولون في الإسلام ظلماً بأنه
يقولون في الإسلام ظلماً بأنه / يَصُدّ ذويه عن طريق التقدم
فإن كان ذا حقّاً فكيف تقدّمت / أوائله في عهدها المتقدم
وإن كان ذنب المسلم اليوم جهله / فماذا على الإسلام من جهل مسلم
هل العلم في الإسلام إلاّ فريضة / وهل أمة سادت بغير التعلُّم
لقد أيقظ الإسلام للمجد والعلا / بصائر أقوام عن المجد نُوَّم
وحلّت له الأيام عند قيامه / حُباها وأبدت منظر المتبسّم
فأشرق نور العلم من حَجَراته / على وجه عصر بالجهالة مظلم
ودّك حصون الجاهلية بالهدى / وقَوّض أطناب الضلال المخيّم
وأنشط بالعلم العزائم وابتنى / لأهليه مجداً ليس بالمتهدّم
وأطلق أذهان الورى من قيودها / فطارت بأفكار على المجد حُوَّم
وفَكّ أسار القوم حتى تحفّزوا / نهوضاً إلى العلياء من كل مَجْثَم
فخلَّوا طريقاَ للبداوة مَجهَلاً / وساروا بنهج للحضارة مُعلَم
فدَوَّت بمُستَنّ العلا نهضَاتهم / كزعزع ريح أو كتيّار عَيْلَم
وعمّا قليل طبّق الأرض حكمهم / بأسرع من رفع اليدَيْن إلى الفم
وقد حاكت الأفكار عند اصطدامها / تلألؤ برق العارض المُتَهّزِم
ولاحت تباشير الحقائق فانجلت / بها عن بني الدنيا شكوك التوهُم
وما ترك الإسلام للمرء ميزة / على مثله ممَّن لآدم ينَتمي
فليس لمُثْرٍ نقصُه حقَ مُعدِم / ولا عربيٍ بخسه فضل أعجم
ولا فخرَ للإنسان إلاّ بسعيه / ولا فضلَ إلا بالتُقى والتكرُّم
وليس التقى في الدين مقصورةً على / صلاة مُصلَّ أو على صوم صُيَّم
ولكنها ترك القبيح وفعل ما / يؤدي من الحُسنى إلى نيل مَغْنَم
فتَقوى الفتى مَسعاه في طلب العلا / وما خُصَّت التقوى بترك المحرّم
فهل مثل هذا الأمر يا لأولي النُهى / يكون عثاراً في طريق التقدّم
وإن لم يكن هذا إلى المجد سُلَّماً / فأيّ ارتقاءٍ بعدُ أم أيّ سلّم
ألا قل لمن جاروا علينا بحكمهم / رُوَيداً فقد قارفتم كل مأثمَ
فلا تنكروا شمس الحقيقة أنها / لأظهَرُ من هذا الحديث المُرَجَّم
عَلَوْنا وكنتم سافلين فلم نكن / لنُبدي إليكم جَفوة المتهكِّم
ولم نترك الحُسنى أوان جدالكم / وتلك لعمري شِيمة المتحلِّم
فلما استدار الدهرُ بالأمر نحوكم / كشفتم لنا عن منظر متجَهِّم
فلا تأمنوا الأيام أن صُرُوفها / كما هي إذ أودت بعاد وجُرْهُم
همّم الرجال مَقِيُسة بزمانها
همّم الرجال مَقِيُسة بزمانها / وسعادة الأوطان في عُمرانها
وأساس عمران البلاد تَعاوُن / مُتواصل الأسباب من سُكّانها
وتعاون الأقوام ليس بحاصل / إلاّ بنَشْر العلم في أوطانها
والعلم ليس بنافع إلاّ إذا / أجرت به الأعمال خَيْل رهانها
أن التجارب للشيوخ وإنما / أمَل البلاد يكون في شُبانها
هذي لدى العرب الكرام مبادئٌ / نزلت بها الآيات في قرآنها
والعُرب أكبر أمة مشهورة / بفُتوحها وعلومها وبيانها
كم قد أقامت للعلوم مدارساً / يَعيا ذوو الإحصاء عن حسُبانها
وبَنَت بأقطار البلاد مَصانعاً / تتحيّر الأفكار في بُنيانها
فالمجد مَأثور بكل صراحة / عن قَيْسها أبداً وعن قحطانها
طُبِعت على حبّ العَلاء فسعيُها / للمكْرُمات يُعَدّ من دَيْدانها
نهضت بماضي الدهر نهضتها التي / خَضَعت لها الأفلاك في دَورانها
حَسُنت عواقب أمرها حتى لقد / بَهَرت بني الدنيا جلالة شانها
فهم الأُلى فتحوا البلاد ونشّروا / رايات مَعدَلة على قُطّانها
وهم الألى خضعت لهم أمم الورى / من تركها طُرّاً إلى أسبابها
والروم قد نزلت لهم عن مُلكها / والفُرس عمّا شيد من إيوانها
يا أمةً عاش البرية أعصُراً / في عدلها رغداً وفي إحسانها
ثم انقضت تلك العصور فجاءها / زمن به انقادت إلى عُبدانها
فَنَضَت ملابس عزَها وتثاقلت / في الذُلّ راسفةً بقَيد هوانها
رمت مسمعي ليلاً بأنّه مؤلَم
رمت مسمعي ليلاً بأنّه مؤلَم / فألقت فؤادي بين أنياب ضيغم
وباتت توالي في الظلام أنينها / وبتّ لها مُرمىً بنهشة أرقم
فيهفو بقلبي صوتها مثلما هفت / بقلب فقير القوم رنّةُ درهم
إذا بعثت لي أنّةّ عن تَوَجُّع / بعثت إليها أنّةً عن ترحُّم
تقطع في الليل الأنين كأنّها / تقطّع أحشائي بسيف مُثَلَّم
يهُزّ نياطَ القلب بالحزن صوتُها / إذا اهتزّ في جوف الظلام المخيّم
تردّده والصمت في الليل سائد / بلحن ضئيل في الدُجُنَّة مُبهَم
كأنّ نجوم الليل عند ارتجافها / تُصيخ غلى ذاك الأنين المُجَمْجَم
فما خفقان النجمِ إلاّ لأجلها / وما الشهب إلاّ أدمع النجم ترتمي
لقد تركتني مُوجَعَ القلب ساهراً / أخا مَدمَع جار ورأس مهوَم
أرى فحمة الظلماء عند أنينها / فأعجب منها كيف لم تتضرّم
فأصبحتُ ظمآن الجفون إلى الكرى / وإن كنت ريّان الحشا من تألُّمي
وأصبح قلبي وهو كالشعر لم تدع / له شعراء القوم من مُتَرَدَّم
وبيت بكت فيه الحياة نحوسةً / ولاحت بوجه العابس المُتَجَهِّم
به ألقت الأيامُ أثقالَ بؤسها / فهاجت به الأحزان فاغِرة الفم
كأنّي أرى البنيان فيه مهدَّماً / وما هو بالخاوي ولا المتهدّم
ولكنّ زلزال الخطوب هوى به / إلى قعر مهواة الشقاء المجسَّم
دخلتُ به عند الصباح على التي / سقاني بكاها في الجدى كأس علقم
فألقيتُ وجهاً خدّد الدمعُ خدَّه / ومحمرَّ جَفن بالبكار مُتَورَمَّ
وجسماً نحيفاً أنهكته همومُه / فكادت تراه العينُ بعضَ تَوَهُّم
لقد جَشَمتْ فوق الترابِ وحولها / صغرٌ لها يرنو بعينيْ مُيَتَّم
تراه وما أن جاوز الخمسَ عمرُهُ / يُدير لحاظ اليافع المتفّهِم
بكى حولها جوعاً فغذّته بالبكا / وليس البكا إلاّ تَعِلَّةَ مُعدِم
وأكبر ما يدعو القلوبَ إلى الأسى / بكاءُ يتيم جائع حول أيِّم
وقفتُ وقد شاهدت ذلك منهما / لمريم أبكى رحمةً وابن مريم
وقفت لديها والأسى في عيونها / يكلمني عنها ولم تتكلّم
وساءلتها عنها وعنه فأجهَشَتْ / بكاءً وقالت أيها الدمع ترجِم
ولما تناهتْ في البكاء تضاحكت / من اليأس ضحك الهازئ المتهكّم
ولكن دموع العين أثناء ضحكها / هواطل مهما يسجم الضحك تسجم
فقد جمعتْ ثغراً من الضحك مُفعَماً / إلى مَحْجِر باك من الدمع مفعم
فتُذرىِ دموعاً كالجمان تناثرت / وتضحك عن مثل الجمان المنظَّم
فلم أرَ عيناً قبلها سال دمعها / بكاءً وفيها نظرة المتبسّم
فقلت وفي قلبي من الوجد رعشةٌ / أمجنونة يا ربّ فارحم وسلّم
ومذ عرضت للإبن منها الْتِفاتةٌ / أشارت إليه بامدامع أن قْم
فقام إليها خائر الجسم فانثنت / عليه فضمّته بكفّ ومِعصم
وظلّت له ترنو بعينِ تجوده / بفَذّ من الدمع الغزير وتَوْءَم
فقال لها لما رآنيَ واقفاً / اردِّد فيه نظرةٍ المتوسِّم
سلى ذا الفتى يا أم أين مضى أبي / وهل هو يأتينا مساءً بمَطْعَم
فقالت له والعين تجري غروبها / وأنفاسها يَقذِفنَ شعلة مُضرَم
أبوك ترامت فيه سفرة راحل / إلى الموت لا يرجى له يومُ مَقْدَم
مشى أرمنيّاً في المعاهد فارتمتْ / به في مهاوى الموت ضربةُ مسلم
على حينَ ثارت للنوائب ثورةٌ / أتت عن حزازات إلى الدين تنتمي
فقامت بها بين الديار مذابح / تخوَّض منها الأرمنيّون بالدم
ولولاك لاخترت الحِمام تخلّصاً / بنفسيَ من أتعاب عيش مذمَّم
فأنت الذي أخّرت أمك مريماً / عن الموت أن يودي بامك مريم
أمريم مهلاً بعضَ ما تذكرينه / فإنك ترمين الفؤاد بأسهم
أمريم أن اللّه لا شك ناقمٌ / من القوم في قتل النفوس المحرَّم
أمريم فيما تحكمين تبصَّري / فإن أنت أدركتِ الحقيقة فاحكمي
فليس بدين كلُّ ما يفعلونه / ولكنّه جهل وسوء تفهُّم
لئن ملؤوا الأرض الفضاء جرائماً / فهم أجرموا والدين ليس بمجرم
ولكنهم في جِنح ليل من العمى / تمشّوا بمطموس العلائم مبهَم
وقد سلكوا تَيْهاء من أمر دينهم / فكم مُنجِدٍ في المخزيات ومُتْهِم
ولما رأيت اللَوم لؤماً تجاهها / سكتُّ فلم أنبِسْ ولم أتبرَّم
وأطرقتُ نحو الأرض أطلب عفوها / وما أنا بالجاني ولا بالمتيَّم
وظلتُ لها أبكي بعين قريحة / جرت من أماقيها عصارةُ عندم
بكيت وما أدري أأبكي تضَجُّراً / من القوم أم أبكي لشِقوة مريم
سكنّا ولم يسكن حَراكُ التبدّد
سكنّا ولم يسكن حَراكُ التبدّد / مواطنَ فيها اليوم أيمن من غد
عفا رسم مَغنَى العز منها كما عفت / لخولة أطلال ببرقة ثهمد
بلاد أناخ الذُلُّ فيها بكلكل / على كل مفتول السِبالَيْن أصيد
معاهد عنها ضلٌ سابق عزّها / فهل هو من بعد الضلالة مهتد
أحاطت بها الأرزاء من كل جانب / إلى أن محتها معهداً بعد معهد
وخَلَّق في آفاقها الجور بازياً / مُطِلاًّ عليها صائتاً بالتَهَدُّد
ويَنقضُّ أحياناً عليها فتارةً / يروح وفي بعض الأحايين يغتدى
فيخطَف أشلاءً من القوم حيَّةً / ولم يُقِدِ المقتول منها ولم يَدِ
ويرمي بها في قعر أظلم موحشٍ / به أين تسقطْ جذوة الروح تَخمَد
هو السجن ما أدراك ما السجن أنه / جلاد البلايا في مضيق التَجَلُّد
بناء محيط بالتعاسة والشقا / لظلم برئٍ أو عقوبة مُعتد
زُر السجن في بغداد زورة راحم
زُر السجن في بغداد زورة راحم / لتَشهَد للأنكاد أفجع مشهد
محلّ به تهفو القلوب من الأسى / فإن زرتَه فاربط على القلب باليد
مربَّع سور قد أحاط بمثله / محيط بأعلى منه شِيدَ بقرمد
وقد وصلوا ما بين ثان وثالث / بمعقود سقف بالصخور مُشيَّد
وفي ثالث الأسوار تشجيك ساحةٌ / تمور بتيّار من الخسف مُزبِد
ومن وسط السور الشَماليّ تنتهي / إليها بمسدود الرتاجين مُوصَد
هي الساحة النكراء فيها تلاعبَتْ / مخاريق ضيم تخلِط الجِدّ بالدَد
ثلاثون متراً في جدار يحيطها / بسمكٍ زهاءِ العشر في الجو مُصعِد
تواصلت الأحزان في جنباتها / بحيث متى يبَلَ الأسى يَتَجدَّد
تَصَعَّدَ من جوف المراحيض فوقها / بخار إذا تَمرُرْ به الريح تَفْسُد
هناك يودّ المرء لوقاءَ نفسَه / وأطلقها من أسر عيشٍ مُنكَّد
فقف وسطها وانظر حوالَيْك دائراً / إلى حُجَر قامت على كل مُقْعَد
مقابر بالأحياء غصَّتْ لُحُودُها / بخمس مئين أنفس أو بأزيد
وقد عَمِيَتْ منها النوافذ والكُوى / فلم تكتحل من ضوء شمس بمروَد
تظنّ إذا صدرَ النهار دخلتَها / كأنّك في قِطع من الليل أسود
فلو كان للعُبّاد فيها إقامةٌ / لصلَّوا بها ظهراً صلاة التَهَجُّد
يزور هبوبُ الريح إلاّ فناءها / فلم تَحْظَ من وصل النسيم بمَوْعد
تَضيق بها الأنفاس حتى كأنما / على كل حيزوم صفائح جَلْمَد
وحتى كأن القوم شُدَّتْ رقابهم / بحبل خِناق مُحكَم الفتل مُحصَد
بها كل مخطوم الخشام مذلّلٍ / متى قِيد مجروراً إلى الضيم ينقد
يَبيت بها والهمّ ملءُ إهابه / بليلةِ مَنْبُول الحشا غير مُقصَد
يُميت بمكذوب العزاء نهاره / ويحيي الليالي غيرَ نوم مُشَرَّد
يَنُوءُ بأعباء الهوان مقيَّداً / ويكفيه أن لو كان غير مقيّد
وتَقْذِفهم تلك القبور بضغطها / عليهم لحرّ الساحة المتوقِّد
فيرفع بعض من حصير ظلالةً / ويجلس فيها جلسة المتعبّد
وليس تقيه الحرّ إلا تَعِلّةً / لنفس خلت من صبرها المتبدّد
وبالثوب بعض يستظِلُّ وبعضهم / بنسج لعاب الشمس في القَيْظ يرتدي
فمن كان منهم بالحصير مُظَّللاً / يعدّونه ربّ الطِراف الممدّد
تراهم نهار الصيف سُفْعاً كأنهم / أثافيّ أصلاها الطُهاة بمَوْقِد
وجوه عليها للشُحوب ملامح / تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقد عمّهم قَيد التعاسة مُوثَقاً / فلم يتميّز مُطلَق عن مقيّد
فسيّدهم في عيشه مثل خادم / وخادمهم في ذُلّةِ مثل سيّد
يخوضون في مستنقع من روائح / خبائثَ مهما يَزْدَدِ الحرُّ تَزْدَد
تدور رؤس القوم من شمّ نَتْنها / فمَن يك منهم عادم الشمّ يُحسَد
تراهم سكارى في العذاب وما هم / سكارى ولكن من عذاب مُشدَّد
وتحسبَهم دوداً يعيش بحمأة / وما هو من دود بها متولِّد
ألا رب حرّ شاهد الحكم جائراً / يقود بنا قَوْد الذَلول المعبَّد
فقال ولم يَجهَر ونحن بمنتدىً / به غير مأمون الوشاية ينتدى
على أي حكم أن لأية حكمة / ببغداد ضاع الحقُّ من غير منشد
فأدنيت للنجوى فمي نحو سمعه / وقلت لأن العدل لم يتبغدد
رعى الله حيّاً مستباحاً كأنه / من الذُعر أسراب النَعام المطرَّد
وما صاحب البيت الحقير بناؤها / بأفزع من ربّ البّلاط الممرَّد
وما ذاك إلاّ أنهم قد تخاذلوا / ولم ينهضوا للخصم نهضة مُلِبد
فناموا عن الجُلَّى ونمتُ كنومهم / سوى نَوْحةٍ مني بشعر مغرِّد
وهل أنا إلا من أولئك أن مشوا / مشيت وأن يَقعُد أولئك أقعد
وكمُ رمتُ أيقاظاً فأعيا هُبُوبُهم / وكيف وعزم القوم شارب مُرقِد
نهوضاً نهوضاً أيها القوم للعلا / لتبنوا لكم بنيان مجدٍ مُوَطَّد
تقدمنا قوم فأبْعَدَ شوطُهم / وقد كان عنا شوطهم غيرَ مُبْعِد
وسدّ علينا الاعتشافُ طريقَنا / فأجحف بالغَوْريّ والمتنجِّد
أفي كل يوم يزحف الدهر نحونا / بجندٍ من الخطب الجليل مجنَّد
فيا ربّ نَفِّس من كروب عظيمة / ويا ربّ خفّف من عذاب مشدَّد
أطلّ صباح العيد في الشرق يسمع
أطلّ صباح العيد في الشرق يسمع / ضجيجاً به الأفراح تَمضي وتَرجع
صباح به تبدي المَسرةُ شمسَها / وليس لها إلا التوهمَ مطلع
صباح به يختال بالوَشْي ذو الغنى / ويُعوِز ذا الإعدام طِمْرٌ مرقّع
صباح به يكسو الغنيّ وليده / ثياباً لها يبكي اليتيم المضيَّع
صباح به تغدو الحلائل بالحلى / وتَرفَضّ من عين الأرامل أدمع
ألا ليت يوم العيد لا كان أنه / يجدّد للمحزون حزناً فيَجزَع
يرينا سروراً بين حزن وإنما / به الحزن جدّ والسرور تَصَنُّع
فمن بؤساء الناس في يوم عيدهم / نحوسٌ بها وجه المسرّة أسفع
قد ابيضَ وجه العيد لكنّ بؤسهم / رمى نُكَتاً سوداً به فهو أبقع
خرجت بعيد النحر صبحاً فلاح لي / مسارح للأضداد فيهنّ مرتع
خرجت وقرص الشمس قد ذَرّ شارقاً / ترى النور سيّالاً به يتدفّع
هي الشمس خَوْ قد أطلّت مُصيخة / على الأرض من افق العلا تتطلّع
كأن تفاريق الأشعة حولها / على الأفق مُرخاةً ذوائبُ أربع
ولما بدت حمراء أيقنت أنها / بها خجل مما تراه وتسمع
فرُحت وراحت ترسل النور ساطعاً / وسرت وسارت في العلا تترفّع
بحيث تسير الناس كلٌ لِوِجهةٍ / فهذا على رِسل وذلك مُسرع
وبعض له أنف أشمُّ من الغنى / وبعض له أنف من الفقر أجدع
وفي الحيّ مزمار لمُشجي نَعِيره / غدا الطبل في درادابه يتقعقع
فجئت وجوفَ الطبل يرغو وحوله / شباب وولدان عليه تجمعوا
لقد وقفوا والطبل يهتزّ صوته / فتهتزّ بالأبدان سوق وأكرُع
ترى مَيْعة الأطراب والطبل هادر / تفيض وفي أعصابهم تتميَّع
فقد كانت الأفراح تفتح بابها / لمن كان حول الطبل والطبل يقرع
وقفت أجيل الطرف فيهم فراغي / هناك صبيّ بينهم مترعرع
صبيّ صبيح الوجه أسمر شاحب / نحيف المباني أدعج العين أنزع
يَزيِن حجاجَيْه اتساع جبينه / وفي عينه برق الفَطانة يلمع
عليه دريس يَعضِر اليُتم رُدْنه / فيقطرُ فقر من حواشيه مُدقع
يُليح بوجه للكآبة فوقه / غُبار به هبّت من اليتم زَعزَع
على كثر قرع الطبل تلقاه واجماً / كأن لم يكن للطبل ثَمةَ مَقرع
كأن هدير الطبل يقرع سمعه / فلم يُلْفِ رجعاً للجواب فيرجع
يردّ ابتسام الواقفين بحسرة / تكاد لها أحشاؤه تتقطع
ويرسل من عينيه نظرة مُجهِشٍ / وما هو بالباكي ولا العين تدمع
له رجفة تنتابه وهو واقف / على جانب والجوّ بالبرد يلسع
يرى حوله الكاسين من حيث لم يجد / على البَرد من بُرد به يتلفّع
فكان ابتسام القوة كالثلج قارساً / لدى حسرات منه الكجمر تَلذَع
فلما شجاني حاله وأفزّني / وقفت وكلّي مَجْزَع وتَوَجُّع
ورحت أعاطيه الحَنان بنظرة / كما راح يرنو العابد المتخشِّع
وأفتح طرفي مُشبَعاً بتعطُّف / فيرتد طرفي وهو بالحزن مشبع
هناك على مهل تقدمت نحوه / وقلت بلطف قول من يتضرّع
أيا ابن أخي من أنت ما اسمك ما الذي / عراك فلم تفرح فهل أنت مُوجع
فهبّ أمامي من رُقاد وُجومه / كما هبّ مزعوبَ والجَنَان المهجِّع
وأعرض عنّي بعد نظرة يائس / رواح ولم ينبِس إلى حيث يهْرَع
فعقّبته مستطلعاً طِلْع أمره / على البُعد أقفو الأثر منه وأتبع
وبيناه ماش حيث قد رُحت خلفه / أدِبّ دبيب الشيخ طوراً وأسرع
لمحت على بُعد اشارة صاحب / ينادي أن ارْجع وهو بالثوب مُلمِع
فأومأت أن ذكرته موعداً لنا / وقلت له اذهب وانتظر فسأرجِع
وعُدت فأبصرت الصبيَّ مُعرِّجاً / ليدخل داراً بابها مُتَضعضِع
فلما أتيت الدار بعد دخوله / وقمت حِيالَ الباب والباب مُرجَع
دنَوت إلى باب الدُوَيرة مطرقاً / وأصغيت لا عن ريبة أتسمّع
سمعت بكاءً ذا نشيج مُردَّد / تكاد له صُمّ الصفا تتصدّع
فحِرت وعيني ترمق الباب خلسةً / وللنفس في كشف الحقيقة مَطمَع
أأرجِع أدراجي ولم أك عارفاً / جَليّة هذا الأمر أم كيف أصنع
فمرّت عجوز في الطريق وخلفَها / فتاةٌ يُغشّيها ازارٌ وبُرقُع
تعرّضتها مستوقفاً وسألتها / عن الأسم قالت إنني أنا بَوْزَع
فأدنيتها مني وقلت لها اسمعي / حنانَيْك ما هذا الحنين المُرجَّع
فقالت وأنّتْ أنّهً عن تَنَهُّد / وفي الوجه منها للتعجُّب مَوْضع
أيا ابنيَ ما يَعْنيك من نَوح أيِّم / لها من رزايا الدهر قلب مُفجَّع
فقلت لها إني امرؤ لا يَهُمّني / سوى من له قلب كقلبي مُروَّع
وإنّي وإن جارت عليّ مواطني / فؤادي على قُطّانهنّ مُوَزّع
أبوزع مُنّي عمركِ الله بالذي / سألتُ فقد كادت حشاي تَمَزَّع
فقالت أعن هذي التي طال نحبُها / سألتَ فعندي شرح ما تتوقّع
ألا أنها سلمى تعيسةُ معشرٍ / من الصِيد أقوت دراهم فهي بَلقَع
وصارعهم بالموت حتى أبادهم / من الدهر عَجّارٌ شديد مُصرِّع
قلم يبق إلا زوجها وشقيقها / خليل وأما الآخرون فودَّعوا
ولم يَلبَث المقدور أن غال زوجها / سعيداً فأودى وهي إذ ذاك مُرضِع
فربّى ابنها سعداً وقام بأمره / أخوها إلى أن كاد يقَوى ويَضْلع
فأذهب عنه الخالَ دهرٌ غَشَمْشَمٌ / بما يُوجِع الأيتام مُغرىً ومُولَع
جَرَت هَنَةٌ منها على خاله انطوى / بقلب رئيس الشرطة الحقدُ أجمع
فزجّ به في السجن بعد تَجَرُّم / عليه بجُرم ما له فيه مَصنَع
عزاه إلى إيقاعه مُوقعاً به / وما هو يا ابن القوم للجرم موقع
ولكنّ غدر الحاقدين رمى به / إلى السجن فهو اليوم في السجن مُودَع
فحُقّ لسلمى أن تنوح فإنها / من العيش سمّاً ناقعاً تتجرَّع
فلا غرو من أم اليتيم إذا غدت / ضحى العيد يُبْكيها اليتيم المُضيَّع
فعُدت وقلبي جازع متوجّع / وقلت وعيني ثَرّة الدمع تَهمَع
ألا ليت يوم العيد لا كان أنه / يجدّد للمحزون حزناً فيَجزِع
وجئت إلى ميعادنا عند صاحبي / وقد ضمّه والصحبَ نادٍ ومَجمَع
فأطلعتهم طِلع اليتيم فأفّفوا / وخبّرتهم حال السجين فرَجَّعوا
فقلت دعوا التأفيف فالعار لاصق / بكم واتركوا الترجيع فالأمر أفظع
ألسنا الأُلى كانت قديماً بلادنا / بأرجائها نور العدالة يسطع
فما بالنا نستقبل الضيم بالرضا / ونعنو لحكم الجائرين ونَخْضَع
شربنا حميم الذُلِّ ملُّ بُطوننا / ولا نحن نشكوه ولا نحن نَيْجَع
فلو أن عَيْر الحيّ يشرب مثلنا / هواناً لأمسى قالساً يتعوَّع
نهوضاً إلى الغرّ الصُراح بعزمة / تخِرّ لمرماها الطُغاة وتركع
ألا فاكتُبوا صكّ النهوض إلى العلا / فإنّي على موتي به لمُوَقِّع
أيّ مُضنَى يَمُدّها بالكتئاب
أيّ مُضنَى يَمُدّها بالكتئاب / أنّةً تترك الحشا في التهاب
يتشكّى والليلَ وحْف الاهاب / ضمن بيت جثا على الأعقاب
صفقته فمال كفّ الخراب /
تسمع الأُذن منه صوتاً حزيناً / راجفاً في حشا الظلام كمينا
يملأ الليل بالدعاء أنينا / ربّ كن لي على الحياة معينا
ربّ أن الحياة أصل عذابي /
وجع في مفاصلي دقّ عظمي / ودهاني ولم يَرِقّ لعُدمي
عاقني عن تكسُّبي قوت يومي / ربّ فارحم فقري بصحة جسمي
أن فقري أشدّ من أوصابي /
يا طبيباً وأين مني الطبيب / حال دون الطبيب فقر عصيب
لا أصاب الفقيرَ داءٌ مصيب / أن سُقم الفقير شئ عجيب
بطلت فيه حكمة الأسباب /
رجل معُسِر يسمى بشيرا / كان يسعى طول النهار أجيرا
كاسباً قُوته زهيداً يسيرا / مالكاً في المَعاش قلباً شكورا
راجياً في المَعاد حسُن المآب /
عال أختاً حَكَته خُلْقاً نزيها / عانساً جاوز الزواج سِنِيها
لزِمت بيت أمها وأبيها / مع أخيها تعيش عند أخيها
مثله في طعامه والشراب /
كلَّ يوم له ذهاب ومَأتَي / في معاش من كدّه يتأتّى
هكذا دأبه مَصيفاً ومَشتَى / فاعتراه داء المفاصل حتى
عاقه عن تعيّش واكتساب /
بينما كان في قواه صحيحا / ساعياً في ارتزاقه مستميحا
إذ عراه الضَنَى فعاد طَليحا / ورمته يد السقام طريحا
جسمه من سقامه في اضطراب /
بات يبكي إذا له الليل آوى / بعُيون من السهاد نَشاوى
فترى وهو بالبكا يتداوى / قطراتٍ من عينه تتهاوى
كشهاب يَنقضّ أثر شهاب /
أن سُقما به وعدماً ألمّا / تركاه يذوب يوماً فيوما
فهو حيناً يشكو إلى السقم عُدما / وهو يشكو حيناً إلى العدم سقما
باكياً من كليهما بانتحاب /
ظلّ يشكو للأخت ضَعفا وعَجزا / إذ تُعزّيه وهو لا يتعزّى
أيها الأخت عزّ صبريَ عزّا / أنّ للداء في المفاصل وخزا
مثل طعن القنا ووخز الحراب /
قد تمادى به السقام وطالا / وتراءى له الشفاء مُحالا
إذ قُلاباً به السقام استحالا / كان هَيْناً فصار داءً عُضالا
ناشباً في الفؤاد كالنُشّاب /
ظلّ مُلقىً وأعوزته المطاعم / مُوثَقاً من سقامه بالأداهم
مُنفِقاً عند ذاك بعض دراهم / رَبِحَتها من غزلها الأخت فاطم
قبل أن يُبتَلى بهذا المُصاب /
قال والأخت أخبرته بأن قد / كَرَبت عندها الدراهم تَنْفَد
أخبري السقم علّه يتبعّد / أيها السقم خلِّ عيشي المُنَكّد
لا تعُقني في عيشتي عن طلابي /
مرّضيني شقيقتيِ مرّضيني / وعلى الكسب في غد حَرِّضيني
وإذا مَسَّك الطَوىَ فارفُضيني / أو على الناس للمبيع اعرِضيني
علّهم يشترونني مما بي /
رام خبزاً والجوع أذكى الاُوارا / في حشاه فعلَّلَته انتظارا
ثم جاءت بالماء تُبدي اعتذارا / وهل الماء وهو يُطفئ نارا
يطفئ الجوع ذاكياً في التْهاب /
خرجت فاطم إلى جارتَيْها / ويه تُذري الدموع من مُقلتيها
فأبانت برِقّة حالتيها / من سقام ومن سُعاد لديها
وشَكَت بعدَ ذا خُلُوّ الوِطاب /
فانثنَت وهي بين ذُلّ وعزّ / تحمل التمر في يدٍ فوق خبز
وبأخرى سَمناً وبعض أرُزّ / منحوها به وذو العرش يَجزى
مَن أعان الفقير حسن الثواب /
ليلةٌ تَنْشُر العواصفُ ذُعرا / في دجاها حيث السحاب اكْفَهَرّا
ذا هَزِيم يَمُجّ في الأذن وقرا / حين تُبدي صوالجَ البرق تترى
كهربائيةٌ سَرَت في السحاب /
مدّ فيها ذاك المريض الأكُفّا / في فراش به على الموت أوفى
طرفه كالسُها يَبين ويَخْفَى / حيث يُغضي طرفاً ويفتح طرفا
عاجزاً عن تكلُّم وخطاب /
فدَعَتْه والعين تُذري الدموعا / اخته وهي قلبها قد ريعا
يا أخي أنت ساكت أفجوعا / ساكت أنت يا أخي أم هُجَوعا
فاشْفِني يا أخي برَجْع الجواب /
فرأت منه أنه لا يُجيب / فتدانت والدمع منها صَبيب
ثم أصغت وفي الفؤاد وَجيب / ثم هابت والموت شىءٌ مَهيب
ثم قامت بخشيةٍ وارتياب /
خرجت فاطم من البيت ليلا / حيثِ أرخَى الظلام سدلا فسدلا
وهي تبكي والغَيث يهطل هطلا / مثلَ دمع من مقلتَيْها استَهَلا
أو كماءٍ جرى من الميزاب /
ربّ أدرك باللطف منك شقيقي / وامنع الغيث ربّ عن تعويقي
ومُرِ البرق أن يُضيء طريقي / بريقٍ يُبديه أثر بريق
فعسى أهتدي به في ذهابي /
قَرعت في الظلام باب الجار / وهي تبكي الأسى بدمع جار
ثم تادت برقّة وانْكسار / أم سلمى ألا بحق الجِوار
فافتحي أنني أنا في الباب /
فأتتها سُعدى وقد عرَفتها / وعن الخَطْب في الدجى سألتها
ثم سارت من بعدما أعلمتها / تقتفيها وبنتها تَبِعَتها
فتخطَّيْن في الدجى بانسياب /
جِئن والسحب أقْلَعت عن حَياها / وكذلك الرعود قلّ رُغاها
حيث يأتي شِبه الأنين صداها / غير أن البروق كان ضياها
مومِضاً في السماء بين الرَباب /
فدخَلْن المحلّ وهو مُخيف / حيث انّ السكوت فيه كثيف
وضياء السراح نَزْرٌ ضعيف / وبه في الفراش شخص نَحيف
دبّ منه الحِمام في الأعصاب /
قالت الأخت أم سلمى انْظُريه / ثُكلت روح أمه وأبيه
فرأت منه إذ دنت نحو فيه / نَفَساً مبُطيء التردُّد فيه
ثم قد غالَه الرَدى باقتضاب /
وجَمَت حَيْرةً وبعد قليل / رمَقَت فاطماً بطرف كَلِيل
فيه حَمْل على العزاء الجميل / فعَلا صوت فاطم بالعويل
وبكت طول ليلها بانتِحاب /
فاستمرّت حتى الصباح تُوالي / زفارت بنارها القلب صال
فأتاها ودمعها في انْهمال / بعض جاراتها وبعض رجال
من صعاليك أهل ذاك الجَناب /
وقفوا موقفاً به الفقر ألْقى / منه ثِقْلاً به المعيشة تَشقى
فرأوا دمع فاطم ليس يرقا / وأخوها مَيْت على الأرض مُلقى
مُدرَجٌ في رثائث الثواب /
فغدت فاطم ترن رنينا / ببكاءٍ أبكت به الواقفينا
ثم قالت لهم مَقالاً حزينا / أيها الواقفون هل ترحمونا
من مُصاب دها وأيّ مصاب /
أيها الواقفون لا تُهملوه / دونكم أدمُعي بها فاغْسِلوه
ثم الثوب ضافياً كفِّنوه / وادفُنوه لكن بقلبي ادفنوه
لا تُواروا جبينه بالتراب /
بعد أن ظلّ لافتِقاد المال / وهْو مُلقىً إلى أوان الزوال
جاد شخص عليه بعد سؤال / بريال وزاد نصف ريال
رجل حاضر من الأنجاب /
كفَّنوه من بعد ما تمّ غسلا / وتمشَّوا به إلى القبر حَملا
فترى نعشه غداة استقلا / نعش من كان في الحياة مُقِلا
دون ستر مكسّرَ الأجناب /
ناحت الأخت حين سار وصاحت / اختك اليوم لو قَضَت لاستراحت
ثم سارت مدهوشة ثم طاحت / ثم قامت ترنو له ثم راحت
تسكبُ الدمع أيَّما تَسكاب /
أيها الحاملوه لا مشيَ رَكض / أن هذا يوم الفراق المُمِضّ
فاسألوه عن قصد أين يَمضي / أنه قد قضى ولم يكُ يَقضي
واجبات الصبا وشرخ الشباب /
أن قلبي على كريم السجايا / طاح والله من أساه شظايا
قاتل الله يا ابن أمّي المنايا / أنا من قبلُ مذ حسبت الرزايا
لم يكنُ رزء موتكم في حسابي /
أن ليلي ولست من راقديه / كلما جاءني وذكّرنيه
قلت والدمع قائل لي أيه / يا فقيداً اعاتب الموت فيه
ببُكائي وهل يُفيد عتابي /
رُحت يوماً وقد مضت سنتان / أتمشى بشارع الميدان
مَشيَ حيران خَطوُه مُتدان / أثقَلَته الحياة بالأحزان
وسقَتْه كأساً كطعم الصاب /
بينما كنت هكذا أتمشّى / عَرَضَتْ نظرة فأبصرت نعشا
بادياً للعيون غير مُغَشّى / نقش الفقر فيه للحزن نَقْشا
فبدا لوح أبْؤسٍ واكتئاب /
قلت سرّاً والنعش يقرُب منّي / أيّها النعش أنت أنعشتَ حزني
للأسَى فيك حالة ناسبتني / أن بدا اليوم فيك حزن فإني
أنا للحزن دائماً ذو انْتساب /
رحت أسعَى وراء مذ تعدّى / مسرعاً في خطايَ لم آل جهدا
مع رجال كأنجم النعش عدا / هم به ائرون سيراً مُجدّاً
فتراه يمرّ مرّ السحاب /
مذ لحدنا ذاك الدفين وعُدنا / قلت والدمع بلَّ منّي ردنا
أن هذا هو الذي قدُ وعِدنا / فأبينوا من الذي قد لحَدْنا
فتصّدَى منهم فتىً لجوابي /
قال أن الدفين أخت بشير / أخت ذاك المسكين ذاك الفقير
بَقِيَت بعده بعيش عسير / وبطرف باك وقلب كسير
وقضت مثله بداء القُلاب /
قلت أقصر عن الكلام فحَسْبي / منك هذا فقد تزلزل قلبي
ثم ناجيت والضراعة ثوبي / ربّ رُحماك ربّ رحماك ربي
ربّ رشداً إلى طريق الصواب /
ربّ إن العباد أضعف أن لا / يجدوا منك ربّ عفواً وفضلاً
فاعفُ عن أخذهم وأن كان عَدْلاً / أنت يا ربّ أنت بالعفو أولى
منك بالأخذ والجزا والعقاب /
قد وردنا والأرض للعيش حَوْض / واحد كلنا لنا فيه خَوض
فلماذا به مَشُوب ومَحْض / عَظُمت حكمة الاله فبَعْض
في نعيموبعضنا في عذاب /
أيها الأغنياء كم قد ظَلَمْتم / نِعَم الله حيث ما إن رحِمْتم
سهِر البائسون جوعاً ونِمتم / بهناءٍ من بعد ما قد طَعِمْتم
من طعام مُنَّوع وشراب /
كم بذلتم أموالكم في الملاهي / وركبتم بها مُتون السَفاه
وبخِلتم منها بحق الله / أيها المُوسِرون بعض انتباه
أفتدرون أنكم في تَباب /