المجموع : 24
عرشٌ ينوح أسى على سلطانهِ
عرشٌ ينوح أسى على سلطانهِ / قد غاب كسرى الشعر عن إيوانِهِ
طوت المنون من الفصاحة دولةً / ما شادها هارون في بغدانه
في ذمة الفن المقدسّ عازف / لقي الحِمام على صدى ألحانه
لمّا تهامست الصفوف بنعيه / كاد الفؤد يكفّ عن خفقانه
ساءلت حين قضى عليٌّ فجأة / هل حلّ يومُ الحشرِ قبل أوانه
سقد المؤبّنُ وهو يسمع شعره / من ذا يؤبّنه بمثل بيانه
وصف الزمان لنا وجاد بنفسه / لتكون برهاناً على حدثانه
قال احذروا غدر الحمام معزّزاً / بحياته ما قاله بلسانه
لا تعجبوا من موْته في حفله / إنّ الشجاع يموت في ميْدانه
بطلُ المنابر ما له من فوْقها / يهوي وكمْ عرفت ثبات جنانه
إن خانه ضعف المشيب فطالما / قهر المنابر وهو في ريعانه
كلاّ لعمري لم يخنه مشيبه / لكنّ حمّى المرء من خوّانه
لم يجنها إلا رقيقُ شعوره / والمرهفُ الحساس من وجدانه
حرٌّ قضى متأثراً ببيانه / ولكم جنى فنٌّ على فنّانه
يا شاعراً طار اسمه بقوادم / من عبقريته ومن اتقانهِ
ما دان يوماً للصغار بصيته / أو دان للزُّلفى برفعة شانه
والمجد منه زائفٌ وممحصٌ / لا تخلطوا بلوره بجمانه
ما كل لمّاع ببرقٍ ممطرٍ / البرق غير الال في لمعانه
عرشُ القوافي بعد موتك شاغرٌ / يا طول ما يلقاه من أشجانه
قل للذي يومي إليه بلحظه / هذا مجال لست من فرسانه
لا هُمّ حكمك في الورى جارٍ وما / من حيلةٍ للعبد في جريانه
الطير ملء الروض أشكالاً فما / للسهم لا يُصمي سوى كروانه
يمضي العظيمُ من الرجال فينبري / لمكنه خلفاء من أقرانه
والشاعرُ الموهوب فلتة دهره / إن مات أعيا الدهر سدّ مكانه
قل للرياض قضى عليٌّ نحبه / ولطيرها الشادي على أفنانهِ
الشاعرُ الغرد المحلّق في السها / بجناحه قد كفّ عن طيرانه
بكت اللآلىءُ بعده لالها / وتساءل الياقوت عن دهقانه
وتساءل التاريخ عمن شعره / كان السجل لحادثات زمانه
بكت الكنانةُ في عليٍّ شاعراً / جعل اسمها كالنجم في دورانه
عفُّ اللسان مؤدبُ الأوزان لم / يتلق وحي الشعر عن شيطانه
بل كان نفح الخلد أمتعنا به / حيناً وعاد به إلى رضوانه
للنيل شاد بشعره ما لم يشدْ / فرعونُ والهرمان من بنيانه
من كلِّ بيتٍ في السُّها شرفاته / تتلألأ الأضواءُ في أركانه
يعيي الفراعنةَ الشدادَ أساسهُ / ويحار ذو القرنين في جدرانه
شعرٌ إذا غُني به لم يبْق من / لم يروْه كالبرق في سريانه
غنى الطروبُ به على قيثاره / وترنمّ المحزون في أحزانه
بهر العذارى حسنَه فوددْن لو / صيغت قلائدهنّ من عقيانه
ويكاد سامعه يفسّر لفظه / من قبل أن يسري إلى آذانهِ
تغري سلاستهُ الغريرَ فيقتفي / آثاره سيراً على قضبانه
حتى إذا هدَّ المسيرُ كيانَه / حصب الورى بالصلد من صّوانه
يا رُب ديوانِ تأنّق ربه / في طبعه وافتن في عنوانه
لا يسمع اليقظان وقع قريضه / حتى يدبَّ النومُ في أجفانه
والشعرُ إما خالدٌ أو مدرجٌ / من ليلة الميلاد في أكفانه
قالوا عليٌّ شاعرٌ فأجبت بل / ساقٍ عصير الرم ملء دنانه
قمْ سائل الفقهاء هل في شرعهم / حرجٌ على ثملٍ بخمرة حانه
كم خطّ من صوّر الحياة مدادهُ / ما لم يخطّ مصوّر بدهانه
ببراعةٍ لو أدركت موسى رأى / من سحرها ما غاب عن ثعبانه
أين القصائد كالخرائد كلّها / بكرٌ وبكر الشعر غير عوانه
أحيا لنا ابن ربيعة تشبيبها / وأعاد للأذهان عهدَ حسانه
شيخٌ يحس الشيخ عند نسيبه / بدم الشباب يسيل في شريانه
وإذا تحمّس قلت حيدرة انبرى / تحت العجاجة فوق ظهر حصانه
وإذا تبدّى قلت لابس بردةٍ / قد جاء من وادي العقيق وبانه
وإذا تحضّر قلت نسمةُ روضة / من فرط رقّته وفرط حنانه
يا طالما حمل الأثيرُ نشيدَهُ / وكأنّما هو عازفٌ بكمانه
بغدادُ مصغيةٌ إلى أنغامه / ودمشقُ راقصةٌ على عيدانه
وكأنّما الحرمان عند هتافه / سمعا بلالاً هاتفاً بأذانه
يُثني على الفاروق تحسبه فتى / ذبيان قد أثنى على نعمانه
والملكُ يظهر بالثناء جلاله / والشعر مثل الدرّ في تيجانه
والشعر مرآة النفوس يذيع ما / طويت قرارتها على كتمانه
من أحرفٍ سوداء إلا أنه / نقشٌ يُريك الطيفَ في ألوانه
والشاعرُ الموهوب تقرأ شعره / فترى جمالَ اللّه في أكوانهِ
يا ويح قومي كم أشاهد بينهم / من شاعرٍ هو شاعرٌ بهوانه
يا راثي الموتى ومُخلد ذكرهم / بالخالد السيّار من أوزانه
أرثيك حفظاً للجميل وإنّه / دينٌ أعيذ النفس من نُكرانه
ماذا يؤمّل شاعرٌ من راحلٍ / أتره يطمع منه في إحسانه
وأنا الذي ما سمت شعري ذلةً / أو بعته بالبخس من أثمانه
يا رب بيت قد ضننت ببذله / ضناً على من ليس من سُكّانه
أقسمت ما جاوزت فيك عقيدتي / قسم الأمين البر في إيمانه
دارُ العلوم بنتك حصناً شامخاً / للضاد تلقى الأمن في أحضانه
رزئت لعمري فيك رزء الدوح في / كروانه والفلك في ربّانه
دارٌ قد انتظمت أياديها الحمى / أشياخه والنشىء من ولدانه
دارُ العلوم ونيلُ مصر كلاهما / بنميره يروي صدى ظمآنه
فاضا على الوادي فكان العلمُ من / فيضانها والماءُ من فيضانه
يا خادمَ الفصحى وكمْ من خادمٍ / تعتز ساداتٌ بلثم بنانه
أفنيت عمرك زائداً عن حوْضها / ذود الكريم الحرِّ عن أوطانه
أنصفتها من معشرٍ مستعجم / الغرب أصبح آخذاً بعنانه
والضاد حسب الضاد فخراً أنها / كانت لسان اللّه في فرقانه
هي سؤدد العربي يوم فخاره / وقوامُ نهضته وسرُّ كيانه
من ذاد عنها ذاد عن أحسابه / بل عن عقيدته وعن إيمانه
نم يا عليّ جوار ربك آمناً / لك عنده ما شئت من غفرانه
لك عند رب العرش أجر مجاهدٍ / فانعم برحمته وعدن جنانه
كم من شهيدٍ مات فوق فراشه / جمد الدمُ السيّال في جثمانه
إن المجاهد من أغار بفكره / لا من أغار بسيفه وسنانه
سيظل شعرك يا عليّ مردداً / ما غرّد القمري في بستانه
أقسمت ما نال البلى من شاعرٍ / يحيا حياة الخلد في ديوانه
سكت الصوت الذي دوّى زمانَا
سكت الصوت الذي دوّى زمانَا / وطوى الموتُ من الفصحى بيانَا
الفصيحُ القول قد أخرسه / قدرٌ يُخرس في الموت اللسانا
ما عهدناه على المنبر إلاّ / ماضياً كالسيفِ نصلاً وسنانا
يُرسل الأشعارَ حمراء اللّظى / والأغاريدَ صفاءً وليانا
كان صوتاً عربياً خالصاً / يسلك البيد ويستّن الرعانا
يقطعُ الأرض وهاداً وربىً / ويشق الجوَّ متناً وعنانا
بين بيروت وبغداد ترى / منه في الشعر الكريماتِ الحسانا
يُرسل الصيحةَ بالحق كما / يُرسل الناعي إلى اللّه الأذانا
كان في الحزمة أقوى مكسراً / أيُّ خطبٍ دهم العودَ فلانا
أيّها الشاعرأزمعت السرى / وتخيرت على البيْن الأوانا
كنت تهوى كل جحفلٍ حاشدٍ / فرماك الموتُ في الحفل عيانا
لم تمت فوق سريرٍ ناعمٍ / يكتسي ندا ويندى زعفرانا
إنما مت خطيباً في فمٍ / باغمٍ قد فقد اليوم الحنانا
من يجيب اليوم أبناءك إن / هتفوا باسمك فيهم يا أبانا
أيّها الضوء الذي أبصرته / لم يثر ولم ينفث دخانا
كنتَ في الشعر مكاناً عالياً / من تُرى بعدك يستد المكانا
في ربيع الزمانِ جَادَ زماني
في ربيع الزمانِ جَادَ زماني / بلقاء الأحبّة الإخوانِ
وانتشى القلبُ بالحنانِ وبالح / بِّ وحلوِ الهوى وصفوِ الأماني
وهفَا للرياضِ تعبقُ بالمس / كِ وأصغى لهمسةِ الأغصان
ودعاني الحنينُ فاشتغلَ الفك / ر وزادَ الوجيبُ لمّا دعاني
وتركتُ العنانَ للشعرِ يسمو / عربيَّ اللّسانِ من عدنان
فانبرى يسبق السحابَ ويُضفي / بسمةَ الكونِ فوق ثغرِ الزمان
وامتطى صهوةَ الرياحِ جريئاً / وتحدّى الطيورَ في الطيران
كُنْ معي يا قريض تُلهمني الف / نَّ فأشدو بأروع الألحان
كمْ رأيْنا على مدى كلّ عصرٍ / كيفَ تُذكي قريحة الفنان
طِرْ بِنا إلى رشيد ورفرف / بجناحَيْنِ مِنْ هوى وحنان
لنحيي الأحبابَ جاءَتْ تُحييّ / شاعرَ العُرْبِ سيِّدَ الأوزان
ضمّهم على الوفاءِ لقاءٌ / فتباروُا في حلبةِ الميدان
وأعادوا إلى الحياةِ عُكَاظاً / تنشر الشعرَ عبقري المعاني
يا تلاميذه وعارفي الفضلِ جِئْتُم
يا تلاميذه وعارفي الفضلِ جِئْتُم / لتحيّوا عليَّ في المهرجان
خبروني بربكم أيْنَ ولَّى / أيْنَ أصداء صوته الرنّان
هو في الزهر نفحةٌ من أريجٍ / عرفتها جوانبُ البستان
هو في الطيْر نغمةٌ ولهاةٌ / صوتها العذب فاق صوْت الكمان
هو في البيدِ واحةٌ من نعيمٍ / طوّقتها سواعِدُ الكثبان
هو في البحرِ موْجةٌ تتهادى / فاحتوتْها الرمالُ بالأحضان
هو في النيلِ نسمةٌ تُنعِشُ الرو / حَ وتحكي نضارةَ الشطئان
أصحيحٌ طوى المماتُ عليّاً / فطوى شاعراً فريد البيان
لم يمتْ مَنْ سعى الخلودُ إليه / وجرى ذِكرهُ بكلِّ لسان
هو حيٌّ يُطلُّ من كلِّ بيتٍ / دبَّجته عصارةُ الوجدان
كلما شدّني المزارُ إليه / طالعتني صحائِفُ الديوان