المجموع : 33
ليالي الصيف في كبرِي
ليالي الصيف في كبرِي / أم الفتنةُ في البحرِ
وجنِّيَّاتُ بحرِ الرُّو / مِ أم دُنيا من السِّحرِ
على شطٍّ من الأحْلا / مِ والأنغامِ والزَّهرِ
تنَفَّسَ جَوُّهُ عطراً / يُفضِّضهُ سَنَا البَدْرِ
أريجُ البرتقالِ بهِ / ونفحُ العنَبِ النَّضرِ
أم الآلهة العشّاقُ / بين الموجِ والصخرِ
أهلُّوا تحت أشرعةٍ / تُقِلُّ عَرائسَ الشِّعرِ
نَشاوى الحسن والنُّورِ / وبعضُ النُّورِ كالخمرِ
تنَهَّدَ حينَ أبصَرَهُمْ / مُحِبٌّ مُوغَرُ الصَّدرِ
أقامَ الدَّهرَ موتوراً / من الحرْمانِ والهجْرِ
بأنفاسٍ تُضيءُ الأُفْ / قَ بركانيّةِ الجمرِ
قصدناهُ على الليلِ / وجُزْناهُ مع الفجرِ
فلمْ تغمضْ له عينٌ / تُصيبُ النَّجمَ بالذُّعرِ
وباتَ الموجُ في فرٍّ / حواليهِ وفي كرِّ
فقالوا قدْ دَنا المَو / عِدُ أو آذن بالثأرِ
فعُدنا مثلَمَا جِئنَا / من العِبر إلى العِبْرِ
ويَمَّمنا بجوفِ الصَّخرِ / دهليزاً مِنَ التِّبرِ
سَرَى زورقُنا في مائهِ / الغافي سُرى السِّرِّ
ترَامَى حولنَا الأضوا / ءُ أطواقاً من الدُّرِّ
فمن زُرقٍ إلى صُفرٍ / إلى خُضرٍ إلى حُمرِ
كأن الشَّمسَ حينَ رأتْ / صِبَاها أوَّلَ الدَّهرِ
زهَاهَا العُريُ فاستحيتْ / عُيونَ الناسِ في البرِّ
فجاءَتهُ محجَّبةً / على تيَّارِهِ تسرِي
ونضَّتْ مِن غلائِلها / وألقتها على الصَّخرِ
وخانَت عَيْنَها سِنَةٌ / فنامت وهي لا تدري
يا للعذوبةِ يا حبيبيَ حين أهبطُ للنَّهَرْ
يا للعذوبةِ يا حبيبيَ حين أهبطُ للنَّهَرْ /
كيْ أستحمَّ وأنتَ تمعنُ في مفاتنيَ النظرْ /
لودِدْتُ لو أني أمامك قد جلوتُ محاسني /
بغِلالةٍ مُبتلَّةٍ كشفت جميعَ مفاتني /
أهوَى إلى الماءِ الهبوطَ وأشتهي أن أتبعَكْ /
وأشدُّ ما أهواهُ منهُ صعودُنا وأنا معَكْ /
بيديَّ من سمكاتِهِ حمراءُ رائقةُ الجمالْ /
فتعالَ لي أنظرْ إليكَ تعالَ وانظرْ لي تعالْ /
حبيبةَ قلبي هي النارُ لا
حبيبةَ قلبي هي النارُ لا / تَشُبِّي لظاها ولا تستثيري
دَعِيها ولا توقِظي جمْرَها / فما النارُ أحنى من الزمهريرِ
فِدى راحتيكِ فؤادٌ يلذُّ / لهُ في هواكِ عذابُ السعيرِ
أنيليهما دِفءَ ثغري الحنون / وصونيهما رحمةً من زفيري
قسى البردُ كيف أيقسو عليكِ / وواعجباً كيفَ يَرضى المساءْ
وكم جِئْتِهِ بأرقِّ الغناءِ / وأشرقتِ فيه بوحيِ السماءْ
أأختاهُ أيُّ عذابٍ طغى / عليكِ وأيُّ ضنىً أو شقاءْ
ضَرَعتُ إليكِ فلا تُسْلِمي / ودائعنا للردى والعفاءْ
فما هُنَّ بعضَ مدادٍ جرى / ولا هُنَّ أختاهُ بعضَ الورقْ
ولكنهنَّ شُغافُ الفؤادِ / وذَوْبُ السوادِ ونورُ الحَدَقْ
وأحلامُ دنيا وأشواقُها / لروحين بعد الضَّنى والرَّهَقْ
أفاءَا إلى أيكةٍ ينظران / جمالَ المساءِ وسِحْرَ الشفقْ
أُحسُّ بقلبك لذْعَ الأسى / وفي وجنتيكِ لهيبَ الدموعْ
وأسمع صيحةَ مُسْتَقتلٍ / يُصارعُهُ اليأسُ بين الضُّلوعْ
وألمح في جانب المُصطلى / وجوهاً زواها الأسى والخشوعْ
مُحدِّقَةً فيه مَحْنيّةً / عليه ويا لَلّظى كم يروعْ
لهُنَّ لياليكِ أو ذكرياتيَ / جِئْنَ بأجنحةٍ من ضياءْ
تسمَّعن صوتكِ تحت الظلام / فجُبنَ الثرى وطوين الفضاءْ
تُمَسِّحُ كفَّيكِ راحاتهنَّ / على قُبَلٍ من شفاهٍ ظماءْ
ويسكبن في أذنيكِ الدعاءَ / وفي قلبكِ الغضِّ نورَ الرَّجاءْ
ألا يا عرائس وادي الخيال / بآلهةِ الرَّحمةِ المُنصِفَهْ
ألا ادفعنَ هذا الرَّدى المشرئبَّ / وأمسِكنَ هذي اليدَ المُضعفَهْ
وأنقذن هذا الغرامَ الشهيدَ / فقد كادتِ النارُ أن تَلقفَهْ
رسائلُ أنبلُ ما سطَّرتْ / يدُ الحبِّ أو ردَّدَتهُ شفهْ
وصُنَّ أزاهرَ ما نوَّرَتْ / بهنَّ الغصونُ لغير الشفاهْ
ولا نَسمتْ غيرَ روحِ الهوى / ولا غيرَ أنفاسهِ أو شَذاهْ
أزاهرُ هُنَّ رؤى ليلةٍ / هي العمرُ أو هي كلُّ الحياهْ
تمثَّلها الحبُّ في باقةٍ / إلهيةٍ جَمَعَتْها يداهْ
ألا يا عرائسَ وادي الخيال / ألا ابعثنَ روحَ الرِّضى والسلامْ
ألا احْكُمْنَ بيني وبينَ التي / تثورُ بعاشِقها المستهامْ
تُفارقهُ وتطيلُ الفراقَ / وتسألُهُ أينَ عَهْدُ الغرامْ
فإنْ قال ضَيَّعتِهِ أسرعتْ / إلى النار تُوقِظُ فيها الضرامْ
ألا يا عرائسُ هلاَّ استمعتِ / لأُختيَ ربَّةِ هذا القصيدْ
أغَرَّدَ روحٌ بهذا الصَّفاءِ / وردَّدَ قلبٌ كهذا النشيدْ
يقول أنا الحبُّ لا تُلْقِ بي / إلى النار إني قويٌ شديدْ
وما أنا بعضُ رَمادٍ لها / ولا أنا بعض حُطامٍ بديدْ
أنا الجوهرُ الفرْدُ لا ماسَتي / تذوبُ ولا نورُها يَنْفَدُ
مُنِحت الخلودَ وأعطيتُهُ / لمن يُلْهَمُ الشِّعرَ أو يُنشِدُ
تخرُّ العروشُ وتَهوي الشموسُ / ولي عرشيَ الخالدُ الأبدُ
هو القلبُ أعظم ما صوّرتْ / يدُ اللّهِ ما نازعتها يَدُ
ألا يا عرائسَ وادي الخيالِ / ألا قرِّبي يَدَها قرِّبي
حبيبةَ قلبي نسيتُ النوى / ودعوى البريئةِ والمذنبِ
وأنسيتُ حتى كأن لم يَكنْ / على الأمس ما كان أو مرَّ بي
حديثُ القُصاصةِ ردَّ الهوى / لقلبي فشُبِّيه أو ألهبي
حَبيبةُ قلبي نأتْ دارُها
حَبيبةُ قلبي نأتْ دارُها / ولمْ تنْأَ عَنِّي وعَنْ ناظري
أرى وجهَها مُشرقاً بالجمالِ / يُطلُّ من الشَّاطئِ الآخرِ
هُوَ النَّهرُ يَفْصِلُ ما بيْننا / مُدلّاً بتَمساحهِ الغادرِ
توسَّدَ رَمْلَتَهُ شاخِصاً / إليَّ وما كُنتُ بالخائرِ
إليها على رغمِهِ فلأخُضْ / غواربَ تيارهِ الثائرِ
إذا ما تقاذفني مَوْجهُ / وسالَ على بَدني الضَّامِرِ
مَضَيْتُ كأني على مائهِ / أُنيلُ الثرى قدَميْ عابرِ
لقَدْ حَال يابسةً ماؤُهُ / بسلطانِ هذا الهوى الساحرِ
وصيَّرني سِحرُ هذا الهوى / وبي قوةُ القادرِ الظّافرِ
ألا إنَّ سُلطانَ هذه المياه / ليَعْنُو لسلطانها القاهرِ
هذا الرحيقُ فأين كأسُ الشاعِرِ
هذا الرحيقُ فأين كأسُ الشاعِرِ / قد أوحشَ الأحبابَ ليلُ السامرِ
لِمَ يا حياةُ وقد أحلَّكِ قلبَهُ / لَمْ تؤثريهِ هوى المحبِّ الشاكرِ
أخليتِ منه يديكِ حين حلاهما / من ذلك الأدب الرفيع الباهرِ
لو عاشَ زادكِ من غرائب فنّهِ / ما لا يُشَبّهُ حسنهُ بنظائرِ
وظَفِرتِ من تمثيله وغنائهِ / بأدقّ مثّالٍ وأرخمِ طائرِ
أملٌ محا المقدارُ طيفَ خيالهِ / وتخطّفَتْهُ يد الزمان الجائرِ
وأصار فرحتنا بمُقْبلِ يومهِ / مأساةَ مَيتٍ في الشباب الباكرِ
متوسّداً شوكَ الطريق مُلَثَّماً / بجراحِهِ مثل الشهيد الطاهرِ
رُدُّوا المراثي يا رفاق شبابهِ / لن تُطفئوا بالدمع لوعةَ ذاكرِ
هذا فتىً نظم الشبابَ وصاغَهُ / وحياً تحدّرَ من أرقِّ مشاعرِ
جعل الثلاثين القِصارَ مدىً له / والخلدَ غايةَ عمرهِ المتقاصرِ
غَنُّوهُ بالشِّعْرِ الذي صَدَحتْ بهِ / أشواقُهُ لحنَ الحبيب الزائرِ
غَنُّوهُ بالشِّعْرِ الذي خفقتْ بهِ / أنفاسُهُ لحنَ الحبيب الهاجرِ
تلك القوافي الشارداتُ حُشاشةٌ / ذابت على وَتَرِ المغَنِّي السَّاحرِ
فتسمّعوا أصداءها في موكب / للموت مُحتشدِ الفواجع زاخرِ
مَشَتِ الطبيعةُ فيه بين جداولٍ / خُرسٍ وأدواحٍ هناك حواسرِ
ولو استطاعت نضّدت أوراقها / كفناً له والنعشَ غضَّ أزاهرِ
وَدَعَت سواجع طيرها فتألّقت / أمماً تخِفّ إلى وداع الشاعرِ
يا ابن الخيال تساءلَت عنكَ الذُّرى / والشُّهبُ بين خوافقٍ وزواهرِ
وشواطئٌ محجوبةٌ شارفتَها / فوق العواصف والخضمِّ الهادرِ
أيُرى جناحُكَ في السماء كعهده / متوشّحاً فَلقَ الصباح الساغرِ
أيُرى شراعك في العباب كعهده / مُتقلّداً حَلَقَ السحاب الماطرِ
هدأ الصراعُ وكفّ عن غمراته / من عاش في الدنيا بروحِ مغامرِ
وطوى البلى إلَّا قصيدةَ شاعر / أبقى من المثلِ الشرودِ السائرِ
شعرٌ تمثَّلَ كلَّ حسٍّ مُرهَفٍ / لا رصف ألفاظٍ ورصَّ خواطرِ
ودُمىً مُفضَّحة الطلاءِ كأنها / خُشُبُ المسارح مُوّهَتْ بستائرِ
تتمثّلُ التاريخَ في أزيائهِ / بين المصفّقِ وابتسام السّاخرِ
من صُنعِ نظّامينَ جَهدُ خيالهم / مَسحُ الزجاج من الغبار الثائرِ
مُتخلفين عن الزمان كأنهم / أشباحُ كهفٍ أو ظلالُ مساحرِ
يا قومُ إن الشِّعرَ روحانيةٌ / وذكاء قلبٍ في توقّد خاطرِ
نظر الضريرُ به فأدرك فوق ما / لمست يَدُ الآسي وعينُ الناظرِ
مُتَعرّفاً صُوَرَ الخلائق سابراً / أعماقَ أرواحٍ وَغَورَ سرائرِ
هذي عروسُ الزَّنجِ ليلتهُ التي / أومَتْ بكفٍّ حُلّيَت بأساورِ
والنَّجمُ أشواقٌ فمهجة عاشقٍ / وذراعُ مُعتنِقٍ ووجنةُ عاصرِ
الشِّعرُ موسيقى الحياة مُوَقَّعاً / مُتدَفِّقاً من كلِّ عِرقٍ فائرِ
عشاقُ بابلَ لو سُقوا برحيقه / لم يذكروها بالرحيقِ الساكرِ
وتنَصَّتَت أقداحُهم لمغردٍ / مَرِحٍ يُصَفّقُ بالبيان الساحرِ
أو كان كلَّمَ بُرجَها بلسانه / والقومُ شتّى ألسنٍ وحناجرِ
لم نَشكُ من عِوجِ اللسان وَوُحّدت / لهجاتُ هذا العالم المتنافرِ
ماذا قدومهُما والغيثُ مِدرارُ
ماذا قدومهُما والغيثُ مِدرارُ / لا صاحبُ الدَّارِ طلاَّعٌ ولا الدارُ
هذي البحيرةُ وسْنى حُلمُ ليلتها / لمّا تُفِقْ منه شطآنٌ وأغوارُ
والأرضُ تحت سحابِ الماءِ أخيلةٌ / مما يُصوِّرهُ عُشبٌ ونُوّارُ
والصبحُ في مهده الشرقيِّ ما رُفِعتْ / عن ورْدِه من نسيج الغيم أستارُ
حتّى الجبالُ فما لاحتْ لها قممٌ / ولا شدا لرُعاة الضأن مزمارُ
فمن هما القادمانِ الريحُ صاغيةٌ / لوقع خطوهما والأرضُ أبصارُ
أعاد من زمَنِ الأشباح سامرُهُ / فالليلُ والغاب أشباحٌ وأسمارُ
أم البحيرةُ جِنّياتُها طلعتْ / فهبَّ موجٌ يناديها وتيَّارُ
أم راصدا كوكبٍ ضلاَّ سبيلهما / لما خَبَتْ من نجوم الليل أنوارُ
أم صاحبا سفَرٍ مال الضَّنَى بهما / حوَتهما جنّةٌ للفنِّ معطارُ
أم عاشقان تُرى أم زائران هما / وهل مع الفجر عشَّاقٌ وزوَّارُ
ما ذلك الصوتُ شاجي اللحن سحَّارُ
ما ذلك الصوتُ شاجي اللحن سحَّارُ / يُجرِيهِ نبعٌ من الإِلهام زَخَّارُ
فيه تنفَّسُ فوق السحب آلهةٌ / وآدميون فوق الأرض ثُوَّارُ
وفيهِ تهْمسُ أرواحٌ وأفئدةٌ / منهن عانٍ ورَحمنٌ وجبَّارُ
له مذاقٌ له لونٌ له أَرجٌ / خمْرٌ أباريقُها شتّى وأثمارُ
أشتفُّهُ وأنادي كلَّ ناحيةٍ / مَنِ المُغَنِّي وراءَ الغاب يا دارُ
السمفونيةُ هذي أم صدى حُلُمٍ / كما تَجاوبُ خلف الليل أطيارُ
أعاد لِلمِعْزَفِ المهجور صاحبُهُ / فعربدتْ في يديه منه أوتارُ
أظلُّ أُصغِي وما من شُرْفةٍ فُتِحت / ولا أراح رِتاجَ الباب ديَّارُ
حتى الحديقةُ لَفَّتْ كوخَ حارسها / بِصمتها فهما نَبْتٌ وأحجارُ
تواضعتْ بجلال الفنِّ ما ارتفعتْ / مثلَ البروج لها في الجوِّ أسوارُ
تُصْغِي إلى همسات الريح شيِّقةً / كأنما همسات الريح أخبارُ
قد باح بالنّغَمِ الموعودِ قيثارُ
قد باح بالنّغَمِ الموعودِ قيثارُ / فالفجرُ أحلامُ عُشّاقٍ وأسرارُ
صحا يُفَضِّلُ رؤياهُ ويَعْبرها / موجٌ على الشاطئِ الصخريِّ ثرثارُ
وزحزحتْ ورَقَ الصفصاف حانيةً / على البحيرة أعشابٌ وأزهارُ
تُسائلُ الماءَ هل غنَّتهُ أو عَبرتْ / شهبٌ به مستحماتٌ وأقمارُ
يا صاحبَ اللحن إنَّ الغابَ مُصغِيةٌ / فأين من سجْفرِيدَ السيفُ والغارُ
ما زال فوق نديِّ العشب مضجعُهُ / ومن يديهِ على الأغصانِ آثارُ
هذا النشيدُ نشيدُ الحبِّ تعزِفُهُ / له عرائسُ مِثلُ الورد أبكارُ
بعثتهنَّ من الأنغام أجنحةً / هزيزهنّ مع الأفلاكِ دوَّارُ
في صدر قيثارةٍ أودعتَهُ نغَماً / مِزاجُهُ الماءُ والإعصارُ والنارُ
تُفْضِي بما شئتَ من أسرار عالمها / فيهِ ليالٍ وأيامٌ وأقدارُ
حتى الطبيعةُ من ناسٍ وآلهةٍ / تمازجتْ فهيَ أَلحانٌ وأشعارُ
تَسَاءَلَ الماءُ فيكِ والشَّجرُ
تَسَاءَلَ الماءُ فيكِ والشَّجرُ / من أين يا كانُ هذه الصُّوَرُ
البحرُ والحورُ فيه سابحةٌ / رُؤىً بها بات يَحْلُمُ القمرُ
أطلّ والضوءُ راقصٌ غَزِلٌ / دعاهُ قلبٌ وشاقه بَصَرُ
يهمسُ فيما يراه من فِتَنٍ / آلهةٌ هؤلاءِ أم بشرُ
يقفز من لجةٍ إلى حجَرٍ / كأنما مَسَّ روحه الضَّجرُ
معربداً لا يريم سابحةً / إلَّا ومنهُ بثغرها أثرُ
من كلِّ حوّاءَ مثلما خُلقَتْ / يعجبُ منها الحرير والوبرُ
أَلْقَتْهُ عنها رقائقاً ونَضَتْ / جسماً تحامى نداءَهُ القدرُ
في حانةٍ ما عَلَتْ بها عَمَدٌ / ولا استوى في بنائها حجَرُ
جُدرانها الماءُ والسماءُ لها / سقيفةٌ والنسائمُ السُّتُرُ
خمَّارُها مُنْشِدٌ وسامرُها / حورٌ تلوَّى وفتيةٌ سكروا
لم تَبْقَ في الشطِّ منهمو قَدَمٌ / قد خوَّضوا في العباب وانتثروا
وشيَّعوا العقل حينما شربوا / ووَدَّعوا القلب حيثما نظروا
والسابحاتُ الحسان حولهمو / كأنهنّ النجومُ والزَّهَرُ
يزيد سيقانهنّ من بَهَجٍ / لونٌ عجيبُ الرُّواءِ مبتكرُ
يضيءُ ورداً وخمرةً وسنىً / ذوبٌ من المغريات مُعتصَرُ
تغاير الموجُ إذ طلعن به / وثار من حولهنّ يشتجرُ
بهنّ يلتفُّ مُرتقىً وَيُرى / ينشقُّ عنهنَّ فيه مُنحدَرُ
منفتلات قدودهُنَّ كما / ينفتل الغصنُ آده الثمرُ
ملوّحات بأذرُعٍ عَجَبٍ / تحذرهنّ النهودُ والشّعْرُ
والضوءُ فوق الخصور منهمرٌ / والماء تحت الصدور مستعرُ
ما زِلْنَ والبحر في تَوَثُّبِهِ / يُرْغي كما راع قلْبَهُ خطرُ
قد جاوز الليلُ نِصْفَهُ فمتى / تؤمُّ فيه أصدافَها الدُّرَرُ
فليصخبِ البحرُ ولتئنّ به / رمالهُ وليثرثرِ الشجَرُ
ولتعصفِ الريحُ فوق مائجه / ولينبجسْ من غمامه المطَرُ
أقسمنَ لا ينتحين شاطئَهُ / وإنْ ترامى بمائه الشررُ
حتى يُرى وهو فضّةٌ ذَهَبٌ / تمازَجَ الليلُ فيهِ والسّحَرُ
يا فينّا أسمعي الدنيا وهاتي
يا فينّا أسمعي الدنيا وهاتي / قِصَّةَ الغابة والفَلْسِ الكبيرِ
أين بالدانوب شدوُ الذكرياتِ / وصدى العشاق في الليل الأخيرِ
رَحَلوا عنكِ بأحلامِ الحياةِ / غيرَ قلبٍ في يدِ الحبِّ أسير
حسنُكِ النشوانُ والكأسُ والرويّهْ / جدَّدا عهدَ شبابي فسَكرْتُ
حُلْمُ أيامٍ وليلاتٍ وضيَّهْ / عَبرَتْ بي في حياتي وعبرتُ
أنا سكرانُ وفي الكأس بقيَّهْ / أيُّ خمر من جَنى الخلد عصرتُ
آهِ هاتي قرِّبي الكأس إليَّهْ /
واسقنيها أنت يا أندلسيَّهْ /
لا تقولي أيُّ صوتٍ مُلْهِمِ / قادَ روحينا فجئنا والتقينا
دَمُكِ المشبوبُ فيه من دمي / روحُ ماضٍ بالهوى يهفو إلينا
أخْتَ روحي قرِّبيها من فمي / إن شربنا أو طربنا ما علينا
آه هاتيها من الحسن جَنِيَّهْ /
واسقنيها أنت يا أندلسيَّهْ /
كانت النظرةُ أولى نظرتينْ / ثم صارت لفظةً ما بيننا
والهوى يَعْجب من مغتربَيْنْ / لم يَقُلْ أنتِ ولا قالتْ أنا
وَسَبَحنا فوق وادٍ من لجينْ / تحت أفقٍ من غماخم وسَنى
أتملَّاها سماتٍ عربيّهْ /
وأنادي أنتِ يا أندلسيَّهْ /
صِحْتُ يا للشَّمس في ظلِّ المغيبِ / تلثم الزَّهرَ وأوراقَ الشجرْ
خِلتُها بين محبٍّ وحبيبِ / قُبلةً عند وَداع وسَفرْ
فانثنتْ تنظر للوادي العجيبِ / صُوَراً يَذهبنَ في إِثرِ صورْ
وبسمعي همسةٌ منها شجِيّهْ /
وبروحي أنتِ يا أندلسيَّهْ /
ونزلنا عِند شطٍّ من نُضارِ / وانتحينا خلوةً بعد زحامِ
قلتُ والليلُ بأعقابِ النهار / ألكِ الليلةَ في لحنٍ وجامِ
ما على مغتربي أهل ودار / إنْ أدارا ها هنا كأس مدامِ
آه هاتيها كخدّيكِ نقيّهْ /
واسقنيها أنت يا أندلسيَّهْ /
واحتوتنا بَين لحن مطرب / حانةٌ مِثلُ أساطيرِ الزَّمانِ
صوّرتْ جدرانُها بالذَّهبِ / فتنَ العشق وأهواءَ الحسانِ
قالت اشربْ قُلتُ لبّيكِ اشربي / مِلءَ كأسين فإنّا ظامئانِ
خمرةً روميةً أو بابليهْ /
إِسقنيها أنتِ يا أندلسيَّهْ /
هتفتْ بي ويداها في يدي / تدفع الكأسَ بإغراءِ وعُجْبِ
أيُّ قيثارٍ شجيٍّ غرِدِ / خلتُهُ ينطق عن أسرار قلبي
قلتُ طِفلٌ من قديم الأبد / يمزُجُ الألحانَ مِن خمر وحُبِّ
ملء كأس في يديهِ ذهبيّهْ /
فاسقنيها أنتِ يا أندلسيَّهْ /
ومضى الليلُ ونادى بالرواحِ / كلُّ خَالٍ وتعايا كلُّ ضبِّ
وخبا المصباحُ إلَّا كأس راحِ / نورُهُ ما بين إِيماضٍ ووثبِ
قد تحدَّى وهْجُهُ ضوءَ الصباح / فبقينا حوله جنباً لجنبِ
نتساقاها على الفجر نديّهْ /
وأغني أنت يا أندلسيَّهْ /
يا عروسَ الغرب يا أندلسيّهْ / بعُدَتْ داركِ والصيف دنا
أين أحلامُ الليالي القمريهْ / والبحيراتُ مُطيفاتٌ بنا
إِذكري بين الكؤوس الذهبيَّه / حانةً يا ليتها دامت لنا
حين أدعوكِ صباحاً وعشيّهْ /
إِسقنيها أنتِ يا أندلسيَّهْ /
رُدّوا على الوادي ربيعَ نهاره
رُدّوا على الوادي ربيعَ نهاره / آب الزعيمُ اليوم من أسفارِهِ
جاب البحارَ إليكمو حتى إذا / نصلَ الدُّجى ألقى عصا تسيارِهِ
هذا الذي قدر الإِلهُ حياتَه / ليُنَقِّل التاريخ في أداورِهِ
الأعزلُ المنفيُّ فارق قيدَه / ورمى بآسره وذلَّ إِسارِهِ
عجبا يُخافُ مطاردٌ بجزيرةٍ / ضرب الوجودُ بها وراءَ بحارِهِ
فيُجشَّم المنفى البعيدَ بصخرةٍ / في مائجٍ مُتَلَثّمٍ بخطارِهِ
تخشى أساطيلُ الغزاة عبوره / ويروع وحشَ البحرَ صمتُ قرارِهِ
سِيرٌ من الأمجاد لم يُسْمَعْ بها / حتى أُتِحْنَ فكنَّ من أخبارِهِ
تلك البطولةُ لم تكن يوماً ولم / يطلعْ بها زمنٌ على حُضَّارِهِ
قم حدِّثِ التاريخ غير مُكذَّبٍ / يا منْ غدا التاريخُ مِن آثارِهِ
أنت المصاولُ عن حماك فصِفْ لنا / حربَ الفدائيين من أنصارِهِ
والأرضُ كيف تَصُدُّ عن رحمائها / والكونُ كيف يضيق عن أحرارِهِ
والغاصبُ السَّفاحُ من أنيابه / يجري الدمُ القاني ومن أظفارِهِ
يا من شَدَوْتُمْ بالسلام رويدكم / داوودُ لمَّا يَشْدُ في مزمارِهِ
تحت الرِّماد وميضُ نارٍ فالدجى / والبرقُ بعضُ دخانه وشرارِهِ
رُدُّوا السلامَ إِلى الحوادث تشهدوا / أنَّ المآمنَ هن من أخطارِهِ
حمل البشيرُ قميصَهُ بيمينه / ودمُ الجنايةِ صارخٌ بيسارِهِ
هذا ضياءُ العدل بدّد ظلمهم / كالليل بدّدهُ الضُّحَى بمنارِهِ
سعدٌ أهلَّ به وسعدٌ جاءكم / بالحق أبلجَ في سماءِ ديارِهِ
فاستقبلوه كعهدكم وَتَخَيَّروا / لجبينه العالي مُضَفَّرَ غارِهِ
قالوا نُفِيت فهل نفى عنك الهوى / ظُلمٌ سُقِيتَ الأمس كأس عقارِهِ
لا تَلْحَ من كفروا بدعوتك التي / وضَحتْ وخلِّ أذى المسيءِ ودارِهِ
آثامُهم فَزِعَتْ بخالقهم فَدَعْ / للّه حكمَ اللّه في كفَّارِهِ
واللّه لو لمَسوا فؤادك لانثنوا / جَزِعينَ مما لامسوا من نارِهِ
ومحا سناهُ ظلام أنفسهم وما / حُمِّلْنَ من ذل النكوص وعارِهِ
الشعبُ مثل البحر إنْ يغضبْ فما / تقفِ السدودُ الشمُّ في تيَّارِهِ
ورجالُهُ الأبطالُ ويحَ رجاله / لم يهدأوا والظلمُ في تهدارِهِ
خاضوا الحتوفَ فَما انثنت عزماتُهم / عن قاهر الوادي وعن جبَّارِهِ
طلعوا على حِصْن الظلام فزحزحوا / أحجاره ومَشوا إِلى أغوارِهِ
قذفوا به غَضب السرائر فانظروا / للحصن يسقط في يديْ ثُوَّارِهِ
أمسى ورايات الجهاد خوافقٌ / حُمْرٌ مُنَشَّرةٌ على أسوارِهِ
هنَّأتُ باسمكِ تحت الشمس أحرارا
هنَّأتُ باسمكِ تحت الشمس أحرارا / يَنْدَى هواك على هاماتهم غارا
دمَشْقُ يا بلدَ الأحرارِ أيُّ فتىً / لم يَمْتشقْ فيك سيفاً أو يخُضْ نارا
ذوداً عن الوطن المعبود من دمه / للمجد يبنيه آطاما وأسوارا
زَكتْ أُميَّةُ في أعراقه وجرتْ / دماً يُروِّي الثرى أو يغسلُ العارا
عيدُ الجلاءِ أُسمِّيهِ وأعرفه / يومٌ تَباركَ أنداءً وأسحارا
جلا عن الشرق ليلَ البغي حين جلا / عروبةً فيكِ تلقى الأهل والدارا
لولا مصابٌ دهى الوادي فشبَّ به / ناراً وهاج النسيم العذب إعصارا
وروَّعَ الأمة الغلباءَ في رَجُلٍ / شدَّتهُ قوساً وسلَّتْ منه بتَّارا
من النوابغ أعماراً إِذا قصرتْ / مُدَّ النبوغُ لهم في الخلدِ أعمارا
أحرارُ مملكة في الرأي ما أثموا / سمَّاهمو الغاصبُ الظَّلَّام ثُوّارا
ثاروا على القيد حتى انحلَّ واقتحموا / على الطواغيتِ حِصنَ الظلم فانهارا
لولاهُ كان إِليك البرقُ راحلتي / أطوي به الجو آفاقاً وأقطارا
وجئتُ فيحاءُ أُزجي الشعرَ مُفتقِداً / تحت الصفائح مقداماً ومغوارا
والمفتدون شُراةُ الخلد قل لهم / ما ينظم المدح ألحاناً وأشعارا
عكّاءُ في الساحلِ الشرقيّ شامخةٌ
عكّاءُ في الساحلِ الشرقيّ شامخةٌ / تطاولُ النجمَ أبراجاً وأسوارا
كم غرّرت بالغزاة الصيد والتفتَت / إلى جحافلهم هزوا وإصغارا
وخلّفَت نارها أقوى سفائِنِهِم / يلهو بها الموجُ أنقاضا وأطمارا
مشى لها من ضفافِ السين مقتتل / دانوا به قيصرا في الحرب جبّارا
تساءل العرب من هذا وأيّ فتىً / يلقى الكماة شديدَ البأس قهّارا
وما سفائنُه في البحر منشَئَةً / رُعنَ الحديد وهجنَ النار إعصارا
كأنّ قرطاجةً ثارت ملاحِمُها / تنازعُ الغربَ أقواما وأمصارا
ذاك الذي راع ذئب البحر مخلبُه / وقلّمَ الدبّ أنيابا وأظفارا
تعوّدَ الحرب إقبالاً فما برَحَت / تغريه بالشرق حتى ارتدّ إدبارا
ألقتهُ عكّاء عن أبوابها ورمَت / به شراعا على الدأماء منهارا
حتى أتاها فتىً من مصر تعرفهُ / في الروعِ مقتحما في النقع كرّارا
أباح سدّتها واجتاحَ ساحتَها / فسلّمت كفّهُ الزيتونَ والغارا
وقبّلت في لواءٍ تحت إمرَتهِ / من فتيةِ النيلِ مقداماً ومغوارا
سمرٌ لهم بالشموس الغرّ واشجةٌ / تضيءُ أنسابهم شهباً وأقمارا
من كلّ رامٍ كما تنقضّ صاعقةٌ / يرمي العداة حديد الظفر عقّارا
وكلّ ليثٍ غضوبٍ مثل عاصفة / منه يطيرون ألباباً وأبصارا
لم يتركوا في مجال النصر متسعاً / للاحقٍ أو لباغي السبقِ مِضمارا