القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : مَعرُوف الرُّصافِيّ الكل
المجموع : 246
ذهبت لحيٍّ في فروق تزاحمت
ذهبت لحيٍّ في فروق تزاحمت / به الخلق حتى قلت ما أكثر الخلقا
ترى الناس أفواجاً إليه وإنما / إلى التلعات الزهر في درج ترقى
يضيء به ثغر الحضارة باسماً / بلامع نور علّم السحب البرقا
رأيت مبانيه وجُلت بطرقه / فما أحسن المبنى وما أوسع الطرقا
فكم فيه من صرح ترى لدهر متلعا / يمدّ إلى ادراك شرفته العنقا
قصور علت في الجوّ لم تلق بينهما / وبين النجوم الزهر في حسنها فرقا
هنالك للأرضين أفق بروجه / تضاحك أبراج السموات والأفقا
بروج ولكن شارقات شموسها / تدور بأفق يجمع الغرب والشرقا
بحيث ترى حمر الطرابيش خالطت / برانيط سوداً كالسلاحف أو ورقا
وتلقى الوجوه البيض حمراً خدودها / وتلقى العيون السود والأعين الزرقا
خدود جرى ماء الشبية فوقها / ففيه عقول الناظرين من الغرقى
محاسن كالازهار قد طلّها الهوى / وهبّ نسيم العشق من بينها طلقا
فمن ذات دلّ أعجزالشعر وصفها / وأن كان فيها الشعر ممتلئاً عشقا
ومن ذي دلال رنّح الحسن عطفه / إلى أن رجا من حسنه عطفه الرفقا
وكم مسرح فيه الحسان تلاعبت / تمثّل كيف الناس تسعد أو تشقى
حسان علت في الحسن خَلقاً وخِلقةً / وهل خلقة تعلو إذا سفلت خلقا
تمثّل ما قد مرّ منَا وما حلا / وما جلّ من أمر الحياة وما دقّا
فتلقى دروساً لو وعتها حياتنا / لبدّل كذب في سعادتها صدقا
إذا مثّلت شكوى الحزين بكت بها / عيون البلايا والزمان لها رقّا
وأن صوّرت حقّاً هوى كل باطل / على رأسه حتى تجدّل مندقّا
وماذا ترى فيه إذا زرت حانةً / ترى الأنس يشدو في فم يجهل النطقا
سكوتٌ على قرع الكؤوس مغرّدٌ / بلحن سرور يترك الهمّ منشقا
عليهم سحاب الاحتشام يظلّهم / متى هم أرادوا سحّ من قبل ودقا
أوانس قد نادمن كل غرانق / فمنهنّ من تسقى ومنهنّ من تسقى
فمن ذا يراهم ثم لم يك واغلاً / عليهم وأن أمسى يعد الفتى الأتقى
ألست بمعذور إذا أنا زرتهم / وساجلتهم شوقاً فقل ويحك الحقا
فقد لامني لما رآني بحيّهم / فتىً منه قحف الرأس ممتلئ حمقا
فقال أفي الحيّ الذي شاع فسقه / تجول أمل تمنع عمامتك الفسقا
فقلت أجل أن العمائم عندنا / لتمنع في لوثاتها الفسق والرزقا
ولكنّني ما جئت إلا توصّلاً / لذكى شقاءٍ في العراق به نشقى
شقاء تمطَى في العراق تمطّياً / وألفى جراناً لا يزحزح واستلقى
فإن العراق اليوم قد نشبت به / نيوب الدواهي فهي تعرقه عرقا
تمشّت به حتى أعادت سواده / بياضاً ومدت للبوار به ربقا
فلهفي على بغداد إذ قد أضاعها / بنوها فسحقاً للبنين بها سحقا
جُزوها عقوقاً وهي أمٌ كريمة / والأم أبناء الكريمة من عقّا
أدامت لها الأحداث مخضاً كأنها / قد اتخذتها الحادثات لها زقّا
سأبكي عليها كلّما جُلت سائحاً / وشاهدت في العمران مملكةً ترقى
وأندبها عند الأغاريد شارباً / من الدمع كأساً لا أريد لها مذقا
تذكرت في أوطانيَ الأهل والصحبا
تذكرت في أوطانيَ الأهل والصحبا / فأرسلت دمعاً فاض وابله سكبا
وبتّ طريد النوم أختلس الكرى / بشاخص طرفٍ في الدجى يرقب الشهبا
كئيب كأن الدهر لم يلق غيره / عدوّاً فآلى لن يهادنه حربا
يقلّ كروباً بعضها فوق بعضها / إذا ما رمى كرباً رأى تحته كربا
وإنّي إذا ما الدهر جرّ جريرةً / لتأنف نفسي أن أكلّمه عتبا
وقد علم القوم الكرام بأنني / غلام على حبّ المكارم قد شباً
وإني أخو عزم إذا ما انتضيته / نبا كل عضب عنه أو أنكر الضربا
وإني أعاف الماء في صفو القذى / وإن كان في أحواضه بادراً عذبا
ولكنّ لي في موقف الشوق عبرة / تُساقط من أجفانيَ اللؤلؤ الرطبا
إذا ضربت أوتار قلبي شجونه / بدت نغمات ترقص الدمع منصبّا
وقاطرةٍ ترمي الفضا بدخانها / وتملأ صدر الأرض سيرها رعبا
لها منخر يبدي الشواظ تنفساً / وجوف به صار البخار لها قلبا
تمشّت بنا ليلاً تجرّ وراءها / قطاراً كصفّ الدوح تسحبه سحبا
فطوراً كعصف الريح تجري شديدةً / وطوراً رخاءً كالنسيم إذا هبّا
تساوى لديها السهل والصعب في السرى / فما استسلهت سهلاً ولا استصعبت صعبا
ندكّ متون الحزن دكاً وإنها / لتنهب سهل الأرض في سيرها نهبا
يمرّ بها العالي فتعلو تسلّقاً / ويعترض الوادي فتجتازه وثبا
وتخترق الطود الأشم إذا انبرى / وقد وجدت من تحت فنّته نقبا
يرنّ بجوف الطود صوت دويّها / إذا ولجت في جوفه النفق الرحبا
لها صيحة عند الولوج كأنها / تقول بها يا طود خلّ ليَ الدربا
وتمضي مضيّ السهم فيه كأنما / ترى افعواناً هائجاً دخل الثقبا
تغالب فعل الجذب وهي ثقيلة / فتغلب بالدفع الذي عندها الجذبا
طوت بالمسير الأرض طيّا كأنها / تسابق قرص الشمس أن يدرك الغربا
وما أن شكت أينا ولا سئمت سرىً / ولا استهجنت بعداً ولا استحسنت قربا
عشيّة سارت من فروق تقلّنا / وتقذف من فيها بوجه الدجى شهبا
فما هي إلا ليلة ونهارها / وما قد دعونا من سلانيك قد لبّى
فجئنا ولم يعي الصفار مطيّنا / كأن لم نكن سفراً على ظهرها ركبا
تعاليت يا عصر البخار مفضّلاً / على كل عصر قد قضى أهله نحبا
فكم ظهرت للعلم فيك معاجز / بها آمن السيف الذي كذّب الكتبا
تظاهرت من فعل البخار بقوّة / يُذلّل أدنى فعلها المطلب الصعبا
وأُقسم لو لا الكهرباء فوقه / لقلت على كل القوى ته به عجبا
هو العلم يعلو في الحياة سعادة / ويجعلها كالعلم محمودة العقبى
فكلّ بلاد جادها العلم أمرعت / رباها وصارت تنبت العزّ لا العشبا
متى ينشئ الشرق الذي اغبّر أفقه / سحابة علم تمطر الشرف العذبا
فإنّ دبور الذلّ ألوت بعّزه / وكادت سموم الجهل تحرقه جدبا
تبصّر إذا دارت رحى الشرق هل ترى / سوى الجهل في أثناء دورتها قطبا
البحر رهوٌ والسما صاحيه
البحر رهوٌ والسما صاحيه / والفخت في الليل شبيه السديم
والبدر في طلعته الزاهية / قد ضاحك البحر بثغرٍ بسيم
والصمت في الأنحاء قد خيّما / فالليل لم يسمع ولم ينطِق
والبدر في مفرق هام السما / تحسبه التاج على المَفرق
أغرق في أنواره الأنجما / وبعضها عام فلم يغرق
والبحر في جبهته الصافيه / قام طريقٌ للسنا مستقيم
لم تخفَ في أثنائه خافيه / حتى ترى فيه اهتزاز النسيم
وقفت والريح سرت سجسجا / وقفة مبهوت على الساحل
أنظر ما فيه يحار الحجا / في الكون من عالٍ ومن سافل
يا منظراً أضحك ثغر الدجى / ورد سحبان إلى باقل
ما أنت إلا صحف عاليه / كم حار في حكمتها من حكيم
إذا وعتها إذن واعيه / فقد وعت خير كتاب كريم
وزان عرض البحر ما قد بدا / من زورق يجري بمجدافتين
عام بذوب الماس أوقد غدا / يسبح في لجة ذوب اللجين
في صامت الليل جرى مفردا / وبين جنبيه حوى عاشقين
من غادة في حسنها غانيه / تبسم عن لألاء درّ نظيم
ومن فتى أدمعه جاريه / قد صافح العشق بجسم سقيم
قابلها والحب قد شفه / وقابلت طلعة بدر السما
وظلّ يرنو تارةً خلفه / وتارة ينظرها مغرما
ثمّ تدانى واضعاً كفّه / في كفّها يطلب أن يلثما
وخرّ من وجد على الناصيه / وقلبه يركض ركض الظليم
وهي غدت من أجله جاثية / واحتضنته كاحتضان الفطيم
ثم رمى نظرة مسترحم / في الكون عن طرف له حائر
وقال قول الكلف المغرم / في حبّ ذات النظر الساحر
أيتها الأرض قفي واسلمي / من أجل هذا المشهد الزاهر
حتى أرى ليلتنا باقيه / محفوفةً مِن وصلنا بالنعيم
فإن هذي ليلةٌ حاليه / تزهو ببدرين وطلق النسيم
وأنت يا بدر اللطيف السنا / في الجو قف وقفة غير الرقيب
ما أبهج النور وما أحسنا / إذا دنا منك لوجه الحبيب
كأنه ندرة لما دنا / نحو المعالي يبتغيها النصيب
فحاز منها جملةً وافيه / ما حازها من أحدٍ من قديم
وصار يدعى الرجل الداهيه / في الفكر والمجد وخلق عظيم
يا آل مطران لكم ندرة / وأكرم الناس هو النادر
لكن معاليكم لها كثرةٌ / يعجز ان يحصرها الحاصر
من أجلها أمست لكم شهرةٌ / عمّ البرايا صيتها الطائر
حيث معاليكم غدت قاضيه / لكم على الناس بفضل عميم
فراية المجد لكم عاليه / و ندرة الشهم عليها زعيم
يا من بنى المجد فأعلى البنا / فكان أعلى الناس في مجده
اِقبل من العبد جميل الثنا / وإن يكن قصّر عن حدّه
ومُره ثم احكم به أن ونى / ما يحكم السيّد في عبده
إذ أنت بالمنقبة الساميه / قد خصّك الله العزيز العليم
فاهنأ ودم عيشة راضيه / رغم المعادي وسرور الحميم
وخرساءَ لم ينطق بحرفٍ لسانها
وخرساءَ لم ينطق بحرفٍ لسانها / سوى صوت عرق نابض بحشاها
حكت لهجة التمام لفظاً ولم تكن / لتفصح إلا بالزمان لغاها
لها ضربان في الحشا قد حكت به / فؤاداً تغشَاه الهوى وحكاها
جرت حركات الدهر في ضرباتها / وبانت مواقيت الورى بعماها
على وجهها خطّت علائم تهتدي / بها الناس في أوقاتها لمناها
مشت بين آنات الزمان تقيسه / وما هو إلاّ مشيها وخطاها
بها يتقاضى الناس ما يوعدونه / ويُرشد ضلاّل الزمان هداها
غدت كأخي الإيمان تأكل في معيً / وما أكل إلاّ التواء معاها
تدور عليها عقرب دور حائر / بتَيهاء غمّت في الظلام صواها
تريك مكان الشمس في دورانها / إذا حجبت عنك الغيوم ضياها
فأعجب بها مصحوبةًجاء صنعها / نتيجة أفكار الورى وحجاها
بنتها النهى في الغابرين بسيطةً / فتمّ على مرّ الزمان بناها
تنادي بني الأيام في نقراتها / أن اسعوا بجدٍ بالغين مداها
ولا تهملوا الأوقات فهي بواترٌ / تقطع أوصال الحياة شباها
لقيتها ليتني ما كنت القاها
لقيتها ليتني ما كنت القاها / تمشي وقد أثقل الأملاق ممشاها
أثوابها رثّةٌ والرجل حافية / والدمع تذرفه في الخدّ عيناها
بكت من الفقر فاحمرّت مدامعها / واصفرّ كالورس من جوع محيّاها
مات الذي كان يحميها ويسعدها / فالدهر من بعده بالفقر أشقاها
الموت أفجعها والفقر أوجعها / والهمّ أنحلها والغمّ أضناها
فمنظر الحزن مشهود بمنظرها / والبؤس مرآه مقرون بمرآها
كرّ الجديدين قد ابلى عباءتها / فانشقّ أسفلها وانشق أعلاها
ومزّق الدهر ويل الدهر مئزرها / حتى بدا من شقوق الثوب جنباها
تمشي بأطمارها والبرد يلسعها / كأنه عقرب شالت زباناها
حتى غدا جسمها بالبرد مرتجفا / كالغصن في الريح واصطكّت ثناياها
تمشي وتحمل باليسرى وليدتها / حملاً على الصدر مدعوماً بيمناها
قد قمّطتها بأهدام ممزّقة / في العين منثرها سمبحٌ ومطواها
ما أنس لا أنس أنيّ كنت أسمعها / تشكو إلى ربّها أوصاب دنياها
تقول يا ربّ لا تترك بلا لبن / هذي الرضيعة وارحمني وإياها
ما تصنع الأم في تربيب طفلتها / أن مسّها الضرّ حتى جفّ ثدياها
يا ربّ ما حيلتي فيها وقد ذبلت / كزهرة الروض فقد الغيث أظماها
ما بالها وهي طول الليل باكية / والأم ساهرة تبكي لمبكاها
يكاد ينقدّ قلبي حين أنظرها / تبكي وتفتح لي من جوعها فاها
ويلمّها طفلة باتت مروّعةً / وبتّ من حولها في الليل ارعاها
تبكي لتشكوَ من داءٍ ألم بها / ولست أفهم منها كنه شكواها
قد فاتها النطق كالعجماء أرحمها / ولست أعلم أيّ السقم آذاها
ويح ابنتي أن ريب الدهر روّعها / بالفقر واليتم آها منهما آها
كانت مصيبتها بالفقر واحدة / وموت والدها باليتم ثنّاها
هذا الذي في طريقي كنت أسمعه / منها فأثرّ في نفسي وأشجاها
حتى دنَوت إليها وهي ماشية / وادمعي أوسعت في الخد مجراها
وقلت يا أخت مهلاً أنني رجل / أشارك الناس طرّاً في بلا ياها
سمعت يا أخت شكوىً تهمسين بها / في قالة أوجعت قلبي بفحواها
هل تسمح الأخت لي أني أشاطرها / ما في يدي الآن استرضي به اللها
ثم اجتذبت لها من جيب ملحفتي / دراهماً كنت استبقي بقاياها
وقلت يا أخت أرجو منك تكرِمتي / بأخذها دون ما منٍّ تغشاها
فأرسلت نظرةً رعشاءَ راجفةً / ترمي السهام وقلبي من رماياها
وأخرجت زفرات من جوانحها / كالنار تصعد من أعماق أحشاها
وأجشهت ثم قالت وهي باكية / واهاً لمثلك من ذي رقة واها
لو عمّ في الناس حسَنٌ مثل حسّك لي / ماتاه في فلوات الفقر من تاها
أو كان في الناس انصاف ومرحمة / لم تشك أرملة ضنكاً بدنياها
هذي حكاية حال جئت أذكرها / وليس يخفي على الأحرار مغزاها
أولى الأنام بعطف الناس أرملةٌ / وأشرف الناس من في المال واساها
عهد الصبا سقياً لأيام الصبا
عهد الصبا سقياً لأيام الصبا / أشبه شئ بأزاهير الربا
إن الصبا كالورد في نضرته / وعمره واللون منه والشذا
واهاً على شرخ الشباب المشتهى / خلّف ذاكره بقلبي ومضى
لقد ذوى غصن حياتي بعده / وكان ريّان التصابي والمنى
أطيب عيش المرء في شبابه / فإن تولّى فهو عيش مزدرى
أن حياة المرء ما عاش ترى / أحوالها مختلفات في الرؤى
كالنهر الجاري الذي تغيّرت / أوضاعه في الأرض كلما جرى
فهو لدى المنبع ضحضاح وفي / مصّبه تلقاه بحراً قد طما
بيناه يجري في الثرى منعطفاً / إذا بواديه تمطّى واستوى
طوراً كأسياف الوغى منحنياً / في الأرض ينساب وطوراً كالقنا
وربما عادت مجاريه به / راجعةً من حيث جاء القهقرى
وربما صادف غوطاً فانهوى / فيه وقد خرّ خريراً ورغا
والماء فيه قد يرى منبسطاً / وتارةً منزوياً فوق الثرى
وتارة تلقاه في مشجرة / يجري واخرى بين اصلاد الصفا
حتى إذا أبحر مجراه به / كان إلى الد أماء منه المنتهى
وهكذا أنهار أعمار الورى / تجري فتنصبّ إلى بحر الردى
وإنما العمر شباب فإذا / زال فحزن وشقاء وضنى
ما كان أحلى العيش لو أن الفتى / لم يجد الشيب إليه مختطى
ليت الفتى كالبدر في النشأة إذ / عاد هلالاً كل شهر فنما
أوليته كالشجر النابت إذ / يورق في الصيف ويعرى في الشتا
أوليت هذا الشيب أن كان ولا / بدَّ من الشيب أتى قبل الصبا
شبيبة الإنسان مرآة المنى / بدائع الآمال فيها تجتلى
والمرء فيها أن تمرأى راجياً / أبدت له مبتسماً ثغر الرجا
ويح شباب فتك الشيب به / إذ لاح كالسيف عليه منتضى
بردان هذا من وقار ونهى / حيك وهذا من تصابٍ وهوى
لكن وقار الشيب لا يعدل ما / في طيّه من لوثة ومن ونى
يا مسلياً ذا الشيب عن شبابه / بأن وخط الشيب أزهار النهى
أقصر هذا ذيك عن القول فلا / يقاس ذيّاك تاللّه بذا
وما الصبا بمانعٍ من الحجا / بل هو في الشيخ يكون والفتى
وليس من أصبح يمشي الخيزلى / في معرض السبق كما شي الهيذبي
وما إياة الشمس في تطفيلها / مثل إياة الشمس في رأد الضحا
وهل يطيب العيش للهمّ الذي / أن همّ بالنهضة خانته القوى
يبيت طول الليل في مضجعه / مستأنس السلعة وحشيّ الكرى
وإن ظهر الأرض يستثقل مَن / قام يدبّ فوقها على العصا
يرزت تميس كخطرة النشوان
يرزت تميس كخطرة النشوان / هيفاء مخجلةً غصون البان
ومشت فخفّ بها الصبا فتمايلت / مرحاً فأجهد خصرها الردفان
جال الوشاح على معاطفها / التي قعدت وقام بصدرها النهدان
تستعبد الحرّ الأبيّ بمقلة / دبّ الفتور بجفنها الوسنان
وإذا بدت تهفو القلوب صبابةً / فيها وتركع دونها العينان
أخذ الدلال مواثقاً من عينها / أن لا تزال مريضة الأجفان
تمشي فتنشر في الفضاء محاسناً / بسط الزمان لها يدي ولهان
ويلوح للنظر القريب بوجها / عقل الحليم وعصمة الصبيان
لم أنس في قلبي صعود غرامها / إذ نحن نصعد في ربا لبنان
حيث الرياض يهزّ عطف غصونها / شدو الطيور بأطرب الألحان
لبنان تفعل بالحياة جنانه / فعل الزلال بغلة الظمآن
وتردّ غصن العيش بعد ذبوله / غضاً يميد بفرعه الفينان
فكأن لبناناً عروس إذ غدا / يزهو بنشر غدائر الأغصان
وكأنما البحر الخضمّ سجنجل / يبدي خيال جمالها الفتّان
جبل سمت منه الفروع وأصله / تحت البسيطة راسخ الأركان
تهفو الغصون به النهار وفي الدجى / تهفو عليه ذوائب النيران
وترى النجوم على ذراه كأنها / من فوقه دررٌ على تيجان
للّه لبنان الذي هضباته / ضحكت مغازلةً مع الوديان
يجري النسيم الغضّ بين رياضه / مرخى الذيول معطّر الأردان
جلت الطبيعة في رباه بدائعاً / تكسو الكهول غضاضة الشبان
يا صاحبيّ أتذكران فإنني / لم أنس بعد كما سوى النسيان
إذ كان يغبطنا الزمان ونحن في / وادي الفريكة منبت الريحانى
في ليلة حسد الضياء ظلامها / وعنا لفضل نجومها القمران
متجاولين من الحديث بساحة / ركض البيان بها بغير عنان
والليل يسمع ما نقول ولم يكن / غير الكواكب فيه من آذان
فكأنّ جولتنا بصدر ظلامه / سرٌّ يجول بخاطر الكتمان
ما كنت احسب أن أحلّ ببقعة / لللحسن منبتة وللاحسان
حتى نزلت من الشوير بجنّة / فيها الحياة كثيرة الألوان
فهصرت أغصان الأمان ولم يكن / غير السرور بهنّ قطف دان
ولقيت شاعرها الذي ارتفعت له / كفّ القريض مشيرةً ببنان
حتى إذا تمّ اللقاء قصدت من / ربوات بكفيّا ظلال جنان
يا يوم بكفيّا وبيت شبابها / أفديك من يوم بكل زمان
وسقى زمانك يا ديار بحنّسٍ / صوب المسرة دائم التهتان
فلقد رأيت ضياء مجدك مشرقاً / في وجه كل حلاحل ديان
أفيذكر اللبكى يوم بحنس / حيث اجتمعنا في حمى كنعان
أم ليس يعلم أنني أحببته / حُباً أذبت بناره سلواني
لبست ربا لبنان ثوباً أخضرا / وزهت بحيث الحسن أحم قان
نثر الربيع بهنّ زهراً مؤنقاً / يزري بنظم قلائد العقيان
فبرزن من وشي الطبيعة بالحلى / فكأنهنّ بحسنهنّ غوان
وكأنّ صنّيناً أطلّ مراقباً / يرنو لهنّ بمقلة الغيران
تلك الربا أما الجمال فواحدٌ / فيها وأما أهلها فاثنان
رجل يسير إلى النجاح وآخر / يسعى وغايته إلى الخسران
متخاذلين بها وهم أعوانها / ومن البلاء تخاذل الأعوان
ضعفت مباني كل أمرٍ عندهم / ما بين هادمها وبين الباني
وتفرقوا دنياً كأن لم يكفهم / في النائبات تفرّق الأديان
وسعوا فرادى للنجاح وفاتهم / أن التضامن رائد العمران
يا أهل ذا الجبل المنيع مكانه / تفدى مواطنكم بكلّ مكان
أما محاسنها فهنّ بمنزل / تنحطّ عنه بدائع الأكوان
ومن الفخامة هنّ في غلوائها / ومن الشبيبة هن في ريعان
فتبوّءوا جنّاتهنّ أنيقةً / وابنوا بهنّ كأكرم البنيان
ماذا يثبطكم بها أن تنهضوا / نحو الفخار كنهضة اليابان
إني لأرجو أن أراكم للعلا / متهجّين تهيّج البركان
وأودّ لو تمشون مشية واحد / متكاتفين تكاتف الأخوان
لا تقرنوا بتشتت آراءكم / فالبدر يمحق عند كل قران
أمها جري لبنان طال غيابكم / أين الحنين إلى ربا لبنان
هذي مواطنكم تريد وصالكم / وتئنّ شاكيةً من الهجران
أفترحمون أنينها أم أنتم / لا ترحمون أنين ذي أشجان
إني أرى هجر الرجال بلادهم / شيئاً يضيع كرامة البلدان
واضاعة الوطن العزيز جناية / ضلّ الزمان بها عن الغفران
من كان ذا جدةٍ فأحر بمثله / أن لا يضنّ بها على الأوطان
أرى الحسن في لبنان أينع غرسه
أرى الحسن في لبنان أينع غرسه / وقارب حتى أمكن الكفّ لمسه
إذا ما رأته عين ذي اللبّ مشرقاً / تنزّت به في مدرح الحبّ نفسه
زكا مغرساً فالذام ليس يؤمّه / وطاب جنىً فالسوء ليس يمسّه
قسا صخره لكن تفجّر ماؤه / فلان بكفّ العيش منه مجسّه
لقد لبس الجوّ اللطيف فزانه / بما فيه من غرّ المحاسن لبسه
ففي الليل لم يزعجك برد نسيه / وفي الظهر لم تلفحك بالحرّ شمسه
وقد عبّدت للسالكين طريقه / وحرّر أهلوه وبورك أنسه
فمن كان في طرق التواصل عثرةً / فقد جاز في شرع المحبّة دعسه
تضيء نجوم السعد واليمن فوقه / فينجاب شؤم الدهر عنه ونحسه
ويهمس في أذن الطبيعة جوّه / فيضحكها فوق الربا الخضر همسه
كأن النسيم الطلق بين جنانه / غناء حبيب يطرب النفس جرسه
كأن جبال المَتن حدبة عابد / هوى ساجداً شكراً وبيروت رأسه
يقال عن الأضواء في جوف ليله / ببيروت إذ يغشى من الليل دمسه
تزوّج صنّين الفتى بنت جاره / فأضواء بيروت الوسيطة عرسه
ونبع الصفا والقاع فيه كلاهما / من الحسن ملأى بالبدائع كأسه
جرى الماء في واديهما متدفقاً / بانشودة الأطراب تنطق خرسه
أن تَزُرِ الشاغور يوماً تجد به / من الحسن ما قد خصّ بالفضل جنسه
جرى ماؤه العذب الزلال محاكياً / به الماس صفواً أو هو الماس نفسه
ترى طبع واديه رءوفاً بأهله / شديداً على ما يزعج النفس بأسه
فمن زاره مستوحشاً فهو انسه / ومن جاءه مستنزهاً فهو قدسه
فيا لائمي في حب لبنان انني / أحسّ لعمري منه ما لا تحسّه
إذا كان لبنان كليَلى محاسناً / فلا تعجبوا من أنيي اليوم قيسه
وأن تحمدوا منهُ الأيادي فإنني / أنا اليوم من بعد الأيادي قسَه
عجبت لمدفون به بعد موته / ولم ينتفض حيّاً وينشقّ رمسه
فمن لم يزُره وهو ربّ استطاعة / تحتّم في سجن الحماقة حبسه
ومن زاره مستشفياً زاره الشفا / وإن كان قبلاً يائساً منه نطسه
ولو جاءه من فَيه مسّ وجنّة / لما حلّه إلاّ وقد زال مسّه
وما حلّه مستوحش النفس واجم / من الناس إلاّ تمّ بالضحك انسه
محلّ اصطياف الأغنياء من الورى / يعيش عزيزاً فيه من ذلّ فلسه
فمن يبذلِ الدينار فيما يريده / فمأواه محمود وإِلاّ فعكسه
كمثل الذي لا تصرف الفلس كفُّه / ولو كان دون الفلس يقلع ضِرسه
كتبت كتاب المدح في وصف حسنه / فضاق ولم يستوعب الوصف طرسه
فما كل ما قالت به شعراؤه / سوى ثلث ما يحويه بل هو خمسه
ألا أن في لبنان جوّاً مروّقاً / إذا ما شفى المسلول لم يخش نكسه
إذا شئت أن تسري بكافرة الصوى
إذا شئت أن تسري بكافرة الصوى / يدوّي بقطريها هزيم الرواعد
وتذهب محيار الظلام تخبّطاً / وتعثر في ظلماءها بالجلامد
وتمشي فما تدري إلى قعر هّوة / تروح بها أم للمدى المباعد
فطالع أراجيف الجرائد أنني / أرى الويل كل الويل بين الجرائد
جرائد في دار الخالافة أضرمت / لهيب خلاف بينها غير خامد
ولم كيفها هذا الخلاف وإنما / أطافت بنقص للحقيقة زائد
فما بين مكذوب عليه وكاذب / وما بين مجحودٍ عليه وجاحد
ترى في فَروق اليوم قرّاء صحفها / فريقين من ذي حجةٍ ومعاندٍ
جدال على مرّ الجديدين دائم / بتفنيد رأيٍ أة بتزيف ناقد
فذائد سهم عن رميّ يردّه / وآخر رام سهمه نحو ذائد
وهذا إلى هذي وذاك لغيرها / من الصحف يدعو آتياً بالشواهد
وما هي إلاّ ضجّة كل صائت / بها مدّ للدنيا حبالة صائد
أضاعوا علينا الحق فيها تعمّداً / وعقبى ضياع الحق سود الشدائد
ولم أر شيئاً كالجرائد عندهم / مبادئه منقوضة بالمقاصد
يقولون نحن المصلحون ولم أجد / لهم في مجال القول غير المفاسد
وكيف بين الحق من نفثاتهم / وكلّ له في الحق نفثة مارد
فاياك أن تغير فيهم فكلهم / يجرّ إلى قرصيه نار المواقد
وكن حائداً عنهم جميعاً فإنما / يضلىّ امرؤٌ عن غيّهم غير حائد
على رسلكم يا قوم كم تسمعوننا / مقالة محقودٍ عليه وحاقد
ألا فارحموا بالصفح عن نهج صحفكم / فقد أوردتنا اليوم شرّ الموارد
وما الصحف إلاّ أن تدور بنهجها / مع الحق أنّي دار بين المعاهد
وأن تنشر الأقوال لا عن طماعة / فتأتي بها مشحونةً بالفوائد
وأن لا تعاني غير نشر حقائق / وتنوير أفكار وانهاض قاعد
أتبغون في تلفيقها نفع واحد / وتغضون عن اضرارها ألف واحد
ألا أن صحف القوم رائد نجحهم / وما جاز في حكم النهى كذب رائد
لعمري أن الصحف مرآة أهلها / بها تتجلى روحهم للمشاهد
كما هي ميزان لوزن رقيّهم / وديوان أخلاق لهم وعوائد
ألا تنظرون الغرب كيف تسابقت / به الصحف في طرق العلا والمحامد
بها يهتدي القرّاء للحق واضحاً / كما يهتدي الساري بضوء الفراقد
ولكن أبى الشرق التعيس تقدّماً / مع الغرب حتى في شؤون الجرائد
فلا تحملوا حقداً على ما أقوله / فإني عليكم خائف غير حاقد
وما هي إلاّ غيرة وطنيّة / فإن تجدوا منها فلست بواجد
نجيّت بالسدّ بغداداً من الغرق
نجيّت بالسدّ بغداداً من الغرق / فعمّها الأمن بعد الخوف والفرق
قد قمت بالحزم فيها والياً فجرت / أمورها في نظام منك متّسِق
لقد نجحت نجاحاً لا يفوز به / من خالق الحزم إلا حازم الخلق
ويح الفرات فلو كانت زواخره / تدري بعزمك لم تطفح على الطرق
ولا غدت تجرف الأسداد قاذفةً / منها بسيل على الأنحاء مندفق
حيث الحويرة أمست منك طالبة / رتقاً لسدّ بطامي السيل منفتق
باتت تجيش بتيّار وبات لها / أهل العراقين في همٍّ وفي قلق
حتى إذا أيقنت أرض العراق بأن / تفنى من الظمء أو تفنى من الغرق
شمّرت عن همم تعلو النجوم وقد / أمسى الزمان إليها متلع العنق
فكدت تملأ فرغ الواديين بما / حشرت من طبق يأتيك عن طبق
لما خرجت وكان الخرق متّسعاً / والناس ما بين ذي شك ومتَثق
قالوا نحا شقّةً قصوى وما علموا / بأن عزمك يدني أبعد الشقق
فصدّق الله ظنّا فيك أحسنه / قومٌ وكذب ظنّ الجاهل الخرق
إذ جئت والسدّ تحت الغمر مكتسحٌ / والنهر يرغو بموج فيه مصطفق
وثلمة السدّ كالمهواة واسعة / يهوي بها السيل من فوق إلى العمق
سللت صارم رأيٍ قد أزلت به / ما كان في السيل من طيش ومن نزق
فما تموجّ ماء النهر من غضب / وإنما أخذته رعدة الفرق
ثبّتّ عزمك في أمر يذلّ به / عزم الحصيف لما يحوي من الزلق
تقضى النهار برأب الثأي مجتهداً / وتقطع اليل بالتدبير والأرق
حتى بنيت وكان النهر منفلقاً / سدّاً عليه رصيناً غير منفلق
أرسيته جبلاً قامت ذراه على / أصل مع الموج تحت الماء معتنق
فراحت الناس تمشي فوقه طرباً / والنهر ينساب بين الغيظ والحنق
وصار معكس فخر أنت مرجعه / كالنور يرجع معكوساً إلى الحدق
وقد ركزت به الرايات خافقة / ما بين طاقين مرفوعين في نسق
من كل أحمر قانٍ وسطه قمر / يتلوه نجم بلون أبيض يقق
فظلّ حاسدك المغبون منطوياً / على فؤاد بنار الجهل محترق
ودّ الفرات حياءً منك يومئذ / لو غار يسلك تحت الأرض في نفق
لما اقتدحت زناد الرأي مفتكراً / في الخطب ألهبت منه فحمة الغسق
فأدبر الهمّ وانشقّت غياهبه / كما قد انشقّ سجف الليل بالفلق
أن الأمور إذا استعصت نوافرها / أخذتهنّ من التدبير في وهق
وإن تصاممت الأيام عن طلب / أسمعتهنّ بصوت منك صهصلق
تنحلّ بالرأي منك المشكلات لنا / كالنور ينحلّ ألواناً من الشرق
وكلما زدت تفكيراً بمعضلة / زادت وضوحاً لنا حتى على الشفق
فالفكر منك كأبعاد الفضاء بلا / حدٍّ يسابق خطف البرق في الطلق
يحكي الأثير إذا أجرى تلاطمه / أبدي سواطع نور منه منبثق
لك الثناء علينا أن نخلّده / نقشاً على الصخر لا رقماً على الورق
تاللّه لو بلغت زهر النجوم يدي / من كل جرم بصدر الليل مؤتلق
رتبتها حيث كل الناس تقرؤها / سطراً بمدحك مكتوباً على الأفق
ناح الحمام وغرّد الشحرور
ناح الحمام وغرّد الشحرور / هذا به شجن وذا مسرور
في روضة يشجي المشوق ترقرق / للماء في جنباتها وخرير
ماء قد انعكس الضياء بوجهه / وصفا فلاح كأنه بلّور
قد كاد يمكن عند ظنّي أنه / بالماس يوشر منه لي موشور
وتسلسلت في الروض منه جداول / بين الزهور كأنهنّ سطور
حيث الغصون مع النسيم موائل / فكأنهنّ معاطف وخصور
ماذا أقول بروضة عن وصفها / يعيا البيان ويعجز التعبير
عني الربيع بوشيها فتنوّعت / للعين أنوار بها وزهور
مثلت بها الأغصان وهي منابر / وتلت بها الخطباء وهي طيور
متعطّر فيها النسيم كأنّما / جيب النسيم على الشذا مزرور
للنرجس المطلول ترنو أعين / فيها وتبسم للأقاح ثغور
تخذت خزاماها البنفسج خدنها / وغدا يشير لوردها المنثور
وكأن محمرّ الشقيق وحوله / في الروض زهر الياسمين يمور
شمع توقّد في زجاج أحمر / فغدا حواليه الفراش يدور
وتروق من بعدٍ بها فوّارة
وتروق من بعدٍ بها فوّارة / في الجو يدفق ماؤها ويفور
يحكي عمود الماء فيها آخذاً / صعداً عمود الصبح حين ينير
ناديت لما أن رأيت صفاءه / والنور فيه مفلفل مكسور
هل ذاك الماس يجمد صاعداً / أم قد تجسّم في الهواء النور
تناثرت القطرات في أطرافها / فكأنما هي لؤلؤ منثور
ينحلّ فيها النور حتى قد ترى / قوس السحاب لها بها تصوير
كم قد لبست بها الضحا من روضة
كم قد لبست بها الضحا من روضة / فيها علتني نضرة وسرور
فأجلت في الأزهار لحظ تعجّبي / ولفكرتي بصفاتهنّ مرور
فنظرتهنّ تحيّراً ونظرنني / حتى كلانا ناظر منظور
فكأنّ طرف الزهر ثمّة ساحر / لمّا رنا وكأنني مسحور
أن الزهور تكنّهنّ براعم / مثل العلوم تجنهن صدور
وتضّوع النفحات منها مثله / تبينها للناس والتقرير
وبتلك قلب الجهل مصدوع كما / ثوب الهموم بهذه مطرور
والزهر ينبته السحاب بمائه / كالعلم ينبت غرسه التفكير
أن كان هذا في الحدائق بهجةً / يزهو فذلك في النهي تنوير
أو كان هذا لا يدوم فإن ذا / ليدوم ما دامت تكرّ عصور
لعمرك أن قصر البحر قصرٌ
لعمرك أن قصر البحر قصرٌ / به يسلو مواطنه الغريب
وتمتلئ العيون به ابتهاجاً / إذا نظرت وتنشرح القلوب
تروق الناظرين بجانبيه / مناظر دونها العجب العجيب
فمن شمس يصافحها طلوع / ومن شمس يعانقها غروب
ومن سفن تجئ بها شمال / ومن سفن تروح بها جنوب
وأخرى حوله خمدت لظاها / وأخرى في الفؤاد بها لهيب
أطلّ على المياه فقابلته / بوجهٍ لا يمازده شحوب
يقبّل جانبيه البحر حتى / كأن البحر مشغوف كئيب
أحاط به فكان له رقيباً / ومغناه الأنيق له حبيب
وما هذا التموّج من هواءٍ / ولكن من هوىً فهو الوجيب
كأن الموج في الدأما رجال / وهذا القصر بينهم خطيب
تخاطبهم مبانيه فيعلو / من الأمواج تصفيق مهيب
قلمّ به المسرّات ازدياراً / فتعرفه وتجهله الكروب
وما انفردت به بيروت حسناً / ولكنّ القصور بها ضروب
تبسّمت البلاد بكلّ أرض / وما زال العراق به قطوب
فها هو من تكاسل قاطنيه / تجرّ عليه كلكلها الخطوب
إذا تدعو الرجال به لخيرٍ / يجيبك من تخاذلهم مجيب
فيا لهفي على بغداد أمست / من العمران ليس لها نصيب
سأبكي ثم استبكى عليها / إذا نضبت من العين الغروب
أيا بغداد لا جازتك سحبٌ / ولا حلّت بساحتك الجدوب
تطاول ساكنوك عليّ ظلماً / فضاق علي مغناك الرحيب
وكم نطقوا بألسنةٍ حدادٍ / يسيل لها من الأشداق حوب
رماني القوم بالالحاد جهلاً / وقالوا عنده شك مري
ألا يا قوم سوف يجد جدّي / وسوف يخيب منكم من يخيب
فمن ذا منكم قد شقّ قلبي / وهل كشفت لكم فيّ الغيوب
فعند اللّه لي معكم وقوف / إذا بلغت حناجرها القلوب
يقيني شرّ فريتكم يقيني / بأنّ الله مطّلع رقيب
ولم تخفر لكم عندي ذمام / ولكن عادة الريح الهبوب
وفدفدٍ قاتم الأعماق متسع
وفدفدٍ قاتم الأعماق متسع / طويت أجوازه طيّ المكاتيب
بتَومبيل جرى في الأرض منسرحاً / كما جرى الماء من سفح الأهاضيب
ينساب مثل انسياب الأيم تحمله / عوامل عجلات من دواليب
كأنها وهي بالمطّاط منعلةٌ / تمشي بأخفاف أنواق مطاريب
يمرّ كالريح لم تسمع لأرجله / سوى حفيف كنفخ في الأنابيب
وتنكر الخيل أن جارته في سنن / ما تعرف الخيل من حضرٍ وتقريب
تظلّه قبّة فيه منجّدة / قد زانها حسن تنجيد وتقبيب
يخال من حلّ فيها نفسه ملكاً / يزهى بتاج على الفودين معصوب
ركبته وبياض الصبح تحسبه / صدر المليحة مكشوف التلابيب
والبدر في الأفق الغربيّ ممتقع / يرنو إلى الفجر في ألحاظ مرعوب
وللنجوم بقايا في جوانبه / كالعقد منفرطاً من جيد رعبوب
وللنسيم هبوب في مدارجه / ما ينعش الروح من نشر ومن طيب
فطار من غير تحليق براكبه / بل مرّ يمطر مطراً فوق ملحوب
وسار سيراً دِراكاً ملء مهيعه / كالوبل يتبع شؤبوباً بشؤبوب
فكنت أبصر حولي الأرض جاريةً / كمثل تيّار بحر وهو يجري بي
يلوح فصل الربا وصلاً فأحسبها / من سعرة المرّ قد صفّت بترتيب
ما زال يجتاز بي ما في البسيطة من / سهل ومن جبل عالي الشناخيب
حتى بلغت به أقصى مدىً عجزت / عنه العتاق من الجرد السراحيب
وكم علا بي أنشازاً تسلقها / وشاب في السير تصعيداً بتصويب
لا يعرف الأين منه أين موقعه / ولو يواصل ادلاجاً بتأويب
وكيف يتعب من لا حسّ يتبعه / ولا يسير على ساقٍ وظنبوب
وإنما هو يجري في مسالكه / دفعاً بقّوة غازٍ فيه مشبوب
جرّبته هابطاً أجزاع أودية / وطالعاً في الثنايا والعراقيب
وملهباً في سهول الأرض ينهبها / نهباً ويخلط الهوباً بالهوب
فكان أسبق مركوبٍ لغايته / وكنت أقرب طّلاب لمطلوب
تلك المطيّة لا ما كان يذكرها / أديب ذبيان من عيرانة النيب
لو امتطاها لبيد قبل تاه بها / على الحواضر قدماً والأعاريب
ولم يهم لو رأى ابن العبد منظرها / من وصف عوجائه في كل اسلوب
ولا أطال ابن حجرٍ وصف منجرد / عالي السراة كميت اللون يعبوب
من كان يأرق بالهمو
من كان يأرق بالهمو / م فقد أرقت من السرور
وطربت من صوت يجى / ءُ إلىَّ من غرف القصور
صوت كأن الغانيا / ت أعرنه هيف الخصور
ونضحن من ماء الحيا / ة عليه في شنب الثغور
سرّى الهموم ن الفؤا / د بجوف حالكة الستور
والعود ينطق باللحو / ن بلهجتي بمّ وزير
يرمي به الصوت الرخي / م على الدجى لمعات نور
ملأ الظلام توقّداً / كالكهرباءة في الأثير
يحكي الزلال لدى العطا / ش أو الثراء لدى الفقير
أصغيت منقطعاً إلي / ه عن المواطن والعشير
فحسبت نفسي في الجنا / ن بغير ولدان وحور
وطفقت أدّكر العرا / ق فعاد صفوي ذا كدور
فرجَعت عن ذاك السما / ع وغِبت عن ذاك الشعور
وذكرت من تبكي هنا / ك عليّ بالدمع الغزير
تستوقف العجلان ثَمّ / ةَ بالرنين عن المسير
وتقول من مضض الفرا / ق مقال ذي قلب كسير
أبنيّ سر سير الأما / ن من الطوارق في خفير
يا أمّ لا تخشى فإنّ / اللّه يا أمي مجيري
ودعي البكاء فإنّ قل / بي من بكائك في سعير
أعلمت أني في دمش / ق أجرّ أذيال السرور
بين الغطارفة الذي / ن تخافهم غير الدهور
من كل وضّاح الجبي / ن أغرّ كالبدر المنير
حرّ الشمائل والفعا / ئل والظواهر والضمير
كان أبو الطيّب امرأ قوله
كان أبو الطيّب امرأ قوله / يبتكر الشعر مذكياً شعله
صاحب نفس كبيرة شرفت / فشرّفت حلّه ومر تحله
كان هو الشاعر الذي انتشرت / أشعاره في البلاد منتقله
أوجدت للشعر دولة عظمت / به فعزت من غيره دوله
من كل معنىً أغرّ مؤتلق / في لفظه كالعروس في الحجلة
وربما رقّ لفظه فبدت / في شعره كل كلمة ثمله
وربما لم تبن مقاصده / لأنها فيه غير مبتذله
فسائلهن عن قريضه حلباً / كم قطفت من زهرة خضله
خلّد ذكراً لسيف دولتها / أيام وشى بمدحه خلله
فاعجب لسيف لم تبل جدّته / وشاعر بالمديح قد صقله
لو حاز موسى مضاء عزمته / ماتاه في التيه عندما دخله
وهو الذي اجتازه بيعملَة / تحمل منه الهمام لا التكله
قد بات كافور من جراءتها / على الموامي بمهجة وجله
إِذ أعجزته بالسير عن طلب / لا خيله تختشي ولا ابله
فسل به النيل يوم ناقته / تغمرّت منه وانتحت جبله
كيف أتى مصر كالعقاب لكي / يبلغ فيها بشعره أمله
وكيف أحيا بالمدح أسودها / ثم وشيكا بهجوه قتله
في شعره حكمة مهذّبة / وروعة بالذكاء مشتعلة
ونغمة بالشعور صادحة / وصنعة بالفنون متصّلة
قدرته في البيان واسعة / يتيه فيها السؤال والسأله
إذا المعاني بذهبه ازدحمت / ما ربكت في انتقائها حيله
كم شاعر قد قفا له أثراً / وناقد راح يبتغي زلله
فأخفقوا عاجزين عن درك / لبعض ما كلّه تيسرّ له
قل لابن عبّاد أيّ منقصة / من أجلها كنت مكثراً عذله
أطبعه بالذكاء متقداً / أم نفسه بالاباء مشتمله
أم شعره والعصور ما برحت / تسعى بل استجادة قبله
لكنما رمت من مدائحه / ما لم تكن سالكاً له سبله
طماعة منك غير واعية / وهي لعمري حماقة وبله
أكبر من أكبر القريض به / وأكبر القاتلين من قتله
يا قاتليه لو تعلمون به / أذن قتلتهم نفوسكم بدله
لكنكم تجهلون رتبته / ماذا فعلتم يا أجهل الجهله
قتلتم الشعر والاجادة والاب / داع فيه يا ألأم القتله
لستم بذا القتل من بني أسد / بل أنتم فيه من بني ورله
لم يزل الدهر بعد مقتله / يضرب في الشعر للورى مثله
كان له عند كلّ بادهة / بدائع في القريض مرتجله
يصطاد في الشعر كلّ شاردة / من القوافي بفطنة عجله
فلا تقسه بغير أدباً / وهل تقاس المعطار بالتفله
كم شاعر يدعي وليس له / من شعره غير منطق الحجله
أن أنت أنشدت شعره هزؤاً / رجعت منه كآكل البصله
وربّ شعر إذا لفظت به / من هجنة فيه تأنف السبله
الشعر معنىً ألفاظه حسنت / فنسّقت في بلاغة جمله
وكلما قصَرت قوالبه / عن حسن معناه أوسعت خلله
حسن المعاني بلفظها مشوهٌ / كحسن حسناء ثوبها سمله
من ذاق في الشعر طعم معجزه / فأحمد الشاعر الذي أكله
أي مقام هيجاؤه احتدمت / بالشعر يوماً ولم يكن بطله
كان عزيزاً يأبى الهوان فما / قرّ عليه يوماً ولا قبله
كم منزل قد نبا به فسرى / مُتّخذ الليل في السرى جمله
كان كما قال وهو مفتخر / بفضل ما قاله وما فعله
جوهرة يفرح الكرام بها / وغصّة لا تسيغها السفله
حيّ هل يا أخا مصر
حيّ هل يا أخا مصر / ندّكر خير مدّكر
ندّكر شاعر البشر / خير من قال وافتكر
حيّ هل أيها الملا / نحي ذكرى أبي العلا
شاعر شعره اجتلى / صوراً كلها غرر
شاعر يملأ الفضا / نفسه صعبة الرضى
دونه كلّ من مضى / دونه كل من غبر
هو بالفكر مذ سما / كان من نوره العمى
شاعر الأرض والسما / شارف الشمس والقمر
حلّ في ذروة الأدب / آتياً منه بالعجب
لا تقل شاعر العرب / أنه شاعر البشر
جعل الصدق ديدنا / تاركاً هذه الدنى
أن تناءى أو ادّنى / فهو للحق ينتصر
عبقريّ بشعره / عالميّ بفكره
يعربيّ بنجره / تشرف العرب أن ذكر
جعل الشعر وحيه / موقظاً فيه وعيه
ما ورى فيه وريه / قبله كلّ من شعر
خطّ سفراً به ابتغى / غنية الروح بالرغى
جامعاً أفصح اللغى / حاوياً أكبر العبر
حكّم العقل واجتهد / وتعالى عن الفند
هو في القول ما اعتمد / غير ما ذاق واختبر
شعره شفّ عن دها / ما له فيه منتهى
بنظام هو النهى / وحروف هي الدرر
شعره شعر متقن / فيه شك لموقن
فيه كفر لمؤمن / فيه إيمان من كفر
نفسه وهي ثائره / تركت غير خاسره
كل دنياً وآخره / ونفت كل ما استقر
جعل الحق ذوقه / باذلاً فيه طوقه
شاعر ليس فوقه / شاعر من بني البشر
شاعر الأرض والسما / هو بالفكر مذ سما
أبصر الحق بالعمى / لم يضره عمى البصر
هو بالشعر أن شدا / يتجلّى لك الهدى
مدركاً أبعد المدى / بالمعاني التي ابتكر
جانب الناس واعتزل / قائلاً أنهم همل
شرّهم غير محتمل / خيرهم غير منتظر
دينهم من ريائهم / وهو في أغبيائهم
ليس في أذكيائهم / غير من مان أو مكر
ما بهم غير حاسد / دائب في المكايد
مبتغى كل واحد / منهم الجور أن قدر
كوكب قد توقّدا / في سماء من الهدى
عند ما غمّه الردى / أظلم الجوّ واعتكر
ليس للموت عنده / من تقاريع بعده
أن عرا الحيّ ردّه / فاقد الحسّ كالحجر
فيه يأمن الفتى / كل ما راع أو عتا
لا مصيف ولا شتا / لا نعيم ولا سقر
تجن أسرى ذواتنا / خشية من مماتنا
كم وكم في حساتنا / مبتدأ ماله خبر
كيف قد حاولوا اغتيالك غدرا
كيف قد حاولوا اغتيالك غدرا / خاب من دسّهم إليك وأغرى
يوم جاءوك في المطاف ببيت الل / ه تسعى وتذكر اللّه جهرا
حرم اللّه وهو ساحة أمن / ضجّ منهم إذ أحدثوا فيه ذعرا
أن هذا في الجاهليّة والإس / لام فعل يعدّ نكراً وكفرا
أيّ أشدّ من كفر قوم / جعلوا الحجّ للجنايات سترا
يا إمام الهدى وربّ المعالي
يا إمام الهدى وربّ المعالي / ومليكاً تطيعه العرب طرّا
لست ممن بالقتل يردى ويفنى / لك خلد الحياة دنياً وأخرى
لو أطاقوا أن يقتلوا منك جسماً / ما أطاقوا أن يقتلوا منك ذكرا
فإذا عشت عشت ملكاً مطاعاً / مالكاً في البلاد نهياً وأمرا
وإذا متّ لا رأيناك ميتاً / عاش بعد الممات ذكرك دهرا
أنت الجيش مذ زحفت إليهم / علناً جئتهم وجاءوك خترا
مثلهم تفعل اللئام ويأبى / مثلك الغدر كل من كان حرّا
عجزوا عن لقاك بالجيش حرباً / فاستجاشوا العدوان كيداً ومكرا
أنهم أقصر الورى عنك باعاً / وأقلّ الأنام عقلاً وفكرا
أين هم منك قدروة وفعالاً / حين جاءوا وأين هم منك قدرا
إنهم حين هاجموك لقتل / كذباب غدا يهاجم نسرا
ليس هذا الزيديّ إلا ابن آوى / جاء يغتال منك ليثاً هزبرا
ليس بِدعا تجاة ليث هصور / من كليب عدا عليه وهّرا
لافتضاح العدوّ لا لنجاة / سجد الناس عنك للّه شكرا
دمت عبد العزيز للعرب ذخراً / ولأهل الإسلام عزاً وفخرا
حارساً أربع العروبة بالسي / ف معيداً لها الزمان الأغرّا
وإماماً تبلّج الحق فيه / بعد أن كان كالحاً مكفهرّا
فبك اليوم بعد طول اضطراب / أصبح الأمر ثابتاً مستقرّا
كلما زدت أنت نصراً لدين الل / ه بالحق زادك اللّه نصرا
كم رأيناك جاهداً تتسامى / بفعال غدت له الناس أسرى
فبيوم الوغى تأجّجت ناراً / وبيوم الندى تدفقت بحرا
فتقبّل مني تهانئ حرّ / لا يداجي الورى إذا قال شعرا

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025