المجموع : 33
وتجلَّى المساءُ في ضوءِ بدر
وتجلَّى المساءُ في ضوءِ بدر / وشُفوفٍ غُرِّ الغلائلِ حُمرِ
وسماءٍ تطفو وترسب فيها ال / سحبُ كالرغوِ فوق أمواج بحرِ
صور جَمّةُ المفاتنِ شتَّى / كرؤى الحلمِ أو سوانحِ فكرِ
لا ترى النفسُ أو تحسُّ لديها / غير شجوٍ يفيضُ من نبعِ سحرِ
أُفُقُ الأرضِ لم يزَلْ في حواشي / هِ صدىً حائرٌ بألحانِ طيرِ
وبأحنائِهِ يَرفُّ ذماءٌ / من سنى الشمس خافقٌ لم يقرِّ
وعلى شاطئ الغدير ورودٌ / أغمضتْ عينها لمطلعِ فجرِ
وسرى الماءُ هادئاً في حوا / فيه يُغنِّي ما بين شوكٍ وصخرِ
وكأنَّ النجومَ تسبَحُ فيه / قبلاتٌ هَفَتْ بحالمِ ثغرِ
وكأنَّ الوجودَ بحرٌ من النُّو / ر على أفقهِ الملائكُ تسري
هتفتْ نجمة أرى الكونَ تبدو / في أساريرهِ مخايلُ بشرِ
وأرى ذلك المساءَ يثير السح / رَ والشجوَ ملءَ عيني وصدري
أتُرانا بليلةِ الوحيِ والتن / زيلِ أم ليلةِ الهوى والشعرِ
ما لهذا المساء يشغفنا حُب / بَاً ويُوري بنا الفتونَ ويغري
أيُّ سرٍّ تُرى فرنَّ هتافٌ / بنجيٍّ من الصدى مُستسرِّ
إنَّ هذا المساء ميلادُ شاعِرْ /
وتجلِّي الصَّدى الحبيبُ الساحرْ
وتجلِّي الصَّدى الحبيبُ الساحرْ / في محيطٍ من الأشعَّةِ غامرْ
وسكونٍ يبثُّ في الكون روعاً / وقفتْ عِندَهُ الليالي الدوائرْ
واستكانَ الوجودُ والتفتَ الده / رُ وأصغتْ إلى صداه المقادرْ
لم يَبِنْ صورةً ولكن رأتهُ / بعيونِ الخيالِ مِنَّا البصائرْ
قال يا شاعري الوليدَ سلاماً / هزت الأرضَ يوم جئْتَ البشائرْ
فإليك الحياةَ شتَّى المعاني / وإليكَ الوجودَ جَمّ المظاهِرْ
لا تَقُلْ كم أخٍ لك اليومَ في الأر / ضِ شقيِّ الوجدانِ أسوانَ حائرْ
إن تكنْ ساورَته في الأرض آلا / مٌ وحَفَّتْ به الحدودُ العواثرْ
فلكيْ يَسْتَشِفَّ من خَلل الغي / بِ جمالاً يُذكي شبابَ الخواطرْ
ولكيْ ينهلَ السعادةَ من نب / عٍ شهيِّ الورود عذبِ المصادرْ
فلكم جاءَ بالخيالِ نبيٌّ / ولكم جُنَّ بالحقيقةِ شاعرْ
إنما يسعدُ الوجودُ وتشقو / نَ وإني لكم مثيبٌ وشاكرْ
ولكم جنتي اصطفيتكم اليو / مَ لتُحيُّوا بها جميلَ المآثرْ
فانسقوها جداولاً ورياضاً / واجعلوها سَرْحَ النهي والنواظرْ
اجعلوا النهرَ كيف شئتمْ ومُدّوا / شاطِئيهِ بين المروجِ النواضرْ
ماؤه ذوبُ خمرةٍ وسنا شم / سٍ وريّا وردٍ وألحانُ طائرْ
وضَعوا هضبةً تُطلُّ عليه / ذاتَ صخرٍ منَوّرِ العشب عاطِرْ
واغرسوا النخلة الجنيَّةَ فوق النب / ع في الموقفِ البديعِ الساحرْ
واجعلوا جنتي قصيدةَ شاعِرْ /
أيها الشاعرُ اعتمدْ قيثارَكْ
أيها الشاعرُ اعتمدْ قيثارَكْ / واعزفِ الآنَ مُنْشِداً أشعارَكْ
واجعلِ الحُبَّ والجمالَ شعارَكْ / وادْعُ ربّاً دعَا الوجودَ وبارَكْ
فزها وازدهى بميلاد شاعِرْ /
إذا داعبَ الماءُ ظلّ الشَّجرْ
إذا داعبَ الماءُ ظلّ الشَّجرْ / وغازلتِ السُّحبُ ضوءَ القمرْ
وردَّدتِ الطير أنفاسَها / خوافقَ بين الندى والزَّهَرْ
وناحتْ مطوقةٌ بالهوى / تناجي الهديلَ وتشكو القدرْ
ومرَّ على النهرِ ثغرُ النسيم / يُقَبِّلُ كلَّ شراعٍ عبرْ
وأطلعتِ الأرضُ من ليلها / مفاتنَ مختلفاتِ الصُّورْ
هنالك صفصافةٌ في الدُّجَى / كأنَّ الظلامَ بها ما شعرْ
أخذتُ مكانيَ في ظلها / شريدَ الفؤادِ كئيبَ النظرْ
أمرُّ بعيني خلال السماء / وأُطرقُ مستغرقاً في الفِكَرْ
أطالعُ وجهك تحت النخيلِ / وأسمعُ صوتك عند النَّهَرْ
إلى أنْ يَمَلَّ الدجى وحشتي / وتشكو الكآبةُ مني الضجرْ
وتعجبُ من حيرتي الكائناتُ / وتُشفِقُ منِّي نجومُ السّحرْ
فأمضي لأرجعَ مستشرفاً / لقاءَك في الموعدِ المنتظرْ
على الصخرةِ البيضاءِ ظللني الدُّجى
على الصخرةِ البيضاءِ ظللني الدُّجى / أسِرُّ إلى الوادي نجيَّةَ شاعرِ
سمعتُ هديرَ البحر حولي فهاجَ بي / خوالجَ قلبٍ مُزبد اللجِّ هادرِ
وقفتُ أشيعُ الفكرَ فيها كأنما / إلى الشاطئِ المجهولِ يسبحُ خاطري
وقد نشرَ الغربُ الحزينُ ظلالَهُ / على ثَبَجِ الأمواجِ شُعْثَ الغدائرِ
ومن خَلْفها تبدو النخيلُ كأنها / خيالاتُ حِنٍّ أو ظلالُ مساحرِ
ألا ما لهذا البحر غضبانَ مثلما / تنفَّسُ فيه الريحُ عن صدرِ ثائرِ
لقد غمر الأكواخَ فوق صخوره / ولجَّ بها في موجه المتزائرِ
وأنحى على قطَّانها غيرَ مُشفقٍ / بهم أو مجيلٍ فيهمو عينَ باصرِ
وما لي كأني أبصرُ الليلَ فوقه / يرفُّ كطيفٍ في السماواتِ حائرِ
ألا أينَ صيادوهُ فوق ضفافِه / يهيمون في خلجانهِ والجزائرِ
وبحارةُ الوادي تلفَّعُ بالدُجى / وتُنْشِد ألحانَ الربيع المباكرِ
لقد غرقوا في إثر أكواخهم به / وما لمسوا من حكمِه عفوَ قادرِ
وسجَّاهمُ باليمِّ زاخرُ موجهِ / وأنزَلهم منه فسيحَ المقابرِ
أصِخْ أيها الوادي أما منك صرخةٌ / يدوِّي صداها في عميق السرائرِ
أتعلمُ سِرَّ الليل أم أنت جاهلٌ / بلى إنه يا بحرُ ليلُ المقادِرِ
لا تفزعي يا أرضُ لا تفرَقي
لا تفزعي يا أرضُ لا تفرَقي / من شَبَحٍ تحت الدُّجى عابرِ
ما هو إلَّا آدميٌّ شقي / سمَّوْهُ بين الناسِ بالشاعرِ
حنانَكِ الآن فلا تُنكري / سبيلَهُ في ليلكِ العابسِ
ولا تُضلّيهِ ولا تنْفري / من ذلك المستصرخ البائسِ
مُدِّي لعينيهِ الرّحابَ الفِساحْ / ورقرقي الأضواءَ في جفنهِ
وامسكي يا أرضُ عصْفَ الرياحْ / والرّاعدَ المنصبَّ في أذنِه
أتسمعينَ الآن في صوتهِ / تَهَدُّجَ الأنَّاتِ من قلبهِ
وتقرأينَ الآنَ في صمتِهِ / تَمرُّدَ الرُّوحِ على ربهِ
في وقفةِ الذّاهلِ ألقى عصاهْ / مُولّيَ الجبهةِ شطرَ الفضاءْ
كأنما يَرْقى الدجى ناظراهْ / ليستَشِفّا ما وراءَ السماءْ
يَسقُطُ ضوءُ البرقِ في لمحهِ / على جبينٍ باردٍ شاحِبِ
ويستثيرُ البردُ في لفحهِ / ناراً تَلظَّى من فمٍ ناضبِ
أنتِ له يا أرضُ أمٌ رؤومْ / فأشهدي الكون على شِقوَتهْ
وردِّدي شكواهُ بين النجومْ / فهوَ ابنُكِ الإنسانُ في حيرتهْ
ما هو إلا صوتُكِ المرسلُ / وروحُكِ المستعبَدُ المرهَقُ
قد آدَهُ الدهرُ بما يحملُ / فجاءَ عن آلامِهِ ينطقُ
طغَى الأسى الدّاوي على صوتهِ / يا للصَدَى من قلبهِ النَّاطقِ
مضى يبثُّ الدهرَ في خفْتهِ / شكايةَ الخلقِ إلى الخالقِ
لا تَعْدُني يا ربِّ في محنتي / ما أنا إلَّا آدميٌّ شقي
طَرَدْتَني بالأمس من جنتي / فاغفرْ لهذا الغاصبِ المحنَقِ
حنانكَ اللهمَّ لا تغضبِ / أنتَ الجميلُ الصفحِ جمُّ الحنانْ
ما كنتُ في شكوايَ بالمذنبِ / ومنكَ يا ربِّ أخذتُ الأمانْ
ما أنا بالزاري ولا الحاقدِ / لكنني الشَّاكي شقاءَ البشَرْ
أفنيتُ عمري في الأسى الخالدِ / فجئتُ أستوحيكَ لطفَ القدَرْ
تمرَّدت روحي على هيكلي / وهيكلُ الجسمِ كما تعلمُ
ذاك الضعيفُ الرأيِ لم يفعلِ / إلَّا بما يوحي إليه الدمُ
يَعرُقُ حدُّ السيفِ من لحمه / ويحطمُ الصّفوانُ بنيانَهُ
وينخَرُ الجرثومُ في عظمهِ / ومنهُ يُنْمي القبرُ ديدانُه
ما هوَ إلَّا كومةٌ من هباء / تمحقهُ اللمسةُ من غضبتِكْ
فكيف يشني الروحَ عما تشاء / وكيف يقوى وهي من قدرتكْ
روحُكَ في روحي تبثُّ الحياهْ / نزلتُ دنيايَ على فجرِها
فإنْ جفاها ذاتَ يومٍ سناهْ / لاذتْ بليلِ الموتِ في قبرِها
ومثلما قدَّرْتَ صوَّرتَها / فروحكَ الصوتُ وروحي الصدَى
طبيعةٌ في الخلْقِ ركَّبتها / وما أرى لي في بِناها يدا
لكنّما روحُكَ من جوهرِ / صافٍ وروحي ما صَفتْ جوهرا
أوْ لا فما للخيرِ لم يُثمرِ / فيها وما للشرِّ قد أثمرا
تقولُ روحي إنها مُلهَمهْ / فهيَ لما قدَّرْتُه مُتبِعهْ
مقودةٌ في سيرها مُرْغمَهْ / وإنْ تراءَتْ حرَّةً طيِّعهْ
قيّدتها بالجسم في عالمِ / تضجُّ بالشهوة فيهِ الجسومْ
كلاهما في حبّهِ الآثمِ / لم يصْحُ من سُكراهُ وهو الملومْ
تُبدي بهِ الأجسامُ سحرَ الحياهْ / في معرضٍ يجلو غريبَ الفنونْ
نواعسَ الأجفانِ حُوَّ الشفاهْ / شديدةَ الإِغراءِ شتَّى الفتونْ
ولم أكنْ أولَ مُغرَى بما / أغرَتْ بهِ حواءَ أو آدما
إرثٌ تمشَّى في دمي منهما / ميراثهُ ينتظمُ العالما
فأنتَ قدَّرتَ عليَّ الشقاء / من حيثُ قدَّرتَ عليّ النعيمْ
وما أرى هل في غدٍ لي ثواء / بالخلدِ أمْ مثوايَ نارُ الجحيمْ
ما أثِمتْ روحي ولا أجرمتْ / ولا طغى جسمي ولا استهترا
عناصرُ الروح بما أُلهِمَتْ / أوحت إلى الجسمِ فما قصَّرا
كلاهما لم يَعْدُ تصويرَهُ / ما كان إلَّا مِثلما كُوِّنا
كم حاولا بالأمسِ تغييرَهُ / فاستكبرَ الطبعُ وما أذعنا
أمنذِري أنت بيومِ الحسابْ / ولائمي أنتَ على ما جرى
رُحماك ما يرضيكَ هذا العذَابْ / لطيّعٍ لم يَعْصِ ما قُدِّرا
ما كنتُ إلا مثلما رُكِّبَتْ / غرائزي ما شئتَ لا ما أشاء
فلتجزِها اليوم بما قدَّمتْ / وإن تكنْ مما جَنتهُ براء
وفيمَ تُجزى وهيَ لم تأثمِ / ألستَ أنت الصائغَ الطابعا
ألمْ تسِمْها قبلُ بالميسمِ / ألمْ تصُغْ قالبها الرائعا
ألم تصُغْها عنصراً عنصرا / من أين ما علمي وأنت العليمْ
جَبَلتها يومَ جبلتَ الثرى / من عالم الذرِّ ودنيا السَّديمْ
الخيرُ والشرُّ بها توأمانْ / والحبُّ والشهوة في طبعِها
حوّاءُ والشيطانُ لا يبرحانْ / يُساقِطان السّحرَ في سمعِها
تشكّكتْ نفسي بما تنتهي / إليهِ دنياها وماذا يكونْ
مضتْ فما آبتْ بما تشتهي / من حيرة الفكر وهجس الظنونْ
رأتْ إساري في قيودٍ ثقالْ / بين يدَيْ ذي مِرّةٍ يبسمونْ
يسوقهم في فلواتِ الليالْ / في بطشِ جَبَّارينَ لا يرحمونْ
إنْ ضجَّ في الأغلالِ منهم طليحْ / أخرسهُ السوطُ الذي يُرهفُ
وإنْ هوى للأرضِ منهمْ جريحْ / أنهضهُ في قيدهِ يَرْسُفُ
يا ويحهم ما عرفوا مَوئِلا / من قسوةِ الدهرِ وجورِ القضاء
يا أرضُ ما كنتِ لنا منزلا / ما أنتِ إلا موبقُ الأبرياء
أفي سبيل العيشِ هذا الصراعْ / أم في سبيل الخلدِ والآخرهْ
وهؤلاء البائسونَ الجياعْ / تطحنهم تلك الرَّحى الدائرهْ
ما ذنبُ هذا العالم الثَّائِرِ / إنْ حاولَ الإفلاتَ من آسره
ما كانَ في ميلادهِ الغابرِ / أسعدَ حالاً منهُ في حاضره
ما كانَ لو لم تنزُ آلامُهُ / بالماجنِ الرُّوحِ ولا الهائمِ
ولو جرَتْ بالصفوِ أيامهُ / ما كانَ بالرَّازي ولا الناقمِ
رأى بعينيه المصيرَ الرهيبْ / وكيف غالَ الناسَ من قبْلِه
وكلَّ يومٍ للمنايا عصيبْ / يسوقُهم للموتِ من حولِهِ
فحقَّرَ الدُّنيا وأزرى بها / وقالَ ما لي أنكرُ الواقعا
فلتَسْعَدِ النفسُ بأنخابها / من قبْلِ أن تلقى الغدَ الرائعا
أيصبحُ الإنسانُ هذا الرميمْ / والجيفةَ الملقاةَ نهبَ الترابْ
أيستحيلُ الكونُ هذا الهشيم / والظلمة الجاثمُ فيها الخراب
لمنْ إذاً تبدعُ تلك العقولْ / أفي الرَّدى تدرك ما فاتها
أم في غدٍ تثوي بتلك الطلولْ / ويسحقُ الدهرُ يواقيتَها
وآسفا للعالَمِ البائدِ / ليس له مما يرى مهربُ
على رنينِ المنجَلِ الحاصدِ / مضى يُغنِّي وهوَ لا يطربُ
فَدَعهُ ينسى بعضَ ما حُمِّلا / من نكد الدنيا وضنكِ الحياهْ
وأوْلِهِ العطفَ الذي أمَّلا / فإنهُ أولى بعطفِ الإلهْ
ما هي إلَّا لحظاتٌ قصارْ / تَمُرُّ مِثْلَ الومضِ في عينهِ
فإن مضى الليلُ وجاءَ النهارْ / عاودَهُ الخالدُ من حزنهِ
وما أتى الغَيَّ ليعصى الإلهْ / يوماً ولا كان بهِ مُغرَما
لكنْ لينسى شقواتِ الحياهْ / وسرَّها المستغلقَ المبهما
يا للشقيّ القلبِ كم سامهُ / توهُّم النعمةِ ما لا يُطيقْ
يُريدُ أن يُقنعَ أوهامهُ / بأنّهُ ذاك الخليُّ الطليقْ
هأنذا أرفعُ آلامَهُ / إلى سماءِ المنقذِ الأعظمِ
أنا الذي ترسلُ أنغامَهُ / قيثارةُ القلبِ ونايُ الفمِ
من عبراتي صُغتُ هذا المقالْ / ومن لهيب الروحِ هذا القلمْ
ملأتُ منهُ صفحاتِ الليالْ / فضمِّنَتْ كلَّ معاني الألمْ
أنا الذي قدَّسْتَ أحزانَهُ / الشَّاعرُ الباكي شقاءَ البشرْ
فَجَّرْتَ بالرحمةِ ألحانَهُ / فاملأْ بها يا ربِّ قلبَ القدرْ
ما الشاعرُ الفنّانُ في كونهِ / إلَّا يدَ الرحمة من ربّهِ
مُعَزِّيَ العالمِ في حزنِهِ / وحاملَ الآلامِ عن قلبهِ
عزاؤهُ شعرٌ بهِ أهزجُ / في نغمٍ مستعذَبٍ ساحرِ
ما يحزنُ العالم أو يبهجُ / إلَّا على قيثارةِ الشاعرِ
يا ربِّ ما أشقيتني في الوجودْ / إلَّا بقلبي ليتهُ لم يكنْ
في المثل الأعلى وحبِّ الخلودْ / حمّلتهُ العبءَ الذي لم يَهُنْ
خلقتهُ قلباً رقيقَ الشغافْ / يهيمُ بالنورِ ويهوى الجمالْ
حَلَتْ له النجوى ولذَّ الطوافْ / بعالم الحسنِ ودنيا الخيالْ
بعثتهُ طيراً خفوقَ الجناحْ / على جِنانٍ ذاتِ ظلٍّ وماءْ
أطلقتهُ فيها قُبَيْلَ الصباحْ / وقلتَ غنّ الأرضَ لحنَ السماءْ
فهامَ في آفاقها الواسعهْ / النُّورُ يهفو حولَهُ والنَّدى
مُصفِّقاً للضحوةِ الساطعهْ / ومنشداً ما شاءَ أن يُنشدا
إنْ جاءَ صيفٌ أو تجلَّى ربيعْ / حيَّاهُ منهُ عبقريُّ الغِناءْ
وكم خريفٍ في نشيدٍ بديعْ / تظلُّ ترويه ليالي الشتاءْ
قيثارةٌ تصدرُ في فنِّها / عن عالم السِّحر ودنيا الخفاءْ
على الصَّدَى الحائِر من لحنها / يستيقظُ الفجرُ ويغفو المساء
مَشتْ على الأمواجِ أنغامُها / والأرضُ قيدَ النشوة المسكِرهْ
كأنما ترقصُ أحلامُها / في ليلةٍ شرقيةٍ مُقمرهْ
من قلبهِ أسلَسْتَ أوتارَها / فقلبُهُ يخفقُ في كفِّه
يشدو فتُملي النفسُ أسرارها / عليهِ فهيَ اللحنُ من عزفهِ
ذاتَ صباحٍ طار لا يُمهِلُ / والأرضُ سَكرى من عبيرِ الزهورْ
على حصاها رنَّمَ الجدولُ / وفي روابيها تُغنّي الطيورْ
ما كان يدري قبلَ أن ينظرا / ما خَبأتْهُ النظرةُ العاجلهْ
ما أبدعَ الحلم الذي صوَّرا / لوْ لم تَشبْهُ اليقظةُ القاتلهْ
مرَّ بنهرٍ دافقٍ سلسبيلْ / تهفو القمارى حوله شاديَهْ
في ضفتيهِ باسقاتُ النخيلْ / ترعى الشياهُ تحتها ثاغيهْ
فهاجت النظرةُ مما رأى / في قلبهِ الحسرَ وفي عينهِ
الكونُ يبدو وادعاً هانئا / كأنهُ الفردوسُ في أمنِه
فظلَّ في التفكير مستغرقا / من فتنة الدنيا ومن سحرِها
ما كان إلَّا ريثما حدَّقا / حتى جَلَتْ دنياهُ عن سرِّها
رأى بعينيهِ الذي لم يَرهْ / الذئبَ والشاةَ وحربَ البقاءْ
ما عَرفَ القتلَ ولا أبصرهْ / ولا رأى من قبلُ لونَ الدماءْ
ما هي إلا صرخاتُ الفزعْ / وصيحةُ المقتولِ والقاتلِ
قد انقضى الأمرُ كأنْ لم يقعْ / وضاع صوتُ الحقّ في الباطلِ
وبعدَ ساعاتٍ يُوَلّي النهارْ / ويقبلُ الليلُ وما يعلمُ
سيلبثُ السرُّ وراءَ الستارْ / ويختفي الشلوُ ويُمحى الدمُ
فرُوّع الشاعرُ مما رآهُ / وهامَ في الأرض على وجههِ
أين ترى يا أرضُ يُلقي عصاهُ / وأيُّ وادٍ ضلَّ في تيههِ
حتى إذا شارفَ ظلَّ الشجرْ / في روضةٍ غناءَ ريَّا الأديمْ
قد ضَحِكتْ للنور فيها الزَّهرْ / وصفَّقَتْ أوراقُها للنسيمْ
إختار في الظلِّ له مقعدا / في ربوةٍ فاتنةٍ ساحرَهْ
أذاب فيها الشفقُ العسجدا / وناسمتها النفحةُ العاطرهْ
بينا يُمَلِّي العينَ من سحرها / إذ أبصر الصَلَّ بها مُطرقا
قد انتحى الأطيارَ في وكرِها / فسامَها من نابهِ موبقا
هل سمِعَتْ أذناك قصفَ الرعودْ / في صخَبِ البحرِ وعصفِ الرياحْ
هل أبصرتْ عيناك ركضَ الجنودْ / في فزعِ الموتِ وهولِ الكفاحْ
إن كنتَ لم تبصرْ ولم تسمعِ / فقِفْ إلى ميدانها الأعظمِ
ما بين ميلادكَ والمصرعِ / ما بين نابي ذلك الأرقمِ
جريمةُ الغدرِ وسفكِ الدمِ / جريمةٌ لم يخلُ منها مكانْ
يا لُجةً كلٌّ إليها ظمي / قد جاز طوفانُكِ شمَّ القنانْ
من علّم الوحشَ الأذى والقتالْ / من بثَّ فيهِ الشرَّ أو ألهمهْ
من علّم الثعبانَ هذا الختالْ / والحيوانَ الغدرَ من علّمهْ
يا أرضُ هذا الوحيُ من عالمِكْ / الماءُ والطينُ به يشهدانْ
جنيتِ يا أرضُ على آدمِكْ / إذ سمته بالأمسِ هجرَ الجنانْ
يا ضلّة الشاعر أين النجاهْ / وأين أينَ المنزلُ الآمنُ
أكلَّ وادٍ طرقته خُطاهْ / طالعهُ منهُ الرَّدى الكامنُ
حتى إذا ضاقتْ عليهِ السُّبُلْ / وعزَّ في الأرض عليهِ المقامْ
أوى إلى كهفٍ بسفح الجبلْ / عساهُ يقضي ليله في سلامْ
ما كان إلَّا حُلُماً كاذبا / أفاقَ منهُ مستطيرَ الجَنانْ
البحرُ يُرغي تحتهُ صاخبا / والشّهبُ نارٌ والدياجي دخان
الأرضُ من أقطارها راجفه / كأنما طافَ عليها المنونْ
تضجُّ في أرجائها العاصفه / كأنما الناسُ بها يُحشرونْ
ثم استقرَّ العالمُ الثائرُ / وأقبلَ النورُ وولّى الظلامْ
واعَجباً مما يرى الشاعرُ / كأنما أمسى بوادي الحِمامْ
بدتْ لهُ الأرضُ كقبرٍ عفا / إِلّا بَقايا رِمَّةٍ أو حجر
قد أصبح القاعُ بها صفصفا / فما عليها من حياةٍ أثرْ
مرَرْتُ بالبُلدانِ مُستعبرا / أبكي الحضاراتِ وأرثي الفنونْ
أنقاضُها تملأ وجه الثرى / وكنَّ بالأمس مثارَ الفتون
أتى على اليابسِ والأخضرِ / الموجُ والنوءُ وسيلُ الحُمَمْ
يا رحمةَ اللَّهِ اهبطي وانظري / ما حصدَ الموتُ ودكَّ العَدَمْ
أيستحقُّ الناسُ هذا العقاب / أم حانت الساعةُ من نقمتكْ
ما احتملوا يا ربّ هذا العذابْ / إلَّا رجاءَ الغوثِ من رحمتكْ
أما ترى منفرجاتِ الشفاهْ / عن آخر الصيحات من رعبها
ما زال فيها من معاني الحياهْ / إيماءةُ الشكوى إلى ربها
وهذه الأعينُ نهبَ العفاءْ / في رقدةِ الموتِ كأنْ لم تَنَمْ
مُحدَّقاتٍ في نواحي السماءْ / تُشهدها هذا الأسى والألمْ
وهذه الأيدي تحوطُ الصدورْ / كأنها في موقفٍ للصلاهْ
لم تَنْسَ في نزْع الحياةِ الغرورْ / ضراعةً ترسمها للإلهْ
ما عرَفوا في صَعقاتِ الردى / إلَّاكَ من غوثٍ ومن منجدِ
ولا سرى في الأرض منهم صدى / إلَّا ودوّى باسمِكَ الأمجدِ
أعبرةً تذكرها كلَّ حينْ / للعالم الذَّاكرِ إمَّا نسِي
أمْ ضرباتٍ قاسياتٍ تُلينْ / بهنَّ قلبَ الفظِّ والأشرسِ
أم موجةُ الطهرِ التي تغْسلُ / مآثمَ الكونِ وتمحو أذاهْ
يا ربِّ ضِقنا بالذي نحملُ / فحسبُنا آلامُنا في الحياهْ
ألمْ تُطهِّرْ ذلك العالما / من كل عاصٍ أو غويٍّ جموحْ
ما غادر الموجُ بهِ قائما / يوم احتوى الأعلامَ طوفانُ نوحْ
إذاً فما للناسِ ضلُّوا الهدى / وأخطأوا اليوم سبيلَ الرشادْ
لعلَّ نوحاً أخطأ المقصدا / فأغرقَ الخيرَ ونجَّى الفسادْ
يا ليتَهُ لمّا دعا بابنهِ / وحالتْ الأمواجُ أنْ يُسْمعا
لجَّ عليهِ القلبُ في حزنهِ / فلم يرَ الجوديَّ لمّا دعا
يا أرضُ ولّى عهدُ نوحٍ وزالْ / فمن لكِ اليومَ بطوفانِهِ
مسكينةً تطوين بحرَ الليالْ / قد عزَّكِ المرسى بشطآنِهِ
إلامَ تطوين عُباب السنينْ / شوقاً إلى فردوسكِ الضائعِ
غُرّرْتِ يا أرضُ بما تحلمينْ / فاستيقظي من حلمكِ الخادعِ
وابقيْ كما أنتِ على موجهِ / تُمزِّقُ الأنواءُ منك الشراعْ
يقذِفُكِ التيَّار في لجِهِ / عشواءَ لا يهديكِ فيهِ شعاعْ
سلي القداساتِ وأربابها / ضراعةً تُصغي إليها السماءْ
أو فاطرقي بالبثِّ أبوابها / لعلّها ترفعُ عنكِ الشقاءْ
يا أيها الغادونَ والرائحونْ / في شعبِ الأرضِ وليل الهمومْ
تُمسون أشتاتاً كما تصبحونْ / والشمس حيرى فوقكم والنجومْ
مُدُّوا لها الأيدي وولُّوا الجباهْ / وأرسلوها صيحةً واحدهْ
قولوا لها يا من شهدتِ الحياهْ / من أينَ تلك النظرةُ الجامدهْ
من أينَ تلك النظرةُ الهادئهْ / والقسماتُ المشرقاتُ الجبينْ
هل أنتِ من آلامنا هازئهْ / أم أنتِ يا أعينُ لا تُبصرينْ
أم هكذا أوحى إليكِ القضاءْ / فما عرفتِ الحزنَ والأدمعا
يا أيُّها الناس اضرعوا للسماءْ / قد آن أن تُصغي وأن تشْفعا
هاتوا الأزاهيرَ وهاتوا الغصونْ / وكلَّ ما يحلو وما يجملُ
قد آن أن تُفْضوا بما تشعرونْ / فأشعلوا النارَ بها أشعلوا
أو فاملأوا من زهرها اليانعِ / مجامرَ النارِ وألقوا البخورْ
وصعِّدوا في ذِلّةِ الضارعِ / أنفاسكم نشْوى بتلك العطورْ
أحببْ بها من أنَّةٍ عاطرهْ / في مسمعِ الأملاكِ إذ تصعدُ
أصداؤُها الرفَّافَةُ الحائره / في وجهها الآفاق لا توصدُ
يا أرض ناديتُ فلم تسمعي / أنكرتِ صوتي وهو من قلبكِ
لا تَفرقي مني ولا تَفزعي / من شاعرٍ شاكٍ إلى ربِّكِ
أيَّتُها المحزونةُ الباكيهْ / لا تيأسي من رحمةِ المنْقِذِ
لعلَّ من آلامِكِ الطاغيهْ / إذا دعوتِ الله من منفَذِ
فابتهلي لله واستغفري / وكفّري عنكِ بنار الألمْ
وقدِّمي التوبةَ واستمطري / بين يَدْيهِ عبراتِ الندمْ
موجةَ السحرِ من خفيِّ البحورِ
موجةَ السحرِ من خفيِّ البحورِ / أغمري القلبَ بالخيالِ الغميرِ
أقبلي الآن من شواطىء أحلا / مي ورُدِّي عليّ نفحَ العبيرِ
واصخبي في شعابِ قلبي وضجِّي / فوق آلامه الجسام وثوري
أيقظي فيه من فتونٍ وسحرٍ / ذكرياتٍ من الشبابِ الغريرِ
إنها ذكرياتُ أمسيةٍ مر / رَتْ وأيام غبطةٍ وسرورِ
وبريءُ ابتسامةٍ في فم الأيا / م كانت عزاء قلبٍ كسيرِ
قد طواها النسيانُ إلَّا شعاعاً / غمر الرُّوحَ في بقيةِ نورِ
رَمقٌ ذاك من أشعةِ شمسٍ / عَلِقت في غروبها بالصخورِ
أخذ القلبَ لمحُها من وراء / الموجِ يجتاز لجةَ الديجورِ
فتبيَّنتُ في الشواطىء حولي / أثراً من غرامنا المأثورِ
صخرةً كانت الملاذَ لقلبين / حبيبين في الشباب النضيرِ
جمعتنا بها الحوادثُ في ظلِّ / هوىً طاهرٍ وعيشٍ قريرِ
كم وقفنا العشيَّ نرقب منها / مغربَ الشمس وانبثاق البدورِ
وجلسنا في ظلها نتملَّى / صفحةَ الماءِ في الضحى والبكورِ
فإذا ما تهللتْ ليلةٌ قمرا / ءُ هزَّتْ بنا خفيَّ الشعورِ
وسرينا في ضوئها نتناجى / بهوىً فاض عن حنايا الصدورِ
وانتحينا من جانب البحر مجرىً / مطمئنَّ الأمواه شاجي الخريرِ
نزلتْ فيه تستحمُّ النجومُ / الزُّهر في جلوةِ الماءِ المنيرِ
راقصاتٍ به على هزَجِ المو / جِ عرايا مهدَّلاتِ الشعورِ
وعلى صدره الخفوق طوينا ال / ليلَ في زورقٍ رخيّ المسيرِ
ورياح الخليج دافئةً تثني / حواشي شراعه المنشورِ
خافقاً فوقنا يدفُّ شعاعُ ال / بدر في ظله دفيفَ الطيورِ
ومن الساحل الطروب أغانٍ / أخذتنا بكل لحنٍ مثيرِ
رجَّعتها بحارةٌ آذنتهم / ليلةُ المنتأى وَبُعْدُ العشيرِ
وسكتنا فليس إلَّا عيونٌ / أفصحتْ عن جوانح وثغورِ
تتلاقى على نوازع قلبٍ / وصدى هاجسٍ وسِرِّ ضميرِ
وكأنَّ الوجود بحرٌ من النور / سبحنا في لجه المسجورِ
كلُّ ما حولنا يشفُّ عن الحبّ / ويفضي بسرِّهِ المستورِ
وكأنَّا نطوف في ليلِ أحلام / ونسري في عالمٍ مسحورِ
يا صخورَ الوادي يضجُّ عليها / البحرُ في جهشةِ المحب الغيورِ
يا رمالَ الكثبانِ تنقشُ فيها الر / ريحُ أسطورَةَ الحياة الغرورِ
يا خِفاف الأمواجِ تحلم بالإِينا / سِ من كوكبِ المساء الصغيرِ
يا نسيمَ الشمالِ يعبثُ بالرغْ / وِ وَيهفو على الرشاش النثيرِ
أنتِ يا من شهدتِ فجرَ غرامي / ووعيْتِ الغداةَ سِرَّ الدهورِ
أين أخفيتِ أمسياتي اللواتي / نزعتها منِّي يدُ المقدورِ
أمحاها الزمانُ أم حجبتها / من عواديه ماحياتُ البدورِ
بدلتني الأقدارُ منها بليلٍ / مدلهم الآفاقِ جهمِ الستورِ
غشيَ العينَ ظلُّهُ وتمشت / في دمي منه رعشةُ المقرورِ
لكِ يا شاهداتِ حبي أتيتُ الآ / ن أقضي حقَّ الوداعِ الأخيرِ
فانظري ما ترين غيرَ شقيٍّ / طاف يبكي بالشاطئ المهجورِ
راعهُ عاصفٌ يرجُّ السماوا / تِ وموجٌ يضجُّ ملءَ البحورِ
فكأنّ الحياة في مسمعيه / ضجةُ الحشرِ أو هزيمُ السعيرِ
وكأنّ الوجودَ في ناظريه / وهدةُ اليأس أو ظلامُ القبورِ
في هزيمِ الرياح في قاصفِ الر / رعدِ يُدَوّي للبارقِ المستطير
في الفيافي كآبةً ووجوماً / والمحيطاتِ صاخباتِ الهديرِ
في الدياجي عوابساً ونجوم / الليلِ بين الخفوقِ والتغويرِ
إنها الكائنات تبكي لمبكا / هُ وتبدي ضراعةَ المستجيرِ
وهي مأساةُ حبِّهِ صورتها / ريشةُ الليلِ مبدع التصويرِ
مَثلتْها لعينهِ الآنَ شطآ / نٌ وموجٌ يئن تحتَ الصخورِ
رفَّت عليه مورقاتُ الغصونْ
رفَّت عليه مورقاتُ الغصونْ / وحفّهُ العشْبُ بنوَّارِهِ
ذلك قبرٌ لم تَشِدْهُ المنونْ / بل شادهُ الشعرُ بآثارِهِ
أقامه من لبناتِ الفنونْ / وزانهُ المجدُ بأحجارِهِ
ألقى به الشاعرُ عبءَ الشجونْ / وأودعَ القلبَ بأسرارِهِ
وجاورتْهُ نخلةٌ باسقه / تجثمُ في الوادي إلى جنبهِ
كأنها الشاكلةُ الوامقه / تقضي مدى العمر إلى قربهِ
تئنُّ فيها النسمة الخافقه / كأنما تخفقُ عن قلبهِ
وتُرسلُ الأغنيةَ الشائقه / قمريةً ظلَّتْ على حبّهِ
ويقبلُ الفجرُ الرقيقُ الإهابْ / يحنو على القبر بأضوائهِ
كأنما ينْشُدُ تحت الترابْ / لؤلؤةً تُزري بلألائهِ
إستلَّ منها الموتُ ذاك الشهابْ / غيرَ شعاعٍ في الدجى تائهِ
يَظَلُّ يهفوَ فوق تلك الشعابْ / يطوف بالينبوع من مائهِ
ويذهبُ النُّورُ ويأتي الظلامْ / وتبزغ الأنجمُ في نسقهِ
حيرى تحوم الليلَ كالمستهامْ / أسهرهُ الثائرُ من شوقهِ
تبحثُ عن نجمٍ بتلك الرجامْ / هوتْ به الأقدارُ عن أفقهِ
أخٌ لها في الأرضِ ودَّ المقامْ / وآثر الغربَ على شرقهِ
ويُطلق الطيرُ نشيد الصباحْ / بنغمةٍ تصدر عن حزنهِ
يَمُدُّ فوقَ القبرِ منه الجناحْ / ويرسل المنقارَ في ركنهِ
أفضى إلى الراقدِ فيه وباحْ / بأنَّهُ الملهمُ من فنِّهِ
فمن قوافيهِ استمدَّ النواحْ / ومن أغانيه صدى لحنهِ
وحين تمضي نسماتُ الخريفْ / وتملأ الأرضَ رياحُ الشتاءْ
ويقبلُ الليلُ الدجيُّ المخيفْ / فلا ترى نجماً ينيرُ السماءْ
هناك لا غصنٌ عليه وريفْ / يهفو ولا طيرٌ يثيرُ الغناءْ
يظللُ الأرضَ الظلامُ الكثيف / كأنما تُمسي بوادي الفناءْ
يا شاعراً ما جمعتني بهِ / كواكبُ الليل وشمسُ النهارْ
لكنَّه الشرقُ وفي حبِّهِ / ينأى بنا الشوقُ وتدنو الديارْ
سكبتَ من شجوكَ في قلبهِ / ومن مآقيكَ الدموعَ الغِزارْ
فودَّ أنْ لو نمتَ في تربهِ / ليشفيَ النفسَ بهذا الجوارْ
صَوَّرَ لي القبرَ الذي تنزلُ / تخَيُّلُ الشعرِ ووحيُ الشعورْ
فجئتُ للقبر بما يجملُ / من صُور الدنيا الفَتونِ الغَرورْ
قل لي بحقِّ الموتِ ما يفعلُ / بالشاعرِ الموتُ وهذي القبورْ
وهل وراءَ الموت ما نجهلُ / من عالم الرُّجعى ويومِ النشورْ
قد راعني موتُكَ يا شاعري / في ميعةِ العمرِ وفجرِ الشبابْ
وهزَّني ما فاضَ من خاطرِ / كان ينابيعَ البيانِ العذابْ
ونفثاتُ القلم الساحرِ / في جوبكَ الأفق وطيِّ السحابْ
ووقفةٌ بالكوكبِ الحائرِ / رأى بساطَ الريح يدنو فهابْ
لكنَّه شعركَ لمَّا يَزَلْ / يُردِّدُ الكونُ أناشيدَهُ
شعرٌ كصوبِ الغيثِ أنّى نزلْ / أرقصَ في الروض أماليدَهُ
وعلَّمَ الطيرَ الهوى والغزل / فأسمعَ الزهرَ أغاريدَهُ
وغَنَّتِ الريحُ به في الجبَلْ / فحركتْ منهُ جلاميدَهُ
يا قبرُ لم تُبْصركَ عيني ولا / رأتك إلَّا في ثنايا الخيالْ
ملأتَ بالروعِ فؤاداً خلا / إلَّاَ من الحبِّ ونورِ الجمالْ
أوحيتَ لي سرَّ الردى فانجلى / عن عينيَ الشكُّ وليلُ الضلالْ
غداً ستطوي القلبَ أيدي البلى / ويقنصُ النجمَ عقابُ الليالْ
وهكذا تمضي ليالي الحياهْ / والقبرُ ما زال على حالهِ
دنيا من الوهمِ ودهرٌ تراهْ / يغَرِّرُ القلبَ بآمالهِ
يسخرُ من مبتسمات الشفاهْ / وجامدِ الدمع وسيَّالهِ
دهرٌ على العالم دارتْ رحاهْ / فلم تدَعْ رسماً لأطلالهِ
طال انتظاركَ في الظلام ولم تزل
طال انتظاركَ في الظلام ولم تزل / عينايَ ترقب كلّ طيف عابرِ
ويطير سمعي صوب كلِّ مُرِنَّةٍ / في الأفق تخفق عن جَناحيْ طائرِ
وترفُ روحي فوق أنفاسِ الرُّبا / فلعلّها نَفَسُ الحبيبِ الزائرِ
ويخفُّ قلبي إثرَ كلِّ شعاعةٍ / في الليلِ تومض عن شهابٍ غائرِ
فلعلَّ من لمحات ثغرك بارقٌ / ولعلَّه وضحُ الجبينِ الناضرِ
ليلٌ من الأوهام طالَ سهاده / بين الجوى المضني وهجسِ الخاطرِ
حتى إذا هتفتْ بمقدمكَ المُنى / وأصختُ أسترعي انتباهةَ حائرِ
وسرى النسيمُ من الخمائلِ والرُّبى / نشوانَ يعبقُ من شذاكَ العاطرِ
وترنم الوادي بسلسلِ مائه / وتَلَتْ حمائمُه نشيد الصافرِ
وأطلت الأزهارُ من ورقاتها / حيرى تعجَّبُ للربيع الباكرِ
وجرى شعاعُ البدر حولكَ راقصاً / طرِباً على المرج النضيرِ الزاهرِ
وتجلتِ الدنيا كأبهج ما رأتْ / عينٌ وصوَّرها خيالُ الشاعرِ
ومضت تكذبني الظنونُ فأنثني / مُتسمِّعاً دقاتِ قلبي الثائرِ
أقبلْتَ بالبسمات تملأ خاطري / سحراً وأملأُ من جمالك ناظري
وأظلّنا الصمتُ الرهيبُ ونحن في / شكٍ من الدنيا وحلمٍ ساحرِ
حتى إذا حانَ الرحيلُ هتفت بي / فوقفتُ واستبقتْ خطاك نواظري
وصرختُ بالليلِ المودِّعِ باكياً / ويداكَ تمسك بي وأنت مغادري
يا ليتنا لم نَصحُ منكَ وليتها / ما أعجلتكَ رحى الزمانِ الدائرِ
ولقد أتت بعدُ الليالي وانقضت / وكأننا في الدهرِ لم نتزاورِ
بُدِّلتُ من عطفٍ لديك ورقةٍ / بحنين مهجورٍ وقسوةِ هاجرِ
وكأنني ما كنت إلفَك في الصبا / يوماً ولا كنتَ الحياة مشاطري
ونسيتَ أنتَ وما نسيتُ وأنني / لأعيشُ بالذكرى لعلك ذاكري
يا قاهرَ الموتِ كم للنفسِ أسرارُ
يا قاهرَ الموتِ كم للنفسِ أسرارُ / ذلَّ الحديدُ لها واستخْذت النَّارُ
وأشفَقَ البحرُ منها وهو طاغيةٌ / عاتٍ على ضرباتِ الصَّخرِ جَبَّارُ
حواكَ أُحدوثةً مُثْلى وتضحيةً / لم تحوِها سِيرٌ أو تروِ أخبارُ
رماكَ في جَنَباتِ اليمِّ محترِبٌ / خافي المقاتل عند الرَّوعِ فرَّارُ
ترصَّدتكَ مراميهِ ولو وقَعَتْ / عليهِ عيناكَ لم تُنقذهُ أقدارُ
يَدِبُّ في مسبحِ الحيتانِ منسرباً / والغورُ داجٍ وصدرُ البحرِ موَّارُ
كدودةِ الأرضِ نورُ الشمس يقتلها / وكم بها قُتِلتْ في الروضِ أزهارُ
هوى بكَ الفُلْكُ إلَّا هامةً رُفِعتْ / لها من المجدِ إعظامٌ وإكبارُ
واستقبلَ البحرُ صدراً حين لامسَهُ / كادتْ عليهِ جبالُ الموجِ تنهارُ
وغابَ كلُّ مشيدٍ غيرَ قُبَّعةٍ / ذكرى من الشَّرفِ العالي وتذكارُ
ألقيتَها فتلقَّى الموجُ مَعْقَدها / كما تلَقَّى جبينَ الفاتحِ الغَارُ
ولو يُرَدّ زمانُ المعجزاتِ بها / لانشقَّ بحرٌ لها وارتدَّ تيَّارُ
كأنَّها خطبةٌ راعَتْ مقاطعُها / لها العوالمُ سُمَّاعٌ ونُظَّارُ
تقولُ لا كانَ لي ربٌّ ولا هتفتْ / بذكرِه الحربُ إنْ لم يُؤخذِ الثارُ
يا ابنَ البحار وليداً في مسابحها / ويافعاً يؤثرُ الجُلَّى ويختارُ
ما عالمُ الماءِ يا رُبَّان صفهُ لنا / فما تحيطُ به في الوهم أفكارُ
وما حياةُ الفتى فيه أتسليةٌ / وراحةٌ أم فُجاءاتٌ وأخطارُ
إذا السفينةُ في أمواجهِ رَقصَتْ / على أهازيجَ غنَّاهنَّ إعصارُ
وأشجتِ السُّحْبَ موسيقاهُ فاعتنقتْ / وأُسدِلتْ من خدور الشُّهبِ أستارُ
وأنتَ ترنو وراءَ الأُفق مبتسماً / كما رَنا نازحٌ لاحتْ لهُ الدارُ
غرقانَ في حُلمٍ عَذْبٍ تُسلسلهُ / من ذروةِ الليل أنواءٌ وأمطارُ
يا عاشِقَ البحر حَدِّثْ عن مفاتنِه / كم في لياليهِ للعشَّاقِ أسمارُ
ما ليلةُ الصيف فيه ما روايتُها / فالصيفُ خمرٌ وألحانٌ وأشعارُ
إذا النسائمُ من آفاقه انحدرتْ / وضوَّأتْ من كُوَى الظلماءِ أنوارُ
وأقبلتْ عارياتٍ من غلائلها / عرائسٌ من بناتِ الجنِّ أبكارُ
شُغلُ الربابنةِ السارينَ من قدَمٍ / تُجلى بهنَّ عشِيَّاتٌ وأسحارُ
يُترِعْنَ كأسَك من خمرٍ مُعَتَّقَةٍ / البحرُ كهفٌ لها والدهرُ خمَّارُ
وأنت عنهنَّ مشغولٌ بجاريةٍ / كأنَّ أجراسَها في الأُذن قِيثارُ
صوتُ الحبيبةِ قد فاضتْ خوالجُها / ورنَّحتْها من الأشواق أسفارُ
وألهفَ قلبكَ لما اندكَّ شامخُها / والنوءُ مصطرعٌ والموجُ هدّارُ
بوغِتَّ بالقدَرِ المكتوب فانسرَحَت / عيناكَ تقرأ والأمواجُ أسطارُ
نزلتما البحرَ قبراً حين ضمَّكما / رفّتْ عليه من المرجان أشجارُ
نام الحبيبانِ في مثواهُ واتّسَدا / جنباً لجنبٍ فلا ذلٌّ ولا عارُ
مصارعٌ للفدائيين يعشقها / مستقتلونَ وراءَ البحر أحرارُ
مَنيَّةٌ كحياةٍ كلما ذُكِرَتْ / تجدّدَتْ لك في الأجيالِ أعمارُ
هيَ الفخارُ لشعبٍ من خلائقهِ / خَلْقُ الرجالِ إذا هاجَتهُ أخطارُ
له البحارُ بما اجتازتْ شواطئها / وما أجنّته خلجانٌ وأغوارُ
رواقُ مجدٍ على جدرانهِ رُفِعَتْ / للخالدين أماثيلٌ وآثارُ
دخلتَ من بابهِ واجتزتَ ساحتَه / وسِرتَ فيهِ على آثارِ من ساروا
يتيهُ باسمكَ في أقداسهِ نُصُبٌ / رخامهُ الدهرُ والتاريخُ حَفّارُ
إذا ارتقى البدرُ صفحةَ النهرِ
إذا ارتقى البدرُ صفحةَ النهرِ /
وضمَّنا فيهِ زورقٌ يجري /
وداعبتْ نَسمةٌ من العِطرِ /
على مُحيَّاكِ خُصْلةَ الشَّعرِ /
حَسَوْتُها قبلةً من الجمرِ /
جُنَّ جُنوني لها وما أدري /
أيَّ معاني الفتونِ والسِّحرِ /
ثغرُك أوحى بها إلى ثغري /
حُلْمُ مساءٍ أتاحهُ دهري /
غَرّدَ فيه الحبيسُ في صدري /
فنوِّليني فليس في العمرِ /
سوى ليالي الغرام والشِّعْرِ /
إنِّي رأيتُ النذيرَ في الأثرِ /
تطلِقُ كفَّاهُ طائرَ الفَجْرِ /
فقرِّبي الكأسَ واسكبي خمري /
بعينيكِ ما يُلْهمُ الخاطرا
بعينيكِ ما يُلْهمُ الخاطرا / ويتركُ كلَّ فتىً شاعرا
فيا فِتنةً من وراءِ البحارِ / لقِيتُ بها القَدَرَ الساخرا
دَعَتْني فَجمَّعتُ قلبي لها / وناديتُ ماضِيَّ والحاضرا
وأقبلتُ في موكبِ الذكريات / أُحَيِّ الخميلةَ والطائرا
وساءَلني القلبُ ماذا ترى / فقلتُ أرى حُلُماً عابرا
أرى جَنةً وأراني بها / أهيمُ بأرجائها حائرا
ملأتُ بتُفَّاحها راحتيَّ / وبتُّ لكَرْمَتِها عاصرا
وذقتُ الحنانَ بها والرِّضى / يداً بَرَّةً وفماً طاهرا
فيا ليلةً لم تكُنْ في الخيالِ / أجَدَّتْ ليَ المرحَ الغابرا
أفاءَتْ على النيلِ سحرَ الحياة / وأحيَتْ لشعري بهِ سامرا
نسيت لياليَّ من قبلها / وكنتُ لها الوافيَ الذاكرا
سلي من أثارتْ بقلبي الفتونَ / وخَلَّتْهُ محتدِماً ثائرا
بربِّك من ألَّفَ الأصغرين / وعلَّقَ بالناظر الناظرا
إذا أطلقَ الضوءُ أطيافَه / ولفَّ بها خصرَكِ الضامرا
وطوَّقَ نحْرَك لحظُ العيونِ / وعادَ بكَرَّتهِ حاسرا
ووقَّعتِ من خفَقات القلوب / على قدَميْكِ الصَّدى الساحرا
وحدَّثَ كلُّ فتىً نفسَهُ / أرى الفنَّ أم روحَه القاهرا
تمثَّلْتِهِ طيفَ إنسانةٍ / ومَثَّلَ فيك الصِّبا الناضرا
هي الكاسُ مشرقةً في يديكَ
هي الكاسُ مشرقةً في يديكَ / فماذا أرابكَ في خمرِها
نظرتَ إليها وباعدْتَها / كأنَّ المنيَّة في قطْرِها
أما ذقتَها قبلَ هذا المساءِ / وعربدْتَ نشوانَ من سُكْرِها
حلا طعمُها يوم كنتَ الخليَّ / وكلُّ الصبابةِ في مُرِّها
سُقِيتَ بها من يدٍ لم تكنْ / سوى الريح تنفُخُ في جمْرِها
تلفَّتْ فهذا خيالُ التي / مَرِحت وغرَّدَت في وَكرِها
وغُرفَتُها لم تزلْ مثلما / تنسَّمتَ حُبَّكَ من عطرِها
وقفتَ بها ساهماً مُطرقاً / يُحدِّثكَ الليلُ عن سرِّها
مكانكُ فيها كما كان أمسِ / وذلك مثواك في خِدْرِها
وآثارُ دمعِك فوقَ الوسادِ / وفوق المُهدَّل من سترِها
فهل ذُقْتَ حقاً صفاءَ الحياةِ / وذوْبَ السعادة في ثغْرِها
إذا فُتحَ البابُ تحتَ الظلام / فكيف ارتماؤُك في صَدرِها
وكيف طوى خَصرَها ساعدَاكَ / ومرَّتْ يداكَ على شعرِها
وما هذه رِعشَةٌ في يَدَيكَ / أم الكأسُ ترجفُ من ذكرِها
وما في جبينك يا ابنَ الخيال / سِماتٌ تحدِّث عن غَدرِها
لقد دنَّسَ الجسَدُ الآدميُّ / حياةً حَرَصْتَ على طُهْرِها
بكى الفنُّ فيكَ على شاعرٍ / تسائِلهُ الروحُ عن ثأرِها
نزلت بها وهْدَةً كم خبا / شُعاعٌ وغُيِّبَ في قبرِها
رفعتَ تماثيلكَ الرائعاتِ / وحطَّمْتهنَّ على صَخرِها
فدعْ زهرةَ الأرض يا ابن السماء / فأنتَ المبرَّأُ من شرِّها
مراحُك في السُّحُب العالياتِ / وفوق المُنوَّرِ من زُهرِها
فمُدَّ جَناحيكَ فوق الحياةِ / وأطلِقْ نشيدَك في فجرِها
هيِّئي الكأس والوَتَرْ
هيِّئي الكأس والوَتَرْ / تلك كومو مدى النظَرْ
واصدحي يا خواطري / طُويَتْ شُقَّة السَّفَرْ
ودَنَتْ جَنَّةُ المنى / وحلا عندها المقَرْ
قد بُعِثْنا بها على / موعدٍ غيرِ منتظَرْ
في مساءٍ كأنه / حُلُمُ الشيْخِ بالصغَرْ
البحيراتُ والجبالُ / توشَّحْنَ بالشجَرْ
وتنَقَّبْنَ بالغما / مِ وأسفرنَ يا للقمَرْ
والبروناتُ غادةٌ / لبسَتْ حُلَّةَ السهَرْ
نُثِرَتْ فوقها الديا / رُ كما يُنثر الزَّهَرْ
وعَبَرْنا رحابها / فأشارتْ لمن عَبَرْ
هاكَها قُبْلَةً فمنْ / رامَ فليركبِ الخطَرْ
فسمونا لخدْرها / زُمراً تلْوها زُمَرْ
في زجاج مُحلِّقٍ / لا دخانٌ ولا شرَرْ
يتخطَّى بنا الفضا / ءَ على السُّنْدسِ النَّضِرْ
سُلَّم يُشبهُ الصرا / طَ تسامى على البصَرْ
فإلى النجْمِ مُرتقىً / وإلى السُّحْبِ منحدَرْ
وحللنا بقمَّةٍ / دونها قِمَّة الفِكَرْ
بَهَجٌ في كنوزها / للمحبِّينَ مُدّخَرْ
بابلٌ أم بحيرةٌ / أم قصورٌ من الدُّرَرْ
أم رؤَى الخلدِ في الْ / حَياةِ تَمثَّلْنَ للبشَرْ
حبَّذا أُمسياتُها / وحنيناً إلى البُكَرْ
ونزوعاً إلى السفي / نِ تهيأنَ للسَّفَرْ
نسِيَتْ شُغْلَها القلو / بُ وهلَّلنَ للسَّمَرْ
أوجُهٌ مثلما رَنتْ / زهرةُ الصيف للمطَرْ
أضحيانية السِّما / تِ هلاليةُ الطُّرَرْ
يَتَوَهَّجْنَ بالشبا / بِ ويَندينَ بالخفَرْ
طلعةٌ تسعِدُ الشَقي / يَ وتعطي له العمرْ
تمنح الحظّ من تشا / ءُ وتبقي ولا تَذَرْ
إنما تنظرُ السما / ءُ إلى هذه الصوَرْ
لترى اللَّهَ خالقاً / مُبدِعاً مُعجزَ الأثَرْ
شاعرَ النيلِ طُفْ بها / غَنِّها كلَّ مبتكَرْ
الثلاثون قد مَضَتْ / في النفاهاتِ والهذَرْ
فتزوّدْ من النَّعي / مِ لأيامِك الأُخَرْ
أين وادي النخيلِ أم / قاهريَّاتُه الغُرَرْ
لا تَقُلْ أخصبَ الثرى / فهنا أوْرقَ الحجَرْ
ههُنا يَشعُرُ الجما / دُ ويوحي لمن شعَرْ
آهِ لولا أحبةٌ / نزلوا شاطئَ النهَرْ
ورُفاتٌ مُطَهَّرٌ / وكريمٌ من السِّيَرْ
لتمنّيتُ شُرْفَةً / ليَ في هذه الحُجَرْ
أقطعُ العمرَ عندها / غيرَ وانٍ عن النظَرْ
فلقد فاز من رأى / ولقد عاشَ من ظفِرْ
يا ابنةَ العالمِ الجدي / دِ صِلي عالماً غَبَرْ
في دَمي من تُراثه / نفحةُ البدوِ والحضَرْ
وأغانٍ لمن شدا / ومعانٍ لمن فخَرْ
ما تُسِرِّينَ أفصِحي / إنّ في عينكِ الخبَرْ
الغريبانِ ههنا / ليس يُجديهما الحذَرْ
نحن رُوحانِ عاصفا / نِ وجسمان من سقَرْ
فاعذري الروحَ إن طغى / واعذري الجسمَ إن ثأَرْ
نضَبَتْ خمْرُ بابلٍ / وهوى الكأسُ وانكسَرْ
وهُنا كرمةُ الخلو / دِ فطوبى لمن عَصَرْ
فيمَ والنبعُ دافِقٌ / يشتكي الظامئُ الصَّدرْ
ولمن هذه العيونُ / تغمَّرْنَ بالحوَرْ
بتنَ يَلعبن بالنُّهى / لعِبَ الطفلِ بالأُكَرْ
هنَّ أصفى من الشُّعا / عِ وأخفى مِن القدَرْ
ولمن توشكُ الثُّدَى / وثبَةَ الطيرِ في السَّحَرْ
كلُّ إلفٍ لإِلفهِ / هَمَّ بالصّدْرِ وابتدَرْ
عضَّ في الثوبِ واشتَكى / وطأةَ الخزِّ والوبَرْ
سِمَةُ الطائرِ المُعَذْ / ذَبِ في قيْدِهِ نقَرْ
ولمن رفَّتِ المبا / سِمُ واسترسل الشَّعَرْ
ثمرٌ ناضجُ الجني / كيف لا نقطُفُ الثَّمَرْ
ما أبى الخلدَ آدمٌ / أو غوى فيه أو عثَرْ
زلَّةٌ تورِثُ الحِجى / وتُرِي اللَّهَ من كفَرْ
كأسنا ضاحِكُ الحبَا / بِ مُصَفَّى من الكدَرْ
فاسكبي الخمر وارشفي / هِ على رَنّةِ الوتَرْ
وإذا شئت فاسقِني / هِ على نغْمَةِ المطَرْ
فغداً يذْهبُ الشبا / بُ وتبقى لنا الذِّكَرْ
عشقنا الدمى وعبدنا الصورْ
عشقنا الدمى وعبدنا الصورْ / وهِمنا بكلِّ خيالٍ عَبَرْ
وصُغنا لكَ الشعرَ حُبَّ الصِّبا / وشدوَ الأماني وشجو الذِّكَرْ
تغنَّتْ به القُبَلُ الخالداتُ / وغنَّى بإيقاعها المبتكَرْ
وجئنا إليكَ بمُلكِ الهوى / وعرشِ القلوبِ وحكم القدَرْ
بأفئدةٍ مثلما عَرْبَدَتْ / يَدُ الريح في ورقاتِ الشجَرْ
وأنتَ بأفقِكَ ساجي اللحاظِ / تُطِلُّ على سُبُحاتِ الفِكَرْ
دنوتَ فقلنا رُؤى الحالمينَ / فلما بَعُدْتَ اتهمنا النظَرْ
وحامتْ عليكَ بأضوائِها / مصابيح مثل عيون الزَّهَرْ
تتبَّعنْ خطوك عَبْرَ الطريقِ / كما يَتحرّى الدليلُ الأثَرْ
يُقبِّلنَ من قدميكَ الخطى / كما قبَّل الوثنيُّ الحجَرْ
مشى الحسنُ حولكَ في موكبٍ / يرِفُّ عليه لواءُ الظفَرْ
تمثَّلَ صدرُك سلطانَهُ / كجبارِ وادٍ تحدَّى الخطَرْ
بِنَهدينِ يستقبلانِ السماءَ / كأنهما يُرضعان القمَرْ
تَساميتَ عن لُغةِ الكاتبينَ / وروعةِ كلِّ قصيدٍ خطَرْ
سوى شاعرٍ في زوايا الحياةِ / دَعَتهُ مباهجُها فاعتذَرْ
أكبَّ على كأسه وانتحى / صدى الليلِ في اللحظات الأُخَرْ
رنا حيث ترقُبُ أحلامُهُ / خيالكَ في الموعِدِ المنتظَرْ
دعوتَ خيالي فاستجابتْ خواطري
دعوتَ خيالي فاستجابتْ خواطري / وحدَّثني قلبي بأنكَ زائرِي
عشيَّةَ أغرى بي الدُّجى كلَّ صائحٍ / وكلَّ صدىً في هَدأةِ الليلِ عابرِ
أقولُ مَنِ السَّاري وأنت مُقاربي / وأهتفُ بالنجوى وأنتَ مُجاورِي
أحسُّكَ مِلءَ الكون رُوحاً وخاطراً / كأنَّك مبعوثُ الليالي الغوابرِ
ومثَّل لي سمعي خُطاكَ فخِلتُها / صَدَى نبأٍ من عالم الغيبِ صادرِ
سوى خطراتٍ من بنانٍ رفيقةٍ / طَرَقْتَ بها بابي فهبَّتْ سرائرِي
عرفتُكَ لم أسمعْ لصوتِكَ نبأةً / وشمْتُكَ لم يَلمحْ محيَّاكَ ناظرِي
أرى طَيْفَ معشوقٍ أرى روحَ عاشقٍ / أرى حُلمَ أجيالٍ أرى وجهَ شاعرِ
إليْكَ ضِفافَ النيل يا روحَ حافظ / فجدِّد بها عهدَ الأنيسِ المُسامرِ
وساقِط جَنَاها من قوافيكَ سلسلاً / رخيماً كأرهامِ الندى المتناثرِ
سرَت فيه أرواحُ النَّدامى وصفَّقتْ / كؤوسٌ على ذكرِ الغريب المسافرِ
نَجيَّ الليالي القاهريَّات طُفْ بها / خيالةَ ذكرى أو عُلالة ذاكرِ
وجُزْ عَالمَ الأشباح فالليل شاخصٌ / إليكَ وأضواءُ النجومِ الزَّواهرِ
وطالِعْ سماءً في مَعَارجِ أُفقها / مَرحت بوجدانٍ من الشِّعر طاهرِ
وسَلسَلتْ من أندائها وشُعاعِها / جَنى كرْمةٍ لم تحوِها كفُّ عاصرِ
تدفقَ بالخمر الإلهيِّ كأسها / فغرَّدَ بالإلهام كلُّ مُعاقرِ
على النيل روحانيةٌ من صفائها / ولألاءُ فجر عن سنا الخُلد سافرِ
فصافحْ بعينيك الديار فطالما / مددتَ على آفاقِها عين طائرِ
وخذ في ضفافِ النهر مسراك واتَّبعْ / خطى الوحي في تلك الحقول النواضرِ
حدائقُ فرعونَ بدفاقِ نهرها / وجنَّتهُ ذاتُ الجنى والأزاهرِ
وفي شُعَبِ الوادي وفوقَ رماله / عصِيُّ نبيٍّ أو تهاويلُ ساحرِ
صوامِعُ رُهبان محاريبُ سُجَّدٍ / هياكِلُ أربابٍ عروشُ قياصرِ
سَرى الشعرُ في باحاتها روحَ ناسكٍ / وترديد أنفاس ونجوى ضمائرِ
وهمسَ شِفاهٍ تثمَلُ الروح عندهُ / وتسبحُ في تيهٍ من السِّحر غامرِ
هو الشعر إيقاع الحياة وشدوُها / وحُلْمُ صِباها في الرَّبيع المباكِرِ
وصوتٌ بأسرارِ الطبيعةِ ناطقٌ / ولكنه روحٌ وإبداعُ خاطرِ
ووثبةُ ذِهنٍ يَقنصُ البرقَ طائراً / ويغزو بروجَ النَّجْمِ غيرَ مُحاذِرِ
فيا دُرَّةً لم يحوِها تاجُ قيصر / ولا انتظمتْ إلَّا مفارقَ شاعرِ
تألَّه فيكِ القلبُ واستكبرَ الحِجى / على دَعَةٍ من تحْتها روحُ ثائرِ
إذا اعترضَ الجبَّارُ ضوءَكِ شامخاً / تلقَّيتهِ كبْراً ببَسْمَةِ ساخرِ
لمستِ حديدَ القَيْدِ فانحلَّ نظمهُ / وأطلقتِ أسرَى من براثِن آسِرِ
وما زِدْتِ في الأحداثِ إلَّا صلابةً / إذا النَّارُ نالتْ من كِرام الجواهرِ
يزينُ بكِ الرّاعي سقيفةَ كُوخِه / فتخشَعُ حَيرَى نيِّراتُ المقاصرِ
أضاعوكِ في أرضِ الكنوز وما دَروْا / بأنكِ كنزٌ ضمَّ أغلى الذَّخائرِ
وهُنتِ على مهدِ الفنونِ وطالما / سموتِ بسلطان من الفنِّ قاهرِ
إذا افتقدَ التاريخُ آثار أمَّةٍ / أشرْتِ بما خلَّدتِه من مآثرِ
سلاماً سلاماً شاعرَ النيلِ لم يزلْ / خيالُكَ يَغشَى كلَّ نادٍ وسامرِ
وشعرك في الأفواهِ إنشادُ أمةٍ / تغنَّتْ بماضٍ واستعزَّتْ بحاضِرِ
هتفتَ بها حيَّا فلا تألُ خالداً / هُتافكَ وانفضْ عنكَ صمْتَ المقابرِ
صدَاكَ وإن لم تُرسلِ الصوتَ مالئٌ / سماعَ البَوادي والقُرى والحواضرِ
وذِكراكَ نجْوى البائسين إذا هَفتْ / قلوبٌ وحارت أدمُعٌ في المَحَاجرِ
يَدُلُّ عليكَ القلبَ أنَّاتُ بائسٍ / ونظرةُ محزونٍ وإطراقُ سادِرِ
وما أنتَ إلَّا رائدٌ من جماعةٍ / توالوا تِباعاً بالنفوسِ الحرائرِ
صَحَتْ بادياتُ الشرقِ تحتَ غُبارِهم / على شدْوِ أقلام ولمعِ بواترِ
وفي القِمَمِ الشَّماءِ مِنْ صَرَخاتهم / صدَى الرعدِ في عَصفِ الرياح الثَّوائرِ
يُضيئونَ في أفقِ الحياةِ كأنَّهم / على شطِّها النَّائي منارةُ حائرِ
فيا شاعراً غنَّى فرَقَّ لشجوِهِ / جَفاءُ اللَّيالي واعتسافُ المقادرِ
لكَ الدهرُ لا بل عالمُ الحسِّ والنُّهَى / خميلةُ شادٍ آخذٍ بالمشاعرِ
فنمْ في ظلال الشَّرقِ واهنأ بمضجَعٍ / نديٍّ بأنفاسِ النَّبيِّينَ عاطرِ
ووسِّدْ ثراهُ الطُّهرَ جَنبَكَ وانتظِم / لِداتكَ فيه فهوَ مهْدُ العَبَاقرِ
إلى قِمَّةِ الزَّمنِ الغابرِ
إلى قِمَّةِ الزَّمنِ الغابرِ / سَمَتْ رَبَّةُ الشعر بالشاعرِ
يَشُقُّ الأثيرَ صدىً عابراً / وروحاً مُجَنَّحَةَ الخاطرِ
مضتْ حرةً من وثاق الزَّمانِ / ومن قبضةِ الجسدِ الآسرِ
وأوفتْ على عالَمٍ لم يكنْ / غريباً على أمسِها الدَّابرِ
نمَتْ فيه بين بناتِ السديمِ / وشبَّتْ مع الفلكِ الدائرِ
تُلقَّنُ سيرَتَها في الحياة / وتنطُقُ بالمثلِ السائرِ
وترْسُمُ أسماءَ ما عُلِّمَتْ / من القلم المبدع القادرِ
مشاهدُ شتى وَعَتها العقولُ / وغابتْ صُواها عن الناظرِ
وجودٌ حوى الروح قبل الوجودِ / وماضٍ تمثَّلَ في حاضرِ
تبدَّى لها فانجلى شكُّها / وثابت إلى وَعْيِها الذَّاكرِ
وأصغت فمرت على سمعِها / روايةُ ميلادِها الغابرِ
هو البعثُ فاستمعوا واقرأوا / حديثَ السَّماءِ عن الشاعرِ
عَجبتُ مَنِ الملَكُ العابرُ / ومنْ ذلك الشَّبَحُ الطَّائرُ
أهَلَّا علينا فما سلَّما / ولا صافح الناظرَ الناظرُ
وللرِّيحِ حولهما زَفَّةٌ / كما صَدَحَ المِزْهَرُ الساحرُ
أفي عالمِ الأرضِ بعثٌ جديد / أم الوهْمُ مثّله الخاطرُ
نعم هو روحٌ جميلُ الإهاب / يُنِيلُ الرِّياحَ جَنَاحَيْ مَلَكْ
وذلك هرميسُ يَسْري بهِ / سُرى النورِ في سُبُحاتِ الفلكْ
عرفناهُ لا شكَّ هذا فتىً / سَيَسْلُكُهُ الفنُّ فيمن سَلَكْ
غداً تملأُ الأرضَ ألحانهُ / ويَبْقى صداها إذا ما هلَكْ
إلى الأرضِ فليمضِ هذا الشقيُّ / ألا ولتَفِضْ كأسُهُ بالشجونْ
جزاءً لِما غضّ من أمرنا / ومرَّ كأنْ لمْ تلاقَ العيونْ
أراهُ ولمَّا يَزَلْ بيننا / أصابَتْه لُوثَةُ أهلِ الفنونْ
لئنْ صحَّ ما كان من أمرهِ / فيا شِقْوَةَ الأرضِ ممَّا يكونْ
حنانكِ يا أختِ لا تغضَبي / فما اختالَ زهواً ولا استكبرا
لقد كفَّ عينيهِ بَرْقُ الحياةِ / فمرَّ بنا دون أن يُبْصِرا
لنا مِثْلُهُ في غدٍ غشيةٌ / إذا ما حللنا رحابَ الثرى
إذا كان في الأرضِ هذا الشقاءُ / فلا كانَ بَعْثٌ ولا قُدِّرا
أرى في حديثكِ معنى الرِّضا / وأسمعُ فيهِ هُتَافَ الحنانْ
فهلا ذكرتِ لهُ إخوةً / حديثهمُ ملءُ سَمْعِ الزمانْ
أصاروا الفنونَ رُمُوزَ الأثامِ / واستلهموا الشرَّ سِحْرَ البيانْ
وأغرَوْا بحواءَ ما لُقِّنوا / وما حذَقُوا من طريدِ الجنانْ
ألمْ تسمعِي بفتى شاعرٍ / يُحَمِّلُها عبءَ أوزارِهِ
ترَشَّفها خمرةً فانتشَى / فألقمها مرّ أثمارِهِ
أنالته أجمَل أزهارِها / فأهدى لها شَرَّ أزهارِهِ
إذا كنتِ يا أخت لم تسمعي / خُذي فاقرأي بعضَ أشعارِهِ
ولفَّتْ ذراعين كالحيّتينِ / عليَّ وبي نشوةٌ لم تطِرْ
وقد قرَّبتْ فمَها من فمي / كشِقَّينِ من قبَسٍ مُسْتَعِرْ
أشمُّ بأنفاسها رغبةً / ويهتفُ بي جفنُها المنكسرْ
تبيَّنْتُ في صدرها مصرعي / وآخرة العاشقِ المنتحِرْ
أفي حُلُمٍ أنا أم يقظةٍ / ومنْ أنتِ أيتها الخاطئهْ
هو الحبُّ لا بل نداءُ الحياة / تُلبِّيهِ أجسادُنا الظامئهْ
يَخِفُّ دمي لصداهُ الحبيبِ / وتدفعني القُدرةُ الهازئهْ
كأني ببحرٍ بعيدِ القرار / طوى أفقَه وزوَى شاطئهْ
أرى ما أرى جسَداً عارياً / تضجُّ به الشهوةُ الجائعهْ
أرى ما أرَى حَدَقيْ ساحر / تؤجّان بالنظرة الرائعهْ
أرى ما أرى شَفتيْ غادةٍ / ترِفَّان بالقُبلَةِ الخادعهْ
تُساقطني ثمراً ما أرى / أرى حيَّةَ الجنَّة الضائعهْ
بعينكِ أنتِ فلا تُنكري / صفاتِ أنوثتكِ الشَّاهدهْ
تَمثَّلْتِ شتَّى جسومٍ وكم / تجدَّدْت في صُوَرٍ بائدهْ
نعم أنت هنَّ نعم ما أرى / أرى الكلَّ في امرأةٍ واحدهْ
لقد فنيَتْ فيك أرواحهن / وها أنتِ أيتها الخالدهْ
لقد كنتِ وحْي رَخامٍ يصاغُ / فأصبحتِ لحماً يثير الدماءْ
وكنتُ فتىً ساذجاً لا أرى / سوى دميةٍ صوِّرت من نقاءْ
أُنيلُ الثرى قَدَميْ عابرٍ / يعيش بأحلامِه في السماءْ
فأصبحتُ شيئاً ككل الرجال / وأصبحتِ شيئاً ككل النساءْ
وكنتِ أميرة هذي الدُّمى / وصورةَ حُسنٍ عزيز المنالْ
وكنتِ نموذجَ فنِّ الجمالِ / أحبُّكِ للفنِّ لا للجمالْ
أرى فيكِ ما لا تحدُّ النّهى / كأنكِ معنىً وراء الخيالْ
فجرَّدْتِني رجلاً أشتهي / وجرَّدتُ أنثى تشهَّى الرجالْ
دعيني حواءُ أو فابعدي / دعيني إلى غايتي أنطلِقْ
أخمرٌ ونار لقد ضاق بي / كِياني وأوشِكُ أن أختنِقْ
أرى ما أرى لهباً بل أشمُّ / رائحةَ الجسد المحترقْ
فيا لكِ أفعى تشهَّيتُها / ويا ليَ من أُفعوانٍ نزقْ
كفانا فقد جُنَّ هذا الفتى / وجاوز حدَّ الكلام المباحْ
نكاد نُحِسُّ اختلاجَ النجوم / ونسمع مُضْطرباً في الرياحْ
مريضُ الغريزةِ فتَّاكُها / حَبَتْهُ الطبيعةُ أمضَى سلاحْ
سَقَتْهُ الشياطينُ يحمومَها / فمجَّ الرحيقَ وذمَّ الصباحْ
تأثَّم بالفنِّ حتى غوَى / وما الفنُّ بالمرأةِ الخاطئهْ
هو الدمُ واللحمُ ما يشتهي / هو الخمرُ والمتعةُ الطارئهْ
وكم في الرجالِ سُعَارُ الوحوش / إذا لمسوا الجُثَّةَ الدافئهْ
فلا تذكري فنَّ هذا الفتى / بل الحيوانيةَ الخاسئهْ
رأى جسمَ حواءَ فاشتاقَه / فهاجتْ به النزوة المُسْكِرَهْ
سَبى روحَها فاشتهى جسمَها / فثارتْ بعزّةِ مستكبرَهْ
سَمَا جسمُها وتأبَّى عليه / فجرَّدَ في وجهها خِنجرَهْ
وهمَّ بها فالتوى قصدهُ / فأرسل صيحتَه المُنكرَهْ
ألمْ يَنسِمِ الخُلدَ من عطرها / ألمْ يعْبدِ الحسنَ في زهرِها
ألم يقبسِ النورَ من فجرها / ألم يسرقِ الفنَّ من سحرِها
شفَتْ غُلّةَ الفنِّ حتى ارتوى / وإن دنَّسَ الفنُّ من طهرِها
وهامَتْ على ظمأٍ روحُها / وكم ملأوا الكأسَ من خمرِها
على مَذْبَحِ الحب من قلبها / سِراجٌ يُسبِّح مَنْ لألأه
منارٌ يجوبُ الدجى لمحهُ / فتلقى السفينُ به مرفأه
يبثُّ الحرارةَ بَرْدَ الشتاءِ / ويُلهبُ شُعلته المطفأه
وتمشي الحياةُ على نورِهِ / وما نورُهُ غيرُ عينِ امرأه
خطيئتُها قِصَّةُ الملهمين / وإغراؤها الفرَحُ المفتقَدْ
بأرواحهم يَرتقون الخلودَ / على سُلَّمٍ من متاع الجسدْ
ولو لم تكن لهوى فنّهم / صريعَ الظلام قتيلَ الجمَدْ
وما الفنُّ إلَّا سعيرُ الحياةِ / وثورتُها في محيط الأبدْ
لهيبٌ إذا الرُّوحُ مرَّتْ بهِ / تضاعفتِ الرُّوحُ في نارهِ
يُطيقُ القويُّ لظى جَمْرِهِ / ويعشو الضعيفُ بأنوارهِ
رَمَتْ فيهِ حواءُ آثامها / فذابتْ على صُمِّ أحجارهِ
لقد قرَّبَتْ جَسداً عارياً / وقلباً يَضِنُّ بأسرارهِ
أمن صَنْعَةِ اللّه هذا الجمالْ / نعم ومن الفنِّ هذا المثالْ
على مَعْرِضٍ مرمري الدُّمى / ترامى أشعتُه والظلالْ
تماثيلُ من جسدٍ فاتنٍ / تأبَّى على شهواتِ الرجالْ
حَبَتهُ الطبيعةُ أسرارَها / ولاقى الحقيقةَ فيهِ الخيالْ
لقد أخذَتْنا شجونُ الحديث / وكم في حديث الفتى من شجونْ
سَمَرنا بهِ وجهلنَا اسمَهُ / وما حظُّه من رفيعِ الفنونْ
أمِنْ ربَّةِ الشعر إلهامهُ / أم الوترِ الأُرفُسيِّ الحنونْ
أم المرمرِ الغضِّ يجلو بهِ / رفيفَ الشفاهِ ولمْحَ العيونْ
هي وحيهُ من سماءِ الأُولمبِ / وآلهةِ الحكمة الغابرينْ
فما هو بالملَكِ المستعزِّ / ولكنَّهُ الآدميُّ المَهينْ
وما الآدمية بنتُ السَّماءِ / ولكنَّها بنتُ ماءٍ وطينْ
يريدُ لها الفنُّ أفقَ النُّجوم / فيُقْعِدُها جسمُ عبدٍ سجينْ
وما فنُّهُ ما أراهُ سوى / أداةِ مطامعِه الواسعهْ
غداً يستَغلُّ غرامَ الحسانِ / سبيلاً إلى الشُّهرةِ الذائعهْ
يصيبُ بهنَّ خُلودَ اسمِهِ / وهنَّ قرابينُهُ الضائعهْ
تمنَّيْتُ لو أطلقَتنا السماءُ / ويا حَبذا لو بُعِثنا مَعَه
ألا حبذا الأرضُ مغدىً لنا / وإن بشَّرَتها المنايا بنَا
وما الأرضُ بالمنزلِ المسْتَطابِ / ولكنَّهُ ثأرُ أترابنَا
لنشربَ منْ دمِ هذا الفتى / مُصفَّى الرحيقِ بأكوابنَا
ونجعلَ من حشرجاتِ الرجال / تحيَّةَ شادٍ لأنخابنَا
ونسلُبُ ما رزِقُوا من حجىً / ونهدمُ ما رفعوا من قِبابْ
ونبني لهم نُصُباً خالداً / يكون على الدَّهرِ رمزَ العقابْ
تطوف به لَعَناتُ السَّماءِ / وترصُدُهُ مُثُلاتُ العذابْ
ولكن أرى غيرَ ما قلتُما / وما الغدر في الرأي كلُّ الصوابْ
إذا خَلَتِ الأرضُ من طيرهم / فمن ذا يُحيّي الجمالَ القسيمْ
ومن يُطلِقُ الحبَّ من وكرِهِ / على خطَراتِ الغناءِ الرَّخيمْ
وفيمَ نُرَقِّشُ هذا الجناحَ / ونصقلُه ببنانِ النعيمْ
طيورَ السماء حَذَارِ الوقوعَ / على حَطبٍ في الثَّرى أو هشيمْ
أيغريكِ بالحبِّ سُودُ اللِّحى / غِلاظُ الشِّفاهِ العراضُ الطِّوالْ
كأنَّ الهوى صُنْعُ أيديهمُ / فمن غيرهم كلُّ عيشٍ مُحَالْ
إذا شئتِ كان لنا عالَمٌ / يحوط الأنوثةَ فيهِ الجلالْ
حَمتْ رِقَّةَ الجنسِ ربَّاتُهُ / فليس بها حاجةٌ للرجالْ
لكلِّ اثنتينِ هَوىً واحدٌ / تلاقَى على سرِّهِ مهجتانْ
وعُشّ يضمهما في المساءِ / وروضٌ به في الضُّحَى يعبثانْ
وفي ركنِ خدْرهما مِغْزَلٌ / وفوقَ الأريكةِ قيثارتانْ
وتحت الوسادة أقصوصةٌ / لقلبين لم يَروِها عاشقانْ
ماذا تُرى صَنَعَ العاشقان / وما ذكرياتُ الليالي الحسانْ
حديثُكِ إنْ لم يكنْ بدْعةً / فحُلمٌ جَرَى في قديمِ الزمانْ
وصيحةُ مُخفقةٍ في الهوى / مُعَربدةِ الرُّوحِ سكرَى اللسانْ
الأنوثةَ هذا الهوانْ / وفيها الدهاءُ القويُّ الجنانْ
لنا الكيدُ إن خذلَتنا القُوى / أحابيلُ شتى وفنٌّ عجابْ
نُلقَّاهُ عن مَلكاتِ الزَّمانِ / أقاصيصَ لم يروِ عنها كتابْ
وقد نستعيرُ صفاءَ النمير / وقد نستمدُّ صراعَ العبابْ
وقد نسحبُ الليلَ فوق القلوب / ونغري العيون بقوسِ السَّحابْ
نساقِطُهم من غَواياتنا / أزاهرَ تَندى بماء الشبابْ
إذا لألأتْ فوق موج الشُّعور / أثارتْ بهم ظمأً للسَّرابْ
بألوانِها الحمر جَمْرُ الغضا / وفي نفحِها لفَحَاتُ العذابْ
هو الفنُّ لا ترتوي روحهُ / بأشهى من الأرجوانِ المذابْ
هو الحسنُ فتَّانُنا العبقريُّ / هو الحبُّ سلطاننا القاهرُ
ممثلهمْ لُعْبةٌ في يديهِ / ومثَّالهم إصبَعٌ فاجرُ
وألحانهم من فحيح العروقِ / يُصَعِّدُها الوترُ الساخرُ
ورسَّامهم صَنَمٌ مُبْصِرٌ / فإنْ جُمِعوا فَهُمُ الشَّاعرُ
قلوبٌ مُدلَّهةٌ بالجمالِ / ترى فيه معبودَها المُلْهَما
هو الرجلُ القلبُ لا غيرُهُ / فأودِعْنَهُ القبسَ المضرَما
أنِمْنَ به الشَّرسَ المستخفَّ / وأيقِظنَ فيهِ الفتى المغرَما
اقتحمتنَّ السياجَ / فقد خضعَ الكونُ واستسلما
ولكنْ حَذارِ ففي طبعٌ / لِيانٌ يسمُّونَهُ بالوداعهْ
وفيهم جراءةُ مستأسدٍ / تحدَّى المنيةَ باسمِ الشجاعهْ
وهِمْتِ فذلك هَزْلُ الرجال / وفنٌّ أجزنا عليهم خداعهْ
نذيبُ بهِ صُلْبَ أعصابهم / وفي رِقَّةِ العود سِرُّ المناعهْ
أطلْنا الأحاديثَ عن عالَمٍ / مُلَثَّمةٍ أرضُهُ بالخفاءْ
جعلناهُ مَطمَحَ أحلامنا / كأنَّا شَقِينا بِسُكنى السَّماءْ
طَوانا على حُبِّهِ شاعرٌ / كثيرُ المجانة نَزْرُ الحياءْ
أثارَ الملائكَ في قُدسِها / وأوقعَ في سحرهِ الأبرياءْ
عَجِبْتُ له كيف جاز السماءَ / وغرَّر بالملإِ الطاهرِ
أيمرحُ في الكونِ شيطانُهُ / بلا وازعٍ وبلا زاجرِ
دَعي الوهمَ سافو ولا تحقِري / بليتيس معجزةَ الشاعرِ
فما نتَّقِيهِ بحيَّاتنا / إذا هو ألقى عصا الساحرِ
بليتيس هل هو ذاكَ الخيال / المُجنَّحُ بين حواشي الغيومْ
عشيةَ صاح بأترابنا / وقد أخطأتْه قِسِيُّ الرُّجومْ
وقيلَ لنا مَلَكٌ عاشِقٌ / يُسرّي الهمومَ ببنتِ الكرومْ
يجوبُ السماءَ إذا ما انتشى / يُعربدُ بين خدورِ النجومِ
أعاجيبُ شتَّى لهذا الفتى / وأعجبُ منها الذي تذكرينْ
كأنَّ أحاديثَه بيننا / أساطيرُ آلهةٍ غابرينْ
إذا كان للفنِّ هذا الصِّيالُ / فوارحمتَا للجمال الغبينْ
ودَدْتُ لو أنِّي في إثرِهِ / درجتُ على الأرض في الدارجينْ
أتُغوين بالشعر شيطانَه / خياليةٌ أنتِ أم شاعرهْ
بل الشعرُ آسرُهُ المستبدُّ / فيا ليتَ لي روحَه الآسرهْ
ويا ليتَ لي وثباتِ الخيالِ / وقوةَ أربابِه القاهرهْ
لصيَّرتُهُ مُثلَةً في الحياةِ / وسُخريةَ البعثِ في الآخرهْ
صفي لي بِليتيسُ هذا الأملْ / وماذا ابتدعتِ له من حِيَلْ
أُدلِّهُ هذا الفتى بالجمالِ / وأُسمِعُه من رقيق الغزَلْ
وأورثه جُنَّةً بالرحيقِ / وأحرِمهُ رَشفَاتِ القُبَلْ
إلى أنْ تُحرَقَ أعصابهُ / ويصرَعه طائفٌ من خَبَلْ
وأحفرُ بعد الردى قبرَه / هناك على قمَّةِ الهاويَهْ
وأغرس في قلبهِ زهرةً / من الشرِّ راويةً ناميَهْ
سَقَتْها سمومُ شرايينه / ورفَّتْ بها روحهُ العاتيَهْ
تخفُّ إليها قلوبُ الرجال / وترجع بالشوكةِ الداميَهْ
إذا جنّها الليلُ لاحتْ به / كعينٍ من اللهبِ المضطرمْ
تثور الشياطينُ من عطرها / كمجمرة الساحر الملتثمْ
إذا استافَها الرَّجلُ العبقريُّ / تحوَّل كالحيوان الوخِمْ
تضُجُّ البلاهة من حولهِ / وينظر كالصنَّمِ المبتسمْ
هَبي الشعرَ أولاكِ من مُلكه / سماءَ الأُلوهةِ ذات البروجْ
ونصَّ المعانيَ عن جانبيكِ / فمنها السُّرَى وإليكِ العروجْ
فما تصنعينَ إذا ما بُعِثْتِ / واحدةً من بناتِ الزُّنوجْ
ألم تقرأي قِصَّةَ السامريِّ / وما صَنَعَ القومُ بعد الخروجْ
نَبا منطقُ الوحيِ في سمعهم / وخفَّ عليهِ رنينُ الطربْ
ومدُّوا العيونَ إلى فتنةٍ / تجسَّد في حيوانٍ عَجَبْ
ترامى بأحضانِه غادةٌ / أفادَ صِباها شبوبَ اللهبْ
جنونُ الحياةِ وأهواؤها / أنوثتُها وبريقُ الذَّهبْ
فأينَ من القومِ سحرُ البيانِ / وصيْحةُ موسى قُبَيل الوداعْ
هُمُ الناسُ لا يعشقون الخيالَ / إذا لم يكنْ حافزاً للطماعْ
هُمُ الناسُ لا يعبدون الجمالَ / إذا لم يكنْ نُهزةً للمتاعْ
هُمُ الناسُ لا يألفون الحياةَ / إذا لم تكنْ مَعرِضاً للخداعْ
تماثيلُهُ بعضُ أجسامِنا / وقد صاغَها العبقريُّ الصّناعْ
ولوحاتُهُ صُوَرُ العارياتِ / إذا مَزَّقَ الفنُّ عنها القِناعْ
أبالشِّعرِ تُغْوينَ هذا الفتى / وهمْتِ إذن وجَهلتِ الطِّباعْ
أليستْ لهُ صَبْوَةُ الآدميِّ / وشهوةُ تلك الذئابِ الجِياعْ
رَجعْتُ لنفسي فلا تغْضبا / وكُفَّا العتابَ ولا تُسْهِبا
لقد رُعتمانِي بهذا المزاح / وأبدَعْتما نبأً مُغرِبا
سَرَتْ بيَ من ذكره رِعدةٌ / كأني لبِستُ به الغَيْهبا
أتاييسُ لا كنتُ بنت الزنوجِ / ولا شِمْتُ أُمَّا بهم أو أبا
وصمْتِ الخليقة في بعثهم / كأنهم الحدَثُ المنكرُ
وما أخطأ الطيفُ ألوانَه / ولكنهُ اللهَبُ الأحمرُ
أبوهم كما زعموا آدمٌ / وحواءُ أُمُّهمُ المُعْصِرُ
لهم أعينٌ تتملَّى الجمالَ / وأفئدةٌ بالهوى تشعرُ
لهم نارُهم في أقاصي الدُّجى / وأبياتُهم في أعالي الكهوفْ
وسحرُ الطبيعةِ في عُرْيها / إذا هتَكَ الفجرُ عنها الشُّفوفْ
ونايٌ يُقسِّمُ فيهِ الربيعُ / ويسكبُ شَجْوَ المساءِ الهتوفْ
ورقصٌ يُمثِّلُ قلبَ الحياةِ / إذا ما استُخِفَّ بنقرِ الدفوفْ
تفرَّدَ فنُّهُمُ بالخفاء / وصِيغَ بفطرتهم واتَّسمْ
يعيشُ جديداً بأرواحهم / وإن عاش فيهم بروح القِدَمْ
له بأسُ مانا وإيحاؤه / إذا اضطربتْ رُوحهُ بالألمْ
ورِقَّة هاوايَ في شدْوها / إذا جاشَ خاطرُها بالنَّغمْ
ألا فلْيَكُنْ لكِ من فنهم / سموُّ اللظى وعتوُّ الجبالْ
ألا فلْيكُنْ لكِ من سحرهم / فنونٌ تُعطِّلُ سحرَ الخيالْ
ألا فليكنْ لكِ من نارهم / وشاحُ مؤلَّهةٍ بالجمالْ
إلى الأرضِ فانتقمي للنساءِ / وكوني بها محنةً للرجالْ
سلامٌ لكُنَّ عذارى السماء /
سلامٌ لهرميس روحِ الإلهْ /
أرى ومْضَةَ الشرِّ في جوِّكنَّ / وأسمعُ صوتاً كأنِّي أراهْ
يلاحقني في رحابِ السماءِ / ويرتجُّ في مِسمعيَّ صداهْ
لقد فارقَ البشرُ غُرَّ الوجوهِ / وشاعَ الذبولُ بوردِ الشفاهْ
أجل أيها الملَك المجتبى / صدقناكَ فاغفر عذابَ الضميرْ
لقد مرَّ كالطيرِ من قربنا / فتىً في رعاية ربٍّ خطيرْ
رآنا فأعرض عنَّا ولمْ / يُحَييِّ السماءَ بروحٍ قريرْ
تخايلَ عُجباً بأوهامه / وأمعن في شرِّه المستطيرْ
ظلمتنَّ هذا الغلامَ البريء / وقد غضَّ من ناظريهِ الحذَرْ
أهَلَّ بقلبٍ كفرخِ القَطا / يرفرفُ تحتَ جناحِ القدَرْ
رَآكنَّ فيهِ وحيَّا بهِ / فلم أدْرِ حاجتَه للنظرْ
وكيف تكلَّم قلبُ الفتى / وما هو إلا سليلُ البشرْ
هُوَ ابنُ السماءِ ولكنَّهُ / من النقصِ تركيبُه والتمامْ
صَنَاعُ الطبيعةِ بل صُنْعُها / فمنها دَمامتُه والوَسامْ
يُسِفُّ إلى حيث لا ينتهي / ويسمو إلى قمةٍ لا تُرَامْ
ويُسْقَى بكأسٍ إلهيةٍ / مُرَنقةٍ بالهوى والأثامْ
نقيضانِ شتَّى فما يستقرُّ / على غَضَبٍ منهما أو رضاء
تحدَّى الحياةَ وآلامَها / ببأسِ الجبابرة الأعلياء
يزيدُ عُتُوّاً على نارها / ويلمعُ جوهرهُ مِنْ صَفاء
وينشقُّ عن نَضرةٍ قلبُه / وإنْ طَمَرَتهُ ثلوجُ الشتاء
هو المرِحُ الشاردُ المستهامُ / شُرودَ الفراشةِ عند المساء
حَبَتهُ الألوهةُ روحاً يَرَى / وينطِقُ عنها بوحي السماء
يحُسُّ الخيالَ إذا ما سَرَى / ويلمسُ ما في ضميرِ الخفاء
ويبتدرُ النجمَ في أفقه / فيرشُفُهُ قطرةً من ضِياء
أرتهُ السماءُ أعاجيبَها / ورَوَّتهُ من كلِّ فنٍّ بديعْ
فضنَّ بلألاءِ هذا الجمالِ / وخافَ على كنزِهِ أن يضيعْ
أبى أن يُبدّدَهُ ناظراهُ / فأطبقَ جفنيهِ ما يستطيعْ
فإن شارفَ الأرضَ نادتْ بهِ / ففَتَّحَ عيناً كعينِ الرَّبيعْ
هنالكَ حيث تَشبّ الحياةُ / وحيث الوجودُ جنينُ العَدَمْ
وحيثُ الطبيعةُ جبَّارةٌ / تشقُّ الوهادَ وتبني القِمَمْ
وحيثُ السعادة بنتُ الخيالِ / ولذَّتها من معاني الألمْ
وحيث الطريدانِ شجَّا الكؤوسَ / ومَجَّا صُبَابتَها من قِدَمْ
رَنَا والطبيعةُ في حَلِيها / وحواءُ عاريةٌ كالصَّنمْ
فمن أين سارَ وأنَّى سرَى / تصَدَّتهُ مقبلَةٌ من أمَمْ
هنالكَ أولُ قلبٍ هفا / وأولُ صوتٍ شدا بالنَّغَمْ
وأولُ أنمُلةٍ صوَّرَتْ / وخَطَّتْ على اللوحِ قبل القَلمْ
فما لكِ حواءُ أغويتِهِ / وأعقبتِهِ حَسَراتِ النَّدَمْ
لقد كان راعيَكِ المجتَبى / فأصبحَ راميَكِ المتَّهمْ
ولولاكِ ما ذرفتْ عينُهُ / ولا شامَ بارقةً فابتسَمْ
وعاشَ كما كانَ آباؤه / يُغنِّي النجومَ ويرعَى الغنمْ
لأجلكِ يَشقى بلمحِ العيونِ / ويُصرعُ بالنظرةِ العابرهْ
لَوَدَّ إلى الأرضِ لو لم يُصِخْ / أو ارتدَّ بالمقلةِ الحاسرهْ
وكم من فتىً عزَّها سمعُهُ / وغضَّ على حَذَرٍ ناظرهْ
عصاها فنادت فلم يستمعْ / فحلَّت به لعنةُ الفاجرهْ
له مقلتانِ على ما وعَى / من الألَق الطُّهْر مختومتانْ
ففي عقلهِ حركاتُ الزَّمان / مصورةً وحدود المكانْ
وفي قلبهِ أعينٌ ثَرَّةٌ / بها النارُ طاغية العنفوانْ
وفي كلِّ خاطرة نَيْزَكٌ / يشقُّ سناهُ حجابَ الزمانْ
إذا ما هوتْ ورقاتُ الخريفِ / أحسَّ لها وَخَزَاتِ السَّنانْ
وإن سَكَبَتْ زهرةٌ دمعةً / فمن قلبه انحدرتْ دمعتانْ
ومن عَجَبٍ شَدْوُهُ للربيع / وقد يخطىءُ الطيرُ شدوَ الأوانْ
وقيثارةُ الرِّيح ما لحنُها / سوى الريح في جفوةٍ أو حنانْ
عوالمُ جَيّاشةٌ بالمنى / ودنيا بأهوائها تضطربْ
من اللاَّنهاية ألوانُها / مشعشعةٌ بالندى المنسكبْ
ففيها الصباحُ وفيها المساءُ / وبينهما الشَّفَق الملتهبْ
تطوف بها صَدَحاتُ الطروب / وتسهو بها أنَّةُ المكتئبْ
لكَ الحبُّ فيما أتاحتْ لنا / سريرتُكَ السَّمحَةُ الطاهره
ومن مَلَكٍ مثلُ هذا الحديث / طُمأنينةُ المهجِ الحائره
عَطفْتَ على قلبِ هذا الفتى / قلوباً على فَنِّهِ ثائره
وصوَّرتهُ مَلَكاً ناقماً / على آدميتهِ الجائره
أجل هو ذاكَ ولو زدتكنَّ / لزدتُنَّ عطفاً على فنِّهِ
وما ذنبُ روحٍ نَمَتْهُ السماءُ / إذا ضجَّ في الأرضِ من سِجنهِ
تَعلَّقَ مهواهُ فوق النجوم / وحَوَّمَ وَهْناً على كِنِّهِ
لينعمَ في ظِلِّهِ لحظةً / ويملأَ عينيهِ من حسنهِ
لهُ ولَعٌ بخدورِ النجومِ / إذا ما تخلَّصَ من طيفهِ
ويا رُبَّ ليلٍ كوادي الخيال / دَعَتْهُ الحقيقةُ من جوفهِ
فسار يَضمُّ صدورَ الرّباب / ويستضحكُ النُّورَ في سُدْفهِ
وغاب كأعجوبةٍ في الدُّجى / تحارُ الأساطيرُ في وصفهِ
على الأرضِ شيطانُهُ الحائمُ / وفي الكون وجدانه الساهمُ
مضى سابحاً في عبابِ الأثير / كما يسبحُ النظرُ الحالمُ
يدورُ فلا أفقٌ ينتهي / إليه ولا كوكبٌ هائمُ
وحيثُ هو الآن فيمن أرى / هناكَ على سِرّهِ جاثمُ
هناك هناك كأنّي أراه / نعم خلف هذا الغمام الرقيق
إذا ما عطفتنَّ ناديتهُ / عسى الآن من روْعِه أن يُفيقْ
ألا أيُّها الروحُ مني السلامُ / وأنتَ بحبِّ العذارى خليقْ
عرائسُ أحلامِكَ المائلاتُ / وما أنا إلَّا مَلاكٌ صديقْ
لقد طَلعَ الفجرُ يا شاعري / وكادتْ تزولُ نجومُ الصباحْ
وحان الرواحُ فودِّعْ خباءَكَ / وادنُ أحدِّثكَ قبل الرواحْ
أتهتف بي أنتَ أم هُنَّ أمْ / نذيرُ الردى والقضاءُ المتاحْ
تراك سمعتَ أحاديثنا / لقد نقَلَتها إليّ الرياح
عجبتُ لحوريَّةٍ في السماء / ويأخذ أهلَ السماء العجبْ
أتحلمُ بالأرضِ مخمورةً / من الدمِ راقصةً في اللهبْ
وتُغري بيَ الموتَ لا جانياً / ولكنها ثورةٌ من غضبْ
برئتُ من الإثمِ حوريَّتي / فرُدِّي الظنونَ وخلِّي الريبْ
أأبغض حواءَ وهي التي / عرفتُ الحنانَ لها والرِّضى
وباعَ بها آدمٌ خُلدَهُ / ولو لم يَكُنْ لتمنَّى القضا
ورِثتُ هواها فرُمت الحياةَ / وحبَّب لي العالم المبْغَضا
أراها على الأرض طيفَ النعيم / وحُلمَ الفراديسِ فيما مضى
وكانت حياتي محْضَ اتِّباع / فصارتْ طرائفَ من فَنِّها
وكان شبابيَ صَمْتَ القفارِ / ورَجْعَ الهواتفِ من جِنِّها
فعادتْ ليالي الصِّبا والهوى / أرقَّ المقاطعِ في لحنها
وأفرغتُ بؤسيَ في حِضنها / وأترعتُ كأسيَ من دَنِّها
وكم ذكرياتٍ لها عَذْبَةٍ / أعيش عليها وأحيا بها
لها في دَمي خَلجاتُ الحياةِ / كأني خلِقتُ بأعصابها
مُسامرتي حين يمضي الصِّبا / وتهتفُ رُوحي بأحبابها
وتخلو بيَ الدارُ عِندَ الغروبِ / وأجلسُ وحدي على بابها
بَدَتْ شِبْهَ عابسةٍ فانثنيتُ / وقد زايلَ الشمسَ لألاؤها
وخِلتُ الحياةَ وضوضاءها / تموتُ على الأرض أصداؤها
وكفَّ عن الهمْسِ حتى النسيمُ / وأمسكَ عن لَعِبٍ ماؤها
وناديتُ فالتفتتْ لا تجيبُ / ولكنْ دعاني إغراؤها
ومرَّتْ إزائي فتابعتُها / بقلبي وعيني إلى أمِّها
رأيتُ مفاتنها غيرَ تلك / وإن لم يُخلَّدْنَ في جسمِها
وأبصرتُ من حولها الكائناتِ / جوانحَ تهفو إلى ضَمِّها
ويحنو الصباحُ على ثغرِها / وقد جُنَّ شوقاً إلى لثمِها
يسائلني القلب عن أمرها / وأسأله أنا عن سرها
ويعطفني في الهوى ضعفُها / وأنسَى بأنِّي في أسرها
وتُبدي ليَ الأنجمُ الوامقاتُ / رفيفَ الأماني على ثغرها
فأحسبُ أن اهتزازَ الحياة / صدَى حبِّها ورؤى سحرها
لكذبتها تُستحبُّ الحياةُ / ويَصْفو الزمانُ بتغريرها
ويأخذُني الشكُّ في قَوْلها / فتُقنعني بأساريرها
وتعصفُ بي شهْوَةٌ للجدال / فَتسكِتُني بمعَاذيرها
غفرتُ لها كلَّ أخطائها / سِوَى دَمعتينِ لتبريرها
أحاول أفهمها مرَّةً / فأعيا بها وبتفكيرها
أمخلوقةٌ هيَ أم ربَّةٌ / تسيرُ الخلائقُ في نِيرها
وما سِحْرُها ألتكوينها / وما حسنُها ألتصويرها
تقولُ الطبيعةُ بِنْتي وما / أُحِسُّ لها بعضَ تأثيرها
أعند الطبيعةِ هذا الدلالُ / وفي دِفئِها مثلُ هذا الحنانْ
إذا قيلَ لي هاكَ مُلك الثّرى / ودنيا الشَّبابِ وعمْرَ الزمانْ
فما لذَّتي بالذي نِلتُه / وما نشوتي برحيق الجنانْ
كرعشةِ رُوحِي وهزَّاتِها / وصدري على صدرها واليدانْ
وغَنَّتْ فأسمعني صوتها / صَدى الروحِ في خلَجات البدنْ
عميقاً كأنفذ ما في الحياةِ / وأبعدِ ما في قرارِ الزّمنْ
فأحسستُ كيف تطيش العقولُ / وتسهو القلوبُ وتصحو الفتنْ
وقال لها الحسنُ يا ربتي / فقالت له كلّ شيءٍ حسنْ
رآها على النبع بعضُ الرُّعاةِ / مصوَّرةً في إطار الغصونْ
فقالوا أحُلْمٌ تراه العيونْ / أفي الغابِ حوريَّةٌ من تكونْ
ومسَّ مزاهرهم روحُها / فرفَّتْ بها خالداتُ اللحونْ
وباتتْ تعانقُ أحلامَهم / وقد كاد يرقصُ حتى السكونْ
ولاحت بمرأىً لعينيْ فتىً / طوى البحرَ ليس لهُ من قرارْ
تفتَّحُ عن صدرها موجتان / وينشقُّ في الفجر عنها المحارْ
رآها فجنَّ غراماً بها / وغنَّى بها الليلَ بعد النهارْ
وقالوا تعشَّقَ جِنِّيةً / فتىً شاعرٌ تائهٌ في البحارْ
قضى اللّهُ أن تُغويَ الخالدين / وتُغريَ بالمجدِ عُشَّاقَها
لَقِيتُ على بابها الفاتحينَ / وغارَ الفتوحِ وأبواقَها
وكلَّ مُدِلٍّ عَصِيِّ القياد / دَعَتْهُ الصبابةُ فاشتاقها
سَلا مَجدَهُ الضَّخْمَ في قُبْلةٍ / تُذِلُّ وتُسْعِد من ذاقها
أمانيُّ شَتَّى تمثَّلنَ لي / بكلِّ وضيءِ الصِّبا ناعمِ
مُبَعْثَرةً حولها في الترابِ / بقايا الدُّمى في يدِ الحاطمِ
تَمُرُّ بها وهي في ضِحْكها / وما ذَرَفَتْ دمعةَ النَّادمِ
فيا لكِ من طفلةٍ فَذَّةٍ / ورُحماكِ سَيِّدَةَ العالَمِ
يحاولُ بالشعرِ إغراءنا / لنؤمنَ واحدةً واحده
هو الموقف الضنكُ ما يتقيهِ / كمايتقي باشقٌ صائده
متى كان صَبّاً عطوفَ الفؤاد / وهذي قصائدُه الجاحدهْ
ألا ذكِّريهِ بمثَّاله / ونادي بحيَّتِهِ الخالدهْ
ظَلَمْتِ الفنونَ وأربابها / وما كنتِ حوريَّتي ظالمه
قلوبٌ تلذُّ بتعذيبها / غرائزُ عاتيةٌ عارمه
تُرنِّحها سَكراتُ الهوى / وتُوقظها الفِتنُ النائمه
صَحَتْ من خُمار مَلذَّاتها / تُعنِّفُ أهواءَها الآثمه
ألا ما لأختيكِ ما تبغيان / أقلبيَ والخنجرَ المُنتَضَى
خذاهُ اقتلاهُ ولا ترحماهُ / فليسَ له بَعْدُ أن يَنبِضا
أذيقاهُ ما شئتما واغرسا / به الشرَّ ملتهباً مُرْمِضا
فلن تُنبِتَا فيه إلَّا السلامَ / والحُبَّ والزهَرَ الأبيضا
إناءٌ من النُّور طافتْ بهِ / يَدُ الحبِّ غارسةُ الزَّنبقِ
تُغاديهِ شاديةٌ في الدُّجى / وراقصةٌ في الضُّحى المشرقِ
بأجنحةٍ كرؤى الخالدين / لغير الصبابةِ لم تخفِقِ
وقلبيَ من قدَحٍ في السماء / ومن نبْعِ آلهةٍ يستقي
أتخشى لِقانا سليلَ السماء / أتحذرُنا أم تخافُ الضِّياء
مُحدِّثتي ما أحبَّ اللقاءَ / لقد حال جسمي دونَ اللقاء
وكنتُ تخلَّصتُ من طيفهِ / فلفَّتهُ حولي يدٌ في الخفاء
كأنِّيَ أهذي بأضغاثِ حُلمٍ / أو أني ضللتُ طريقَ السماء
بليتيس سافو الفرارَ الفرار / فقد لبسَ الروحُ طيفَ البشرْ
أتبْصِرُهُ جسداً عارياً / وتقربهُ تلك إحدى الكُبرْ
على رِسْلكنَّ فقد عاقبته / بأقوالكنَّ بناتُ القدرْ
لقد عاقبتهُ بأشعاره / فيا ليتَه ما هذَى أو شَعَرْ
أتصرخ ويحْكَ إنَّ السماء / لتأخذُها صرخاتُ الألَمْ
من الغيمِ يا شاعري فالتمسْ / دِثاركَ واخصِفْ به من أممْ
وخُذْ من جناحيَّ ما تتَّقي / به في السماء عثارَ القدمْ
وأقسمُ ما رُمْتُ غيرَ الحنان / وإنِّي زعيمٌ بهذا القسمْ
بليتيس تاييس ماذا انظرا / فثمَّتَ أُعجوبةٌ تظهرُ
تعالَ فتى الشعرِ يا للسماءِ / أبِالشعرِ أم بالفَتى تَسخَرُ
أهذا هو الآدميّ العظيمُ / ألا شدّ ما يخدعُ المنظر
تَصوَّرتُهُ من أحاديثهِ / فتىْ لوَسامته يؤثرُ
تريدينه صورةً أم فتىً / تهلّلَ فيه الحِجى وابتسمْ
رأيتُ الرجولةَ كلَّ الجمالِ / هو الرَّجلُ الفردُ في المزْدحَمْ
تراهُ على النبع يُعلي الغطاءَ / ويُدْلي الدلاءَ ويَسقي الغنمْ
ويحدو العذارى إلى دارهنَّ / حَيِيَّ الخطى موسويَّ القدمْ
لشدَّ الذي قُلتِهِ يا ابنتي / كلاماً توهَّجَ منه الحنينْ
تعاليْ هنا والثمي جبهةً / هزأت بها وهي حُلْمُ السنينْ
أمن خَمَلِ السُّحْبِ هذا الدثار / ومن حمإ الأرض هذا الجبينْ
دعي طيفه وانظري روحَه / ففيها الصِّبا والجمالُ المبينْ
هل الرجل الروح لا إنه / محيّا ترقرق فيه الوسام
وعينانِ بالسحر تستأثرانِ / خيالٌ لعمركِ هذا الكلام
مُحيَّا وعينانِ ما في الرجالِ / سوى كلِّ أصيدَ سبْطِ القوام
ذراعاهُ تستدرجانِ الخصورَ / وفي شفتيهِ حديثُ الغرامْ
تنزَّهْتَ عن شُبْهةٍ عالمي / ولا رابني فيكَ ما أسمعُ
عهدتُ البراءَة فيمن تُظِلُّ / فماليَ من ريبة أفزعُ
وأبدعتَ خلقاً ولكنني / أراهُ إلى عَبَثٍ ينزِعُ
سبَى السحرُ أجملَ أرواحِهِ / فأنطقهن بما يخدعُ
أفي عالم الرُّوح تفشو الظنونُ / وينطق روحٌ بهذا الكلِمْ
أسائلُ نفسي أشيطانةٌ / توسوسُ لي أم مَلاكٌ أثِمْ
أم الشكُّ آذنني بالصراع / أم حلَّ بي غضبُ المنتقمْ
بل البعثُ آذنهنَّ الغداةَ / فلا تَلْحَهُنَّ ولا تتَّهِمْ
هي الآدميةُ طافتْ بهنَّ / وتلك غرائزُها والطباعْ
غداً تدرجُ الرُّوحُ في طيفها / وما الطيفُ للرَّوحِ إلَّا قِناعْ
سترقدُ في غورها الذِّكريات / وتوقظهنَّ السنون السِّراعْ
وتمشي لحاضرها في الحياة / بمصباحِ ماضٍ خَفيِّ الشعاعْ
وكم نبأةٍ كالحديث الجديد / وما هو إلَّا القديم السماعْ
من الخيرِ والشرِّ إلهامها / مقادِرُ تجري بهنَّ اليراعْ
فدع للسماءِ تصاريفها / فقد أذِنَ البعثُ بعد انقطاعْ
وداعاً صديقي إلى أين تمضي / إلى الملتقى فالوداع الوداع
عَبَرَتْ بي في صباحٍ باكرِ
عَبَرَتْ بي في صباحٍ باكرِ / فتنةَ العين وشُغلَ الخاطرِ
شعرُها الأشقرُ فيه وردةٌ / لونها من شهوات الشاعرِ
ورشيقاتُ الخطى في وقعها / مُنبئاتي بشبابٍ ساحرِ
وبعينيها رُؤىً حائرة / بين أسرارِ مساءٍ غابرِ
صوَّرَت من حاضر العيش ومن / أمسِها قصةَ حبٍّ عاثرِ
قلتُ والفجرُ سنى ياقوتةٍ / لألأت خلفَ السحاب الماطرِ
هذه الساعةَ تسعى امرأةٌ / حين لم يخفقْ جناحُ الطائرِ
مَن تراها وإلى أين ومِن / أيِّ خدرٍ طلعتْ أو سامرِ
تقطع الإفريز من ناحيتي / كأسيرٍ هاربٍ من آسرِ
تتَّقي الأعينَ أن تبصرها / وهي لا تألو التفاتَ الحائرِ
لا تبالي بلَلَ الثوبِ ولا / لفحةَ البردِ الشفيفِ الثائرِ
أو تبالي قدماها خاضتا / مسربَ الماءِ الدفوق الهامرِ
أنتِ يا ساريةَ الفجر اسمعي / دعوةَ الروح البريء الطاهرِ
مرَّ بي مثلُكِ لم يُشْعِرنني / غيرَ إشفاقِ الحفيِّ الناصرِ
وأنا الشاعرُ قلبي رحمةٌ / لفريساتِ القضاءِ الجائرِ
إنْ نأتْ دارُك يا أختُ فما / بَعُدَتْ دارُ الغريبِ العابرِ
شاطريني ذلك المأوى فما / أتقاضاكِ وفاءَ الشاكرِ
غرفةٌ آلهةُ الفنِّ بها / تتلقّاكِ لقاءَ الظافرِ
وتُغنّيكِ نشيداً مثلَهُ / ما تغنَّتْ لحبيبٍ زائرِ
هاتِ كفّيكِ ولا تضطربي / لا تخالي ريبةً في ناظري
سوف يؤويكِ جدارٌ ساخرٌ / من أباطيلِ الزمان الساخرِ
سوف يحويكِ فِراشٌ صامتٌ / لكِ فيه همساتُ الذّاكرِ
سوف يطويك سكونٌ لم يَشُبْ / صَفوَهُ لغْوُ مُحبٍّ غادرِ
وأناديكِ وأستدني يداً / لمستْ روحي وهزَّت خاطري
وأحيّيكِ وأستحْيِي فماً / حَقُّهُ قُبْلَةُ رَبٍّ غافرِ
طَلَعُوا جبابرةً عليكِ وثاروا
طَلَعُوا جبابرةً عليكِ وثاروا / وَوَقفْتِ أنتِ ورُوحكِ الجبَّارُ
عصفوا ببابكِ فاستُبيحَ فلم يكنْ / إلَّا جَهَنَّم هاجَها الإعصارُ
حربٌ إذا ذُكِرَتْ وقائعُ يومِها / شابَ الحديدُ لِهولِها والنارُ
لو قِيلَ أبطالُ العصورِ فمنهُمو / لحُماتِكِ الإعظامُ والإِكبارُ
أو عاَد هُوميرٌ وسحْرُ غنائهِ / ورأى مَلاحمَهم وكيفَ تُثارُ
وهمُو حُماةُ مدينةٍ محْصورَةٍ / دُكَّتْ على حُرَّاسِها الأسوارُ
نسِيَ الذي غنّاهُ في طُرْوادةٍ / وشدَا بهم وترنَّمَ القيثارُ
كم من أخيلٍ فيهمو لكنَّهُ / رُدَّ المُغيرُ بهِ وفُكَّ حِصارُ
لم تجْرِ مَلحَمةٌ بوصفِ كفاحِه / لكن جرت بدمائهِ الأنهارُ
نادَتْهُ من خَلفِ الشواطئِ أُمَّةٌ / هو عن حِماها الذائدُ المِغوارُ
إن يَسألوا عنه ففارسُ حَلْبة / لم يَخْلُ من وثْباتِه مضمارُ
أو يقرأوا تاريخَهُ فصحيفةٌ / إمضاؤُه فيها عُلىً وفخارُ
أو يبحثوا عن قبْرِهِ فمكانهُ / فيما يُظِلُّ العُشْبُ والأزهارُ
فيما يُغطِّي الثلْجُ تحت رُكامهِ / فيما تُعرِّي الريحُ والأمطارُ
هو مهجةٌ فنيَتْ بأرضِ مِعَادِها / ليتمَّ غرسٌ أو يَطيبَ ثِمارُ
هو موجةٌ ذابت ببحر وجودها / كيما يثورَ برحُها التيارُ
في شاطئٍ وقف العدوُّ إزاءَهُ / يبغي العبورَ ودونه أشبارُ
ما زال يدفعُ عنه كلَّ كتيبةٍ / حتى تلاشى الجحْفلُ الجرَّارُ
وهوى وفي شفتيْهِ بسمةُ ظافرٍ / أوْدى وتمَّ على يديهِ الثارُ
يُزهى به تحت الحديد وبأسِهِ / رأس يكلِّلُ مفرقيهِ الغارُ
يا ربَّةَ الأبطالِ لا هانَ الحِمى / وسلمْتِ أنتِ وقومُكِ الأحرارُ
أأقولُ أبناءُ الوغى أم جِنةٌ / وأقولُ آلهَةٌ أمِ الأقدارُ
يستنقِذونكِ من براثنِ كاسِرٍ / ماجتْ بهِ الآجامُ والأغوارُ
مُتربِّصِ السطوات تختبىءُ الرُّبى / وتفِرُّ من طُرُقاتِهِ الأشجارُ
قهَرَ الطبيعةَ صيفَها وشتاءَها / حتى أتاهُ شِتاؤكِ القهَّارُ
مجْد المدائن والقرى إن الذي / أبدعتِه فيه العقولُ تحَارُ
عجباً أأنتِ مدينةٌ مسحورةٌ / أم عالمٌ حاطَتْ به الأسرارُ
طُرُقٌ مُحيرةٌ يَضِلُّ ويَهتدي / فيها الكُماةُ وليسَ ثَمَّ قرارُ
عَزَّتْ على قَدَمِ العدوِّ كأنما / من زِئبقٍ صيغت بها الأحجارُ
ومنازلٌ مشبوبةٌ وكأنها / للجنِّ في وادي اللظى أوكارُ
وترى زَبانيَةَ الجحيمِ ببابها / ضاقت بهم غُرَفٌ وناءَ جدارُ
يتصارعون بأذرعٍ مخضوبةٍ / والسقفُ فوق رؤوسهم يَنهارُ
يتنازعون بها الطِّباقَ خَرائبا / دَمِيَتْ على أنقاضها الأظفارُ
ما زِلْتِ صامِدة لهم حتَّى إذا / سَهَتِ العقولُ وزاغتِ الأبصارُ
وتقَبَّضَ المستَقتِلونَ وعربدَتْ / أيدي الرُّماةِ وعرَّدَ البتَّارُ
وتقوَّض الحِصنُ المنيعُ ولم يكن / إلَّا جِدارٌ يحتويهِ دَمارُ
وقسَا عليكِ المرجِفون وحدَّثوا / أنْ ليس تمضي ليلةٌ ونهارُ
أطبقتِ كالنَّسرِ المحلِّقِ ما لهمْ / منه ولا من مِخلبيهِ فِرارُ
وتفرَّستكِ قلوبهم فترنَّحوا / رُعْباً وأنتِ الخمرُ والخمّارُ
وخَبَتْ مَدافِعُهم وذاب حديدهم / والثَّلجُ يَعجبُ واللَّظى الموَّارُ
يا فِتيَةَ الفُولجا تحيَّة شاعرٍ / رقَّتْ له في شدوِهِ الأشعارُ
ملاَّحُ وادي النِّيلِ إلا أنهُ / أغرَته بالتِّيهِ السَّحيقِ بحارُ
أبداً يطوِّفُ حائراً بشراعهِ / يَرمي به أُفقٌ وتقذِفُ دارُ
إني رَفعْتُ بكم مِثالاً رائعاً / يُوما إليهِ في العُلى ويُشارُ
لشبابِ مِصرَ وهم بُناةُ حياتِها / وحُماتُها إنْ حاقتِ الأخطارُ
وبمثلِ ما قدَّمتمو وبذَلْتُمُو / تغلو الدِّيارُ وترخُصُ الأعمارُ
هذي مَدينتُكم وذاك صِراعُها / رمزٌ لكلِّ بُطولةٍ وشعارُ
جِئتمْ بكلِّ عجيبةٍ لم تحتفِلْ / يوماً بمثلِ حديثها الأمصارُ
تتحدَّثُ الدُّنيا بها وبصُنعكمْ / وتُحدِّثُ الأجيالُ والأدهارُ
أحقيقةٌ في الكونِ أم أُسطورةٌ / هذا الصِّراعُ الخالدُ الجبَّارُ
يا شرقُ مِلءُ خاطري سِحرٌ وملءُ ناظري
يا شرقُ مِلءُ خاطري سِحرٌ وملءُ ناظري /
أوَحْيُ ليلك القديمِ أم رُؤى الزواهرِ /
يا شرقُ أيُّ ليلةٍ رائعةِ الدياجرِ /
نجومُها خلفَ الغمامِ أعينُ المقادرِ /
ترنو على جوانبِ السماءِ للمُهاجرِ /
تمدُّ من شعاعها مِثْلَ جَناح طائرِ /
رُعيا المحبِّ للحبيب حُفَّ بالمخاطرِ /
تقول ههنا السُّرى ومن هنا فحاذرِ /
يا شرقُ أيُّ ليلةٍ بَعَثْتَها من غابرِ /
حقيقةٌ تلوح لي أم ذاك حُلمُ شاعرِ /
أرى على صحيفة الزمان حدَّ باترِ /
تكمنُ في فِرِنْدِهِ جريمةٌ لغادرِ /
ومن بريقهِ تُطلُّ ألفُ عينِ فاجرِ /
مُلقىً وراءَ صخرةٍ كانت ملاذَ عابرِ /
أوَى إليها مُفرداً غيرَ أخٍ مناصرِ /
والبادياتُ حوله رَوْعٌ وهمسُ حائرِ /
كأنما أنسامهنَّ تمتماتُ ساحرِ /
هو انتقالةُ الحياة وثبةُ الأداهرِ /
شدا الرعاةُ باسمه في الأعصرِ الغوابرِ /
وأودعوه فَرْحَةُ صوَادحَ المزاهرِ /
زَفُّوا به إلى الحياة أجمل البشائرِ /
لحنٌ وفيه قسوةُ العواصفِ الثوائرِ /
وفيه ثورةٌ على العقائد الدوائرِ /
يقتحم الذُّرى المنيعةَ اقتحامَ ساخرِ /
يهزأُ بالجيوش في ألويةِ القياصرِ /
يهدمُ كل فاسدٍ يهزمُ كل جائرِ /
ومن عجيبِ أمره يبني بناءَ قادرِ /
يا شرقُ سحرُك القديمُ مالِكٌ مشاعري /
هذي الطوالعُ الحسانُ في الحُلى النواضرِ /
المطلقاتُ بالنشيد أرخمَ الحناجرِ /
كأنهنَّ جَوقةُ الهواتف الطوائرِ /
حيَّينَ مَوْلِدَ الربيع والسَّنى المباكرِ /
عرائسُ الخيالِ هُنَّ أو بناتُ خاطري /
ينثرن من أكفهنَّ أنضرَ الأزاهرِ /
على طريقِ مُلْهَمٍ مُخَلَّدِ المآثرِ /
يا شرقُ أيُّ روعةٍ جَلَوْتَها لناظري /
حقيقةٌ تلوحُ لي أم ذاك حُلْمُ شاعرِ /