أنيخاها فَقَدْ بَلَغَت مُناها
أنيخاها فَقَدْ بَلَغَت مُناها / وغادرها المسيرُ كما تراها
سلكتُ بها فجاج الأرض حتَّى / أضَرَّ بها وأوهنها قواها
فَسَلْني كيفَ جابتها قِفاراً / وكيفَ طَوَتْ فدافدها خطاها
وما أنسى الوقوف على رسومٍ / عَناني في الصبابة ما عناها
قضى بوقوفه المشتاقُ فيها / وجوهاً يا أمَيْمَة لا أراها
وقفتُ أناشِدُ الأطلال منها / ديوناً للمنازل ما قضاها
وأذكر ما هنالك طيبَ عيشٍ / به تجري النفوس على مداها
جرَينا في ميادين التصابي / إلى اللّذات نستحلي جناها
فواهاً لِلّذائذ كيف ولّت / وآهاً من تصرّمها وآها
تدار من المدام على الندامى / كؤوسُ الراح تشرق في سناها
وألحان المثالثِ والمثاني / يُغنّيها فتطربُ في غناها
وينظمنا اجتماعُ في رياضٍ / نثار الطل يلبسها حلاها
وقد أمْلَتْ حمائمها علينا / من الأوراقِ شيئاً من أساها
كأنَّ الوُرْقَ حين بكت وأبكتْ / رَماها بالقطيعة من رماها
تُكَتِّمُ أدمعاً وتبوحُ وجداً / وتعربُ ما هنالك عن جواها
وربَّ مديرةٍ كأس الحميّا / أخذْتُ بكفِّها ورشفتُ فاها
ومُسودِّ الإهاب من الدياجي / كشَفْتُ بشهب أكؤسنا دجاها
وعانقتُ القوام اللَّدنَ منها / وعينُ الواشي يحجبها عماها
فآونةً ترشِّفني طلاها / وآونة ترشِّفني لماها
ومِن عَجَبٍ أذِلُّ لذاتِ دَلٍّ / وتسبيني المحاسن في هواها
ولي نفس متى دُعيَتْ لذُلٍّ / نهاها عن إجابته نهاها
أبَتْ نفسي مداناة الدّنايا / وأغنتها القناعة عن غناها
وهل تستعبد الأطماع حراً / إذا عُرضت له الدنيا ازدراها
ولست ألينُ والأيام تقسو / بشدَّتها ولمْ أطلبْ رخاها
وأرض يَفْرَقُ الخرّيت فيها / ويفزعُ من مهالك ما يراها
سلكتُ فجاجها ومَرَقْتُ منها / مروقَ النَّبل يبعُدُ مرتماها
سَليني كيفَ جرَّبت الليالي / وكيف عرفَتها وعَرَفْتُ داها
بلوت النَّاس قَرناً بعد قرنٍ / وكنتُ بها أحقَّ من ابتلاها
فلم أزدَد بها إلاَّ اختباراً / ولم أزْدَدْ بها إلاَّ انتباها
وفي عبد الحميد بديع شعري / مناقبُ عن معاليه رواها
نعمتُ بفضله وشكرت منه / يداً لا زال يغمرني نداها
فما استعذبتُ غير ندى يديه / وما استعذبته مما عداها
فلو أني وَرَدْتُ البحر عذباً / أنِفْتُ من الموارد ما خلاها
وإنَّ الله أودع فيه معنىً / لتسمية المكارم مذ براها
من السادات من أعلى قريشٍ / سلالة خير خلق الله طه
شديد البأس ألطفَ من نسيم / تعطِّره الأزاهر من شذاها
يخوض غمارها الهيجاء خوضاً / وماء الموت يرشحُ من ظباها
ويرفع راية المنصور فيها / ويخفض من أعاديه الجباها
وتلك رئاسةٌ وعلوُّ قَدرٍ / إليه العزُّ يتَّجهُ اتّجاها
تريه بواطنَ الآراء تبدو / فلمْ تَحجُبْ لعمرك ما وراها
أرَته زينةَ الأمجاد تزهو / بأرديةِ المحاسن فارتداها
تَولَّى والولاية فيه أضْحَتْ / تزيد بعزِّه عزًّا وجاها
أمورٌ في الرّياسة يَبْتديها / ويعْلَمُ بعدَ ذلك منتهاها
وأحيا بالعمارة كلَّ أرضٍ / وأجرى في ضواحيها المياها
وأمَّن بالصيانة ساكنيها / وأصبَحَ فيه محْميًّا حماها
حماها حيثُ كانت من لَدُنْه / بعينِ عنايةٍ ممَّن رعاها
ودبَّرها بلطفٍ لا بعنفٍ / فأرشَدَها وألهَمَها هداها
وكفَّ يدَ الخطوب السُّود عنها / فما مُدَّتْ إلى أحدٍ يداها
فهَلْ مِن مبلغٍ عَنِّي ثناءً / تقيَّ الدِّين يشكره شفاها
ربَّما أسدى من الحُسنى إلَيْنا / وما عَرفَ الأَماجدَ فاجتباها
تَفَرَّسَ بالرِّجال فازداد عِلماً / فولاّها الأُمورَ بمقتضاها
بلغنا غايةً من لطفِ مولًى / بشيرٍ للمؤمّلِ مبتداها
وسيَّرْنا لساحته الأَماني / فأَلقَت في مغانيه عصاها
إليك ركبْتُها في البحر تجري / من الفُلك السوابق في سراها
تَنَفَّسُ بالدخان وفي حشاها / لظى نارٍ مُسَعَّرةٍ لظاها
ويخفِقُ وهي مثل الطير سبحاً / جناحاها إذا دارتْ رحاها
جَرَت مجرى الرياح بلا توانٍ / فما احتاجت إلى ريحٍ سواها
وما زلنا بها حتَّى بلغنا / مِنَ الآمال أقصى مبتغاها
بقيتَ لنا مدى الأنام ذخراً / نواها فيك أحْسَنَ ما نراها
فمثلك في المكارم لا يجارى / ومثلك في الأَكارم لا يضاهى