بدت خَوداً لها الأغصان شَعرُ
بدت خَوداً لها الأغصان شَعرُ / ودجلةُ ريقُها والسَفْحُ ثَغْرُ
على " بغداد " ما بَقِيتْ سَلامٌ / يَضُوعُ كما ذَكَا للوَردِ نَشْر
سمتْ تَزْهو على السَفحَينِ منها / قصورٌ ملؤها زَهْوٌ وكِبْر
يُظلَّلُ دجلةً منها جَناحٌ / كما بَاهى بقادِمتَيه نَسْر
نزلتُ فما رأيتُ أبرَّ منها / وضيفُ كريمةٍ برّ يُبَر
قرتْني الريحُ لم يَفْسُد مَهَبٌّ / له والماءُ لم يسْدُدْ مَمَرُّ
سكِرتُ وما سُقِيتُ بغيرِ ماءٍ / ودجلةُ ماؤُها عَسَلٌ وخَمر
كريمةُ سادةٍ عَرَّقْنَ فيها / عروقٌ من بني " عدنان " نُضْر
كفى " العباسَ " ما أبقَتْ بنوه / فما تَربو على " بغدادَ" مِصْر
مَضَوا غُرَّ الوجوهِ وخلَّدتْهم / نِقاباتٌ من الآثار غُرّ
فمن يكُ ذكرهُ حَسَناً جميلاً / فحسْبُ القَوم في بغدادَ ذِكْر
فيا بغدادُ لا ينفكُّ سِرٌ / لحُسْنِكِ ينجلي فيدِقُّ سِر
أكنت و " بابلاً " بلداً سواء / فللملكَينِ باقٍ فيك سحر
سقى الجْسرَ المَطيرَ من الغوادي / فَملْقى اللهو واللذاتِ جسر
هو البرجُ الذي كادَتْ عليه / نجومُ الأفقِ ساجدةٌ تَخِرّ
رأيتُ بأفقه شمسْاً وبَدراً / كأحسنِ ما تُرَى شَمسٌ وبَدر
نهاراً كلُّه أُصُلٌ لِذاذٌ / وليلاً كلهُّ سحرٌ وفجر
وقفتُ عليه وِقفةَ مستطيرٍ / من الأحزانِ ملْ حَشاه ذُعر
وللأمواج من حَنَقٍ نَشيشٌ / كما يَغلي على النيرانِ قِدر
ودجلةُ كالسجينِ بغَى فراراً / وأزْبَدَ حيثُ أعوزَه المَفَرُّ
وذاك الثابتُ الأركانِ أمسى / عليها ريشةً لا تستَقِرُّ
فما أدري غَداةَ نَزَا عليه / من الأمواج مُغتَلِمٌ يؤر
أتحتَ الماءِ غاصوا حين جازوا / عليه أم فُوَيقَ الماءِ مرّوا
أحقاً أن " أمَّ الخير " منها / بعاصمة " الرشيد " أحاطَ شرّ
وبات الماءُ منها قِيدَ شِبرٍ / لقد أسدَى لها الأحسانَ شِبر
ودجلةُ حُرَّةٌ ضيمَت فجاشَت / ويأبى الضيمَ والاذلالَ حرّ
أضاعُوا ماءها هدراً وأخنَى / على مُستودَعِ البَرّكات فَقْر
فان تَكُ دجلةٌ هَدَأت وقرَّت / فللغضبان " شِقْشِقَةٌ " تَقَر
وإن تُبْتُمْ فذالكمُ وإلا / تُصِرُّ على البلية إن تُصرّوا
رأوا حسنَ العراق فأعجبتهمْ / اباطحُ من ربيع فيه خُضْر
وقد حَنُّوا اليه كما تلظى / فطيمٌ حول مرضعة تدُر
فيا وطناً جَفَوْهُ وهو راضٍ / وعقَّته بنوه وهو بَرّ
برغمي أن تروقَ لهم فتحلوا / مواردُهم وعيشي فيك مرّ
نصيبي منك دمعٌ ليس يرقى / على البلوى وجنبٌ لا يَقِر
رضيً بالحالتين ضنىً وبؤسٌ / فضُر من بلادي لا يضر
ولستُ ببائعٍ أرضي بأرضٍ / وإن لم ألقَ فيها ما يسر
ومن لم يرضَ موطنه مقراً / من الدنيا فليس له مقر
تتابعت الخطوبُ على بلادي / فواحدةٌ لواحدةٍ تُجَر
وقد مرت نحوسٌ واستمرت / وذلُ القوم نحسٌ مستمر
فلو قالوا تمنَّ لقلتُ يوماً / يكرُّ وما به خطبٌ يكر
إليك الشعرَ يا بغدادُ عِقداً / تناسق لؤلؤٌ فيه ودُرّ
بيانٌ جاش فيكِ فجاء عفواً / وحسنٌ رق منك فرقّ شعر
جرى بالوَفق من قلبي لساني / وأظهرت القوافي ما أُسِر