المجموع : 3
لا يبلُغ المرء منتهى أرَبه
لا يبلُغ المرء منتهى أرَبه / إلا بعلم يَجدّ في طلبه
فَأْوِ إلى ظلّه تعش رغَداً / عيشاً أميناً من سوء مُنقلبَه
واتعب له تسترح به أبداً / فراحة المرء من جَنى تعبه
ولذّة العلم من تَذَوَّقها / أضرب عن شهده وعن ضَربه
وأن للعلم في العلا فَلَكاً / كل المعالي تدور في قُطُبه
فاسعَ إليه بعزمِ ذي جَلَد / مُصمّم الرأي غير مضطربه
وأبذُل له ما ملكت من نَشَب / فالعلم أبقى للمرء من نشبه
لا تتّكل بعده على نَسَب / فالعلم يُغني النسيب عن نسبه
وأطّرح المجد غيرَ طارفه / وأجتنب الفخر غير مكتَسَبه
ما أبعد الخيرَ عن فتىً كَسِل / يسرح في لهوه وفي لَعِبه
كم رفع العلم بيت ذي ضَعَة / فقصّر الناس عن مدى حَسَبه
حتى تمنّى أعلى الكواكب لو / يحُلّ بيتاً يكون في صَقَبه
وودّت الشمس في أشعّتها / لو كنّ يُحْسَبْن من قوى طُنُبه
وأن يَسُد جاهل فسؤدده / بعد قليل يُفضي إلى عَطَبه
يرى امرؤ مجد جاهل عجباً / لو صحّ عقلاً لكفّ عن عجبه
كم كذب الدهر في فعائله / وسؤدد الجاهلين من كَذِبه
العلم فَيْض تحيا القلوب به / فأمتّح بسَجْل الحياة من قُلُبه
كل فَخار أسبابه انقطعت / إلا فخاراً يكون من سببه
للعلم وجه بالحسن مُنتقِب / وسافرٌ منه مثل منتقبه
ما حُسن وجه الفتى بمَفخَرة / أن لم يؤيَّد بالحسن من أدبه
ما أقدر العلمَ أنّ صَيْحته / يُمْعِن منها الخميس في هربه
من تَخِذ العلمَ عُدّة لوغىُ / أغناه عن دِرعه وعن يَلَبه
فأنتدِب العلم للخطوب فما / خاب لعمِري رجاء منتدِبه
العلم كالنور بل أفضله / ما أفقرَ النورَ أن يُشبَّه به
وإنما العلم للنُهى عَصَبٌ / والحسّ في الجسم جاء من عصبه
سَقياً ورعياً لروض معهده / وطالبيه وقارئي كتبه
ما الناس إلاّ رُوّاد نُجْعته / وناشروه وكاشفو حُجُبه
ومن غدا هاديا يعلّمه / وراح يشفي الجهول من وَصبَه
ومعهد أسِّست قواعده / في بلد شَفّني هوى عربه
شيّده للعلوم مدرسة / من كان نشر العلوم من دَأَبه
قد غَرَّد المجد في جوانبه / فاهتَزّ عِطف الفَخار من طربه
وأصبح العلم فيه مُزدهِراً / بكلّ ذاكي الذكاء ملتهبه
بمثله في البلاد قاطبةً / يُشفى عَقُور الزمان من كَلَبه
أضحت فلسطين منه مُمْرِعة / مذ جادها بالغزير من سُحُبه
تاهت به ايلياء فاخرة / على دمشق الشَآم أو حلبه
شكراً لبانيه ما أقام به / شُبّانه القاطنون في قُبَبه
حيَاكم الله أيها العرب
حيَاكم الله أيها العرب / فاستمعوا لي فقصّتي عجب
قد بِتّها ليلة مُطَّولة / يَعقِد جَفني بنجمها الوَصَب
أنجمها الزُهر غير سائرة / كأنما كل كوكب قُطُب
تحسَبني في مضاجعي حَسَك / يقلبني وخزه فأنقلب
أمشي إلى النوم وهو منهزم / مَشيِي دبيب ومشيه خَبَب
حتى بدا الفجر لي وقد طفِقت / تغرق في فيض نوره الشهب
عندئذ خَدَّر الأسى عَصَبي / فنِمت والنوم جرّه التعب
فطاف بي طائف لرَوْعته / يرتجف القلب وهو مُرتعِب
رأيتني قائماً على نَشَزٍ / من شاحل البحر وهو مضطرب
والأفق محمرّة جوانبه / كأنما الجوّ ملؤه لَهَب
وفي عنان السماء قد طلعت / أهِلّة في إزائها صُلُب
والأرض قد بُعثِرت ضرائحها / مكشوفة لا تغمّها التُرَب
والموت كالكبش في جوانبه / يرعى نفوساً كأنها عُشُب
وبين تلك القبور غانية / يلمع في حُرّ وجهها الحسب
لها جبين كأنه قمر / تحت شعور كأنها الذهب
ووجنة باللطم دامية / وساعد بالدماء مختضِب
قد أذبل الجوع ورد وجنتها / فاصفرّ وامتصّ ماءه اللَغَب
شاخصة الطرف وهي جاثية / تحملها دون سوقها الرُكَب
حاسرة الرأس غير ناطقة / إلا بدمع لسانه ذَرِب
فلحظها فوق رأسها صُعُدٌ / ودمعها تحت رجلها صَبَب
مكتوفة الساعدين منكسرٌ / مِن حَزَن طرفها ومكتئب
قد وتَّدُوا القَيد في مُخَلخَلها / ومدّدوه كأنه طُنُب
ترى خُدوشاً على مُقَلَّدها / كأنها في صفيحة شُطَب
وحولها أنفس مصرَّعة / يسرح فيها ويمرح العَطَب
واحتَوَشَتها كلاب مَجزَرة / مهترشات يَهيجها الكَلَب
تنهشها تارةً وآوانَةً / تنبح من حولها وتصطخب
وفوقها الطير وهي حائمة / تبعد من رأسها وتقترب
بيض المناقير ذات أجنحة / خُضر وريش كأنه العُطُب
يَقدُمها طائر قوادمه / تلمع كالبرق حين يلتهب
تضطرب الأرض والسماء له / إذا غدا بالجَناح يضطرب
وقفت أرنو إلى ملامحها / ووجهها بالدموع منتقب
حتى تعلّمت أن سَحْنَتَها / للعرب الأكرمين تنتسب
وبينما كنت ممعناً نظري / فيها وقلبي كقلبها يجب
إذ هاتف في السماء يهتِف بي / كأنه في الغمام مُحتَجِب
يقول لي إنها طرابُلُس / تبكي على أهلها وتنتحب
وهذه الطير حيث تُبصرها / محمد والصحابة النُجُب
فتلك رؤياي غيرَ كاذبة / فهل تُغيثون أيها العرب
يا شيخ روما ومَن لرايته / وتاجه ينتمي وينتسب
لست ولا قومك اللئام بمَن / تُعرف أمّ لمثلهم وأب
وإنما أنتم بنو زمن / إذا ذكرناه تخجل الحقب
برومة قبل وهي مبوَلة / بالكم الدهر وهو مُغترِب
فعشتم في الورى سواسيةً / لا حسب عندكم ولا أدب
ما أوقد الدهر نار مُخزية / إلاّ وأنتم لنارها حَطَب
أغسل شعري إذا هجوتكم / لأنه من هجائكم جُنُب
كان أبو الطيّب امرأ قوله
كان أبو الطيّب امرأ قوله / يبتكر الشعر مذكياً شعله
صاحب نفس كبيرة شرفت / فشرّفت حلّه ومر تحله
كان هو الشاعر الذي انتشرت / أشعاره في البلاد منتقله
أوجدت للشعر دولة عظمت / به فعزت من غيره دوله
من كل معنىً أغرّ مؤتلق / في لفظه كالعروس في الحجلة
وربما رقّ لفظه فبدت / في شعره كل كلمة ثمله
وربما لم تبن مقاصده / لأنها فيه غير مبتذله
فسائلهن عن قريضه حلباً / كم قطفت من زهرة خضله
خلّد ذكراً لسيف دولتها / أيام وشى بمدحه خلله
فاعجب لسيف لم تبل جدّته / وشاعر بالمديح قد صقله
لو حاز موسى مضاء عزمته / ماتاه في التيه عندما دخله
وهو الذي اجتازه بيعملَة / تحمل منه الهمام لا التكله
قد بات كافور من جراءتها / على الموامي بمهجة وجله
إِذ أعجزته بالسير عن طلب / لا خيله تختشي ولا ابله
فسل به النيل يوم ناقته / تغمرّت منه وانتحت جبله
كيف أتى مصر كالعقاب لكي / يبلغ فيها بشعره أمله
وكيف أحيا بالمدح أسودها / ثم وشيكا بهجوه قتله
في شعره حكمة مهذّبة / وروعة بالذكاء مشتعلة
ونغمة بالشعور صادحة / وصنعة بالفنون متصّلة
قدرته في البيان واسعة / يتيه فيها السؤال والسأله
إذا المعاني بذهبه ازدحمت / ما ربكت في انتقائها حيله
كم شاعر قد قفا له أثراً / وناقد راح يبتغي زلله
فأخفقوا عاجزين عن درك / لبعض ما كلّه تيسرّ له
قل لابن عبّاد أيّ منقصة / من أجلها كنت مكثراً عذله
أطبعه بالذكاء متقداً / أم نفسه بالاباء مشتمله
أم شعره والعصور ما برحت / تسعى بل استجادة قبله
لكنما رمت من مدائحه / ما لم تكن سالكاً له سبله
طماعة منك غير واعية / وهي لعمري حماقة وبله
أكبر من أكبر القريض به / وأكبر القاتلين من قتله
يا قاتليه لو تعلمون به / أذن قتلتهم نفوسكم بدله
لكنكم تجهلون رتبته / ماذا فعلتم يا أجهل الجهله
قتلتم الشعر والاجادة والاب / داع فيه يا ألأم القتله
لستم بذا القتل من بني أسد / بل أنتم فيه من بني ورله
لم يزل الدهر بعد مقتله / يضرب في الشعر للورى مثله
كان له عند كلّ بادهة / بدائع في القريض مرتجله
يصطاد في الشعر كلّ شاردة / من القوافي بفطنة عجله
فلا تقسه بغير أدباً / وهل تقاس المعطار بالتفله
كم شاعر يدعي وليس له / من شعره غير منطق الحجله
أن أنت أنشدت شعره هزؤاً / رجعت منه كآكل البصله
وربّ شعر إذا لفظت به / من هجنة فيه تأنف السبله
الشعر معنىً ألفاظه حسنت / فنسّقت في بلاغة جمله
وكلما قصَرت قوالبه / عن حسن معناه أوسعت خلله
حسن المعاني بلفظها مشوهٌ / كحسن حسناء ثوبها سمله
من ذاق في الشعر طعم معجزه / فأحمد الشاعر الذي أكله
أي مقام هيجاؤه احتدمت / بالشعر يوماً ولم يكن بطله
كان عزيزاً يأبى الهوان فما / قرّ عليه يوماً ولا قبله
كم منزل قد نبا به فسرى / مُتّخذ الليل في السرى جمله
كان كما قال وهو مفتخر / بفضل ما قاله وما فعله
جوهرة يفرح الكرام بها / وغصّة لا تسيغها السفله