بالأَمسِ قَدْ كانتْ حَياتي
بالأَمسِ قَدْ كانتْ حَياتي / كالسَّماءِ الباسِمَهْ
واليومَ قَدْ أمسَتْ كأَعماقِ / الكُهُوفِ الواجِمَهْ
قَدْ كانَ لي مَا بَيْنَ / أَحلامي الجَميلة جَدْوَلُ
يَجْري بهِ ماءُ المَحَبَّةِ / طَاهراً يَتَسَلْسَلِ
تَسْعى بهِ الأَمواجُ / باسمةً كأَحْلامِ الصِّبَا
بَيْضاءَ ناصِعَةً ضَحوكاً / مِثْلَ أزْهارِ الرُّبى
ميَّاسةً كَعَرائِسِ الفِرْدَوْسِ / بَيْنَ حُقُولِهِ
تَتْلو أناشيدَ المُنى / في مَدِّهِ وقُفُولِهِ
هوَ جدولُ الحُبِّ الَّذي / قَدْ كانَ في قلبي الخَضِلْ
بمَراشِفِ الأَحلامِ مُنْطلقاً / يسيرُ على مَهَلْ
يتلو على سَمْعي / أَغاريدَ الحَيَاةِ الطَّاهرَهْ
ويُثيرُ في قلبي / أَناشيدَ الخُلُودِ السَّاحِرَهْ
تَقِفُ العَذَارَى الخالِداتُ / عَرَائِسُ الشِّعْرِ البَديعْ
في ضفَّتَيْهِ مُردِّداتٍ / نَغْمَةَ الحُلْمِ الوَديعْ
يَلْمُسْنَ من قيثارَةِ الأَحلامِ / أَوتارَ الغَزَلْ
فَتَفيضُ أَلحانُ الصَّبابَةِ / عَذْبَةً مِثْلَ الأَمَلْ
وتَطيرُ بالبَسَماتِ والأَنْغامِ / أَجنحَةُ الصَّدى
في ذلكَ الأُفُقِ الجَميلِ / وذلكَ النَّسَمِ الرُّخا
وهُناكَ حيثُ تُعانِقُ / البَسَماتُ أَنْغَامَ الغَزَلْ
يَتَمَايلُ الحُلُمُ الجميلُ / كنَسْمَةِ القَلْبِ الثَّمِلْ
هُوَ جدولٌ قَدْ فجَّرت / ينبوعَهُ في مهجَتي
أَجْفانُ فاتنةٍ أَرَتْنِيها / الحَيَاةُ لشَقْوَتي
أَجْفانُ فاتنةٍ تراءَتْ / لي على فَجْرِ الشَّبابْ
كَعَرُوسةٍ مِنْ غانِياتِ الشِّعْرِ / في شَفَقِ السَّحَابْ
ثمَّ اخْتَفَتْ خَلْفَ السَّماءِ / وراءَ هاتيكَ الغُيُومْ
حيثُ العَذارى الخالِداتُ / يَمِسْنَ مَا بَيْنَ النُّجُومْ
ثمَّ اختَفَتْ أوَّاهِ / طائرةً بأَجْنِحَةِ المَنُونْ
نحوَ السَّماءِ وها أَنا / في الأَرضِ تمثالُ الشُّجُونْ
قَدْ كانَ ذلك كُلُّهُ بالأَمسِ / بالأَمسِ البَعيدْ
والأَمسُ قَدْ جَرَفَتْهُ مقهوراً / يدُ الموتِ العَتِيدْ
قَدْ كانَ ذلكَ تَحْتَ ظِلِّ / الأَمسِ والماضي الجَميلْ
قَدْ كانَ ذلك في شُعاعِ / البَدْرِ مِنْ قَبْلِ الأُفُولْ
واليومَ إذْ زالتْ ظِلالُ / الأَمسِ عَنْ زَهَري البَديعْ
وتَجَلْبَبَ الزَّهرُ الجميلُ / بظُلْمَةِ اللَّيلِ المُريعْ
ذَبُلَتْ مَرَاشِفُهُ فأَصبحَ / ذَوياً نِضْوَ الكُلُومْ
وهوَى لأنَّ اللَّيلَ أَسْمَعَهُ / أَناشيدَ الوُجُومْ
بالأَمسِ قَدْ كانت حياتي / كالسَّماءِ البَاسِمهْ
واليومَ قَدْ أمسَتْ / كأَعماقِ الكُهُوفِ الوَاجِمهْ
إذْ أَصبحَ النَّبْعُ الجَميعُ / يسيرُ في وادي الأَلَمْ
مُتَعَثِّراً بَيْنَ الصُّخورِ / يَغُورُ في تِلْكَ الظُّلَمْ
جَفَّتْ بهِ أَمواجُ / ذيَّاكَ الغرامِ الآفلِ
فَتَدَفَّقَتْ فيهِ الدُّمُوعُ / بصَوبِها المُتَهاطِلِ
قَدْ حَجَّبَتْهُ غُيومُ / أَحزانِ الوُجُودِ القاتِمهْ
قَدْ أَخْرَسَتْهُ مَرارَةُ / القَلْبِ التَّعيسِ الظَّالمهْ
جَمدتْ على شَفَتَيْهِ / أَنغامُ الصَّبابَةِ والهَوى
وَقَضَتْ أَغاني الحُبُّ / في أَعْماقِهِ لمَّا هوى
وعَدَتْ به الأَمواجُ / جامِدَةَ المَلامِحِ قاتمهْ
قَدْ أَسكَتَتْها لوعَةُ / الرُّوحِ الحزينِ الوَاجمهْ
غاضَتْ أَمانيها وغارَ / بها الجَمالُ السَّاحرُ
فأَصابها لَهَفاً عليهِ / الاكْتِئابُ الكَافرُ
في ضفَّتيه عرائسُ / الأَشْعارِ تنصُبُ مأتما
يهْرُقْنَ فيهِ الدَّمْعَ حتَّى / يَلْطُمَ الدَّمعَ الدَّما
فَيَسيلُ ذاكَ المَدْمَعُ / الدَّامي لقَلْبِ الجدولِ
حيثُ المَرَارَةُ والأَسى / بَيْنَ الزُّهُورِ الذُّبَّلِ
ويَنُحْنَ حتَّى يُفْعِمُ / الآفاقَ صَوتُ الانْتِحابْ
فتسيرُ أَصداءُ النِّيَاحَةِ / نحو أَطباقِ الضَّبابْ
وهناكَ مَا بَيْنَ الضَّبابِ / الأَقْتَمِ السَّاجي الكئيبْ
تَهْتَزُّ آلامي وتخْتَلِجُ / الكآبَةُ بالنَّحيبْ