القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : أبو القاسم الشابي الكل
المجموع : 11
سَئِمْتُ اللَّيالي وأَوجَاعَها
سَئِمْتُ اللَّيالي وأَوجَاعَها / وما شعْشَعَتْ من رحيقٍ بِصَابْ
فَحَطَّمتُ كَأْسي وأَلقَيتُها / بوَادي الأَسَى وجَحيمِ العَذابْ
فأَنَّتْ وقدْ غَمَرَتْها الدُّمُوعُ / وقَرَّتْ وقدْ فاضَ مِنْها الحَبَابْ
وأَلقى عليها الأَسَى ثَوْبَهُ / وأَقبرَها الصَّمْتُ والإكْتِئابْ
فأَيْنَ الأَماني وأَلْحانُها / وأَينَ الكؤوسُ وأَينَ الشَّرابْ
لقدْ سَحَقَتْها أكفُّ الظَّلامِ / وقدْ رَشَفَتْها شِفاهُ السَّرابْ
فمَا العَيْشُ في حَوْمَةٍ بَأْسُها / شَديدٌ وصَدَّاحُها لا يُجابْ
كَئيبٌ وَحِيدٌ بآلامِهِ / وأَحْلامِهِ شَدْوُهُ الانْتِحابْ
ذَوَتْ في الرَّبيعِ أَزاهِيرُهَا / فَنِمْنَ وقدْ مَصَّهُنَّ التُّرابْ
لوَيِنَ النُّحورَ على ذِلَّةٍ / ومُتْنَ وأَحْلامَهُنَّ العِذابْ
فَحَالَ الجَمَالُ وغَاضَ العبيرُ / وأَذْوى الرَّدَى سِحْرَهنَّ العُجَابْ
أتفنى ابتِساماتُ تِلْكََ الجفونِ
أتفنى ابتِساماتُ تِلْكََ الجفونِ / ويَخبو توهُّجُ تِلْكََ الخدودْ
وتذوي وُرَيْداتُ تِلْكَ الشِّفاهِ / وتهوي إلى التُّرْبِ تِلْكَ النَّهودْ
وينهدُّ ذاك القوامُ الرَّشيقُ / وينحلُّ صَدْرٌ بديعٌ وَجيدْ
وتربَدُّ تِلْكََ الوُجوهُ الصِّباحُ / وفتنةُ ذاكَ الجمال الفَريدْ
ويغبرُّ فرعٌ كجنْحِ الظَّلامِ / أنيقُ الغدائرِ جَعْدٌ مَديدْ
ويُصبحُ في ظُلُماتِ القبورِ / هباءً حقيراً وتُرْباً زهيدْ
وينجابُ سِحْرُ الغرامِ القويِّ / وسُكرُ الشَّبابِ الغريرِ السَّعيدْ
أتُطوَى سَمواتُ هذا الوجود / ويذهبُ هذا الفضاءُ البعيدْ
وتَهلِكُ تِلْكََ النُّجومُ القُدامى / ويهرمُ هذا الزَّمانُ العَهيدْ
ويقضي صَباحُ الحياةِ البديعُ / وليلُ الوجودِ الرهيبُ العتيدْ
وشمسٌ توشِّي رداءَ الغمامِ / وبدرٌ يضيءُ وغيمٌ يجودْ
وضوءٌ يُرَصِّع موجَ الغديرِ / وسِحْرٌ يطرِّزُ تِلْكَ البُرودْ
وبحرٌ فسيحٌ بعيدُ القرارِ / يَضُجُّ ويَدْوي دويَّ الوليدْ
وريحٌ تمرُّ مُرورَ الملاكِ / وتخطو إلى الغابِ خَطْوَ الرُّعودْ
وعاصفةٌ من نباتِ الجحيم / كأنَّ صَداها زَئيرُ الأسودْ
تَعجُّ فَتَدْوي حنايا الجبال / وتمشي فتهوي صُخورُ النُّجودْ
وطيرٌ تغنِّي خِلالَ الغُصونِ / وتَهْتِفُ للفجرِ بَيْنَ الورودْ
وزهرٌ ينمِّقُ تِلْكََ التِّلالَ / ويَنْهَلُ من كلِّ ضَوءٍ جَديدْ
ويعبَقُ منه أريجُ الغَرامِ / ونَفْحُ الشَّبابِ الحَيِيِّ السَّعيدْ
أيسطو على الكُلِّ ليلُ الفناء / ليلهو بها الموتُ خَلْفَ الوجود
ويَنْثُرَها في الفراغِ المُخيفِ / كما تنثرُ الوردَ ريحٌ شَرودْ
فينضُبُ يمُّ الحياةِ الخضمُّ / ويخمدُ روحُ الرَّبيعِ الوَلودْ
فلا يلثمُ النُّورُ سِحْرَ الخُدودِ / ولا تُنْبِتُ الأرضُ غضَّ الورودْ
كبيرٌ على النَّفسِ هذا العفاءُ / وصَعْبٌ على القلبِ هذا الهمودْ
وماذا على القَدَر المستَمرِّ / لوِ اسْتمرَأ النَّاسُ طعمَ الخلودْ
ولم يُخْفَروا بالخرابِ المحيط / ولم يُفْجَعوا في الحبيب الودودْ
ولم يسلكوا للخُلود المرجَّى / سبيلَ الرّدى وظَلامَ اللّحودْ
فَدامَ الشَّبابُ وسِحْرُ الغرامِ / وفنُّ الرَّبيعِ ولُطفُ الورودْ
وعاش الوَرَى في سلامٍ أمينٍ / وعيشٍ غضيرٍ رخيٍّ رغيدْ
ولكنْ هو القَدَرُ المستبدُّ / يَلذُّ له نوْحُنا كالنَّشيدْ
تَبَرَّمْتَ بالعيشِ خوفَ الفناءِ / ولو دُمْتُ حيًّا سَئمتَ الخلودْ
وعِشْتَ على الأَرضِ مثل الجبال / جليلاً رهيباً غريباً وَحيدْ
فَلَمْ تَرتشفْ من رُضابِ الحياة / ولم تصطَبحْ من رَحيق الوجودْ
وما نشوةُ الحبِّ عندَ المحبِّ / وما سِحْرُ ذاك الرَّبيعِ الوليدْ
ولم تدرِ مَا فتنةُ الكائناتِ / وما صرخَةُ القلبِ عندَ الصّدودْ
ولم تفتكر بالغَدِ المسترابِ / ولم تحتفل بالمرامِ البعيدْ
وماذا يُرجِّي ربيبُ الخلودِ / من الكونِ وهو المقيمُ العهيدْ
وماذا يودُّ وماذا يخافُ / من الكونِ وهو المقيمُ الأَبيدْ
تأمَّلْ فإنَّ نِظامَ الحياةِ / نِظامٌ دقيقٌ بديعٌ فريدْ
فما حبَّبَ العيشَ إلاَّ الفناءُ / ولا زانَه غيرُ خوفِ اللُّحودْ
ولولا شقاءُ الحياةِ الأليمِ / لما أَدركَ النَّاسُ معنى السُّعودْ
ومن لم يرُعْهُ قطوبُ الدّياجيرِ / لَمْ يغتبط بالصَّباحِ الجديدْ
إِذا لم يكن مِنْ لقاءِ المنايا / مَناصٌ لمَنْ حلَّ هذا الوجودْ
فأيّ غِنَاءٍ لهذي الحياة / وهذا الصِّراعِ العنيفِ الشَّديدْ
وذاك الجمالِ الَّذي لا يُملُّ / وتلكَ الأَغاني وذاك النَّشيدْ
وهذا الظَّلامِ وذاك الضِّياءِ / وتلكَ النُّجومِ وهذا الصَّعيدْ
لماذا نمرُّ بوادي الزَّمانِ / سِراعاً ولكنَّنا لا نَعودْ
فَنَشْرَبَ مِنْ كلِّ نبعٍ شراباً / ومنهُ الرَّفيعُ ومنه الزَّهيدْ
ومِنْهُ اللَّذيذُ ومِنْهُ الكَريهُ / ومِنْهُ المشِيدُ ومِنْهُ المبيدْ
ونَحْمِلُ عبْئاً من الذّكرياتِ / وتلكَ العهودِ الَّتي لا تعودْ
ونشهدُ أشكالَ هذي الوجوهِ / وفيها الشَّقيُّ وفيها السَّعيدْ
وفيها البَديعُ وفيها الشَّنيعُ / وفيها الوديعُ وفيها العنيدْ
فيُصبحُ منها الوليُّ الحميمُ / ويصبحُ منها العدوُّ الحقُودْ
وكلٌّ إِذا مَا سألنا الحَيَاةَ / غريبٌ لعَمْري بهذا الوجودْ
أتيناه من عالمٍ لا نراه / فُرادى فما شأْنُ هذي الحقُودْ
وما شأْنُ هذا العَدَاءِ العنيفِ / وما شأْنُ هذا الإِخاءِ الوَدودْ
خُلِقنا لنبلُغَ شأْوَ الكمالِ / وَنُصبح أهلاً لمجدِ الخُلُودْ
وتطهر أرواحنا في الحياة / بنار الأسى
ونَكْسَبَ مِنْ عَثَراتِ الطَّريقِ / قُوًى لا تُهدُّ بدأْبِ الصُّعودْ
ومجداً يكون لنا في الخلود / أَكاليلَ من رائعاتِ الوُرودْ
خُلِقنا لنبلُغَ شأْوَ الكمالِ / وَنُصبح أهلاً لمجدِ الخُلُودْ
ولكنْ إِذا مَا لبسنا الخلودَ / ونِلنا كمالَ النُّفوسِ البعيدْ
فهلْ لا نَمَلُّ دَوَامَ البقاءِ / وهلْ لا نَوَدُّ كمالاً جديدْ
وكيف يكوننَّ هذا الكمالُ / وماذا تُراهُ وكيفَ الحُدودْ
وإنَّ جمالَ الكمالِ الطُّموحُ / وما دامَ فكراً يُرَى من بعيدْ
فما سِحْرُهُ إنْ غدا واقعاً / يُحَسُّ وأَصبحَ شيئاً شهيدْ
وهلْ ينطفي في النُّفوسِ الحنينُ / وتُصبحُ أَشواقُنا في خُمودْ
فلا تطمحُ النَّفْسُ فوقَ الكمالِ / وفوقَ الخلودِ لبعضِ المزيدْ
إِذا لم يَزُل شوقُها في الخلودِ / فذلك لعَمْري شقاءُ الجُدودْ
وحربٌ ضروسٌ كما قَدْ عهدنُ / ونَصْرٌ وكسرٌ وهمٌّ مديدْ
وإنْ زالَ عنها فذاكَ الفناءُ / وإنْ كان في عَرَصَاتِ الخُلودْ
صَبِيَّ الحَيَاةِ الشَّقِيَّ العنيدْ
صَبِيَّ الحَيَاةِ الشَّقِيَّ العنيدْ / أَلا قدْ ضَلَلْتَ الضَّلالَ البعيدْ
أَتُنشدُ صوتَ الحَيَاةِ الرخيمَ / وأَنتَ سجينٌ بهذا الوجودْ
وتَطْلُبُ وَرْدَ الصَّبَاحِ المخ / ضَّبَ مِنْ كفِّ حَقْلٍ حَصِيدْ
إلى المَوْتِ إنْ شِئْتَ هَوْنَ الحي / اة فَخَلْفَ ظلامِ الرَّدى مَا تُرِيدْ
إلى المَوْتِ يا ابنَ الحَيَاةِ التعيسَ / ففي الموتِ صَوْتُ الحَيَاةِ الرخيمْ
إلى المَوْتِ إن عَذَّبَتْكَ الدُّهورُ / ففي الموتِ قَلْبُ الدُّهورِ الرَّحيمْ
إلى المَوْتِ فالموتُ رُوحٌ جميلٌ / يُرَفْرِفُ مِنْ فوقِ تِلْكَ الغُيومْ
فَرُوحاً بفَجْرِ الخُلُودِ البهيجِ / وما حَوْلَهُ مِنْ بَنَاتِ النُّجومْ
إلى المَوْتِ فالموتُ جامٌ رَوِيٌّ / لمنْ أَظْمَأَتْهُ سُمُومُ الفَلاةْ
ولَسْتَ براوٍ إِذا مَا ظَمِئْتَ / من المنبعِ العذْبِ قبلَ المَمَاتْ
فما الدَّمعُ إلاَّ شرابُ الدُّهورِ / وما الحزنُ إلاَّ غِذَاءُ الحَيَاةْ
إلى المَوْتِ فالموتُ مهدٌ وَثيرٌ / تَنَامُ بأَحضانهِ الكَائناتْ
إلى المَوْتِ إن حاصَرَتْكَ الخُطوبُ / وسَدَّتْ عليكَ سَبيلَ السَّلامْ
ففي عالمِ الموتِ تَنْضُو الحَيَاةُ / رِداءَ الأَسى وقِنَاعَ الظَّلامْ
وتبدو كما خُلِقَتْ غَضَّةً / يَفيضُ على وَجْهِها الإِبْتِسامْ
تُعيدُ عليها ظِلالَ الخُلودِ / وتهفو عليها قُلُوبُ الأَنامْ
إلى المَوْتِ لا تَخْشَ أعماقه / ففيها ضياءُ السَّماءِ الوَديعْ
وفيها تَمِيسُ عذارى السَّماءِ / عواريَ يُنْشِدْنَ لحناً بَديعْ
وفي رَاحِهنَّ غُصُونُ النَّخيلِ / يُحَرِّكْنَها في فَضَاءٍ يَضُوعْ
تضيءُ بهِ بَسَمَاتُ القُلُوبِ / وتخبو بهِ حَسَراتُ الدُّموعْ
هو الموتُ طيفُ الخلودِ الجميلُ / ونِصْفُ الحَيَاةِ الَّذي لا يَنُوحْ
هنالكَ خلفَ الفضاءِ البعيدِ / يَعيشُ المنونُ القَوِيُّ الصَّبُوحْ
يَضُمُّ القُلُوبَ إلى صَدْرِهِ / ليأسوَ مَا مَضَّها مِنْ جُروحْ
ويبعثَ فيها رَبيعَ الحَيَاةِ / ويُبْهِجُها بالصَّباحِ الفَرُوحْ
إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ
إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ / فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ
ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي / ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ
ومَن لم يعانقْهُ شَوْقُ الحياةِ / تَبَخَّرَ في جَوِّها واندَثَرْ
فويلٌ لمَنْ لم تَشُقْهُ الحياةُ / من صَفْعَةِ العَدَمِ المنتصرْ
كذلك قالتْ ليَ الكائناتُ / وحدَّثَني روحُها المُستَتِرْ
ودَمْدَمَتِ الرِّيحُ بَيْنَ الفِجاجِ / وفوقَ الجبالِ وتحتَ الشَّجرْ
إِذا مَا طَمحْتُ إلى غايةٍ / رَكِبتُ المنى ونَسيتُ الحَذرْ
ولم أتجنَّبْ وُعورَ الشِّعابِ / ولا كُبَّةَ اللَّهَبِ المُستَعِرْ
ومن لا يحبُّ صُعودَ الجبالِ / يَعِشْ أبَدَ الدَّهرِ بَيْنَ الحُفَرْ
فَعَجَّتْ بقلبي دماءُ الشَّبابِ / وضجَّت بصدري رياحٌ أُخَرْ
وأطرقتُ أُصغي لقصفِ الرُّعودِ / وعزفِ الرّياحِ وَوَقْعِ المَطَرْ
وقالتْ ليَ الأَرضُ لما سألتُ / أيا أمُّ هل تكرهينَ البَشَرْ
أُباركُ في النَّاسِ أهلَ الطُّموحِ / ومَن يَسْتَلِذُّ ركوبَ الخطرْ
وأَلعنُ مَنْ لا يماشي الزَّمانَ / ويقنعُ بالعيشِ عيشِ الحجرْ
هو الكونُ حيٌّ يحبُّ الحَيَاةَ / ويحتقرُ الميْتَ مهما كَبُرْ
فلا الأُفقُ يَحْضُنُ ميتَ الطُّيورِ / ولا النَّحْلُ يلثِمُ ميْتَ الزَّهَرْ
ولولا أُمومَةُ قلبي الرَّؤومُ لمَا / ضمَّتِ الميْتَ تِلْكَ الحُفَرْ
فويلٌ لمنْ لم تَشُقْهُ الحَيَاةُ / منْ لعنةِ العَدَمِ المنتصرْ
وفي ليلةٍ مِنْ ليالي الخريفِ / متقَّلةٍ بالأَسى والضَّجَرْ
سَكرتُ بها مِنْ ضياءِ النُّجومِ / وغنَّيْتُ للحُزْنِ حتَّى سَكِرْ
سألتُ الدُّجى هل تُعيدُ الحَيَاةُ / لما أذبلته ربيعَ العُمُرْ
فلم تَتَكَلَّمْ شِفاهُ الظَّلامِ ولمْ / تترنَّمْ عَذارَى السَّحَرْ
وقال ليَ الغابُ في رقَّةٍ / محبَّبَةٍ مثلَ خفْقِ الوترْ
يجيءُ الشِّتاءُ شتاءُ الضَّبابِ / شتاءُ الثّلوجِ شتاءُ المطرْ
فينطفئُ السِّحْرُ سحرُ الغُصونِ / وسحرُ الزُّهورِ وسحرُ الثَّمَرْ
وسحْرُ السَّماءِ الشَّجيّ الوديعُ / وسحْرُ المروجِ الشهيّ العَطِرْ
وتهوي الغُصونُ وأوراقُها / وأَزهارُ عهدٍ حبيبٍ نَضِرْ
وتلهو بها الرِّيحُ في كلِّ وادٍ / ويدفنها السَّيلُ أَنَّى عَبَرْ
ويفنى الجميعُ كحلْمٍ بديعٍ / تأَلَّقَ في مهجةٍ واندَثَرْ
وتبقَى البُذورُ التي حُمِّلَتْ / ذخيرَةَ عُمْرٍ جميلٍ غَبَرْ
وذكرى فصولٍ ورؤيا حَياةٍ / وأَشباحَ دنيا تلاشتْ زُمَرْ
معانِقَةً وهي تحتَ الضَّبابِ / وتحتَ الثُّلوجِ وتحتَ المَدَرْ
لِطَيْفِ الحَيَاة الَّذي لا يُملُّ / وقلبُ الرَّبيعِ الشذيِّ الخضِرْ
وحالِمةً بأغاني الطُّيورِ / وعِطْرِ الزُّهورِ وطَعْمِ الثَّمَرْ
ويمشي الزَّمانُ فتنمو صروفٌ / وتذوي صروفٌ وتحيا أُخَرْ
وتَصبِحُ أَحلامَها يقْظةً / موَشَّحةً بغموضِ السَّحَرْ
تُسائِلُ أَيْنَ ضَبابُ الصَّباحِ / وسِحْرُ المساءِ وضوءُ القَمَرْ
وأَسرابُ ذاكَ الفَراشِ الأَنيقِ / ونَحْلٌ يُغنِّي وغيمٌ يَمُرْ
وأَينَ الأَشعَّةُ والكائناتُ / وأَينَ الحَيَاةُ التي أَنْتَظِرْ
ظمِئْتُ إلى النُّورِ فوقَ الغصونِ / ظمِئْتُ إلى الظِّلِّ تحتَ الشَّجَرْ
ظمِئْتُ إلى النَّبْعِ بَيْنَ المروج / يغنِّي ويرقصُ فوقَ الزَّهَرْ
ظمِئْتُ إلى نَغَماتِ الطُّيورِ / وهَمْسِ النَّسيمِ ولحنِ المَطَرْ
ظمِئْتُ إلى الكونِ أَيْنَ الوجودُ / وأَنَّى أَرى العالَمَ المنتظَرْ
هُو الكونُ خلف سُبَاتِ الجُمودِ / وفي أُفقِ اليَقظاتِ الكُبَرْ
وما هو إلاَّ كَخَفْقِ الجناحِ / حتَّى نما شوقُها وانتصَرْ
فصدَّعَتِ الأَرضُ من فوقها / وأَبْصرتِ الكونَ عذبَ الصُّوَرْ
وجاءَ الرَّبيعُ بأَنغامهِ / وأَحلامِهِ وصِباهُ العَطِرْ
وقبَّلها قُبَلاً في الشِّفاهِ / تُعيدُ الشَّبابَ الَّذي قدْ غَبَرْ
وقال لها قدْ مُنِحْتِ الحَيَاةَ / وخُلِّدْتِ في نَسْلِكِ المدَّخَرْ
وباركَكِ النُّورُ فاستقبلي / شَبابَ الحَيَاةِ وخصْبَ العُمُرْ
ومن تَعْبُدُ النُّورَ أَحلامهُ / يُبارِكُهُ النُّورُ أَنَّى ظَهَرْ
إليكِ الفضاءَ إليكِ الضِّياءَ / إليكِ الثَّرى الحالمَ المزدهر
إليكِ الجمالُ الَّذي لا يَبيدُ / إليكِ الوُجُودَ الرَّحيبَ النَّضِرْ
فميدي كما شئتِ فوقَ الحقولِ / بحُلْوِ الثِّمارِ وغضِّ الزَّهَرْ
وناجي النَّسيمَ وناجي الغيومَ / وناجي النُّجومَ وناجي القَمَرْ
وناجي الحياة وأشواقها / وضنة هذا الوجود الأغر
وشفَّ الدُّجى عن جمالٍ عميقٍ / يُشِبُّ الخيالَ ويُذكي الفِكَرْ
ومُدَّ على الكونِ سحرٌ غريبٌ / يصرّفُهُ ساحرٌ مقتدِرْ
وضاءَتْ شموعُ النُّجُومِ الوِضَاءِ / وضاعَ البَخُورُ بَخُورُ الزَّهَرْ
ورَفْرَفَ روحٌ غريبُ الجمال / بأَجنحةٍ من ضياءِ القَمَرْ
وَرَنَّ نشيدُ الحَيَاةِ المقدَّس / في هيكلٍ حالِمٍ قدْ سُحِرْ
وأُعْلِنَ في الكونِ أنَّ الطّموحَ / لهيبُ الحَيَاةِ ورُوحُ الظَّفَرْ
إِذا طَمَحَتْ للحَياةِ النُّفوسُ / فلا بُدَّ أنْ يستجيبَ القَدَرْ
على ساحِلِ البَحْرِ أَنَّى يضجُّ
على ساحِلِ البَحْرِ أَنَّى يضجُّ / صُراخُ الصَّباحِ ونَوْحُ المَسَا
تنهَّدتُ من مُهْجَةٍ أُتْرِعَتْ / بدَمْعِ الشَّقاءِ وشوْك الأَسى
فضَاعَ التَّنَهُّدُ في الضَّجَّةِ /
بما في ثَنَايَاهُ مِنْ لوْعةِ /
فَسِرْتُ وناديتُ يا أُمُّ هيَّا /
إليَّ فقد سئمتني الحَيَاةْ /
وجِئْتُ إلى الغابِ أَسْكبُ أَوجاعَ / قلبي نحيباً كلفْح اللَّهيبْ
نَحيباً تَدَافَعَ في مهجتي / وسَالَ يَرُنُّ بنَدْبِ القلوبْ
فَلَمْ يفْهمِ الغَابُ أَشجانَهُ /
وظَلَّ يُرَدِّدُ أَلحانَهُ /
فَسِرْتُ وناديتُ يا أُمُّ هيَّا /
إليَّ فقد عذَّبتني الحَيَاةْ /
وقمتُ على النَّهرِ أَهْرقُ دمعاً / تفجَّرَ من فيضِ حُزني الأَليمْ
يسيرُ بصَمْتٍ على وجْنتيّ / ويلمعُ مثل دموعِ الجحيمْ
فمَا خَفَّفَ النَّهْرُ مِنْ عَدْوِهِ /
ولا سَكَتَ النَّهْرُ عن شَدْوِهِ /
فَسِرْتُ وناديتُ يا أُمُّ هيَّا /
إليَّ فقدْ أَضجرتني الحَيَاةْ /
ولمَّا ندبتُ ولم ينفعِ /
ونَادَيْتُ أُمِّي فلمْ تسمعِ /
رَجعتُ بحزني إلى وَحْدَتي /
وردَّدْتُ نَوْحي على مسمعي /
وَعَانَقْتُ في وَحْدتي لوْعتي /
وقلتُ لنفسي أَلا فاسْكُتي /
كَرِهْتُ القُصورَ وقُطَّانَها
كَرِهْتُ القُصورَ وقُطَّانَها / وما حولَها من صِراعٍ عنيف
وكَيْدَ الضَّعيفِ لِسَعْي القويِّ / وعَصْفَ القويَّ بجَهْدِ الضَّعيفْ
وجَاشَتْ بنفْسي دُمُوعُ الحَيَاةِ / وعَجَّتْ بقلبي رِياحُ الصُّروف
لقَلْبِ الفقيرِ الحطيم الكسيرِ / ودَمْعِ الأَيامَى السَّفيحِ الذَّريفْ
ونَوْحِ اليتامَى على أُمَّهاتٍ / تَوَارَيْنَ خلفَ ظَلامِ الحُتوفُ
فسرْتُ إلى حيثُ تأوي أَغاني الرَّبيعِ / وتذوي أَماني الخَريفْ
وحيثُ الفَضَا شاعرٌ حالمٌ / يُناجي السُّهولَ بوَحْيٍ طَريفْ
وقد دَثَّرَتْهُ غيومُ المساءِ بظلٍّ / حزينٍ ضَريحٍ شفيفْ
وبينَ الغُصونِ التي جَرَّدَتْها / ليالي الخَريفِ القويِّ العَسُوفْ
وقَفْتُ وحوْلي غديرٌ مواتٌ / تمادتْ به غَفَواتُ الكُهوفْ
قَضَتْ في حفافِيهِ تِلْكَ الزُّهُورُ / فَكَفَّنها بالصَّقيعِ الخَريفْ
سوى زهرةٍ شَقِيَتْ بالحَيَاةِ / وملْبَثها بالمُقامِ المُخيفْ
يُرَوِّعُها فيه قَصْفُ الرُّعودِ / ويُحْزِنُها فيه نَدْبُ الزَّفيفْ
ويَنْتابُها في الصَّباحِ السَّديمُ وفي / اللَّيلِ حُلمٌ مُريعٌ مُخيفْ
وتُرْهِبُها غادياتُ الغمامِ / وتُؤلِمُها كلُّ ريحٍ عَصُوفْ
فَتَرْنو لمَا حولَها مِنْ زُهورٍ / وما ثَمَّ إلاَّ السَّحيقُ الجَفِيفْ
فتبكي بكاءَ الغريب الوحيدِ / بشجْوٍ كَظيمٍ ونَوْحٍ ضَعيفْ
تُباكي بهِ لُبَّها المستطارَ / وَتَرْثي بهِ مَا طَوَتْهُ الحُتُوفْ
وتشكو أَساها بَيَاضَ النَّهارِ / وتندُبُ حَظَّ الحَيَاةِ السَّخيفْ
ولكنْ لقد فَقَدَتْ في الوُجُودِ / رفيقاً مُصيخاً وقلباً رَؤُوفْ
فما ثَمَّ إلاَّ الصُّخُورُ القَواسي / وإلاَّ الصَّدى المُسْتَطارُ الهَتُوفْ
فَجَادتْ بروحٍ شجيٍّ لقد / عذَّبتهُ اللَّيالي صُنُوفْ
ومَاتتْ وقد غادَرَتْها بقاعٍ منَ / الأَرضِ ضنْكٍ حَيَاةُ الصُّروفْ
فبانَتْ حَيالَ الغديرِ الأَصمِّ / وقدْ أَخرسَ الموتُ ذاك الحَفيفْ
وقد خَضَّبَتْها غيومُ المساءِ / كغانيةٍ ضرَّجَتْها السُّيوفْ
فسلْها تُرى كيفَ غاضَ الأَريجُ / وكيفَ ذَوَى سِحْرُ ذاك الرَّفيفْ
وكيف خَبَتْ بَسَمَاتُ الحَيَاةِ / بأَجْفانِها وعَرَاها الكُسُوفْ
وكيفَ لَوَتْ جيدَهَا الحَادِثاتُ / وأَلْوَتْ بذاك القوامِ اللَّطيفْ
ذَكَرْتُ بمضجَعِها المطمئنِّ / ومرقَدِها في السَّفيرِ الجَفيفْ
مصارعَ آماليَ الغابراتِ / وخيْبَتَها في الصِّراعِ العَنيفْ
فقلَّبتُ طَرْفي بمهْوى الزُّهُورِ / وصعَّدته في الفضاءِ الأَسيفْ
وقلتُ هوَ الكونُ مَهْدُ الجمالِ / ولكِنْ لكلِّ جمالٍ خَريفْ
وأَطرقتُ أُصغي لهَمْسِ الأَسى / وقد غَشِيَ النفسَ هَمٌّ كَثيفْ
وَغَاضَتْ ثُمالَةُ نورِ النَّهارِ / وأَرْخى ظلامُ الوُجُودِ السُّجوفْ
أَراكِ فَتَحْلو لَدَيَّ الحَيَاةُ
أَراكِ فَتَحْلو لَدَيَّ الحَيَاةُ / ويملأُ نَفسي صَبَاحُ الأَملْ
وتنمو بصدري وُرُودٌ عِذابٌ / وتحنو على قلبيَ المشْتَعِلْ
ويفْتِنُني فيكِ فيضُ الحَيَاةِ / وذاك الشَّبابُ الوديعُ الثَّمِلْ
ويفْتِنُني سِحْرُ تِلْكَ الشِّفاهْ / ترفرفُ مِنْ حَوْلهنَّ القُبَلْ
فأَعبُدُ فيكِ جمالَ السَّماءِ / ورقَّةَ وردِ الرَّبيعِ الخضِلْ
وطُهْرَ الثُّلوجِ وسِحْرَ المروج / مُوَشَّحَةً بشُعاعِ الطَّفَلْ
أَراكِ فأُخْلَقُ خلْقاً جديداً / كأنِّيَ لمْ أَبْلُ حربَ الوُجُودْ
ولم أَحتمل فيه عِبئاً ثقيلاً / من الذِّكْرَياتِ التي لا تَبيدْ
وأَضغاثِ أَيَّاميَ الغابراتِ / وفيها الشَّقيُّ وفيها السَّعيدْ
ويغْمُرُ روحِي ضِياءٌ رَفيقٌ / تُكلِّلهُ رائعاتُ الورودْ
وتُسْمِعُني هاتِهِ الكائِناتُ / رقيقَ الأَغاني وحُلْوَ النَّشيدْ
وتَرْقُصُ حَولي أَمانٍ طِرابٌ / وأَفراحُ عُمْرٍ خَلِيٍّ سَعيدْ
أَراكِ فتخفُقُ أَعصابُ قلبي / وتهتزُّ مِثْلَ اهتزازِ الوَتَرْ
ويُجري عليها الهَوَى في حُنُوٍّ / أَناملَ لُدْناً كرَطْبِ الزَّهَرْ
فتخطو أَناشيدُ قلبيَ سَكْرى / تغرِّدُ تَحْتَ ظِلالِ القَمَرْ
وتملأُني نشوةٌ لا تُحَدُّ / كأَنِّيَ أَصبحتُ فوقَ البَشَرْ
أَودُّ بروحي عِناقَ الوُجُودِ / بما فيهِ مِنْ أَنْفُسٍ أَو شَجَرْ
وليلٍ يفرُّ وفجرٍ يكرُّ / وغَيْمٍ يوَشِّي رداءَ السِّحَرْ
أَظَلَّ الوُجُودَ المساءُ الحزينُ
أَظَلَّ الوُجُودَ المساءُ الحزينُ / وفي كفِّهِ معْزَفٌ لا يُبينْ
وفي ثَغرهِ بَسَماتُ الشُّجونِ / وفي طَرفِهِ حَسَراتُ السِّنينْ
وفي صدرِهِ لوعةٌ لا تَقِرُّ / وفي قلبِهِ صَعَقَاتُ المَنونْ
وقبَّلَهُ قُبَلاً صامِتاتٍ كما / يَلْثُمُ الموتُ وَرْدَ الغُصُون
وأَفضى إليه بوحْيِ النُّجُومِ / وسِرِّ الظَّلامِ ولَحْنِ السُّكونْ
وأَوْحى إليه مَزامِيرَهُ / فغنَّتْ بها في الظَّلامِ الحُزُونْ
وعَلَّمَهُ كيفَ تأسى النُّفوسُ / ويَقضي يَؤوساً لديها الحَنينْ
وأَسْمَعَهُ صَرَخاتِ القُلُوبِ / وأَنْهَلَهُ مِنْ سُلافِ الشُّؤونْ
فأَغفى على صدرِهِ المطمَئِنِّ / وفي روحِهِ حُلُمٌ مُسْتَكينْ
قويٌّ غَلُوبٌ كسِحْرِ الجُفُونِ / شجيٌّ لَعوبٌ كزهرٍ حَزينْ
ضَحوكٌ وقد بلَّلتهُ الدُّموعُ / طَرُوبٌ وقد ظَلَّلَتْهُ الشُّجُونْ
تعانِقُهُ سَكَراتُ الهَوَى / وتحضُنُهُ شَهَقَاتُ الأَنينْ
يُشابِهُ روحَ الشَّبابِ الجميلِ / إِذا مَا تأَلَّقَ بَيْنَ الجُّفونْ
أَعادَ لنفسي خَيالاً جميلاً / لَقَدْ حَجَبَتْهُ صُرُوفُ السِّنينْ
فَطَافَتْ بها هَجَسَاتُ الأَسى / وعادَتْ لها خُطُواتُ الجُنُونْ
أَظَلَّ الفضاءَ جناحُ الغروبِ / فأَلقى عليهِ جمالاً كَئيبْ
وأَلبَسَهُ حُلَّةً من جَلالٍ شجيٍّ / قويٍّ جميلٍ غَلُوبْ
فنامَتْ على العُشْبِ تِلْكَ الزُّهُورُ / لمرأَى المساءِ الحزينِ الرَّهيبْ
وآبَتْ طيورُ الفضاءِ الجميلِ / لأوكارِها فرِحاتِ القُلُوبْ
وقدْ أَضمرَتْ بأَغاريدها / خيالَ السَّماءِ الفسيح الرَّحيبْ
وَوَلَّى رُعاةُ السَّوامِ إلى الحيِّ / يُزْجُونها في صُماتِ الغُروبْ
فتَثْغُو حنيناً لحِمْلانِها / وتقطفُ زهرَ المُروجِ الخَصيبْ
وهمْ يُنشِدونَ أَهازيجَهمْ بصوتٍ / بهيجٍ فَرُوحٍ طَرُوبْ
ويَسْتَمْنِحونَ مزاميرهم / فتمنحُهُمْ كُلَّ لحنٍ عجيبْ
تطيرُ بهِ نَسَماتُ الغروبِ / إلى الشَّفقِ المُسْتَطيرِ الخَلُوبْ
وتوحي لهم نَظَرَاتُ الصَّبايا / أَناشيدَ عهدِ الشَّبابِ الرَّطيبْ
وأَقْبَلَ كُلٌّ إلى أهلِهِ / سِوَى أملي المستطارِ الغَريبْ
فقد تاهَ في مَعْسَباتِ الحَيَاة / وسُدَّتْ عليه مناجي الدُّروبْ
وظلَّ شَريداً وحيداً بعيداً / يُغالبُ عُنْفَ الحَيَاةِ العَصيبْ
وقد كانَ مِنْ قبلُ ذا غبطةٍ / يُرفرفُ حولَ فؤادي الخَصيبْ
ولمَّا أَظلَّ المَساءُ السَّماءَ / وأسكَرَ بالحُزْنِ روحَ الوُجُودْ
وقفتُ وساءلتُهُ هل يَؤوبُ لقلبي / رَبيعُ الحَيَاةِ الشَّرودْ
فَتَخْفُقُ فيه أَغاني الورودِ / ويخضرُّ فِرْدَوْسُ نفسي الحَصيدْ
وتختالُ فيهِ عَروسُ الصَّباحِ / وتمرَحُ نَشْوَى بذاكَ النَّشيدْ
ويَرجعُ لي مِنْ عِراصِ الجحيمِ / سلامُ الفؤادِ الجميلُ العهيدْ
فقد كبَّلَتْهُ بَناتُ الظَّلامِ / وأَلقيْنَهُ في ظلامِ اللُّحودْ
فأَصْغى إلى لَهَفي المستمرِّ / وخاطَبَني مِنْ مكانٍ بعيدْ
تَعودُ ادِّكاراتُ ذاكَ الهَوَى / ولكنَّ سِحْرَ الهَوَى لا يَعودْ
فجَاشَتْ بنفس مآسي الحَيَاةِ / وسخطُ القُنُوطِ القويِّ المُريدْ
ولمَّا طَغَتْ عَصَفاتُ القُنُوط / فمادتْ بكلِّ مَكِينٍ عَتيدْ
أَهَبْتُ بقلبي الهلوعِ الجزوعِ / وكانَ مِنْ قبلُ جَلْداً شَديدْ
تجلَّدْ ولا تَسْتَكِنْ للَّيالي / فما فازَ إلاَّ الصَّبورُ الجَليدْ
ولا تَأْسَ مِنْ حادِثاتِ الدُّهُورِ / فخَلْفَ الدَّياجيرِ فَجْرٌ جَديدْ
ولولا غيومُ الشِّتاءِ الغِضابُ / لما نَضَّدَ الرَّوضُ تِلْكَ الوُرودْ
ولولا ظَلامُ الحَيَاةِ العَبُوسُ / لما نَسَجَ الصُّبْحُ تِلْكَ البُرُودْ
خُلقتَ طَليقاً كَطَيفِ النَّسيمِ
خُلقتَ طَليقاً كَطَيفِ النَّسيمِ / وحُرًّا كَنُورِ الضُّحى في سَمَاهْ
تُغَرِّدُ كالطَّيرِ أَيْنَ اندفعتَ / وتشدو بما شاءَ وَحْيُ الإِلهْ
وتَمْرَحُ بَيْنَ وُرودِ الصَّباحِ / وتنعَمُ بالنُّورِ أَنَّى تَرَاهْ
وتَمْشي كما شِئْتَ بَيْنَ المروجِ / وتَقْطُفُ وَرْدَ الرُّبى في رُبَاهْ
كذا صاغكَ اللهُ يا ابنَ الوُجُودِ / وأَلْقَتْكَ في الكونِ هذي الحيَاهْ
فما لكَ ترضَى بذُلِّ القيودِ / وتَحْني لمنْ كبَّلوكَ الجِبَاهْ
وتُسْكِتُ في النَّفسِ صوتَ الحَيَاةِ / القويَّ إِذا مَا تغنَّى صَدَاهْ
وتُطْبِقُ أَجْفانَكَ النَّيِّراتِ عن الفجرِ / والفجرُ عَذْبٌ ضيَاهْ
وتَقْنَعُ بالعيشِ بَيْنَ الكهوفِ / فأَينَ النَّشيدُ وأينَ الإِيَاهْ
أَتخشى نشيدَ السَّماءِ الجميلَ / أَتَرْهَبُ نورَ الفضَا في ضُحَاهْ
ألا انهضْ وسِرْ في سبيلِ الحَيَاةِ / فمنْ نامَ لم تَنْتَظِرْهُ الحَيَاهْ
ولا تخشى ممَّا وراءَ التِّلاعِ / فما ثَمَّ إلاَّ الضُّحى في صِبَاهْ
وإلاَّ رَبيعُ الوُجُودِ الغريرُ / يطرِّزُ بالوردِ ضافي رِدَاهْ
وإلاَّ أَريجُ الزُّهُورِ الصُّبَاحِ / ورقصُ الأَشعَّةِ بَيْنَ الميَاهْ
وإلاَّ حَمَامُ المروجِ الأَنيقُ / يغرِّدُ منطلِقاً في غِنَاهْ
إلى النُّورِ فالنُّورُ عذْبٌ جميلٌ / إلى النُّورِ فالنُّورُ ظِلُّ الإِلهْ
أَلا أَيُّها الظَّالمُ المستبدُّ
أَلا أَيُّها الظَّالمُ المستبدُّ / حَبيبُ الظَّلامِ عَدوُّ الحيَاهْ
سَخرْتَ بأَنَّاتِ شَعْبٍ ضَعيفٍ / وكَفُّكَ مخضوبَةٌ من دمَاهْ
وسِرْتَ تُشَوِّهُ سِحْرَ الوُجُودِ / وتبذُرُ شوكَ الأَسى في رُبَاهْ
رُوَيْدَكَ لا يخدعنْك الرَّبيعُ / وصحوُ الفضاءِ وضوءُ الصَّباحْ
ففي الأُفُق الرَّحْبِ هولُ الظَّلامِ / وقصفُ الرُّعُودِ وعَصْفُ الرَّياحْ
حَذارِ فَتَحْتَ الرَّمادِ اللَّهيبُ / ومَنْ يبذُرِ الشَّوكَ يَجْنِ الجراحْ
تأَمَّلْ هنالِكَ أَنَّى حَصَدْتَ / رؤوسَ الوَرَى وزهورَ الأَملْ
وَرَوَّيْتَ بالدَّمِ قَلْبَ التُّرابِ / وأَشْربتَهُ الدَّمعَ حتَّى ثَمِلْ
سيجرُفُكَ السَّيْلُ سَيْلُ الدِّماءِ / ويأْكُلُكَ العَاصِفُ المشتَعِلْ
أَزَنْبَقَةَ السّفْحِ مَا لي أَراكِ
أَزَنْبَقَةَ السّفْحِ مَا لي أَراكِ / تعَانِقُكِ اللَّوْعَةُ القَاسِيهْ
أَفي قلبِكِ الغَضِّ صوتُ اللَّهيب / يرتِّل أُنْشودَةَ الهاويَهْ
أَأَسْمَعَكِ اللَّيلُ نَدْبَ القُلُوبِ / أَأَرْشَفَكِ الفَجْرُ كأسَ الأَسى
أَصَبَّ عليكِ شُعاعُ الغروبِ / نجيعَ الحَيَاةِ وَدَمْعَ المَسا
أَأَوْقَفَكِ الدَّهرُ حيثُ يُفجِّ / رُ نَوحُ الحَيَاةِ صُدُوعَ الصُّدورْ
وينبثقُ اللَّيْلُ طيفاً كئيباً / رهيباً ويخفقُ حُزْنُ الدُّهُورْ
إِذا أَضْجَرَتْكِ أغاني الظَّلامِ / فَقَدْ عَذَّبَتْني أَغانِي الوُجومْ
وإنْ هَجَرَتْكِ بَناتُ الغيومِ / فقدْ عانَقَتْني بناتُ الجَحيمْ
وإنْ سَكَبَ الدَّهْرُ في مسمعيْكِ / نَحيبَ الدُّجَى وأَنينَ الأَمَلْ
فَقَدْ أَجَّجَ الدَّهرُ في مهجتي / شُواظاً مِنَ الحَزَنِ المُشْتَعِلْ
وإنْ أَرْشفتْكِ شِفاهُ الحَيَاةِ / رُضابَ الأَسى ورَحيقَ الأَلمْ
فإنِّي تجرَّعتُ من كفِّها / كُؤوساً مؤجَّجةً تَضْطَرِمْ
أَصيخي فَمَا بَيْنَ أَعشارِ قلبي / يرفُّ صَدَى نَوْحِكِ الخافِتِ
مُعيداً على مُهجتي بحَفِيفِ / جَناحَيْهِ صَوْتَ الأَسى المائتِ
وقد أَترعَ اللَّيلُ بالحُبِّ كأسي / وشَعْشَعَها بلَهيبِ الحَيَاةْ
وَجَرَّعني مِنْ ثُمالاتِهِ / مَرارَةَ حُزْنٍ تُذيبُ الصَّفاةْ
إليَّ فقدْ وَحَّدَتْ بيننا / قَساوَةُ هذا الزَّمان الظَّلُومْ
فقد فَجَّرتْ فيَّ هذي الكُلُومَ / كما فجَّرتْ فيكِ تلكَ الكُلومْ
وإنْ جَرَفَتْني أَكفُّ المنونِ / إلى اللَّحْدِ سَحَقكِ الخطوبْ
فَحُزْني وحُزْنُكِ لا يَبْرَحانِ / أَلِيفَيْنِ رغْمَ الزَّمانِ العصيب
وتحتَ رواقِ الظَّلامِ الكَئيبِ / إِذا شَمَلَ الكونَ روحُ السَّحَرْ
سَيُسْمَعُ صوتٌ كَلَحْنٍ شجيٍّ / تطايَرَ مِنْ خَفَقَاتِ الوَتَرْ
يُرَدِّدُهُ حُزْنُنا في سكونٍ / على قَبْرِنا الصَّامتِ المطمئنْ
فَنَرقُدُ تَحْتَ التُّرابِ الأَصمِّ / جميعاً على نَغَمَاتِ الحَزَنْ

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025