المجموع : 16
إذا داعبَ الماءُ ظلّ الشَّجرْ
إذا داعبَ الماءُ ظلّ الشَّجرْ / وغازلتِ السُّحبُ ضوءَ القمرْ
وردَّدتِ الطير أنفاسَها / خوافقَ بين الندى والزَّهَرْ
وناحتْ مطوقةٌ بالهوى / تناجي الهديلَ وتشكو القدرْ
ومرَّ على النهرِ ثغرُ النسيم / يُقَبِّلُ كلَّ شراعٍ عبرْ
وأطلعتِ الأرضُ من ليلها / مفاتنَ مختلفاتِ الصُّورْ
هنالك صفصافةٌ في الدُّجَى / كأنَّ الظلامَ بها ما شعرْ
أخذتُ مكانيَ في ظلها / شريدَ الفؤادِ كئيبَ النظرْ
أمرُّ بعيني خلال السماء / وأُطرقُ مستغرقاً في الفِكَرْ
أطالعُ وجهك تحت النخيلِ / وأسمعُ صوتك عند النَّهَرْ
إلى أنْ يَمَلَّ الدجى وحشتي / وتشكو الكآبةُ مني الضجرْ
وتعجبُ من حيرتي الكائناتُ / وتُشفِقُ منِّي نجومُ السّحرْ
فأمضي لأرجعَ مستشرفاً / لقاءَك في الموعدِ المنتظرْ
طويتَ الحياةَ خفيَّ السُّرى
طويتَ الحياةَ خفيَّ السُّرى / كما تذهبُ النجمةُ التائهه
تُطلُّ على عالمٍ ينظرون / فتطرفك النظرةُ الشائهه
وتلحظُهم من وراءِ الحياةِ / بنفسٍ معذبةٍ والهه
شقيتَ بهم حيث ساد الغبيُّ / وخصَّوه بالسمعةِ النابهه
لقد ضلَّتِ الأرض في ليلها / فحقَّتْ بها لعْنة الآلهه
تألّق كالبرقة الخاطفَه
تألّق كالبرقة الخاطفَه / وجلجل كالرِّعدة القاصفَه
مُبينٌ من الحقّ في صوته / صدى البطش والرحمةِ الهاتفَه
يخوضُ الغِمارَ دماً أو لظىً / ويركبُ للمأربِ العاصفَه
يطير على صَهَواتِ السحاب / ويمشي على اللجةِ الرَّاجفَه
ويقتحمُ الموتَ في مأزقٍ / ترى الأرضَ من هوله واجفَه
تَمَزَّقُ في جانبيه الرياحُ / وتنفطرُ السُّحُبُ الواكفَه
وتشتجرُ الرُّجُمُ الهاوياتُ / وتعتنقُ الظُّلمُ الزَّاحفَه
عَشيّةَ لا القلبُ طوعَ النهى / ولا العقلُ تأسِره العاطفَه
ولكنها وثباتُ الجريءِ / على عثراتِ المنى الخائفَه
شعوبٌ تعالجُ أصفادَها / وتأبى الحياةَ بها راسفَه
صَحَتْ بعد إغفاءة الحالمين / على لُجة الزمن الجارفَه
وحسبكَ بالدهر من منذرٍ / كربٍّ يعاقبُ من خالفَه
رأيتَ السفينة في بحره / تنَازعُها اللججُ القاذفَه
مددتَ يديك فأرسيتها / أماناً من الغمرةِ الحائفَه
وخلفك من يَعْربٍ أمةٌ / إلى النور فازعةٌ شاعفَه
نضَتْ فيصلاً من صقال السيوف / يُقَبِّلُ فيه الضحى شارِفَه
أعدتَ لها مجدها المجتبى / وبوَّأتها الذروة الشائفَه
بِناءٌ من السؤود اليعربيّ / دَعَمَتْ بتالده طارفَه
جَلَتْ فيه بغدادُ عهدَ الرشيد / وأحيتْ لياليَها السالفَه
وأرسلتها بعد نسيانها / حديثَ النباهةِ والعارفَه
فوا أسفاً كيف روعتَها / بفقدك في الليلة السادفَه
صَحَتْ برنُ منكَ على نبأةٍ / تسيل البروقُ بها راعفَه
رمى الغربُ بالشرق إيماضَها / فردَّ الشموسَ به كاسفَه
أناخَ على سَرَوَاتِ العراق / فقصَّفَ أفنانَها الوارفَه
طوى فجرُها بسماتِ المنى / وأسكت أوتارَها العازفَه
ومُصطبحينَ هَوتْ كأسهم / حُطاماً على الشفةِ الراشفَه
أفاقوا على حُلُمٍ رائعٍ / كأنّ بهم فزَعَ الآزفَه
يردُّون بالشكّ صوتَ اليقينِ / وتصدقُه الأعينُ الذارفَه
وإني لأسمعُ ما يسمعونَ / صدى الويلِ في صَخَبِ العاصفَه
وكيفَ وقد كنت نجمَ الرجاءِ / إذا قيلَ ليس لها كاشفَه
وما عرفوا عنك نقصَ التمام / وبيعَ الصحيحة بالزائفَه
تحفك أبَّهةُ المالكين / ونفسُك عن زهوها صادفَه
سَرَتْ بالوداعة في بأسها / سُرى النَّسمِ في الليلة الصائفَه
وتحملُ عنهم من العبء ما / تخرُّ الجبالُ له خاسفَه
تهزَّأُ من صرعات الردى / وتُمسي على أمرهم عاكفَه
إلى أن طوتها وأودتْ بها / غوائلُ تطوي الدجى خاطفَه
فراحتْ ترفُّ على كفّها / رفيفَ النَّدى في اليد القاطفَه
وما هي إلا دموعُ الأسى / همت من جراحاتها النازفَه
وما نَسِيتْ دجلةً إنها / بشطَّيهِ حائمة طائفَه
تباركهم من سماء الخلود / وتدعو لغازيهم هاتفَه
بعينيكِ ما يُلْهمُ الخاطرا
بعينيكِ ما يُلْهمُ الخاطرا / ويتركُ كلَّ فتىً شاعرا
فيا فِتنةً من وراءِ البحارِ / لقِيتُ بها القَدَرَ الساخرا
دَعَتْني فَجمَّعتُ قلبي لها / وناديتُ ماضِيَّ والحاضرا
وأقبلتُ في موكبِ الذكريات / أُحَيِّ الخميلةَ والطائرا
وساءَلني القلبُ ماذا ترى / فقلتُ أرى حُلُماً عابرا
أرى جَنةً وأراني بها / أهيمُ بأرجائها حائرا
ملأتُ بتُفَّاحها راحتيَّ / وبتُّ لكَرْمَتِها عاصرا
وذقتُ الحنانَ بها والرِّضى / يداً بَرَّةً وفماً طاهرا
فيا ليلةً لم تكُنْ في الخيالِ / أجَدَّتْ ليَ المرحَ الغابرا
أفاءَتْ على النيلِ سحرَ الحياة / وأحيَتْ لشعري بهِ سامرا
نسيت لياليَّ من قبلها / وكنتُ لها الوافيَ الذاكرا
سلي من أثارتْ بقلبي الفتونَ / وخَلَّتْهُ محتدِماً ثائرا
بربِّك من ألَّفَ الأصغرين / وعلَّقَ بالناظر الناظرا
إذا أطلقَ الضوءُ أطيافَه / ولفَّ بها خصرَكِ الضامرا
وطوَّقَ نحْرَك لحظُ العيونِ / وعادَ بكَرَّتهِ حاسرا
ووقَّعتِ من خفَقات القلوب / على قدَميْكِ الصَّدى الساحرا
وحدَّثَ كلُّ فتىً نفسَهُ / أرى الفنَّ أم روحَه القاهرا
تمثَّلْتِهِ طيفَ إنسانةٍ / ومَثَّلَ فيك الصِّبا الناضرا
هي الكاسُ مشرقةً في يديكَ
هي الكاسُ مشرقةً في يديكَ / فماذا أرابكَ في خمرِها
نظرتَ إليها وباعدْتَها / كأنَّ المنيَّة في قطْرِها
أما ذقتَها قبلَ هذا المساءِ / وعربدْتَ نشوانَ من سُكْرِها
حلا طعمُها يوم كنتَ الخليَّ / وكلُّ الصبابةِ في مُرِّها
سُقِيتَ بها من يدٍ لم تكنْ / سوى الريح تنفُخُ في جمْرِها
تلفَّتْ فهذا خيالُ التي / مَرِحت وغرَّدَت في وَكرِها
وغُرفَتُها لم تزلْ مثلما / تنسَّمتَ حُبَّكَ من عطرِها
وقفتَ بها ساهماً مُطرقاً / يُحدِّثكَ الليلُ عن سرِّها
مكانكُ فيها كما كان أمسِ / وذلك مثواك في خِدْرِها
وآثارُ دمعِك فوقَ الوسادِ / وفوق المُهدَّل من سترِها
فهل ذُقْتَ حقاً صفاءَ الحياةِ / وذوْبَ السعادة في ثغْرِها
إذا فُتحَ البابُ تحتَ الظلام / فكيف ارتماؤُك في صَدرِها
وكيف طوى خَصرَها ساعدَاكَ / ومرَّتْ يداكَ على شعرِها
وما هذه رِعشَةٌ في يَدَيكَ / أم الكأسُ ترجفُ من ذكرِها
وما في جبينك يا ابنَ الخيال / سِماتٌ تحدِّث عن غَدرِها
لقد دنَّسَ الجسَدُ الآدميُّ / حياةً حَرَصْتَ على طُهْرِها
بكى الفنُّ فيكَ على شاعرٍ / تسائِلهُ الروحُ عن ثأرِها
نزلت بها وهْدَةً كم خبا / شُعاعٌ وغُيِّبَ في قبرِها
رفعتَ تماثيلكَ الرائعاتِ / وحطَّمْتهنَّ على صَخرِها
فدعْ زهرةَ الأرض يا ابن السماء / فأنتَ المبرَّأُ من شرِّها
مراحُك في السُّحُب العالياتِ / وفوق المُنوَّرِ من زُهرِها
فمُدَّ جَناحيكَ فوق الحياةِ / وأطلِقْ نشيدَك في فجرِها
عشقنا الدمى وعبدنا الصورْ
عشقنا الدمى وعبدنا الصورْ / وهِمنا بكلِّ خيالٍ عَبَرْ
وصُغنا لكَ الشعرَ حُبَّ الصِّبا / وشدوَ الأماني وشجو الذِّكَرْ
تغنَّتْ به القُبَلُ الخالداتُ / وغنَّى بإيقاعها المبتكَرْ
وجئنا إليكَ بمُلكِ الهوى / وعرشِ القلوبِ وحكم القدَرْ
بأفئدةٍ مثلما عَرْبَدَتْ / يَدُ الريح في ورقاتِ الشجَرْ
وأنتَ بأفقِكَ ساجي اللحاظِ / تُطِلُّ على سُبُحاتِ الفِكَرْ
دنوتَ فقلنا رُؤى الحالمينَ / فلما بَعُدْتَ اتهمنا النظَرْ
وحامتْ عليكَ بأضوائِها / مصابيح مثل عيون الزَّهَرْ
تتبَّعنْ خطوك عَبْرَ الطريقِ / كما يَتحرّى الدليلُ الأثَرْ
يُقبِّلنَ من قدميكَ الخطى / كما قبَّل الوثنيُّ الحجَرْ
مشى الحسنُ حولكَ في موكبٍ / يرِفُّ عليه لواءُ الظفَرْ
تمثَّلَ صدرُك سلطانَهُ / كجبارِ وادٍ تحدَّى الخطَرْ
بِنَهدينِ يستقبلانِ السماءَ / كأنهما يُرضعان القمَرْ
تَساميتَ عن لُغةِ الكاتبينَ / وروعةِ كلِّ قصيدٍ خطَرْ
سوى شاعرٍ في زوايا الحياةِ / دَعَتهُ مباهجُها فاعتذَرْ
أكبَّ على كأسه وانتحى / صدى الليلِ في اللحظات الأُخَرْ
رنا حيث ترقُبُ أحلامُهُ / خيالكَ في الموعِدِ المنتظَرْ
إلى قِمَّةِ الزَّمنِ الغابرِ
إلى قِمَّةِ الزَّمنِ الغابرِ / سَمَتْ رَبَّةُ الشعر بالشاعرِ
يَشُقُّ الأثيرَ صدىً عابراً / وروحاً مُجَنَّحَةَ الخاطرِ
مضتْ حرةً من وثاق الزَّمانِ / ومن قبضةِ الجسدِ الآسرِ
وأوفتْ على عالَمٍ لم يكنْ / غريباً على أمسِها الدَّابرِ
نمَتْ فيه بين بناتِ السديمِ / وشبَّتْ مع الفلكِ الدائرِ
تُلقَّنُ سيرَتَها في الحياة / وتنطُقُ بالمثلِ السائرِ
وترْسُمُ أسماءَ ما عُلِّمَتْ / من القلم المبدع القادرِ
مشاهدُ شتى وَعَتها العقولُ / وغابتْ صُواها عن الناظرِ
وجودٌ حوى الروح قبل الوجودِ / وماضٍ تمثَّلَ في حاضرِ
تبدَّى لها فانجلى شكُّها / وثابت إلى وَعْيِها الذَّاكرِ
وأصغت فمرت على سمعِها / روايةُ ميلادِها الغابرِ
هو البعثُ فاستمعوا واقرأوا / حديثَ السَّماءِ عن الشاعرِ
عَجبتُ مَنِ الملَكُ العابرُ / ومنْ ذلك الشَّبَحُ الطَّائرُ
أهَلَّا علينا فما سلَّما / ولا صافح الناظرَ الناظرُ
وللرِّيحِ حولهما زَفَّةٌ / كما صَدَحَ المِزْهَرُ الساحرُ
أفي عالمِ الأرضِ بعثٌ جديد / أم الوهْمُ مثّله الخاطرُ
نعم هو روحٌ جميلُ الإهاب / يُنِيلُ الرِّياحَ جَنَاحَيْ مَلَكْ
وذلك هرميسُ يَسْري بهِ / سُرى النورِ في سُبُحاتِ الفلكْ
عرفناهُ لا شكَّ هذا فتىً / سَيَسْلُكُهُ الفنُّ فيمن سَلَكْ
غداً تملأُ الأرضَ ألحانهُ / ويَبْقى صداها إذا ما هلَكْ
إلى الأرضِ فليمضِ هذا الشقيُّ / ألا ولتَفِضْ كأسُهُ بالشجونْ
جزاءً لِما غضّ من أمرنا / ومرَّ كأنْ لمْ تلاقَ العيونْ
أراهُ ولمَّا يَزَلْ بيننا / أصابَتْه لُوثَةُ أهلِ الفنونْ
لئنْ صحَّ ما كان من أمرهِ / فيا شِقْوَةَ الأرضِ ممَّا يكونْ
حنانكِ يا أختِ لا تغضَبي / فما اختالَ زهواً ولا استكبرا
لقد كفَّ عينيهِ بَرْقُ الحياةِ / فمرَّ بنا دون أن يُبْصِرا
لنا مِثْلُهُ في غدٍ غشيةٌ / إذا ما حللنا رحابَ الثرى
إذا كان في الأرضِ هذا الشقاءُ / فلا كانَ بَعْثٌ ولا قُدِّرا
أرى في حديثكِ معنى الرِّضا / وأسمعُ فيهِ هُتَافَ الحنانْ
فهلا ذكرتِ لهُ إخوةً / حديثهمُ ملءُ سَمْعِ الزمانْ
أصاروا الفنونَ رُمُوزَ الأثامِ / واستلهموا الشرَّ سِحْرَ البيانْ
وأغرَوْا بحواءَ ما لُقِّنوا / وما حذَقُوا من طريدِ الجنانْ
ألمْ تسمعِي بفتى شاعرٍ / يُحَمِّلُها عبءَ أوزارِهِ
ترَشَّفها خمرةً فانتشَى / فألقمها مرّ أثمارِهِ
أنالته أجمَل أزهارِها / فأهدى لها شَرَّ أزهارِهِ
إذا كنتِ يا أخت لم تسمعي / خُذي فاقرأي بعضَ أشعارِهِ
ولفَّتْ ذراعين كالحيّتينِ / عليَّ وبي نشوةٌ لم تطِرْ
وقد قرَّبتْ فمَها من فمي / كشِقَّينِ من قبَسٍ مُسْتَعِرْ
أشمُّ بأنفاسها رغبةً / ويهتفُ بي جفنُها المنكسرْ
تبيَّنْتُ في صدرها مصرعي / وآخرة العاشقِ المنتحِرْ
أفي حُلُمٍ أنا أم يقظةٍ / ومنْ أنتِ أيتها الخاطئهْ
هو الحبُّ لا بل نداءُ الحياة / تُلبِّيهِ أجسادُنا الظامئهْ
يَخِفُّ دمي لصداهُ الحبيبِ / وتدفعني القُدرةُ الهازئهْ
كأني ببحرٍ بعيدِ القرار / طوى أفقَه وزوَى شاطئهْ
أرى ما أرى جسَداً عارياً / تضجُّ به الشهوةُ الجائعهْ
أرى ما أرَى حَدَقيْ ساحر / تؤجّان بالنظرة الرائعهْ
أرى ما أرى شَفتيْ غادةٍ / ترِفَّان بالقُبلَةِ الخادعهْ
تُساقطني ثمراً ما أرى / أرى حيَّةَ الجنَّة الضائعهْ
بعينكِ أنتِ فلا تُنكري / صفاتِ أنوثتكِ الشَّاهدهْ
تَمثَّلْتِ شتَّى جسومٍ وكم / تجدَّدْت في صُوَرٍ بائدهْ
نعم أنت هنَّ نعم ما أرى / أرى الكلَّ في امرأةٍ واحدهْ
لقد فنيَتْ فيك أرواحهن / وها أنتِ أيتها الخالدهْ
لقد كنتِ وحْي رَخامٍ يصاغُ / فأصبحتِ لحماً يثير الدماءْ
وكنتُ فتىً ساذجاً لا أرى / سوى دميةٍ صوِّرت من نقاءْ
أُنيلُ الثرى قَدَميْ عابرٍ / يعيش بأحلامِه في السماءْ
فأصبحتُ شيئاً ككل الرجال / وأصبحتِ شيئاً ككل النساءْ
وكنتِ أميرة هذي الدُّمى / وصورةَ حُسنٍ عزيز المنالْ
وكنتِ نموذجَ فنِّ الجمالِ / أحبُّكِ للفنِّ لا للجمالْ
أرى فيكِ ما لا تحدُّ النّهى / كأنكِ معنىً وراء الخيالْ
فجرَّدْتِني رجلاً أشتهي / وجرَّدتُ أنثى تشهَّى الرجالْ
دعيني حواءُ أو فابعدي / دعيني إلى غايتي أنطلِقْ
أخمرٌ ونار لقد ضاق بي / كِياني وأوشِكُ أن أختنِقْ
أرى ما أرى لهباً بل أشمُّ / رائحةَ الجسد المحترقْ
فيا لكِ أفعى تشهَّيتُها / ويا ليَ من أُفعوانٍ نزقْ
كفانا فقد جُنَّ هذا الفتى / وجاوز حدَّ الكلام المباحْ
نكاد نُحِسُّ اختلاجَ النجوم / ونسمع مُضْطرباً في الرياحْ
مريضُ الغريزةِ فتَّاكُها / حَبَتْهُ الطبيعةُ أمضَى سلاحْ
سَقَتْهُ الشياطينُ يحمومَها / فمجَّ الرحيقَ وذمَّ الصباحْ
تأثَّم بالفنِّ حتى غوَى / وما الفنُّ بالمرأةِ الخاطئهْ
هو الدمُ واللحمُ ما يشتهي / هو الخمرُ والمتعةُ الطارئهْ
وكم في الرجالِ سُعَارُ الوحوش / إذا لمسوا الجُثَّةَ الدافئهْ
فلا تذكري فنَّ هذا الفتى / بل الحيوانيةَ الخاسئهْ
رأى جسمَ حواءَ فاشتاقَه / فهاجتْ به النزوة المُسْكِرَهْ
سَبى روحَها فاشتهى جسمَها / فثارتْ بعزّةِ مستكبرَهْ
سَمَا جسمُها وتأبَّى عليه / فجرَّدَ في وجهها خِنجرَهْ
وهمَّ بها فالتوى قصدهُ / فأرسل صيحتَه المُنكرَهْ
ألمْ يَنسِمِ الخُلدَ من عطرها / ألمْ يعْبدِ الحسنَ في زهرِها
ألم يقبسِ النورَ من فجرها / ألم يسرقِ الفنَّ من سحرِها
شفَتْ غُلّةَ الفنِّ حتى ارتوى / وإن دنَّسَ الفنُّ من طهرِها
وهامَتْ على ظمأٍ روحُها / وكم ملأوا الكأسَ من خمرِها
على مَذْبَحِ الحب من قلبها / سِراجٌ يُسبِّح مَنْ لألأه
منارٌ يجوبُ الدجى لمحهُ / فتلقى السفينُ به مرفأه
يبثُّ الحرارةَ بَرْدَ الشتاءِ / ويُلهبُ شُعلته المطفأه
وتمشي الحياةُ على نورِهِ / وما نورُهُ غيرُ عينِ امرأه
خطيئتُها قِصَّةُ الملهمين / وإغراؤها الفرَحُ المفتقَدْ
بأرواحهم يَرتقون الخلودَ / على سُلَّمٍ من متاع الجسدْ
ولو لم تكن لهوى فنّهم / صريعَ الظلام قتيلَ الجمَدْ
وما الفنُّ إلَّا سعيرُ الحياةِ / وثورتُها في محيط الأبدْ
لهيبٌ إذا الرُّوحُ مرَّتْ بهِ / تضاعفتِ الرُّوحُ في نارهِ
يُطيقُ القويُّ لظى جَمْرِهِ / ويعشو الضعيفُ بأنوارهِ
رَمَتْ فيهِ حواءُ آثامها / فذابتْ على صُمِّ أحجارهِ
لقد قرَّبَتْ جَسداً عارياً / وقلباً يَضِنُّ بأسرارهِ
أمن صَنْعَةِ اللّه هذا الجمالْ / نعم ومن الفنِّ هذا المثالْ
على مَعْرِضٍ مرمري الدُّمى / ترامى أشعتُه والظلالْ
تماثيلُ من جسدٍ فاتنٍ / تأبَّى على شهواتِ الرجالْ
حَبَتهُ الطبيعةُ أسرارَها / ولاقى الحقيقةَ فيهِ الخيالْ
لقد أخذَتْنا شجونُ الحديث / وكم في حديث الفتى من شجونْ
سَمَرنا بهِ وجهلنَا اسمَهُ / وما حظُّه من رفيعِ الفنونْ
أمِنْ ربَّةِ الشعر إلهامهُ / أم الوترِ الأُرفُسيِّ الحنونْ
أم المرمرِ الغضِّ يجلو بهِ / رفيفَ الشفاهِ ولمْحَ العيونْ
هي وحيهُ من سماءِ الأُولمبِ / وآلهةِ الحكمة الغابرينْ
فما هو بالملَكِ المستعزِّ / ولكنَّهُ الآدميُّ المَهينْ
وما الآدمية بنتُ السَّماءِ / ولكنَّها بنتُ ماءٍ وطينْ
يريدُ لها الفنُّ أفقَ النُّجوم / فيُقْعِدُها جسمُ عبدٍ سجينْ
وما فنُّهُ ما أراهُ سوى / أداةِ مطامعِه الواسعهْ
غداً يستَغلُّ غرامَ الحسانِ / سبيلاً إلى الشُّهرةِ الذائعهْ
يصيبُ بهنَّ خُلودَ اسمِهِ / وهنَّ قرابينُهُ الضائعهْ
تمنَّيْتُ لو أطلقَتنا السماءُ / ويا حَبذا لو بُعِثنا مَعَه
ألا حبذا الأرضُ مغدىً لنا / وإن بشَّرَتها المنايا بنَا
وما الأرضُ بالمنزلِ المسْتَطابِ / ولكنَّهُ ثأرُ أترابنَا
لنشربَ منْ دمِ هذا الفتى / مُصفَّى الرحيقِ بأكوابنَا
ونجعلَ من حشرجاتِ الرجال / تحيَّةَ شادٍ لأنخابنَا
ونسلُبُ ما رزِقُوا من حجىً / ونهدمُ ما رفعوا من قِبابْ
ونبني لهم نُصُباً خالداً / يكون على الدَّهرِ رمزَ العقابْ
تطوف به لَعَناتُ السَّماءِ / وترصُدُهُ مُثُلاتُ العذابْ
ولكن أرى غيرَ ما قلتُما / وما الغدر في الرأي كلُّ الصوابْ
إذا خَلَتِ الأرضُ من طيرهم / فمن ذا يُحيّي الجمالَ القسيمْ
ومن يُطلِقُ الحبَّ من وكرِهِ / على خطَراتِ الغناءِ الرَّخيمْ
وفيمَ نُرَقِّشُ هذا الجناحَ / ونصقلُه ببنانِ النعيمْ
طيورَ السماء حَذَارِ الوقوعَ / على حَطبٍ في الثَّرى أو هشيمْ
أيغريكِ بالحبِّ سُودُ اللِّحى / غِلاظُ الشِّفاهِ العراضُ الطِّوالْ
كأنَّ الهوى صُنْعُ أيديهمُ / فمن غيرهم كلُّ عيشٍ مُحَالْ
إذا شئتِ كان لنا عالَمٌ / يحوط الأنوثةَ فيهِ الجلالْ
حَمتْ رِقَّةَ الجنسِ ربَّاتُهُ / فليس بها حاجةٌ للرجالْ
لكلِّ اثنتينِ هَوىً واحدٌ / تلاقَى على سرِّهِ مهجتانْ
وعُشّ يضمهما في المساءِ / وروضٌ به في الضُّحَى يعبثانْ
وفي ركنِ خدْرهما مِغْزَلٌ / وفوقَ الأريكةِ قيثارتانْ
وتحت الوسادة أقصوصةٌ / لقلبين لم يَروِها عاشقانْ
ماذا تُرى صَنَعَ العاشقان / وما ذكرياتُ الليالي الحسانْ
حديثُكِ إنْ لم يكنْ بدْعةً / فحُلمٌ جَرَى في قديمِ الزمانْ
وصيحةُ مُخفقةٍ في الهوى / مُعَربدةِ الرُّوحِ سكرَى اللسانْ
الأنوثةَ هذا الهوانْ / وفيها الدهاءُ القويُّ الجنانْ
لنا الكيدُ إن خذلَتنا القُوى / أحابيلُ شتى وفنٌّ عجابْ
نُلقَّاهُ عن مَلكاتِ الزَّمانِ / أقاصيصَ لم يروِ عنها كتابْ
وقد نستعيرُ صفاءَ النمير / وقد نستمدُّ صراعَ العبابْ
وقد نسحبُ الليلَ فوق القلوب / ونغري العيون بقوسِ السَّحابْ
نساقِطُهم من غَواياتنا / أزاهرَ تَندى بماء الشبابْ
إذا لألأتْ فوق موج الشُّعور / أثارتْ بهم ظمأً للسَّرابْ
بألوانِها الحمر جَمْرُ الغضا / وفي نفحِها لفَحَاتُ العذابْ
هو الفنُّ لا ترتوي روحهُ / بأشهى من الأرجوانِ المذابْ
هو الحسنُ فتَّانُنا العبقريُّ / هو الحبُّ سلطاننا القاهرُ
ممثلهمْ لُعْبةٌ في يديهِ / ومثَّالهم إصبَعٌ فاجرُ
وألحانهم من فحيح العروقِ / يُصَعِّدُها الوترُ الساخرُ
ورسَّامهم صَنَمٌ مُبْصِرٌ / فإنْ جُمِعوا فَهُمُ الشَّاعرُ
قلوبٌ مُدلَّهةٌ بالجمالِ / ترى فيه معبودَها المُلْهَما
هو الرجلُ القلبُ لا غيرُهُ / فأودِعْنَهُ القبسَ المضرَما
أنِمْنَ به الشَّرسَ المستخفَّ / وأيقِظنَ فيهِ الفتى المغرَما
اقتحمتنَّ السياجَ / فقد خضعَ الكونُ واستسلما
ولكنْ حَذارِ ففي طبعٌ / لِيانٌ يسمُّونَهُ بالوداعهْ
وفيهم جراءةُ مستأسدٍ / تحدَّى المنيةَ باسمِ الشجاعهْ
وهِمْتِ فذلك هَزْلُ الرجال / وفنٌّ أجزنا عليهم خداعهْ
نذيبُ بهِ صُلْبَ أعصابهم / وفي رِقَّةِ العود سِرُّ المناعهْ
أطلْنا الأحاديثَ عن عالَمٍ / مُلَثَّمةٍ أرضُهُ بالخفاءْ
جعلناهُ مَطمَحَ أحلامنا / كأنَّا شَقِينا بِسُكنى السَّماءْ
طَوانا على حُبِّهِ شاعرٌ / كثيرُ المجانة نَزْرُ الحياءْ
أثارَ الملائكَ في قُدسِها / وأوقعَ في سحرهِ الأبرياءْ
عَجِبْتُ له كيف جاز السماءَ / وغرَّر بالملإِ الطاهرِ
أيمرحُ في الكونِ شيطانُهُ / بلا وازعٍ وبلا زاجرِ
دَعي الوهمَ سافو ولا تحقِري / بليتيس معجزةَ الشاعرِ
فما نتَّقِيهِ بحيَّاتنا / إذا هو ألقى عصا الساحرِ
بليتيس هل هو ذاكَ الخيال / المُجنَّحُ بين حواشي الغيومْ
عشيةَ صاح بأترابنا / وقد أخطأتْه قِسِيُّ الرُّجومْ
وقيلَ لنا مَلَكٌ عاشِقٌ / يُسرّي الهمومَ ببنتِ الكرومْ
يجوبُ السماءَ إذا ما انتشى / يُعربدُ بين خدورِ النجومِ
أعاجيبُ شتَّى لهذا الفتى / وأعجبُ منها الذي تذكرينْ
كأنَّ أحاديثَه بيننا / أساطيرُ آلهةٍ غابرينْ
إذا كان للفنِّ هذا الصِّيالُ / فوارحمتَا للجمال الغبينْ
ودَدْتُ لو أنِّي في إثرِهِ / درجتُ على الأرض في الدارجينْ
أتُغوين بالشعر شيطانَه / خياليةٌ أنتِ أم شاعرهْ
بل الشعرُ آسرُهُ المستبدُّ / فيا ليتَ لي روحَه الآسرهْ
ويا ليتَ لي وثباتِ الخيالِ / وقوةَ أربابِه القاهرهْ
لصيَّرتُهُ مُثلَةً في الحياةِ / وسُخريةَ البعثِ في الآخرهْ
صفي لي بِليتيسُ هذا الأملْ / وماذا ابتدعتِ له من حِيَلْ
أُدلِّهُ هذا الفتى بالجمالِ / وأُسمِعُه من رقيق الغزَلْ
وأورثه جُنَّةً بالرحيقِ / وأحرِمهُ رَشفَاتِ القُبَلْ
إلى أنْ تُحرَقَ أعصابهُ / ويصرَعه طائفٌ من خَبَلْ
وأحفرُ بعد الردى قبرَه / هناك على قمَّةِ الهاويَهْ
وأغرس في قلبهِ زهرةً / من الشرِّ راويةً ناميَهْ
سَقَتْها سمومُ شرايينه / ورفَّتْ بها روحهُ العاتيَهْ
تخفُّ إليها قلوبُ الرجال / وترجع بالشوكةِ الداميَهْ
إذا جنّها الليلُ لاحتْ به / كعينٍ من اللهبِ المضطرمْ
تثور الشياطينُ من عطرها / كمجمرة الساحر الملتثمْ
إذا استافَها الرَّجلُ العبقريُّ / تحوَّل كالحيوان الوخِمْ
تضُجُّ البلاهة من حولهِ / وينظر كالصنَّمِ المبتسمْ
هَبي الشعرَ أولاكِ من مُلكه / سماءَ الأُلوهةِ ذات البروجْ
ونصَّ المعانيَ عن جانبيكِ / فمنها السُّرَى وإليكِ العروجْ
فما تصنعينَ إذا ما بُعِثْتِ / واحدةً من بناتِ الزُّنوجْ
ألم تقرأي قِصَّةَ السامريِّ / وما صَنَعَ القومُ بعد الخروجْ
نَبا منطقُ الوحيِ في سمعهم / وخفَّ عليهِ رنينُ الطربْ
ومدُّوا العيونَ إلى فتنةٍ / تجسَّد في حيوانٍ عَجَبْ
ترامى بأحضانِه غادةٌ / أفادَ صِباها شبوبَ اللهبْ
جنونُ الحياةِ وأهواؤها / أنوثتُها وبريقُ الذَّهبْ
فأينَ من القومِ سحرُ البيانِ / وصيْحةُ موسى قُبَيل الوداعْ
هُمُ الناسُ لا يعشقون الخيالَ / إذا لم يكنْ حافزاً للطماعْ
هُمُ الناسُ لا يعبدون الجمالَ / إذا لم يكنْ نُهزةً للمتاعْ
هُمُ الناسُ لا يألفون الحياةَ / إذا لم تكنْ مَعرِضاً للخداعْ
تماثيلُهُ بعضُ أجسامِنا / وقد صاغَها العبقريُّ الصّناعْ
ولوحاتُهُ صُوَرُ العارياتِ / إذا مَزَّقَ الفنُّ عنها القِناعْ
أبالشِّعرِ تُغْوينَ هذا الفتى / وهمْتِ إذن وجَهلتِ الطِّباعْ
أليستْ لهُ صَبْوَةُ الآدميِّ / وشهوةُ تلك الذئابِ الجِياعْ
رَجعْتُ لنفسي فلا تغْضبا / وكُفَّا العتابَ ولا تُسْهِبا
لقد رُعتمانِي بهذا المزاح / وأبدَعْتما نبأً مُغرِبا
سَرَتْ بيَ من ذكره رِعدةٌ / كأني لبِستُ به الغَيْهبا
أتاييسُ لا كنتُ بنت الزنوجِ / ولا شِمْتُ أُمَّا بهم أو أبا
وصمْتِ الخليقة في بعثهم / كأنهم الحدَثُ المنكرُ
وما أخطأ الطيفُ ألوانَه / ولكنهُ اللهَبُ الأحمرُ
أبوهم كما زعموا آدمٌ / وحواءُ أُمُّهمُ المُعْصِرُ
لهم أعينٌ تتملَّى الجمالَ / وأفئدةٌ بالهوى تشعرُ
لهم نارُهم في أقاصي الدُّجى / وأبياتُهم في أعالي الكهوفْ
وسحرُ الطبيعةِ في عُرْيها / إذا هتَكَ الفجرُ عنها الشُّفوفْ
ونايٌ يُقسِّمُ فيهِ الربيعُ / ويسكبُ شَجْوَ المساءِ الهتوفْ
ورقصٌ يُمثِّلُ قلبَ الحياةِ / إذا ما استُخِفَّ بنقرِ الدفوفْ
تفرَّدَ فنُّهُمُ بالخفاء / وصِيغَ بفطرتهم واتَّسمْ
يعيشُ جديداً بأرواحهم / وإن عاش فيهم بروح القِدَمْ
له بأسُ مانا وإيحاؤه / إذا اضطربتْ رُوحهُ بالألمْ
ورِقَّة هاوايَ في شدْوها / إذا جاشَ خاطرُها بالنَّغمْ
ألا فلْيَكُنْ لكِ من فنهم / سموُّ اللظى وعتوُّ الجبالْ
ألا فلْيكُنْ لكِ من سحرهم / فنونٌ تُعطِّلُ سحرَ الخيالْ
ألا فليكنْ لكِ من نارهم / وشاحُ مؤلَّهةٍ بالجمالْ
إلى الأرضِ فانتقمي للنساءِ / وكوني بها محنةً للرجالْ
سلامٌ لكُنَّ عذارى السماء /
سلامٌ لهرميس روحِ الإلهْ /
أرى ومْضَةَ الشرِّ في جوِّكنَّ / وأسمعُ صوتاً كأنِّي أراهْ
يلاحقني في رحابِ السماءِ / ويرتجُّ في مِسمعيَّ صداهْ
لقد فارقَ البشرُ غُرَّ الوجوهِ / وشاعَ الذبولُ بوردِ الشفاهْ
أجل أيها الملَك المجتبى / صدقناكَ فاغفر عذابَ الضميرْ
لقد مرَّ كالطيرِ من قربنا / فتىً في رعاية ربٍّ خطيرْ
رآنا فأعرض عنَّا ولمْ / يُحَييِّ السماءَ بروحٍ قريرْ
تخايلَ عُجباً بأوهامه / وأمعن في شرِّه المستطيرْ
ظلمتنَّ هذا الغلامَ البريء / وقد غضَّ من ناظريهِ الحذَرْ
أهَلَّ بقلبٍ كفرخِ القَطا / يرفرفُ تحتَ جناحِ القدَرْ
رَآكنَّ فيهِ وحيَّا بهِ / فلم أدْرِ حاجتَه للنظرْ
وكيف تكلَّم قلبُ الفتى / وما هو إلا سليلُ البشرْ
هُوَ ابنُ السماءِ ولكنَّهُ / من النقصِ تركيبُه والتمامْ
صَنَاعُ الطبيعةِ بل صُنْعُها / فمنها دَمامتُه والوَسامْ
يُسِفُّ إلى حيث لا ينتهي / ويسمو إلى قمةٍ لا تُرَامْ
ويُسْقَى بكأسٍ إلهيةٍ / مُرَنقةٍ بالهوى والأثامْ
نقيضانِ شتَّى فما يستقرُّ / على غَضَبٍ منهما أو رضاء
تحدَّى الحياةَ وآلامَها / ببأسِ الجبابرة الأعلياء
يزيدُ عُتُوّاً على نارها / ويلمعُ جوهرهُ مِنْ صَفاء
وينشقُّ عن نَضرةٍ قلبُه / وإنْ طَمَرَتهُ ثلوجُ الشتاء
هو المرِحُ الشاردُ المستهامُ / شُرودَ الفراشةِ عند المساء
حَبَتهُ الألوهةُ روحاً يَرَى / وينطِقُ عنها بوحي السماء
يحُسُّ الخيالَ إذا ما سَرَى / ويلمسُ ما في ضميرِ الخفاء
ويبتدرُ النجمَ في أفقه / فيرشُفُهُ قطرةً من ضِياء
أرتهُ السماءُ أعاجيبَها / ورَوَّتهُ من كلِّ فنٍّ بديعْ
فضنَّ بلألاءِ هذا الجمالِ / وخافَ على كنزِهِ أن يضيعْ
أبى أن يُبدّدَهُ ناظراهُ / فأطبقَ جفنيهِ ما يستطيعْ
فإن شارفَ الأرضَ نادتْ بهِ / ففَتَّحَ عيناً كعينِ الرَّبيعْ
هنالكَ حيث تَشبّ الحياةُ / وحيث الوجودُ جنينُ العَدَمْ
وحيثُ الطبيعةُ جبَّارةٌ / تشقُّ الوهادَ وتبني القِمَمْ
وحيثُ السعادة بنتُ الخيالِ / ولذَّتها من معاني الألمْ
وحيث الطريدانِ شجَّا الكؤوسَ / ومَجَّا صُبَابتَها من قِدَمْ
رَنَا والطبيعةُ في حَلِيها / وحواءُ عاريةٌ كالصَّنمْ
فمن أين سارَ وأنَّى سرَى / تصَدَّتهُ مقبلَةٌ من أمَمْ
هنالكَ أولُ قلبٍ هفا / وأولُ صوتٍ شدا بالنَّغَمْ
وأولُ أنمُلةٍ صوَّرَتْ / وخَطَّتْ على اللوحِ قبل القَلمْ
فما لكِ حواءُ أغويتِهِ / وأعقبتِهِ حَسَراتِ النَّدَمْ
لقد كان راعيَكِ المجتَبى / فأصبحَ راميَكِ المتَّهمْ
ولولاكِ ما ذرفتْ عينُهُ / ولا شامَ بارقةً فابتسَمْ
وعاشَ كما كانَ آباؤه / يُغنِّي النجومَ ويرعَى الغنمْ
لأجلكِ يَشقى بلمحِ العيونِ / ويُصرعُ بالنظرةِ العابرهْ
لَوَدَّ إلى الأرضِ لو لم يُصِخْ / أو ارتدَّ بالمقلةِ الحاسرهْ
وكم من فتىً عزَّها سمعُهُ / وغضَّ على حَذَرٍ ناظرهْ
عصاها فنادت فلم يستمعْ / فحلَّت به لعنةُ الفاجرهْ
له مقلتانِ على ما وعَى / من الألَق الطُّهْر مختومتانْ
ففي عقلهِ حركاتُ الزَّمان / مصورةً وحدود المكانْ
وفي قلبهِ أعينٌ ثَرَّةٌ / بها النارُ طاغية العنفوانْ
وفي كلِّ خاطرة نَيْزَكٌ / يشقُّ سناهُ حجابَ الزمانْ
إذا ما هوتْ ورقاتُ الخريفِ / أحسَّ لها وَخَزَاتِ السَّنانْ
وإن سَكَبَتْ زهرةٌ دمعةً / فمن قلبه انحدرتْ دمعتانْ
ومن عَجَبٍ شَدْوُهُ للربيع / وقد يخطىءُ الطيرُ شدوَ الأوانْ
وقيثارةُ الرِّيح ما لحنُها / سوى الريح في جفوةٍ أو حنانْ
عوالمُ جَيّاشةٌ بالمنى / ودنيا بأهوائها تضطربْ
من اللاَّنهاية ألوانُها / مشعشعةٌ بالندى المنسكبْ
ففيها الصباحُ وفيها المساءُ / وبينهما الشَّفَق الملتهبْ
تطوف بها صَدَحاتُ الطروب / وتسهو بها أنَّةُ المكتئبْ
لكَ الحبُّ فيما أتاحتْ لنا / سريرتُكَ السَّمحَةُ الطاهره
ومن مَلَكٍ مثلُ هذا الحديث / طُمأنينةُ المهجِ الحائره
عَطفْتَ على قلبِ هذا الفتى / قلوباً على فَنِّهِ ثائره
وصوَّرتهُ مَلَكاً ناقماً / على آدميتهِ الجائره
أجل هو ذاكَ ولو زدتكنَّ / لزدتُنَّ عطفاً على فنِّهِ
وما ذنبُ روحٍ نَمَتْهُ السماءُ / إذا ضجَّ في الأرضِ من سِجنهِ
تَعلَّقَ مهواهُ فوق النجوم / وحَوَّمَ وَهْناً على كِنِّهِ
لينعمَ في ظِلِّهِ لحظةً / ويملأَ عينيهِ من حسنهِ
لهُ ولَعٌ بخدورِ النجومِ / إذا ما تخلَّصَ من طيفهِ
ويا رُبَّ ليلٍ كوادي الخيال / دَعَتْهُ الحقيقةُ من جوفهِ
فسار يَضمُّ صدورَ الرّباب / ويستضحكُ النُّورَ في سُدْفهِ
وغاب كأعجوبةٍ في الدُّجى / تحارُ الأساطيرُ في وصفهِ
على الأرضِ شيطانُهُ الحائمُ / وفي الكون وجدانه الساهمُ
مضى سابحاً في عبابِ الأثير / كما يسبحُ النظرُ الحالمُ
يدورُ فلا أفقٌ ينتهي / إليه ولا كوكبٌ هائمُ
وحيثُ هو الآن فيمن أرى / هناكَ على سِرّهِ جاثمُ
هناك هناك كأنّي أراه / نعم خلف هذا الغمام الرقيق
إذا ما عطفتنَّ ناديتهُ / عسى الآن من روْعِه أن يُفيقْ
ألا أيُّها الروحُ مني السلامُ / وأنتَ بحبِّ العذارى خليقْ
عرائسُ أحلامِكَ المائلاتُ / وما أنا إلَّا مَلاكٌ صديقْ
لقد طَلعَ الفجرُ يا شاعري / وكادتْ تزولُ نجومُ الصباحْ
وحان الرواحُ فودِّعْ خباءَكَ / وادنُ أحدِّثكَ قبل الرواحْ
أتهتف بي أنتَ أم هُنَّ أمْ / نذيرُ الردى والقضاءُ المتاحْ
تراك سمعتَ أحاديثنا / لقد نقَلَتها إليّ الرياح
عجبتُ لحوريَّةٍ في السماء / ويأخذ أهلَ السماء العجبْ
أتحلمُ بالأرضِ مخمورةً / من الدمِ راقصةً في اللهبْ
وتُغري بيَ الموتَ لا جانياً / ولكنها ثورةٌ من غضبْ
برئتُ من الإثمِ حوريَّتي / فرُدِّي الظنونَ وخلِّي الريبْ
أأبغض حواءَ وهي التي / عرفتُ الحنانَ لها والرِّضى
وباعَ بها آدمٌ خُلدَهُ / ولو لم يَكُنْ لتمنَّى القضا
ورِثتُ هواها فرُمت الحياةَ / وحبَّب لي العالم المبْغَضا
أراها على الأرض طيفَ النعيم / وحُلمَ الفراديسِ فيما مضى
وكانت حياتي محْضَ اتِّباع / فصارتْ طرائفَ من فَنِّها
وكان شبابيَ صَمْتَ القفارِ / ورَجْعَ الهواتفِ من جِنِّها
فعادتْ ليالي الصِّبا والهوى / أرقَّ المقاطعِ في لحنها
وأفرغتُ بؤسيَ في حِضنها / وأترعتُ كأسيَ من دَنِّها
وكم ذكرياتٍ لها عَذْبَةٍ / أعيش عليها وأحيا بها
لها في دَمي خَلجاتُ الحياةِ / كأني خلِقتُ بأعصابها
مُسامرتي حين يمضي الصِّبا / وتهتفُ رُوحي بأحبابها
وتخلو بيَ الدارُ عِندَ الغروبِ / وأجلسُ وحدي على بابها
بَدَتْ شِبْهَ عابسةٍ فانثنيتُ / وقد زايلَ الشمسَ لألاؤها
وخِلتُ الحياةَ وضوضاءها / تموتُ على الأرض أصداؤها
وكفَّ عن الهمْسِ حتى النسيمُ / وأمسكَ عن لَعِبٍ ماؤها
وناديتُ فالتفتتْ لا تجيبُ / ولكنْ دعاني إغراؤها
ومرَّتْ إزائي فتابعتُها / بقلبي وعيني إلى أمِّها
رأيتُ مفاتنها غيرَ تلك / وإن لم يُخلَّدْنَ في جسمِها
وأبصرتُ من حولها الكائناتِ / جوانحَ تهفو إلى ضَمِّها
ويحنو الصباحُ على ثغرِها / وقد جُنَّ شوقاً إلى لثمِها
يسائلني القلب عن أمرها / وأسأله أنا عن سرها
ويعطفني في الهوى ضعفُها / وأنسَى بأنِّي في أسرها
وتُبدي ليَ الأنجمُ الوامقاتُ / رفيفَ الأماني على ثغرها
فأحسبُ أن اهتزازَ الحياة / صدَى حبِّها ورؤى سحرها
لكذبتها تُستحبُّ الحياةُ / ويَصْفو الزمانُ بتغريرها
ويأخذُني الشكُّ في قَوْلها / فتُقنعني بأساريرها
وتعصفُ بي شهْوَةٌ للجدال / فَتسكِتُني بمعَاذيرها
غفرتُ لها كلَّ أخطائها / سِوَى دَمعتينِ لتبريرها
أحاول أفهمها مرَّةً / فأعيا بها وبتفكيرها
أمخلوقةٌ هيَ أم ربَّةٌ / تسيرُ الخلائقُ في نِيرها
وما سِحْرُها ألتكوينها / وما حسنُها ألتصويرها
تقولُ الطبيعةُ بِنْتي وما / أُحِسُّ لها بعضَ تأثيرها
أعند الطبيعةِ هذا الدلالُ / وفي دِفئِها مثلُ هذا الحنانْ
إذا قيلَ لي هاكَ مُلك الثّرى / ودنيا الشَّبابِ وعمْرَ الزمانْ
فما لذَّتي بالذي نِلتُه / وما نشوتي برحيق الجنانْ
كرعشةِ رُوحِي وهزَّاتِها / وصدري على صدرها واليدانْ
وغَنَّتْ فأسمعني صوتها / صَدى الروحِ في خلَجات البدنْ
عميقاً كأنفذ ما في الحياةِ / وأبعدِ ما في قرارِ الزّمنْ
فأحسستُ كيف تطيش العقولُ / وتسهو القلوبُ وتصحو الفتنْ
وقال لها الحسنُ يا ربتي / فقالت له كلّ شيءٍ حسنْ
رآها على النبع بعضُ الرُّعاةِ / مصوَّرةً في إطار الغصونْ
فقالوا أحُلْمٌ تراه العيونْ / أفي الغابِ حوريَّةٌ من تكونْ
ومسَّ مزاهرهم روحُها / فرفَّتْ بها خالداتُ اللحونْ
وباتتْ تعانقُ أحلامَهم / وقد كاد يرقصُ حتى السكونْ
ولاحت بمرأىً لعينيْ فتىً / طوى البحرَ ليس لهُ من قرارْ
تفتَّحُ عن صدرها موجتان / وينشقُّ في الفجر عنها المحارْ
رآها فجنَّ غراماً بها / وغنَّى بها الليلَ بعد النهارْ
وقالوا تعشَّقَ جِنِّيةً / فتىً شاعرٌ تائهٌ في البحارْ
قضى اللّهُ أن تُغويَ الخالدين / وتُغريَ بالمجدِ عُشَّاقَها
لَقِيتُ على بابها الفاتحينَ / وغارَ الفتوحِ وأبواقَها
وكلَّ مُدِلٍّ عَصِيِّ القياد / دَعَتْهُ الصبابةُ فاشتاقها
سَلا مَجدَهُ الضَّخْمَ في قُبْلةٍ / تُذِلُّ وتُسْعِد من ذاقها
أمانيُّ شَتَّى تمثَّلنَ لي / بكلِّ وضيءِ الصِّبا ناعمِ
مُبَعْثَرةً حولها في الترابِ / بقايا الدُّمى في يدِ الحاطمِ
تَمُرُّ بها وهي في ضِحْكها / وما ذَرَفَتْ دمعةَ النَّادمِ
فيا لكِ من طفلةٍ فَذَّةٍ / ورُحماكِ سَيِّدَةَ العالَمِ
يحاولُ بالشعرِ إغراءنا / لنؤمنَ واحدةً واحده
هو الموقف الضنكُ ما يتقيهِ / كمايتقي باشقٌ صائده
متى كان صَبّاً عطوفَ الفؤاد / وهذي قصائدُه الجاحدهْ
ألا ذكِّريهِ بمثَّاله / ونادي بحيَّتِهِ الخالدهْ
ظَلَمْتِ الفنونَ وأربابها / وما كنتِ حوريَّتي ظالمه
قلوبٌ تلذُّ بتعذيبها / غرائزُ عاتيةٌ عارمه
تُرنِّحها سَكراتُ الهوى / وتُوقظها الفِتنُ النائمه
صَحَتْ من خُمار مَلذَّاتها / تُعنِّفُ أهواءَها الآثمه
ألا ما لأختيكِ ما تبغيان / أقلبيَ والخنجرَ المُنتَضَى
خذاهُ اقتلاهُ ولا ترحماهُ / فليسَ له بَعْدُ أن يَنبِضا
أذيقاهُ ما شئتما واغرسا / به الشرَّ ملتهباً مُرْمِضا
فلن تُنبِتَا فيه إلَّا السلامَ / والحُبَّ والزهَرَ الأبيضا
إناءٌ من النُّور طافتْ بهِ / يَدُ الحبِّ غارسةُ الزَّنبقِ
تُغاديهِ شاديةٌ في الدُّجى / وراقصةٌ في الضُّحى المشرقِ
بأجنحةٍ كرؤى الخالدين / لغير الصبابةِ لم تخفِقِ
وقلبيَ من قدَحٍ في السماء / ومن نبْعِ آلهةٍ يستقي
أتخشى لِقانا سليلَ السماء / أتحذرُنا أم تخافُ الضِّياء
مُحدِّثتي ما أحبَّ اللقاءَ / لقد حال جسمي دونَ اللقاء
وكنتُ تخلَّصتُ من طيفهِ / فلفَّتهُ حولي يدٌ في الخفاء
كأنِّيَ أهذي بأضغاثِ حُلمٍ / أو أني ضللتُ طريقَ السماء
بليتيس سافو الفرارَ الفرار / فقد لبسَ الروحُ طيفَ البشرْ
أتبْصِرُهُ جسداً عارياً / وتقربهُ تلك إحدى الكُبرْ
على رِسْلكنَّ فقد عاقبته / بأقوالكنَّ بناتُ القدرْ
لقد عاقبتهُ بأشعاره / فيا ليتَه ما هذَى أو شَعَرْ
أتصرخ ويحْكَ إنَّ السماء / لتأخذُها صرخاتُ الألَمْ
من الغيمِ يا شاعري فالتمسْ / دِثاركَ واخصِفْ به من أممْ
وخُذْ من جناحيَّ ما تتَّقي / به في السماء عثارَ القدمْ
وأقسمُ ما رُمْتُ غيرَ الحنان / وإنِّي زعيمٌ بهذا القسمْ
بليتيس تاييس ماذا انظرا / فثمَّتَ أُعجوبةٌ تظهرُ
تعالَ فتى الشعرِ يا للسماءِ / أبِالشعرِ أم بالفَتى تَسخَرُ
أهذا هو الآدميّ العظيمُ / ألا شدّ ما يخدعُ المنظر
تَصوَّرتُهُ من أحاديثهِ / فتىْ لوَسامته يؤثرُ
تريدينه صورةً أم فتىً / تهلّلَ فيه الحِجى وابتسمْ
رأيتُ الرجولةَ كلَّ الجمالِ / هو الرَّجلُ الفردُ في المزْدحَمْ
تراهُ على النبع يُعلي الغطاءَ / ويُدْلي الدلاءَ ويَسقي الغنمْ
ويحدو العذارى إلى دارهنَّ / حَيِيَّ الخطى موسويَّ القدمْ
لشدَّ الذي قُلتِهِ يا ابنتي / كلاماً توهَّجَ منه الحنينْ
تعاليْ هنا والثمي جبهةً / هزأت بها وهي حُلْمُ السنينْ
أمن خَمَلِ السُّحْبِ هذا الدثار / ومن حمإ الأرض هذا الجبينْ
دعي طيفه وانظري روحَه / ففيها الصِّبا والجمالُ المبينْ
هل الرجل الروح لا إنه / محيّا ترقرق فيه الوسام
وعينانِ بالسحر تستأثرانِ / خيالٌ لعمركِ هذا الكلام
مُحيَّا وعينانِ ما في الرجالِ / سوى كلِّ أصيدَ سبْطِ القوام
ذراعاهُ تستدرجانِ الخصورَ / وفي شفتيهِ حديثُ الغرامْ
تنزَّهْتَ عن شُبْهةٍ عالمي / ولا رابني فيكَ ما أسمعُ
عهدتُ البراءَة فيمن تُظِلُّ / فماليَ من ريبة أفزعُ
وأبدعتَ خلقاً ولكنني / أراهُ إلى عَبَثٍ ينزِعُ
سبَى السحرُ أجملَ أرواحِهِ / فأنطقهن بما يخدعُ
أفي عالم الرُّوح تفشو الظنونُ / وينطق روحٌ بهذا الكلِمْ
أسائلُ نفسي أشيطانةٌ / توسوسُ لي أم مَلاكٌ أثِمْ
أم الشكُّ آذنني بالصراع / أم حلَّ بي غضبُ المنتقمْ
بل البعثُ آذنهنَّ الغداةَ / فلا تَلْحَهُنَّ ولا تتَّهِمْ
هي الآدميةُ طافتْ بهنَّ / وتلك غرائزُها والطباعْ
غداً تدرجُ الرُّوحُ في طيفها / وما الطيفُ للرَّوحِ إلَّا قِناعْ
سترقدُ في غورها الذِّكريات / وتوقظهنَّ السنون السِّراعْ
وتمشي لحاضرها في الحياة / بمصباحِ ماضٍ خَفيِّ الشعاعْ
وكم نبأةٍ كالحديث الجديد / وما هو إلَّا القديم السماعْ
من الخيرِ والشرِّ إلهامها / مقادِرُ تجري بهنَّ اليراعْ
فدع للسماءِ تصاريفها / فقد أذِنَ البعثُ بعد انقطاعْ
وداعاً صديقي إلى أين تمضي / إلى الملتقى فالوداع الوداع
تسائلُني حلوةُ المبسمِ
تسائلُني حلوةُ المبسمِ / متَى أنتَ قبَّلتَني في فمي
تحدَّثتَ عَنِّي وعن قُبلةٍ / فيا لكَ من كاذبٍ مُلهَمِ
فقلتُ أعابثُها بل نسيتِ / وفي الثغر كانتْ وفي المعصمِ
فإنْ تُنكريها فما حيلتي / وها هي ذي شعلةٌ في دمي
سلي شفتيكِ بما حَسَّتاهُ / من شَفتي شاعرٍ مُغرمِ
ألمْ تُغمِضي عندها ناظريك / وبالرَّاحتينِ ألم تحتمي
هَبي أنَّها نعمةٌ نلتُها / ومن غير قصدٍ فلا تندمي
فإنْ شئتِ أرجعتُها ثانياً / مضاعفةً للفمِ المنعمِ
فقالتْ وغضَّتْ بأهدابها / إذا كان حقاً فلا تُحجمِ
سأغمضُ عينيَّ كي لا أراكَ / وما في صنيعكَ من مأثمِ
كأنَّكَ في الحلم قبَّلتني / فقلتُ وأفديكِ أن تحلُمي
سَرَتْ بين أعينهم كالخيالْ
سَرَتْ بين أعينهم كالخيالْ / تعانقُ آلهةً في الخيالْ
مُجَرَّدةً حَسِبَتْ أنها / من الفنِّ في حَرَمٍ لا يُنالْ
فليستْ تُحِسُّ اشتهاءَ النفوسِ / وليستْ تُحِسُّ عيونَ الرجالْ
وليستْ ترى غير مَعبودها / على عرشهِ العبقريِّ الجلالْ
دَعاها الهوى عِندَهُ للمُثول / وما الفنُّ إلَّا هوىً وامتثالْ
فخفَّتْ له شِبْهَ مسحورةٍ / عَلَتْ وجهَها مَسْحَةٌ من خبالْ
وفي روحها نشوةٌ حلوةٌ / كمهجورةٍ مُنِّيَتْ بالوصالْ
تراها وقد طوَّفَت حولهُ / جلاها الصِّبا وزهاها الدلالْ
تَضُمُّ الوشاحَ وتُلقي بهِ / وفي خطوها عِزَّةٌ واختيالْ
كفارسةٍ حَضَنتْ سيفَها / وألقتْ به بعدَ طول النِّضالْ
تمُدُّ يديها وتَثنيهما / وترتدُّ في عِوَجٍ واعتدالْ
كحوريَّةِ النبعِ تطوي الرِّشاءَ / وتجذبُ ممتلئاتِ السِّجالْ
مُحَيَّرَةَ الطيفِ في مائجٍ / من النُّور يَغْمرها حَيْثُ جالْ
تُخَيَّلُ للعينِ فيما ترى / فراشةَ روضٍ جَفَتْها الظلالْ
وزَنبقةً وسطَ بَلُّورةٍ / على رفرفِ الشمسِ عند الزَّوالْ
تَنَقَّلُ كالحلمِ بينَ الجفونِ / وكالبرقِ بين رؤوسِ الجبالْ
على إصبعيْ قدَمٍ أُلهِمَتْ / هبوبَ الصَّبا ووثوبَ الغزَالْ
وتُجري ذِراعينِ منسابتينِ / كفرعينِ من جدولٍ في انثيالْ
كأنهما حولها ترْسمانِ / تقاطيعَ جسمٍ فريدِ المثالْ
أبَتْ أن تَمَسَّاهُ بالراحتينِ / ويرضى الهوى ويريدُ الجمالْ
ومن عَجَب وهي مفتونةٌ / تُريكَ الهدى وتْريكَ الضلالْ
تَلَوَّى وتسهو كَلُهَّابةٍ / تَراقصُ قبل فناءِ الذُّبالْ
وتعلو وتهبطُ مثل الشراع / ترامى الجنوبُ بهِ والشمالْ
وتعدو كأنَّ يداً خلفها / تُعَذِّبُها بسياطٍ طوالْ
وتزحفُ رافعةً وجَهها / ضراعةَ مستغفرٍ في ابتهالْ
وتسقط عانيةً للجبينِ / كقمريّةٍ وقَعَتْ في الحبالْ
تَبِضُّ ترائبُها لوعةً / وتخفقُ لا عن ضَنىً أو كلالْ
ولكنَّه بعضُ أشواقها / وبعضُ الذي استودَعَتها الليالْ
أطلَّ الخريفُ بأعقاب ليل
أطلَّ الخريفُ بأعقاب ليل / دجيِّ الظلام بكيِّ السُّحبْ
وآخرُ ما في الرُّبى زهرةٌ / عداها من الصيف وقدُ اللهبْ
غدَتْ وحدها في أديمٍ عفا / من النّور والورَقاتِ القُشُبْ
كحارسةِ الميْتِ ليسَت ترِيمُ / مكاناً به وقفَتْ تضطربْ
تُساقِطُ من حولها أدمعاً / غصونٌ تطالعها عن كثَبْ
جرى الغيثُ من ورقاتٍ بها / إلى أُخَرٍ شاحباتٍ صبَبْ
تحدَّرَ مختنِقاً فوقها / بلا نبأةٍ قطرُهُ المنسكبْ
فيا مَنْ لها زهرةُ الجورجين / مَنِ الزائرُ الحائرُ المقترِبْ
جَناحٌ لآخرِ ما في الفراش / من رحمةٍ بقِيَتْ أو حدبْ
مضى الصيفُ وانقطعت إثرَه / أغاريدُ كنَّ مَثارَ الطربْ
نأى طيرُها عانياً واختفى / غرامٌ أتى وغرامٌ ذهبْ
أأيتها النارُ هذا المساءُ
أأيتها النارُ هذا المساءُ / قسى بردُهُ فانهضي واستفيقي
أيا نارُ كفاي أثلجُ منه / فهلاَّ بعثتِ بدفءِ الحريقِ
أما فيكِ بعدُ حياةٌ تُشَبُّ / أم فيكِ من جَذْوةٍ تُلْهَبُ
أمقرورةٌ أم غفا وانطوى / على نفسه اللَّهبُ المتعبُ
أأجلسُ يا نارُ وحدي هُنا / أراعيكِ وهْناً وأستطلعُ
خُذي ملء شدقيكِ هذي الرسائلَ / إن كان فيهنَّ ما يُشبعُ
خذيها كليها ولا تُمهلي / فمنها الوقودُ ومنكِ الأجيجْ
ويا من لها كلماتٍ حَوَتْ / من الحبِّ كلَّ جميل بهيجْ
أتُبقين حقاً على ما بها / متى أنتِ أبقيتِ شيئاً متى
وماذا أرجِّي بهذا الدُّعاءِ / وكيف تُلبَّيْنَ واحسرتا
أجائعةٌ أنتِ يا للشراهة / ما عِفْتِ غير بلىً أو رَمادْ
تشهَّيتِ كلَّ طعامٍ وما / تذوَّقْتِ شيئاً كطَعْمِ المدادْ
ومَن لي بِزادكِ لم يَبق ما / يَلوكُ لِسانُكِ أو يعلُكُ
أأيتها النارُ ويْكِ اصبري / أجئْكِ بكل الذي أملكُ
بقربانيَ القُدُسيِّ الأخير / أزاهيرَ كنَّ رقاقاً لطافا
أزاهيرَ تُزهى بها باقةٌ / ذَوَتْ نضرةً وأصابتْ جفافا
ألا كم تألَّقنَ فوق الغصون / زواهرَ في روعةٍ واتقادْ
بكفيَّ هاتينِ جمَّعتهنَّ / من كلِّ روضٍ ومن كلِّ وادْ
فوارحمتا أيُّ عمرٍ قصيرٍ / لهنَّ وأيُّ شبابٍ ذوى
وأيُّ حياةٍ كحُلمٍ سرى / سُري البرق لألأ ثُمَّ انطوى
أحقاً فرغتِ إذن ما سُعارُكِ / لم يبْقَ يا نارُ ما يُنهَشُ
أهذي القُصاصةُ لا إنني / أضمُّ عليها يداً تُرعَشُ
أكانت سوى قطعةٍ غُضِّنَتْ / من الورق اليابس الأصفرِ
مهلهلةٍ غيرِ مقروءةٍ / حوت قِصَّة الحبِّ في أسطرِ
ضننتُ بها ضنَّ معتزَّةٍ / وتحت الوسادة أودعتُها
أقبِّلها مئتيْ مرةٍ / إذا جُنَّ شوقي فأطلعتُها
فيا للشَّراهةِ ماذا أرى / لِسانكَ في ثورةٍ واهتياجْ
يكاد إليَّ من المصطلى / بجمرك أن يتخطَّى السياجْ
خَسِئتِ فردِّيهِ ماذا يرومُ / ألم يَبْقَ يا نارُ ما يُطعمُ
أهذي القُصاصةُ يا للحريق / ويا للبلى شدَّ ما يُؤلمُ
حبيبةَ قلبي هي النارُ لا
حبيبةَ قلبي هي النارُ لا / تَشُبِّي لظاها ولا تستثيري
دَعِيها ولا توقِظي جمْرَها / فما النارُ أحنى من الزمهريرِ
فِدى راحتيكِ فؤادٌ يلذُّ / لهُ في هواكِ عذابُ السعيرِ
أنيليهما دِفءَ ثغري الحنون / وصونيهما رحمةً من زفيري
قسى البردُ كيف أيقسو عليكِ / وواعجباً كيفَ يَرضى المساءْ
وكم جِئْتِهِ بأرقِّ الغناءِ / وأشرقتِ فيه بوحيِ السماءْ
أأختاهُ أيُّ عذابٍ طغى / عليكِ وأيُّ ضنىً أو شقاءْ
ضَرَعتُ إليكِ فلا تُسْلِمي / ودائعنا للردى والعفاءْ
فما هُنَّ بعضَ مدادٍ جرى / ولا هُنَّ أختاهُ بعضَ الورقْ
ولكنهنَّ شُغافُ الفؤادِ / وذَوْبُ السوادِ ونورُ الحَدَقْ
وأحلامُ دنيا وأشواقُها / لروحين بعد الضَّنى والرَّهَقْ
أفاءَا إلى أيكةٍ ينظران / جمالَ المساءِ وسِحْرَ الشفقْ
أُحسُّ بقلبك لذْعَ الأسى / وفي وجنتيكِ لهيبَ الدموعْ
وأسمع صيحةَ مُسْتَقتلٍ / يُصارعُهُ اليأسُ بين الضُّلوعْ
وألمح في جانب المُصطلى / وجوهاً زواها الأسى والخشوعْ
مُحدِّقَةً فيه مَحْنيّةً / عليه ويا لَلّظى كم يروعْ
لهُنَّ لياليكِ أو ذكرياتيَ / جِئْنَ بأجنحةٍ من ضياءْ
تسمَّعن صوتكِ تحت الظلام / فجُبنَ الثرى وطوين الفضاءْ
تُمَسِّحُ كفَّيكِ راحاتهنَّ / على قُبَلٍ من شفاهٍ ظماءْ
ويسكبن في أذنيكِ الدعاءَ / وفي قلبكِ الغضِّ نورَ الرَّجاءْ
ألا يا عرائس وادي الخيال / بآلهةِ الرَّحمةِ المُنصِفَهْ
ألا ادفعنَ هذا الرَّدى المشرئبَّ / وأمسِكنَ هذي اليدَ المُضعفَهْ
وأنقذن هذا الغرامَ الشهيدَ / فقد كادتِ النارُ أن تَلقفَهْ
رسائلُ أنبلُ ما سطَّرتْ / يدُ الحبِّ أو ردَّدَتهُ شفهْ
وصُنَّ أزاهرَ ما نوَّرَتْ / بهنَّ الغصونُ لغير الشفاهْ
ولا نَسمتْ غيرَ روحِ الهوى / ولا غيرَ أنفاسهِ أو شَذاهْ
أزاهرُ هُنَّ رؤى ليلةٍ / هي العمرُ أو هي كلُّ الحياهْ
تمثَّلها الحبُّ في باقةٍ / إلهيةٍ جَمَعَتْها يداهْ
ألا يا عرائسَ وادي الخيال / ألا ابعثنَ روحَ الرِّضى والسلامْ
ألا احْكُمْنَ بيني وبينَ التي / تثورُ بعاشِقها المستهامْ
تُفارقهُ وتطيلُ الفراقَ / وتسألُهُ أينَ عَهْدُ الغرامْ
فإنْ قال ضَيَّعتِهِ أسرعتْ / إلى النار تُوقِظُ فيها الضرامْ
ألا يا عرائسُ هلاَّ استمعتِ / لأُختيَ ربَّةِ هذا القصيدْ
أغَرَّدَ روحٌ بهذا الصَّفاءِ / وردَّدَ قلبٌ كهذا النشيدْ
يقول أنا الحبُّ لا تُلْقِ بي / إلى النار إني قويٌ شديدْ
وما أنا بعضُ رَمادٍ لها / ولا أنا بعض حُطامٍ بديدْ
أنا الجوهرُ الفرْدُ لا ماسَتي / تذوبُ ولا نورُها يَنْفَدُ
مُنِحت الخلودَ وأعطيتُهُ / لمن يُلْهَمُ الشِّعرَ أو يُنشِدُ
تخرُّ العروشُ وتَهوي الشموسُ / ولي عرشيَ الخالدُ الأبدُ
هو القلبُ أعظم ما صوّرتْ / يدُ اللّهِ ما نازعتها يَدُ
ألا يا عرائسَ وادي الخيالِ / ألا قرِّبي يَدَها قرِّبي
حبيبةَ قلبي نسيتُ النوى / ودعوى البريئةِ والمذنبِ
وأنسيتُ حتى كأن لم يَكنْ / على الأمس ما كان أو مرَّ بي
حديثُ القُصاصةِ ردَّ الهوى / لقلبي فشُبِّيه أو ألهبي
حَبيبةُ قلبي نأتْ دارُها
حَبيبةُ قلبي نأتْ دارُها / ولمْ تنْأَ عَنِّي وعَنْ ناظري
أرى وجهَها مُشرقاً بالجمالِ / يُطلُّ من الشَّاطئِ الآخرِ
هُوَ النَّهرُ يَفْصِلُ ما بيْننا / مُدلّاً بتَمساحهِ الغادرِ
توسَّدَ رَمْلَتَهُ شاخِصاً / إليَّ وما كُنتُ بالخائرِ
إليها على رغمِهِ فلأخُضْ / غواربَ تيارهِ الثائرِ
إذا ما تقاذفني مَوْجهُ / وسالَ على بَدني الضَّامِرِ
مَضَيْتُ كأني على مائهِ / أُنيلُ الثرى قدَميْ عابرِ
لقَدْ حَال يابسةً ماؤُهُ / بسلطانِ هذا الهوى الساحرِ
وصيَّرني سِحرُ هذا الهوى / وبي قوةُ القادرِ الظّافرِ
ألا إنَّ سُلطانَ هذه المياه / ليَعْنُو لسلطانها القاهرِ
دَعوها مُنىً واتركوهُ خيالا
دَعوها مُنىً واتركوهُ خيالا / فما يعرف الحقُّ إلا النِّضالا
بني الشرق ماذا وراءَ الوعودِ / نطِلُّ يميناً ونرنو شِمالا
وما حكمةُ الصَّمْتِ في عالمٍ / تضجُّ المطامعُ فيهِ اقتتالا
زمانكمو جَارحٌ لا يعِفُّ / رأيتُ الضعيفَ به لا يوالى
ويومكمو نُهْزَةُ العاملين / ومضيعةُ الخاملين الكسالى
خَطا العلمُ فيه خُطى صائدٍ / توقَّى المقادرُ منه الحِبالا
توغَّل في ملكوت الشعاع / وصاد الكهاربَ فيه اغتيالا
وحزَّبها فهيَ في بعضها / تُحطِّمُ بعضاً وتلقي نَكالا
رمى دولةَ الشمس في أوْجها / فخرَّت سماءً ودُكَّتْ جِبالا
مدائِنُ كانت وراءَ الظنونِ / ترى النَّجْم أقرب منها منالا
كأن سليمانَ أخلَى القماقمَ / أو فَكَّ عن جنهنَّ اعتقالا
وأوْما إِليها فطاروا بها / مَدى اللمح ثُمَّ تلاشتْ خيالا
ففيمَ وقوفكمو تنظرون / غُبارَ المجلِّي يَشُقُّ المجالا
وحتَّامَ نشكو سواد الحظوظ / ومن أفقنا كلُّ فجرٍ تلالا
ألسنا بني الشرقِ مِن يَعْرُبٍ / أصولاً سَمَتْ وجباهاً تعالى
أجئنا نُسائلُ عطفَ الحليف / ونرقبُ منه الندى والنوالا
نصرناهُ بالأمس في محْنةٍ / تَمادى الجبابرُ فيها صِيالا
سبحنا إليه على لُجّةٍ / من النار لم نُذْكِ منها ذُبالا
فكيف تَناسى حَواريَّهُ / غداةَ السَّلام وأغضى ومالا
أردّ الحقوق لأربابها / وأعفاهمو من طلابٍ سؤالا
ورفَّتْ على الأرض حُريَّةٌ / تألَّقُ نوراً وتَنْدى ظلالا
نَبيَّ الحقيقةِ كم قُلْتَ لي / بربك قُلْ لي وزِدْني مقالا
رأيتُكَ أندى وأحنى يداً / على أمم جَشَّمتكَ النزالا
فما لك تقسو على أمَّةٍ / سَقَتكَ الوداد مُصفّىً زُلالا
وعَدتَ الشعوب بحقِّ المصير / فما لك تقضي وتُملي ارتجالا
أتُغصَبُ من أهلها أرضهُم / وتُسْلمُ للغير نهباً حلالا
أليستْ لهم أرضُهم حُرَّةً / يسودون فيها الدهورَ الطوالا
فلسطينُ ما لي أرى جُرحَها / يسيلُ ويأبى الغداةَ اندمالا
تنازعُها حيرةُ الزَّاهدين / وتنهشها شَهَواتٌ تقَالى
أعزَّتْ أُساتَكَ أدواؤُها / هو الحقُّ ما كان داءً عُضالا
هو الحقُّ إنْ رمتمو عالماً / يشفُّ صفاءً ويزكو جمالا
أقيموا عليه مودَّاتكم / وإلَّا فقد رمتموهُ مُحالا
فيا للبريئةِ ماذا جَنَتْ / فتحملُ ما لا يُطاقُ احتمالا
هي الشرقُ بل هي من قلبِهِ / وشائجُ ماضٍ تأبَّى انفصالا
وتاريخ دنيا وأمجادُها / بنى رُكنَها خالدٌ ثم عالى
وعى الحقُّ للمصطفى دعوةً / لنُصرتها والعوادي توالى
تبارى لها المسلمونَ احتشاداً / وهبَّ النصارى إِليها احتفالا
من الشام والأرز والرافدين / وأقصى الجزيرة صحباً وآلا
وإِفريقيا ما لإِسلامها / يُسامُ عبوديةً واحتلالا
على تونس وبمرّاكشٍ / تروح السيوفُ وتغدو اختيالا
ألم تخْبُ في الأرض نارُ الحروبِ / ويلقَ الطغاةُ عليها وبالا
ألم يَتَغَيَّرْ بها الحاكمون / ألم تَتَبَدَّلْ من الحال حالا
هُمُ العربُ الصِّيدُ لا تحسبنَّ / بهم ضَعَةً أو ضنىً أو كلالا
نماهُمْ على البأس آباؤهم / قساورةً وسيوفاً صِقالا
بُناةُ الحضارةِ في المشرقينِ / ذُرىً يَخشَعُ الغرْبُ منها جلالا
ألا أيها الشامخُ المطمئن / رويداً فإِن الليالي حَبَالى
وما لكَ تنسى على الأمسِ يوماً / به كاد مُلكُك يلقى زوالا
فتقذفُ بالنار سوريةً / وترمي بلبنان حرباً سجالا
شبابَ أُميَّةَ طوبى لكم / أقمتم لكلِّ فِداءٍ مِثالا
دعتكم دمشقُ فما استنفرتْ / سوى عاصفٍ يتخطّى الجبالا
وفي ذِمَّةِ المجد من شيبكم / دمٌ فوق أروقة الحقِّ سالا
بني الشرق كونوا لأوطانكم / قُوىً تتحدَّى الهوى والضلالا
أقيموا صدوركمو للخطوبِ / فما شطَّ طالبُ حقٍّ وغالى
فزِعتُ لكم من وراءِ السقام / وقد جَلَّلَ الشَّيْبُ رأسي اشتعالا
وما إنْ بكيتُ الهوى والشبابَ / ولكنْ ذكرتُ العُلى والرجالا
إذا أقبلَ الليلُ يا حيرتي
إذا أقبلَ الليلُ يا حيرتي / تفقّدت في الشطّ حوريّتي
وعدت كئيبا إلى غرفتي / أراعي الكواكبَ من شرفتي
سوأشعل بالوجد سيجارتي / فلا البدرُ حبّبَ لي سهرتي
ولا البحر هدّأ من ثورتي / وحيدا تسامرني فكرتي
أأجلسُ يا بحرُ وحدي هنا / فأينَ من العين ذاك السنى
وأين من القلب تلك المنى / وأين مواعيد نادت بنا
وأين المساء الذي ضمّنا / لديك وألف ما بيننا
فيا ويح قلبيض ماذا جنى / ليحمل هذا الأسى والضنى
خلا من محيّاكِ هذا المصيف / وأقفر ذاك النديّ اللطيف
كأني به قد دهاه الخريف / فليس عليه خيالٌ مطيف
ذوي بشره فهو أفق كسيف / وبرّ حزينٌ وبحرٌ لهيف
وموجٌ له أنّة أو وجيف / وريحٌ تنوحُ وليلٌ شفيفُ
غدا يا حبيبة عند المساء / ستسأل عنا نجوم السماء
ألم يضربا موعدا للقاء / على صخرة بين رمل وماء
أجل يا حبيبة هذا الضياء / ذهبنا وعدنا بحكم القضاء
غريبين نضرب عبر الفضاء / كأننا على جفوة أو تنائي
مددت إليك يدَ الواثقِ / فعادت بلذع جوى حارقِ
وأبعدت يا رحمة الخالقِ / فمَ الحب عن نبعك الدافق
تعالي إلى روحيَ الوامق / تعالي إلى قلبيَ الخافق
تعالي على عهدكِ السابق / تعالي إلى إلفك العاشقِ
أَخِي جاوَزَ الظالمونَ المَدَى
أَخِي جاوَزَ الظالمونَ المَدَى / فحَقَّ الجِهَادُ وحَقَّ الفِدَا
أَنتركُهُم يَغصِبون العُروبَ / ةَ مَجدَ الأُبَوَّةِ والسُّؤدَدَا
وليسُوا بغيرِ صَليلِ السُّيوِف / يُجِيبُونَ صَوتاً لنا أو صدى
فَجَرِّد حُسَامَكَ من غِمدِهِ / فليس له بَعدُ أن يُغمَدا
أَخي أَيُّها العربيُّ الأَبيُّ / أَرَى اليوم مَوعِدَنا لا غَدَا
أَخي أَقبَلَ الشَّرقُ في أُمَّةٍ / تَرُدُّ الضَّلاَلَ وتُحيي الهُدَى
أخي إنَّ في القدس أختاً لنا / أعدَّ لها الذابحون المُدى
صبَرنا على غَدرهم قادِرينَ / وكُنَّا لهُم قَدَراً مُرصدا
طلَعنا عليهم طُلوعَ المَنُونِ / فطَارُوا هَبَاءً وصارُوا سُدَى
أَخي قُم إلى قِبلَةِ المشرِقَينِ / لنَحمِي الكنيسةَ والمسجِدا
يسوع الشهيد على أرضها / يعانق في جيشه أحمدا
أخي قم إليها نشقُّ الغمارَ / دماً قانياً ولظىً مرعدا
أخي ظمئت للقتال السيوف / فأورد شَباها الدمَ المُصعدا
أخي إن جرى في ثَرَاها دَمِي / وأَطبَقتُ فوق حَصَاها اليَدَا
ونادى الحِمام وجُنَّ الحُسام / وشبَّ الضِّرامُ بها موقَدا
ففتِّش على مُهجَةٍ حُرَّةٍ / أَبَت أَن يَمُرَّ عليها العِدا
وخُذ رايةَ الحقِّ من قبضةٍ / جلاها الوغى ونَماها الندى
وَقبِّل شهيداً على أَرضِها / دَعا باسمِهَا الله واستُشهِدَا
فَلسطِينُ يَفدِي حِمَاكِ الشّبابُ / فجَلَّ الفِدائِيُّ وَالمُفتَدَى
فَلَسطِينُ تَحمِيك منَّا الصُّدُورُ / فإِمَّا الحياةُ وإمَّا الرَّدَى