أَظَلَّ الوُجُودَ المساءُ الحزينُ
أَظَلَّ الوُجُودَ المساءُ الحزينُ / وفي كفِّهِ معْزَفٌ لا يُبينْ
وفي ثَغرهِ بَسَماتُ الشُّجونِ / وفي طَرفِهِ حَسَراتُ السِّنينْ
وفي صدرِهِ لوعةٌ لا تَقِرُّ / وفي قلبِهِ صَعَقَاتُ المَنونْ
وقبَّلَهُ قُبَلاً صامِتاتٍ كما / يَلْثُمُ الموتُ وَرْدَ الغُصُون
وأَفضى إليه بوحْيِ النُّجُومِ / وسِرِّ الظَّلامِ ولَحْنِ السُّكونْ
وأَوْحى إليه مَزامِيرَهُ / فغنَّتْ بها في الظَّلامِ الحُزُونْ
وعَلَّمَهُ كيفَ تأسى النُّفوسُ / ويَقضي يَؤوساً لديها الحَنينْ
وأَسْمَعَهُ صَرَخاتِ القُلُوبِ / وأَنْهَلَهُ مِنْ سُلافِ الشُّؤونْ
فأَغفى على صدرِهِ المطمَئِنِّ / وفي روحِهِ حُلُمٌ مُسْتَكينْ
قويٌّ غَلُوبٌ كسِحْرِ الجُفُونِ / شجيٌّ لَعوبٌ كزهرٍ حَزينْ
ضَحوكٌ وقد بلَّلتهُ الدُّموعُ / طَرُوبٌ وقد ظَلَّلَتْهُ الشُّجُونْ
تعانِقُهُ سَكَراتُ الهَوَى / وتحضُنُهُ شَهَقَاتُ الأَنينْ
يُشابِهُ روحَ الشَّبابِ الجميلِ / إِذا مَا تأَلَّقَ بَيْنَ الجُّفونْ
أَعادَ لنفسي خَيالاً جميلاً / لَقَدْ حَجَبَتْهُ صُرُوفُ السِّنينْ
فَطَافَتْ بها هَجَسَاتُ الأَسى / وعادَتْ لها خُطُواتُ الجُنُونْ
أَظَلَّ الفضاءَ جناحُ الغروبِ / فأَلقى عليهِ جمالاً كَئيبْ
وأَلبَسَهُ حُلَّةً من جَلالٍ شجيٍّ / قويٍّ جميلٍ غَلُوبْ
فنامَتْ على العُشْبِ تِلْكَ الزُّهُورُ / لمرأَى المساءِ الحزينِ الرَّهيبْ
وآبَتْ طيورُ الفضاءِ الجميلِ / لأوكارِها فرِحاتِ القُلُوبْ
وقدْ أَضمرَتْ بأَغاريدها / خيالَ السَّماءِ الفسيح الرَّحيبْ
وَوَلَّى رُعاةُ السَّوامِ إلى الحيِّ / يُزْجُونها في صُماتِ الغُروبْ
فتَثْغُو حنيناً لحِمْلانِها / وتقطفُ زهرَ المُروجِ الخَصيبْ
وهمْ يُنشِدونَ أَهازيجَهمْ بصوتٍ / بهيجٍ فَرُوحٍ طَرُوبْ
ويَسْتَمْنِحونَ مزاميرهم / فتمنحُهُمْ كُلَّ لحنٍ عجيبْ
تطيرُ بهِ نَسَماتُ الغروبِ / إلى الشَّفقِ المُسْتَطيرِ الخَلُوبْ
وتوحي لهم نَظَرَاتُ الصَّبايا / أَناشيدَ عهدِ الشَّبابِ الرَّطيبْ
وأَقْبَلَ كُلٌّ إلى أهلِهِ / سِوَى أملي المستطارِ الغَريبْ
فقد تاهَ في مَعْسَباتِ الحَيَاة / وسُدَّتْ عليه مناجي الدُّروبْ
وظلَّ شَريداً وحيداً بعيداً / يُغالبُ عُنْفَ الحَيَاةِ العَصيبْ
وقد كانَ مِنْ قبلُ ذا غبطةٍ / يُرفرفُ حولَ فؤادي الخَصيبْ
ولمَّا أَظلَّ المَساءُ السَّماءَ / وأسكَرَ بالحُزْنِ روحَ الوُجُودْ
وقفتُ وساءلتُهُ هل يَؤوبُ لقلبي / رَبيعُ الحَيَاةِ الشَّرودْ
فَتَخْفُقُ فيه أَغاني الورودِ / ويخضرُّ فِرْدَوْسُ نفسي الحَصيدْ
وتختالُ فيهِ عَروسُ الصَّباحِ / وتمرَحُ نَشْوَى بذاكَ النَّشيدْ
ويَرجعُ لي مِنْ عِراصِ الجحيمِ / سلامُ الفؤادِ الجميلُ العهيدْ
فقد كبَّلَتْهُ بَناتُ الظَّلامِ / وأَلقيْنَهُ في ظلامِ اللُّحودْ
فأَصْغى إلى لَهَفي المستمرِّ / وخاطَبَني مِنْ مكانٍ بعيدْ
تَعودُ ادِّكاراتُ ذاكَ الهَوَى / ولكنَّ سِحْرَ الهَوَى لا يَعودْ
فجَاشَتْ بنفس مآسي الحَيَاةِ / وسخطُ القُنُوطِ القويِّ المُريدْ
ولمَّا طَغَتْ عَصَفاتُ القُنُوط / فمادتْ بكلِّ مَكِينٍ عَتيدْ
أَهَبْتُ بقلبي الهلوعِ الجزوعِ / وكانَ مِنْ قبلُ جَلْداً شَديدْ
تجلَّدْ ولا تَسْتَكِنْ للَّيالي / فما فازَ إلاَّ الصَّبورُ الجَليدْ
ولا تَأْسَ مِنْ حادِثاتِ الدُّهُورِ / فخَلْفَ الدَّياجيرِ فَجْرٌ جَديدْ
ولولا غيومُ الشِّتاءِ الغِضابُ / لما نَضَّدَ الرَّوضُ تِلْكَ الوُرودْ
ولولا ظَلامُ الحَيَاةِ العَبُوسُ / لما نَسَجَ الصُّبْحُ تِلْكَ البُرُودْ