المجموع : 4
مَدى زَمَنٌ كانَ فيهِ الفَتى
مَدى زَمَنٌ كانَ فيهِ الفَتى / يُباهي بِما قَومُهُ أَثَّلوا
وَيَرفَعُهُ في عُيونِ الأَنامِ / وَيَخفِضُ مِن قَدرِهِ المَنزِلُ
فَلا تَقعُدَن عَن طِلابِ العُلى / وَتعذِل بِلادَكَ إِذ تَعذِلُ
فَإِنَّ الخَلائِقَ حَتّى عِداكِ / مَتى ما سَبَقتُهُمُ هَلَّلوا
فَزابِر بِجِدٍّ عَلى نَيلِها / فَلَيسَ يَخيبُ الَّذي يَعمَلُ
وَكُن رَجُلاً ناهِضاً يَنتَمي / إِلى نَفسِهِ عِندَما يُسأَلُ
فَلَستَ الثِيابَ الَّتي تَرتَدي / وَلَستَ الأَسامي الَّتي تَحمِلُ
وَلَستَ البِلادَ الَّتي أَنبَتَتكَ / وَلَكِنَّما أَنتَ ما تَفعَلُ
إِذا كُنتَ مِن وَطَنٍ خامِلٍ / وَفُزتَ فَأَنتَ الفَتى الأَفضَلُ
سَأَلتُ وَقَد مَرَّتِ الشَمأَلُ
سَأَلتُ وَقَد مَرَّتِ الشَمأَلُ / تَنوحُ وَآوِنَةً تُعْوِلُ
إِلى أَيما غايَةٍ تَركُضينَ / أَلا مُستَقَرٌّ أَلا مَوْئلُ
وَكَم تَعولينَ وَكَم تَصرُخينَ / كَعُصفورَةٍ راعَها الأَجدَلُ
لَقَد طَرَحَ الغُصنُ أَوراقَهُ / مِنَ الذُعرِ وَاِضطَرَبَ الجَدوَلُ
وَضَلَّ الطَريقَ إِلى عُشِّهِ / فَهامَ عَلى وَجهِهِ البِلبُلُ
وَغَطّى السُهى وَجهَهُ بِالغَمامِ / كَما يَنزَوي الخائِفُ الأَعزَلُ
وَكادَت تَحُزُّ لدَيكِ الهِضابُ / وَتَركُضُ قُدّامَكِ الأَجبُلُ
أَبِنتَ الفَضاءِ أَضاقَ الفَضاءُ / فَأَنتِ إِلى غَيرِهِ أَميَلُ
أَغاظَكِ أَنَّ الدُجى لا يَزولُ / وَأَنَّ الكَواكِبَ لا تَأفُلُ
أَتَبكينَ آمالُكِ الضائِعاتِ / هَلِ الريحُ مِثلَ الوَرى تَأمُلُ
أَيَعدو وَراءَكِ جَيشٌ كَثيفٍ / أَمِثلَكِ يُرهِبُهُ الجَحفَلُ
وَما فيكِ عُضوٌ وَلا مِفصَلٌ / فَتَقطَعُ أَوصالُكِ الأَنصُلُ
فَجاوَبَني هاتِفٌ في الظَلامِ / غَلِطتَ فَما هَذِهِ الشَمأَلُ
وَلَكِنَّها أَنفُسُ الغابِرينَ / تَجوسُ الدِيارَ وَلا تَنزُلُ
فَقُلتُ أَيَنهَضُ مَن في القُبورِ / وَفَوقَهُمُ التُربُ وَالجَندَلُ
أَجابَ الصَدى ضاحِكاً ساخِراً / إِلى كَم تَحارُ وَكَم تَسأَلُ
وَتَرفَع عَينَيكَ نَحوَ السَماءِ / وَلَيسَت تُبالي وَلا تَحفِلُ
مِنَ البَحرِ تَصعَدُ هَذي الغُيوثُ / وَتَحطُلُ في البَحرِ إِذ تَهطُلُ
وَفي الجَوِّ إِن خَفيَت نَسمَةٌ / وَفي الأَرضِ إِن نَضَبَ المَنهَلُ
لَقَد كانَ في أَمسِ ما قَبلِهِ / وَفي غَدِهِ يَومُكَ المُقبِلُ
عَجِبتُ لِباكٍ عَلى أَوَّلٍ / وَفي الآخِرِ النائِحُ الأَوَّلُ
هُم في الشَرابِ الَّذي نَحتَسي / وَهُم في الطَعامِ الَّذي نَأكُل
وَهُم في الهَواءِ الَّذي حَولَنا / وَفي ما نَقولُ وَما نَفعَلُ
فَمَن حَسِبَ دُنيا وَأُخرى / فَذا رَجُلٌ عَقلُهُ أَحوَلُ
سألت: وقد مرّت الشمأل
سألت: وقد مرّت الشمأل / تنوح وآونة تعول
إلى أيما غاية تركضين ؟ / ألا مستقر ؟ ألا موئل؟
وكم تعولين وكم تصرخين / كعصفورة راعها الأجدل؟
لقد طرح الغصن أوراقه / من الذعر واضطرب الجدول
وضلّ الطريق ألى عشه / فهام على وجهه البلبل
وغطى السّهى وجهه بالغمام / كما يتزوى الخائف الأعزل
وكادت تخرّ الهضاب / وتركض قدّامك الأجبل
أبنت الفضاء أضاق الفضاء / فأنت ألى غيره أميل؟
أغاظك أنّ الدجى لا يزول / وأن الكواكب لا تأقل؟
أتبكين آمالك الضائعات ؟ / هل الريح مثل الورى تأمل؟
أيعدو وراءك جيش كثيف؟ / أمثلك يرهبه الجحفل؟
وما فيك عضو ولا مفصل / فتقطع أوصلك الأنصل
فجاوبني عاتف في الظلام: / غلطت فما هذه الشمأل
ولكنها أنفس الغابرين / تجوس الديار ولا تنزل
فقلت: أينهض من القبور / وفوقهم الترب والجندل؟
أجاب الصدى ضاحكا ساخرا / إلى كم تحار وكم تسال؟
وترفع عينيك نحو السماء / وليست تبالي ولا تحفل؟
من البحر تصعدي هذي الغيوث / وتهطل في البحر إذ تهطل
وفي الجوّ إن خفيت نسمة / وفي الأرض إن نضب المنهل
لقد كان في أمس ما قبله / وفي غده يومك المقبل
عجبت لباك على أوّل / وفي الآخر النائح الأول
هم في الشراب الذي نحستي / وهم في الطعام الذي نأكل
وهم في الهواء الذي حولنا / وفي ما نقول وما نفعل
فمن حسب العيش دنيا وأخرى / فذا رجل عقله أحول
إذا سحقت أرضنا القنبلة
إذا سحقت أرضنا القنبلة / كما يسحق الحجر الخردله
وقوّض مفعولها الراسيات / فصارت غبارا له جلجه
ودبّ الفنا في ذوات الجناح / وغلغل في النّبت فاستاصله
وفي الماشيات وفي الزاحفات / عليها إلى آخر السلسه
فلا زهر يأرج في روضة / ولا ديك يصدح في مزبله
وضاع الزمان ومقياسه / وأشبه آخره أوله
ولم يبق حيّ على سطحها / وأصبح عزريل لا شغل له
فذلك خطب يهول النفوس / تصوره قبل أن تحمله
ولكنّ أمرا يعزي الجميع / إذا سحقت أرضنا القنبلة
فلن يدع الموت حيا / يلوم سواه على هذه المقتله!