المجموع : 3
طوى الموتُ ربَّ القوافي الغُرَرْ
طوى الموتُ ربَّ القوافي الغُرَرْ / وأصبحَ شوقي رهينَ الحُفَرْ
وأُلقِيَ ذاكَ التُّراثُ العظيمُ / لِثقلِ التّراب وضغطِ الحَجر
وجئنا نُعزّي به الحاضرين / كأنْ لم يكنْ أمسِ فيمن حضر
ولم يُنتجِ السُوَرَ الخالداتِ / من المُلحقاتِ بأمِّ السُّوَر
من اللاَّءِ يهتزُّ منها النديُّ / ويُطربُ إيقاعُهُنَّ السَّمر
برغمِ الشُعورِ يشُلُّ البِلى / لسانَكَ أو يعتريكَ الكدَر
وأن يقطعَ الموتُ ذاك النشيدَ / وأن يأكلَ الدودُ ذاكَ الوتَر
وأنَّا نعودُ بنفضِ الأكفِّ / عنكَ وأنتَ العظيمُ الخَطَر
فيا لكِ من عِبرةٍ يُستفزُّ / منها على كثرةٍ في العِبَر !
زمانٌ وفيٌّ بميعادهِ / فظُلماً يقالُ ليالٍ غُدُر
كما يُقْرعُ " الجَرْسُ " للناشئينَ / تأتي إلى الناس منه النُّذُر
ولكن يُريدُ الفتى أنْ يدوم / ولو دامَ سادَ عليه الضجر
ويأبى التنازعُ طولَ البقاء / وتأباهُ بُقْيا نفوسٍ أُخر
وقد يُهلكُ الناسَ فردٌ يعيشُ / حيناً فكيف إذا ما استمر!
فلّلهِ من شارعٍ لم يَعُقْهُ / حكمُ الضرورةِ أو ما ندَر
سواءٌ صليبُ الصفا والزجاجِ / كسراً بكفِّ القضا والقدَر
وبالدهرِ في الناسِ مثلُ الجُنون / فليس يُبالي بمنْ ذا عثر
وحتمٌ على الخفرِ الآنسات / والوحش حشرجةُ المْحْتَضَر
تجيءُ إلى الصدرِ تحتَ الحرير / كجيئتها الصدرَ تحتَ الوَبر
وكلُّ الفوارقِ بينَ اللغاتِ / وبينَ الطباعِ وبينَ الأْسَر
سيُوقِفها للردى زائرٌ / ثقيلُ الورودِ بغيضُ الصَّدر
فيا صُفرةَ الموتِ إنَّ الوجوهَ / تَساوى بها صَلَفٌ أو خَفَر
تحَيْرتُ في عِشةِ الشاعرين / أتَحْلو خُلاصتُها أم تَمَرّ
فقد جارَ " شوقي " على نفسهِ / وقد يقتُلُ المرءَ جَورُ الفِكَر
على أنَّه لم يعِشْ خالداً / خلودَ الجديدَينِ لو لم يَجُر
تتبَّعْتُ آثارَ " شوقي " وقد / وقفتمْ على من يقصُّ الأثر
لقد فاتَ بالسبقِ كلَّ الجيادِ / في الشعر هذا الجوادُ الأغرّ
ترسَّلَ لم يَرْتَبِكْ خَطوُهُ / عناءً ولا نال منه البَهَر
" شَكِسْبيرُ " أُمَّتِهِ لم يُصِبْهُ / بالعِيِّ داءٌ ولا بالحَصَر
وإن أصدُقَنَّ " فشوفي " لهُ / عيونٌ من الشعرِ فيها حَوَر
تعرَّضه من طلاءِ البيانِ / ومن زِبْرِج اللفظ دربٌ خطِر
ولو خافَ مثلَ سِواه العُبُور / لخابَ وزلَّ ولكنْ عَبَر
تمشَّى لمصطلحاتِ البديع / مُندسَّةً في البيانِ النَّخِر
فأفرغها من قوافيهِ في / قوالبَ مرصوصةٍ كالزُّبُر
فجاءَتْ كأنْ تنَلْها يدٌ / خلافَ يدِ الماهرِ المقتدِر
يُذلِّلُ من شارداتِ القريضِ / ما لو سِواهُ ابتغاهُ لَفَر
ويستنزلُ الشِعَر عذبَ الرُّواءِ / كصوبِ الغمامةِ إذْ ينحدِر
يُمَيِّزهُ عن سِواه الذَّكاءُ / وطولُ الأناةِ وبُعدُ النظَّر
وتبدو الرجولةُ في شِعره / منزَّهةً من صعىً أو صَعر
وفي كِبَرِ النَّفْس مندوحةٌ / عن الكبرِ شأنُ الضعاف الكبر
ولم يتخبَّثْ بهُجْر الكلام / ولم يتصيَّدْ بماءٍ عكر
وديوانُ " شوقي " بما فيه من / صنوفِ البداعةِ روضٌ نضر
فبيتٌ يكادُ من الارِتياحِ / واللطفِ من رِقَّةٍ يُعتْصَر
وبيتُ يكادً من الاِندفاعِ / يقدحُ من جانبيهِ الشَّررَ
وبيتٌ كأنَّ " رُفائيلَ " قد / كساهُ بكفَّيْهِ إحدى الصُوَر
تُحِسُّ الطبيعةَ في طيَّةِ / تَكشَّفُ عن حُسنها المستتر
كأنَّكَ تسمعُ وقعَ النَّدى / بتصويرهِ أو حفيفَ الشَّجر
وبيتٌ ترى " مصرَ " أسيانةً / تُناغي به مجدَها المندثر
ففي مصرعٍ يومُها المبتلى / وفي مرعٍ أمسُها المزدهر
و"فرعونُ " إذ ينطوي مُلْكُهُ / و " فرعونُ " في القبرِ إذ يَنْتَشِر
وديوانُ " شوقي " يُجِدُّ الشبابَ / لتأريخِ أُمتَّهِ المُختَصَر
ولولا المغالاةُ قلتُ : انطوى / بمنعاهُ عُنوانُها المُفَتخَر
فيا نجلَ مصرَ وفَتْ برَّةً / بذكراكَ مصرُ وأنتَ الأبَّر
مئاتُ الصحائفِ مسودةٌ / مُجلَّلةٌ بمئاتِ الصُور
ظهرتَ بها وجناحُ البيانِ / مهيضٌ وأسلوبُه مُحتقر
بقايا من الكَلِمِ الباقياتِ / تناقَلَها نفرٌ عن نفر
ولفظٌ هجينٌ ثوَتْ تحتهُ / معانٍ لِقلَّتها تًحتكر
وحسبُكَ من حالةٍ رثَّةٍ / بفرطِ الجمودِ لها يعتذر!
فكنتَ وعِلَّتها كالطبيبِ / يُنْعش جسماً عراهُ الخَوَر
تُعَلِّمُها أنَّ للعبقريِّ / حكْماُ مُطاعاً إذا ما أمر
وأنَّ القوافي عِبِدَّى له / يُفَرِّقُ أشتاتَها أو يَذر
يصوغُ المعاني كما يشتهي / ويلعبُ باللفظِ لعبَ الأكر
" عُكاظُ " من الشعر تحتلّهُ / ويرعاهُ " حافظُ " حتى ازدهر
تلوذُ الوفودً بساحَيْكمُا / وتأتيهِ من كلِّ فجٍّ زُمر
تُبَجَّلُ فيه مزايا الشُعور / على حينَ في غيرهِ تًحتَقَر
وتًنسى الضغائنُ في ساحةٍ / بها كلُّ مكرُمةٍ تُدَّكر
وأنت كصمصامةٍ مُنتضىً / و حافظُ كالأبلقِ المشتَهَر
تمشَّى بإثْركَ في شِعره / وماتَ وأعقبتَهُ بالأثر
بقدْرِ اختلافِكما في النُبوغِ / كانَ اختلافُكما في العُمُر
فلا تَبعُدا إن شأنَ الزمانِ / أنْ يُعقِبَ الصفوُ منه الكَدَر
عزاءُ الكِنانة أنَّ القريضَ / تأمَّرَ دهراً بها ثمَّ فَر
بنجمينِ كانت تباهي السما / وما في السما من نجومٍ كُثُر
بشوقي وحافظَ كانت متى / تُنازلْ بمعركةٍ تَنتصِر
فها هي قد عَريتْ منهما / وها هي من وحشةٍ تَقْشَعِر
فلا تحسبنْ أنَّ طولَ البكا / يذودُ الأسى او نِثارَ الزَهر
خسرناكَ كنزاً إلى مثلِهِ / إذا أحْوَجَتْ أزمةٌ يفتقر
وما كنتَ من زمنٍ واحدٍ / ولكنْ نِتاجَ قُرونٍ عُقُر
مضى بالعروبةِ دهرٌ ولمْ / يَلُحْ ألمعيٌّ ومرت عُصُر
وإن النُبوغَ على ما يُحيطُ / بعيشِ النوابغِ أمرٌ عَسِر
يثيرُ اهتماماً أديبٌ يجد / كما قيلَ نجمٌ جديدٌ ظهر
قرونٌ مضتْ لم يسُدِّ العراقُ / مِن المتنبي مكاناً شَغَر
ولم تتبدلْ سماءُ البلادِ / ولا حالَ منها الثَّرى والنَّهر
ولم يتغيرْ عَروضُ الخليل / ولا العُربُ قد بُدلّوا بالتَتر
ولكِنَّما تُنْتُجُ النابهينَ / من الشاعرينِ دواعٍ أُخَر
فإنْ فُقدَتْ لم يشعَّ الأريبُ / إلا ليخبو كلمحِ البَصَر
هجرتَ الديارَ فقلتُ العفا
هجرتَ الديارَ فقلتُ العفا / لربع السُّرور وزُوارِهِ
وبتُّ بليل لفرط الأسى / كَلَيل الضجيع على ناره
وظل يحن فؤاد المشوق / لذكر الحبيب وأخباره
تفيض دُموعي بتَذكاره / زماناً تَقَضّى بأوطاره
ولوبِنتَ – لا بنتَ – عن ذا المحيط / لضاق عليَّ بأقطاره
أطلت المُقام ألا عودةٌ / تحيي " الغريَ " بأنواره
لعمري أساء اليك الصنيع / زمان يُشاب بأكداره
كذا الدهرُ كم حاز من خامل / وحرٍ تصدى لأفكاره
علوت على موجه بعدما / تحداك عارم تياره
تنُم بطيب شذاك البلاد / كما الروضُ فاح بأزهاره
بعيشك شاطر فؤادي الهموم / فقد ضاق صدري بأسراره
فمثلك يُنهِضُ قطرَ العراق / ويَجْمَعُ أشتات أحراره
فلا تحرِمِ الشرقَ من مقولٍ / تروع عداه ببتاره
دُعُوا ودُعيتَ لنظم القريض / فكنت َ السَّبوقَ بمضماره
فهل أنت تغنَمها فُرصةٍ / فتُنهِضَ قطركَ من عاره
حذِرتُ وماذا يُفيد الحذرْ
حذِرتُ وماذا يُفيد الحذرْ / وفوقَ يميني يمينُ القَدَرْ
ومما يهوِّن وقَع الحِمام / أن ليس للمرء منه مفر
يُوَقِّعُ ما شاء عُودُ الزمان / ويبكي ويضحك منه الوتر
" فيومٌ علنا ويوم لنا / ويوم نُساء ويوم نُسر "
تعشقتُ من " عمرٍ " قوَلهُ / وكم حكمة في معاني عمر
أرى دهرنا مسرحاً كلُّنا / نروح ونغدو به كالصُّور
اقول وقد قيل جاء البريد / ينث اليك بهذا الخبر
عجِيب له كيف لم يوِهِه / فقالوا صدقتَ لهذا عثر
عَرَفت الكتاب بمضمونه / يُحَدّث : أن اليراع انكسر
خليليَّ ما انتما صانعان / بدمعٍ ترقرق ثم انحدر
تحير بين النُّهى والهوى / فهذا نَهاهُ وهذا أمر
هلُّما ننوح على دوحةٍ / ذوى الأصل منها وجفَّ الثمر
ولا ترغبا في اعتذار الزمان / متى زلَّ دهرُكُما فاعتذر
وهِّونَ من حُرقتي أن أرى / دَمَ الناس عند الليالي هدر
حَلَفْتُ لقد كنتَ عفَّ اللسان / وعف اليدين وعف النظر
جَنانُك لا تعتليه الشكوك / ونفسُك لا يزدهيها البَطَر
شباب مضى كنَتَ برّاً به / وشيخوخةٌ كنت فيها أبر
فلم تدر في صِغَر ما الصَّغار / ولم تدر ما الكِبْرُ عند الكِبَر
ونفسُك للنفع مخلوقة / فلو رُمت لم تدر كيف الضرر
لقد جلَّ خطبك عن أن يقاس / بما خلَّفته خُطوب أُخر
فتلك يُلامُ بها جازع / وهذا يلام به من صبر
بكيتُكَ للعلم مَحَّصْتَهُ / وابرزته نافعاً مختصر
كتاب ابيك ومن ذا يعيد / عليه وقد رحت عنه النظر
وللنفس تزهَد في عاجل / وترغب في الآجل المدخر
لفقد صيامك يبكي النهار / ويبكي لفقد القيام السحر
بكيتك للبيت عالي العماد / فخاراً نُعيِت اليه فَخَر
تعطَّل من حَلْيهِ جيدهُ / وعِقدُ الجواهر منه انتثر
رأيت من الناس ما دونه / يُفَلُ الحديد يُفَتُ الحجر
نُسيتَ لأنكَ رُمت الآله / وغيرُك رام الورى فاشتَهر
وعافتك دنياكَ إذ عِفتها / وما بك لو رُمتها من قِصَر
وأعظمُ ما جرّ خطب الزمان / ملائكةٌ تُبلى بالبشر
ثمَانينَ في الله قضيّيْتَها / ستُظْهر من فاز ممن خسر
على قدر ما اختلف الواردون / يكونَ اختلافهُمُ في الصَّدَر
ولو نَفَعتْ عِبرةٌ في الورى / لكانت حياتك أمَّ العبر
لقد كلمتك خطوب دهت / لو الصخرُ كابدهنَّ انفطر
شبابان كنا بلطفيهما / نباهي الخميلة أُمَّ الزهر
فقدتَهما لم يكن بين ذا / وذلك إلا كلمح البصر
أتعلم إذ شيعت نعشَه / لمن ذا تُشيِّع هذي الزمر
وهل عَرَف الموت إذ غاله / بما أيِّ عِلْقٍ نفيس ظفِر
ولو كنتَ تُرثى كما ينبغي / لكنت الجدير بأم السُّور
ولكن على قدْر ما أستطيعُ / أتيت أقابل طوداً بِذر
وما أنا إلا مُسئٌ أقر / وما أنت الا كريمٌ عذر
هو الحزن نَمَّ عليه البيان / أو الجمرُ نمَّ عليه الشرر
رأيت الهموم نَتاجَ الشعور / فلا يْفَرَحنَّ امرؤٌ عن شعر
ودونَ القصيد الذي تقرأون / اذا جاشت انفس وخزُ الابر
وما المرءُ إلا بآثاره / وذكرك بالخير نعم الأثر
أبا حسنٍ يا جواد النَّدى / اذا المَحْلُ عمَّ وصِنوَّ المطر
ويا نابغاً حينَ جَفَّ النُّبوغ / وضلت عن الفكر أهلُ الفكر
يَهشُّ لك السمع قبل العِيان / وتشتاقك البدو قبل الحضر
فلا تجزَعنْ نِعم عُقبى الفتى / تَحَّملُ ما لم يُطِقْ فاصْطَبر