نَعاكَ النُعاةُ وَحُمَّ القَدَر
نَعاكَ النُعاةُ وَحُمَّ القَدَر / وَلَم يُغنِ عَنّا وَعَنكَ الحَذَر
طَوَت ذَبحَةُ الصَدرِ صَدرَ النَدِيِّ / فَلَم تَطوِ إِلّا سِجِلَّ العِبَر
فَأَمسَيتَ تُذكَرُ في الغابِرينَ / وَإِن قَلَّ مِثلُكَ فيمَن غَبَر
إِذا ذُكِرَت سِيَرُ النابِهينَ / فَسيرَةُ صَبري تَجُبُّ السِيَر
لَقَد كُنتَ بَرّاً بِظِلِّ الشَبابِ / فَلَمّا تَقَلَّصَ كُنتَ الأَبَرّ
فَلَم تَستَبِق نَزوَةً في الصِبا / وَلَم تَستَبِح هَفوَةً في الكِبَر
أُهَنّي الثَرى أَم أُعَزّي الوَرى / لَقَد فازَ هَذا وَهَذا خَسِر
أَأَوَّلَ يَومٍ لِعَهدِ الرَبيعِ / تَجِفُّ الرِياضُ وَيَذوي الزَهَر
وَيَذبُلُ زَهرُ القَريضِ الثَرِيِّ / وَيُقفِرُ رَوضَ القَوافي الغُرَر
لِيَهدَأ عُمانُ فَغَوّاصُهُ / أُصيبَ وَأَمسى رَهينَ الحُفَر
فَقَد كانَ يَعتادُهُ دائِباً / بَكوراً رَؤوحاً لِنَهبِ الدُرَر
يَقولُ فَيُرخِصُ دُرَّ النُحورِ / وَيُغلي جُمانَ بَناتِ الفِكَرِ
يَسوقُ القِصارَ فَيَأبى العِثارِ / وَكَم مِن مُطيلٍ مُمِلٍّ عَثَر
قِصارٌ وَحَسبُ النُهى أَنَّها / لَها مُعجِزاتٌ قِصارِ السُوَر
رُحِمتَ فَقَد كُنتَ حُلوَ اللِسانِ / جَلِيَّ البَيانِ صَدوقَ الخَبَر
قَليلَ التَعَجُّبِ جَمَّ الأَناةِ / حَكيمَ الوُرودِ حَكيمَ الصَدَر
شَمائِلُكَ الغُرُّ هُنَّ الرِياضُ / رَوى عَن شَذاها نَسيمُ السَحَر
لَها مِثلُ رَوحِ الدُعاءِ اِستُجيبَ / فَعافى وَآوى وَأَغنى وَسَرّ
إِذا ما وَرَدتَ لَها مَنهَلاً / وَرَدتَ نَميراً لَذيذَ الخَصَر
وَفِكرُكَ في خِصبِهِ ثَروَةٌ / لِفِكرِ الأَديبِ إِذا ما اِفتَقَر
وَشِعرُكَ كَالماءِ في صَفوِهِ / عَلى صَفحَتَيهِ تَراءى الصُوَر
عُيونُ القَصائِدِ مِثلُ العُيونِ / وَشِعرُكَ فيهِنَّ مِثلُ الحَوَر
وَكَم لَكَ شَكوى هَوىً أَو أَسىً / لَها نَفَثاتٌ تُذيبُ الحَجَر
هَتَفتَ بِها مَرَّةً في الهَجيرِ / فَكادَ يَدِبُّ إِلَيكَ الشَجَر
وَكَم كُنتَ تُشعِلُ فَحمَ الدُجى / بِأَنفاسِ صَبٍّ طَويلِ السَهَر
فَيا وَيحَ قَلبِكَ ماذا أَلَح / حَ عَلَيهِ مِنَ الداءِ حَتّى اِنفَطَر
أَيَخفِقُ تَحتَ الدُجى وَحدَهُ / لِذِكرى أَليفٍ سَلا أَو هَجَر
إِذا قيلَ صَبري ذَكَرتُ الوَليدَ / وَمَرَّت بِنَفسِيَ ذِكرى عُمَر
يَزينُ تَواضُعُهُ نَفسَهُ / كَما زانَ حُسنَ المِلاحِ الخَفَر
زَكِيُّ المَشاعِرِ عَفُّ الهَوى / شَهِيُّ الأَحاديثِ حُلوُ السَمَر
لَقَد كُنتُ أَغشاهُ في دارِهِ / وَناديهِ فيها زَها وَاِزدَهَر
وَأَعرِضُ شِعري عَلى مَسمَعٍ / لَطيفٍ يُحِسُّ نُبُوَّ الوَتَر
عَلى سَمعِ باقِعَةٍ حاضِرٍ / يَميزُ القَديمَ مِنَ المُبتَكَر
فَيَصقُلُ لَفظِيَ صَقلَ الجُمانِ / وَيَكسوهُ رِقَّةَ أَهلِ الحَضَر
يُرَقرِقُ فيهِ عَبيرَ الجِنانِ / فَتَستافُ مِنهُ النُهى وَالفِكَر
كَذَلِكَ كانَ عَلَيهِ السَلامُ / إِماماً لِكُلِّ أَديبٍ شَعَر
فَكُنّا الجَداوِلَ نُروي الظِماءَ / ظِماءَ العُقولِ وَكانَ النَهَر
زَهِدتَ عَلى شُهرَةٍ طَبَّقَت / وَجاهٍ أَظَلَّ وَفَضلٍ بَهَر
خَلَعتَ الشَبابَ فَلَم تَبكِهِ / وَساءَكَ أَنَّكَ لَم تُختَضَر
وَقَد ذُقتَ طَعمَ الرَدى عِندَما / أُصيبَ قِطارُكَ يَومَ السَفَر
فَأَقسَمتَ أَنَّكَ أَلفَيتَهُ / لَذيذَ المَذاقَةِ إِذ تُحتَضَر
تَمَنَّيتَ أَن لَم تَعُد لِلحَياةِ / وَلَكِن أَباها عَلَيكَ القَدَر
وَكَم ساعَةٍ بَينَ ساعِ الحَياةِ / سَقَتكَ المُرارَ بِكَأسِ الضَجَر
فَرُحتَ إِلى أُختِها شاكِياً / أَذاتَكَ مِنها فَكانَت أَمَر
فَفَتَّشتَ أَثناءَها جاهِداً / بِعَينَي بَصيرٍ بَعيدِ النَظَر
فَلَم تَرَ فيها عَلى طولِها / هُنَيهَةَ صَفوٍ خَلَت مِن كَدَر
وَما زِلتَ تَشكو إِلى أَن أَتَت / كَما تَشتَهي ساعَةٌ لَم تَذَر
فَلا صَدَّ تَخشاهُ بَعدَ الوِصالِ / وَلا ضَعفَ تَشكوهُ بَعدَ الأَشَر
أُريحَ فُؤادُكَ مِمّا ضَناهُ / وَصَدرُكَ مِمّا عَلَيهِ اِنكَدَر
تَمَنَّيتَها خُطوَةً لِلمَماتِ / تُفَرِّجُ عَنكَ كُروبَ الغِيَر
وَها قَد خَطاها وَنِلتَ المُنى / فَهَل في المَماتِ بُلوغُ الوَطَر
صَدَقتَ فَفي المَوتِ نَصرُ الأَبِيِّ / عَلى الدَهرِ إِن هُوَ يَوماً غَدَر
مَلِلتَ الثَواءَ بِدارِ الزَوالِ / فَماذا رَأَيتَ بِدارِ المَقَرّ
أَتَحتَ التُرابِ يُضامُ الكَريمُ / وَيَشقى الحَليمُ وَيَخفى القَمَر
وَيُهضَمُ حَقُّ الأَديبِ الأَريبِ / وَيُطمَسُ فَضلُ النَبيهِ الأَغَرّ
أَتَحتَ التُرابِ تُساقُ الشُعوبُ / بِسَوطِ العُبودَةِ سَوقَ البَقَر
وَيُعقَدُ مُؤتَمَرٌ لِلسَلامِ / فَنَخرُجُ مِنهُ إِلى مُؤتَمَر
فَإِن كانَ ما عِندَنا عِندَكُم / فَلَيسَ لَنا مِن شَقاءٍ مَفَرّ
خِضَمُّ الحَياةِ بَعيدُ النَجاةِ / فَطوبى لِراكِبِهِ إِن عَبَر
فَعُد سالِماً غانِماً لِلتُرابِ / كَرَأيِكَ في المَوتِ وَاِهنَأ وَقَرّ