راوَدَني النَومُ وَما بَرِحا
راوَدَني النَومُ وَما بَرِحا / حَتّى طَأطَأتُ لَهُ راسي
أَطبَقتُ جُفونِيَ فَاِنفَتَحا / بابُ الرُؤيا وَالوَسواسِ
أَبصَرتُ كَأَنِّيَ في مَوضِع / ما فيهِ غَيرُ الأَرواحِ
فَوَقفتُ بَعيداً أَتَطَلَّع / فَلَمَحتُ ثَلاثَةَ أَشباحِ
وَلَدٌ يَتهادى في العَشرِ / وَفَتىً في بُردِ العِشرينا
وَالثالِثُ شَيخٌ في طَمرِ / ذو جِسمٍ يَحكي العُرجونا
وَإِذا بِالأَوَّلِ يَقتَرِبُ / مِنّي كَالطائِرِ في الوَثبِ
فَشَعَرتُ كَأَنِّيَ أَضطَرِبُ / وَكَأَنَّ خُطاهُ عَلى قَلبي
يا نَفسي ما هَذا الفَفَقُ / لا رُمحٌ مَعَهُ وَلا نَبلُ
وَلِماذا الخِشيَةُ وَالقَلَقُ / وَالخَلقُ أَحَبَّهُمُ الطِفلُ
وَإِذا بِالطِفلِ يُخاطِبُني / بِكَلامٍ لا يَتَكَلَّفُهُ
وَيُمازِحُني وَيُداعِبُني / فَكَأَنِّيَ شَخصٌ يَعرُفُهُ
ما بالَكَ مُنكَمِشاً كَمَدا / قُم نَلعَب في فَيءِ الشَجَرِ
وَنَهُزُّ الأَغصُنَ وَالعُمُدا / وَنَذودُ عَنِ الثَمَرِ
أَو نَصنَعُ خَيلاً مِن قَصَبٍ / أَو طَيّاراتٍ مِن وَرَقِ
وَمُدَىً وَسُيوفاً مِن خَشَبِ / وَنَجولُ وَنَركُضُ في الطُرُقِ
أَو نَأتي بِالفَحمِ القاتِم / وَنُصَوِّرُ فَوقَ الأَبوابِ
تَنّيناً في بَحرٍ عائِم / أَو لَيثاً يَخطُرُ في غابِ
أَو كَلباً يَعدو أَو حَمَلا / يَرعى أَو نَهراً أَو هَضَبَه
أَو ديكاً يَنقُدُ أَو رَجُلاً / يَمشي أَو مَهراً أَو عَرَبه
أَو نَجبُلُ ماءً وَتُرابا / وَنُشيدُ بُيوتاً وَقِبابا
أَو نَجعَلُ مِنهُ أَنصابا / أَو نَصنَعُ حَلوى وَكَبابا
مَثَّلتُ الطِفلَ وَدُنياهُ / فَأَحَبَّت نَفسي دُنياهُ
وَدِدتُ لَو أَنِّيَ إِيّاهُ / بَل خِلتُ كَأَنِّيَ إِيّاهُ
فَضَحِكتُ وَلَجَّ بِيَ الضِحكُ / حَتّى اِستَلقَيتُ عَلى ظَهري
فَاِستَيقَظَ في الوَلَدِ الشَكُّ / فَتَوَقَّفَ يَعجَبُ مِن أَمري
وَيَقولُ أَياهَذا قَدكا / فَوَحَقِّكَ ذا الطَيشُ الأَكبَر
ما تَضحَكُ مِنّي بَل مِنكا / إِيّاكَ أَنا لَو تَتَذَكَّر
وَتَوارى عَنّي وَاِحتَجَبا / كَالمَوجَةِ في عَرضِ النَهرِ
فَتَضايَقَ قَلبي وَاِضطَرَبا / وَاِرتَجَّت روحي في صَدري
وَإِذا الشَبَحُ الثاني أَقبَل / يَتَرَنَّحُ مِثلَ المَخمورِ
اللَيلُ عَلى الدُنيا مُسدَل / وَعَلَيهِ وِشاحٌ مِن نورِ
مَعصوبُ المُقلَةِ وَالدَربُ / وَعرٌ وَكَثيرُ الآفاتِ
كَسَفينٍ لَيسَ لَها رَبُّ / تَجري في بَحرِ الظُلُماتِ
ماذا في الأُفقِ فَقَد وَقَفا / يَتَأَمَّلُ فيهِ وَيَبتَسِمُ
هَل لاحَ لَهُ وَجهٌ عَرَفا / أَم هَزَّ جَوارِحَهُ نَغَمُ
أَم أَبصَرَ أَلِهَةَ الحُبِّ / تَدعوهُ إِلَيها إِماءَ
لا شَيءٌ في الأُفُقِ الرَحبِ / وَكَأَنَّ هُنالِكَ أَشياءَ
الطَيرُ تُغَنّي لِلزَهرِ / وَيَظُنُّ الطَيرَ تُساجِلُهُ
وَالزَهرُ تُرَحِّبُ بِالفَجرِ / وَيَظُنُّ الزَهرَ تُغازِلُهُ
وَنَظَرتُ إِلَيهِ في البَرِّ / يَتَمَنّى لَو خاضَ البَحرا
وَنَظَرتُ إِلَيهِ في البَحرِ / يَتَمَنّى لَو بَلَغَ البَرّا
يَتَأَفَّفُ مِن بُطءِ الدَهرِ / وَالدَهرُ يَسيرُ بِهِ وَثَبا
وَيَنامُ لِيَحلَمَ بِالفَجرِ / وَالفَجرُ يُضيءُ لَهُ الدَربا
وَيُسائِلُ عَن كَأسِ الخَمرِ / وَيُسائِلُهُ عَنها الناسُ
في اللَيلِ وَفي وَضحِ الفَجرِ / وَالخَمرَةُ فيهِ وَالكَأسُ
فَصَبَرتُ وَلازَمتُ الصَمتا / حَتّى دانى الظِلَّ الظِلُّ
فَأَشَرتُ إِلَيهِ مَن أَنتا / فَأَجابَ أَنا ذاكَ الطِفلُ
وَمَضى كَالظِلِّ إِذا اِنتَقَلا / وَأَنا أَرجو لَو لَم يَمضِ
فَأَعَدتُ لِنَفسِيَ ما اِرتَجَلا / فَتَعَجَّبَ بَعضي مِن بَعضي
الشَمسُ تَزَلُّ عَنِ الأُفقِ / كَالروحِ المُحتَضِرِ الساجي
غَمَرَتها أَمواجُ الغَسَقِ / فَتَوارَت خَلفَ الأَمواجِ
وَالغَيمُ الأَسوَدُ يَحتَشِدُ / تَبَقاً في الجَوِّ عَلى طَبَقِ
وَاللَيلُ يَطولُ وَيَطَّرِدُ / وَالأَرضُ كَسارٍ في نَفَقِ
وَإِذا شَيخٌ في صَحراءِ / كَالزَورَقِ في عَرضِ البَحرِ
أَعياهُ الصُلحُ مَعَ الماءِ / وَأَضاعَ الدَربَ إِلى البَرِّ
يَمشي في الأَرضِ عَلى مَهلٍ / وَعَلى حَذَرٍ لَكِن يَمشي
كَالشاةِ تُساقُ إِلى القَتلِ / بِعَصا جَبّارٍ ذي بَطشِ
يا شَيخُ لِماذا لا تَقِفُ / دَمِيَت رِجلاكَ مِنَ الرَكضِ
فَأَجابَ بِصَوتٍ يَرتَجِفُ / الأَرضُ تَسيرُ عَلى الأَرضِ
يا شَيخُ رُوَيداً فَالبَدرُ / سَيُضيءُ الدَربَ فَتَستَهدي
فَأَجابَ وَيَتلوهُ الفَجرُ / لَكِن سَيُضيءُ لِمَن بَعدي
أَيَلَذُّ لِغُصنٍ مُنكَسِرٍ / عَرَّتهُ الريحُ مِنَ الوَرَقِ
أَن يُبصِرَ في ضَوءِ القَمَرِ / ما كانَ عَلَيهِ عَلى الطُرُقِ
ما لَذَّةُ مَيتٍ في الرَمسِ / بِالزَهرِ الفَوّاحِ العَطِرِ
نورٌ لا يُشرِقُ في النَفسِ / كَغَباءٍ في أُذنِ الحَجرِ
ما اِستَخَفَّت عَنّي الأَفلاكُ / وَالشُهبُ بَلِ اِستَخفى حُبّي
لَم تَملَء دَربي الأَشواكُ / إِنَّ الأَشواكَ لَفي قَلبي
يا شَيخُ شَجاني ما قُلتا / وَزَرَعتَ بِنَفسِيَ آلامَك
مَن أَنتَ أَجابَ أَنا أَنتَ / أَنا ذاتُكَ تَمشي قُدّامك
كَم أَبحَثُ بَينَ الأَجرامِ / عَنّي وَأُنَقِّبُ في الأَرضِ
أَحلامِيَ تَطمُرُ أَحلامي / بَعضي مَدفونٌ في بَعضي
لَم أُبصِر ذاتي بِالأَمسِ / في لَوحِ زُجاجٍ أَو ماءِ
بَل لاحَت نَفسِيَ في نَفسي / فَهيَ المَرْئيَّةُ وَالرائي