المجموع : 30
قرَّبتُ للنورِ المشعِّ عيوني
قرَّبتُ للنورِ المشعِّ عيوني / ورفعتُ للّهبِ الأحمِّ جبيني
ومشيتُ في الوادي يمزَقُ صخرهُ / قدمي وتُدمي الشائكاتُ يميني
وعدوتُ نحو الماءِ وهو مقاربي / فنأى وردَّ إلى السرابِ ظنوني
وبدَتْ لعيني في السماءِ غمامةٌ / فوقفتُ فارتدَّتْ هنالك دوني
وأصختُ للنسماتِ وهي هوازجٌ / فسمعتُ قصفَ العاصفِ المجنونِ
يا صبحُ ما للشمسِ غيرَ مضيئةٍ / يا ليلُ ما للنجم غيرَ مبينِ
يا نارُ ما للنارِ بين جوانحي / يا نورُ أين النورُ ملء جفوني
ذهبَ النهار بحيرتي وكآبتي / وأتى المساءُ بأدمعي وشجوني
حتى الطبيعة أعرضتْ وتصاممتْ / وتنكرتْ للهارِبِ المسكينِ
إن لم يكن لي من حنانِكْ موئلٌ / فلمنْ أبثُّ ضراعتي وحنيني
آثرتَ لي عيشَ الأسيرِ فلم أُطقْ / صبراً وجُنّ من الأسارِ جنوني
فأعدتني طلق الجناحِ وخلتَ بي / للنور جنَّةَ عاشقٍ مفتونِ
وأشرتَ لي نحو السماءِ فلم أطر / ورددتُ عين الطائرِ المسجونِ
نسيَ السماءَ وبات يجهلُ عالماً / ألقى الحجابَ عليه أسرُ سنينِ
ولقد مضى عهدُ التنقل وانتهى / زمني إليكَ بصبوتي وفتوني
لم ألقَ بعدكَ ما يشوقُ نواظري / عند الرياضِ فليسَ ما يصبيني
فهتفتُ أستوحي قديمَ ملاحني / فتهدَّجَتْ وتعثَّرَتْ بأنيني
ونزلتُ أستذري الظلالَ فعِفنني / حتى الغصون غدونَ غير غصونِ
فرجعتُ للوَكْرِ القديمِ وبي أسىً / يطغى عليّ وذلةٌ تعروني
لما رأته اغرورقت عينايَ من / ألمٍ وضجّ القلبُ بعد سكونِ
ومضت بي الذكرى فرحتُ مكذِّباً / عيني ومتهماً لديهِ يقيني
وصحوتُ من خَبَلٍ وبي مما أرى / إطراقُ مكتئبٍ وصمتُ حزين
فافتح ليَ البابَ الذي أغلقته / دوني وهاتِ القيدَ غير ضنينِ
دعني أروّ القلبَ من خمر الرضى / وأُنِمْ على فجرِ الحنانِ عيوني
وأعِدْ إلى أسر الصبابةِ هارباً / قد آبَ من سفرِ الليالي الجونِ
عافَ الحياةَ على نواكَ طليقةً / وأتاك ينشدها بعينِ سجينِ
بدَّدتِ يا قيثارتي أنغامي
بدَّدتِ يا قيثارتي أنغامي / ونسيتِ لحنَ صبابتي وغرامي
مرَّتْ ليالٍ كنتِ مؤنستي بها / وعزاءَ نفسٍ جمَّةِ الآلامِ
تروَين من طرب الصِّبا وحنينه / وتُذهِّبينَ حواشيَ الأحلامِ
كالبلبل الشّاكي رويتِ صبابتي / لحناً تمشَّى في دمي وعظامي
أنشودةُ الوادي ولحنُ شبابه / ذابتْ على صدر الغديرِ الطامي
شاقَ الطبيعةَ من قديمِ ملاحني / أصداؤُك الحيرى على الآكامِ
وشجا البحيرةَ واستخفَّ ضفافها / لحنٌ كفائرِ موجها المترامي
يا ربَّةَ الألحان غنِّي وابعثي / من كلِّ ماضٍ عاثرِ الأيامِ
هل من نشيدكِ ما يجدد لي الصِّبا / ويعيدُ لمحة ثغره البسَّامِ
ويصور الأحلامَ فتنةَ شاعرٍ / تُوحي الخيالَ لريشة الرسَّامِ
وادي الهوى ولَّتْ بشاشةُ دهرهِ / وخَلَت مغانيهِ من الآرامِ
طارت صوادحهُ وجفَّ غديرهُ / وذوى بشطَّيهِ النضيرُ النَّامي
واعتاضَ من هَمْسِ النسيم بعاصف / داوٍ يشقُّ جوانبَ الأظلامِ
وهو الصَّدى الحاكي لضائع صرختي / وصداكِ بين الغورِ والآكامِ
قد كُنَّ أُلَّافي ونزهةَ خاطري / وسماءَ وحي الشعرِ والإلهامِ
ما لي بهنّ سكتنَ عن آلامي / أنسينَ عهدَ مودتي وذمامي
يا ربَّة الألحان هل من رجعةٍ / لقديم لحنكِ أو قديم هيامي
فاروي أغانيَّ القُدامى وانفثي / في الليل من نفثات قلبي الدامي
علَّ الذي غنيتُ عرشَ جماله / وطفقتُ أرقبُ أفقه المتسامي
تُشجيه ألحاني فيسعدني به / طيفٌ يضنُّ عليَّ بالإلمامِ
ما لي أراكِ جمدتِ بين أناملي / وعصيتِ أنّاتي ودمعي الهامي
خرساءَ لا تتلو النشيدَ ولا تعي / سرَّ الغناءِ ولا تعيدُ كلامي
يغري الكآبةَ بي ويكسفُ خاطري / أني أراكِ حبيسةَ الأنغامِ
كالنجمِ في خفقٍ وفي ومضِ
كالنجمِ في خفقٍ وفي ومضِ / متفرداً بعوالم السُّدُمِ
حيرانَ يتبعُ حيرةَ الأرضِ / ومصارعَ الأيامِ والأُمَمِ
مستوحشاً في الأفق منفردا / وكأنَّه في سامرِ الشُّهُبِ
هذا الزحامُ حيالَهُ احتشدا / هوَ عنه ناءٍ جِدُّ مغتربِ
مترنحاً كالعاشقِ الثملِ / ريّانَ من بَهجٍ ومن حَزَنِ
نشوانَ من ألمٍ ومن أملِ / مستهزئاً بالكونِ والزَّمَنِ
تلك السماءُ على جوانبه / بحرُ الحياة الفائرُ الزَّبدِ
كم راحَ يلتمسُ القرارَ به / هيمانَ بين شواطىء الأبدِ
تهفو على الأمواج صورته / وشعاعهُ اللمَّاحُ في الغوْرِ
نفَذتْ إلى الأعماقِ نظرتُهُ / فإذا الحياةُ جليةُ السرِّ
ويمرُّ بالأحداثِ مبتسماً / كالشمسِ حينَ يلفُّها الغيمُ
زادَتهُ عِلماً بالذي عَلِمَا / دنيا تناهى عندها الوهمُ
بَلغَ الروائعَ من حقائقها / فإذا السعادةُ توأمُ الجهلِ
هتف المحدِّقُ في مشارقها / ذهبَ النهارُ فريسةَ الليلِ
يا قلبُ مثلُ النَّجمِ في قلقِ / والناسُ حولك لا يُحسُّونا
لولا اختلافُ النورِ والغَسَقِ / مرُّوا بأفقكَ لا يُطلُّونا
فاصفحْ إذا غمطوك إدراكا / واذكر قصورَ الأدميينا
أتريدهم يا قلبُ أملاكا / كلَّا وما هم بالنبيينا
هم عالمٌ في غيِّه يمضي / مُستغرقاً في الحمأةِ الدنيا
نزلوا قرارةَ هذه الأرضِ / وحللتَ أنتَ القمةَ العليا
عُبَّادُ أوهامٍ وما عبدوا / إلَّا حقيرَ مُنىً وغاياتِ
ومُناكَ ليس يحدّها الأبدُ / دنيا وراء اللا نهاياتِ
ولكَ الحياةُ دنىً وأكوانُ / عزَّتْ معارجُها على الراقي
تحيا بها وتبيدُ أزمانُ / وشبابُها المتجدِّدُ الباقي
يا قلبُ كم من رائعِ الحلَكِ / ألقاكَ في بحرٍ من الرُّعبِ
كم عُذْتَ منه بقبَّةِ الفلَكِ / وصرختَ وحدكَ فيه يا قلبي
ومضيتَ تضربُ في غياهبِه / وتردُّ عنكَ المائجَ الصَّخِبا
تترقب البرقَ المطيفَ به / وتسائلُ الأنواءَ والسُّحبا
وخفقتَ تحت دَجاهُ من وَجَلِ / كالطيرِ تحت الخنجر الصلْتِ
وعرفتَ بين اليأسِ والأملِ / صحوَ الحياةِ وسكرةَ الموتِ
يا قلبُ عندكَ أيُّ أسرارِ / ما زِلنَ في نشرٍ وفي طيِّ
يا ثورةً مشبوبةَ النَّارِ / أقلقت جسم الكائنِ الحيِّ
حَمَّلْتَه العبءَ الذي فَرقَتْ / منهُ الجبالُ وأشفقتْ رَهَبا
وأثرتَ منه الرُّوحَ فانطلقتْ / تحسو الحميمَ وتأكلُ اللهبا
وملأت سِفَرَ المجد من عَجَبِ / وخلقتَ أبطالاً من العَدَمِ
وعلى حديثِك في فمِ الحِقَبِ / سِمَةُ الخلودِ ونفحة القِدَمِ
كم من عجائبَ فيكَ للبشرِ / أخذَتهمُو منها الفجاءاتُ
متنبئاً بالغيبِ والقدَرِ / وعجيبةٌ تلك النبوءاتُ
وعجبتُ منك ومن إبائكَ في / أسرِ الجمالِ وربقةِ الحبِّ
وتَلفُّتِ المتكبر الصَّلِفِ / عن ذِلَّةِ المقهور في الحربِ
يا حرُّ كيف قبِلتَ شِرعتَه / وقنِعتَ منه بزادِ مأسورِ
آثرت في الأغلال طلعتَه / وأبيتَ منه فكاكَ مهجورِ
فإذا جفاكَ الهاجرُ الناسي / وقسا عليكَ المشفقُ الحدِبُ
فاضت بدمعك فورةُ الكاسِ / وهَفَتْ بكفِّكَ وهي تضطربُ
وفزِعتَ للأحلام والذِّكرِ / تبكي وتنشدُ رجعةَ الأمسِ
وودِدْتَ لو حُكِّمتَ في القَدَرِ / لتعيدَ سيرتَها من الرَّمْسِ
ووهِمْتَ ناراً ذات إيماضِ / فبسطتَ كفَّك نحوها فزَعا
مَرَّتْ بعينكَ لمحةُ الماضي / فوثبت تُمْسِكُ بارقاً لَمعا
وصحوتَ من وهْمٍ ومن خَبَلِ / فإذا جراحُك كُلَّهن دَمُ
لجَّتْ عليك مرارةُ الفشلِ / ومشى يحزُّ وتينَك الألمُ
والأرضُ ضاق فضاؤها الرحبُ / وخَلتْ فلا أهلٌ ولا سَكنُ
حالَ الهوى وتفرَّق الصحْبُ / وبقيتَ وحدكَ أنتَ والزَّمنُ
وصَرختَ حين أجنّك الليلُ / مُتمَرِّداً تجتاحُكَ النَّارُ
وبدا صراعُك أنت والعقلُ / ولأنتما بحرٌ وإعصارُ
ما بين سلمِكما وحربِكما / كونٌ يَبِينُ ويختفي كونُ
وبنيتما الدُّنيا وحسبكما / دنيا يقيمُ بناءَها الفنُّ
أدَنا المزارُ وقرَّت العينانِ
أدَنا المزارُ وقرَّت العينانِ / وفرغتما من لهفةٍ وحنانِ
وهززتما بالشوقِ كفّ مُسَلِّمٍ / وهَفَتْ إلى تقبيله الشَّفتانِ
وحلا العناقُ على اللقاءِ وأومأت / لكما الديارُ فرفرفَ القلبانِ
وعلى الثغورِ الباسماتِ بشائرٌ / وعلى الوجوهِ المشرقاتِ أماني
وعلى سماءِ النيلِ من سمَةِ الضُّحى / وضَحٌ من ثغريكما وَضحانِ
وعلى الضفافِ الضاحكاتِ مزاهرٌ / وعلى السفينِ الراقصاتِ أغاني
يومٌ تطلَّعَتِ المنى لصاحبه / وتحدّثتْ عنهُ بكلِّ لسانِ
وَسرَى التخيلُ بالنفوسِ فهزَّها / مَرَحُ الطروبِ وغبطةُ النشوانِ
والأفقُ مُربدُّ الأديمِ وأنتما / فوق الرياحِ الهوجِ منطلقانِ
تتخايلانِ على السحابِ برفرفٍ / بلواءِ مصرَ مُظَلَّلٍ مزدانِ
تتطلعان إلى السَّديمِ كأنما / تتخيرانِ لها أعزَّ مكانِ
وتحدثانِ النجمَ عن أوصافِها / والنجمُ مأخوذٌ بما تصفانِ
علَّقتما بالناظرين خيالها / شوقاً وأجفانُ المنونِ رواني
هي خطرةٌ أو نظرةٌ ودرجتما / في جوفِ عاصفةٍ من النيرانِ
طاش الزمامُ فلا السحابُ مقاربٌ / لكما ولا الجبَلُ الأشمُّ مُداني
وهوى الجناحُ فلا الرياحُ خوافقٌ / فيه ولا الأرواحُ طوعَ عِنانِ
سَدَّتْ طريقكما الحُتوفُ وأنتما / تتحرقانِ هوىً إلى الأوطانِ
ومشى الرَّدى بكما وتحتَ جناحهِ / جسمانِ بل قلبانِ محترقانِ
يا ملهميَّ الشعرَ هذا موقفٌ / الشعرُ فيه فوق كلِّ بيانِ
لوددتُ لو أنِّي عرضتُ بناتُه / في المهرجانِ نواثرَ الريحانِ
وعقدتُ من شعري ومن ريحانها / إكليلَ غارٍ أو نظيمَ جُمانِ
أنا من يُغَنّي بالمصارع في العُلى / ويَشيدُ بالآلام والأحزانِ
ماذا وراءَ الدمعِ من أمنيةٍ / أوْ ما وراءَ النّوحِ من نشدانِ
أصبحتُ ذا القلبِ الحديدِ وإن أكُنْ / في الناسِ ذاك الشاعِرَ الإنساني
ووهبتُ قلبي للخطارِ فللهوى / شطرٌ وللعلياءِ شطرٌ ثاني
وعشقتُ موتَ الخالدين وعِفتُ من / عمري حقارةَ كلِّ يومٍ فاني
لولا الضحايا الباذلونَ دماءَهمْ / طوتِ الوجودَ غيابةُ النسيانِ
هذا الدمُ الغالي الذي أرخصتمُ / هوَ في بناءِ المجدِ أولُ باني
تبنونَ للوطنِ الحياةَ وهكذا / تبني الحياةَ مصارعُ الشجعانِ
مثَّلتما في الموتِ وحدةَ أمةٍ / ذاقت من التفريقِ كلَّ هوانِ
مسحَ الهلالُ دمَ الصليبِ وضمّدتْ / جُرْحَ الأهلَّةِ راحةُ الصلبانِ
إن كان في ساحِ الردى لكليكما / مثلٌ ففي ساحِ الفدا مَثلانِ
عذراً فرنسا إن جزعتِ فإنه / قدَرٌ وما لكِ بالقضاءِ يدانِ
هزَّتكِ بالرَّوعاتِ قبلَ مصابِنا / أممٌ ملكنَ أعنَّةَ الطيرانِ
واسيتِ مصرَ فما هو نجمٌ لها / إلَّا ومنكِ عليه صدرٌ حاني
حيِّ سماءَ الفرقدينِ وقدِّسي / من تربِكِ الغالي أعزَّ مكانِ
فهنا دمٌ روَّى ثراكِ وههنا / قلبانِ تحت الصخرِ يختلجانِ
يا أمةَ الشهداءِ أنتِ بثُكلهمْ / أدرى وبالأحزانِ والأشجانِ
الغارُ أحقرُ أن يكلِّلَ هامَهمْ / ورؤوسهم أغلى من التيجانِ
لِغَدٍ صبرنا للزمانِ وفي غدٍ / نعفو ونغفرُ للزمانِ الجاني
ونمدُّ للأيام كفَّ مصافحٍ / يجزي المسيءَ إليه بالإحسانِ
ونُدِلُّ فوقَ النيراتِ بموكبٍ / فيه الحِجَى والبأسُ يلتقيانِ
ونهزُّ أجنحةَ الحياةِ ونعتلي / بخفافهنَّ مناكبَ العقبانِ
وننصُّ رايةَ مصرَ أنَّى تشتهي / مصرٌ ويرضاهُ لها الهرمانِ
أَقبِلْ سلاحَ الجَوِّ إِنَّ عيوننا / لِلقاكَ لَم يَغمضْ لَها جِفنانِ
أقْبِلْ سلاحَ الجوِّ إن قلوبنا / كادتْ تطيرُ إليكَ بالخفقانِ
رفرفْ على البلدِ الأمينِ وحيِّهِ / وانزلْ إلى الوادي وطِرْ بأمانِ
كنْ للسلامِ وقاءَه ولواءَه / وشعاعه الهادي على الأرمانِ
وإذا دعتكَ الحادثاتُ فلبِّها / بحميَّةِ المستقتلِ المتفاني
ليضنَّ بالأعمارِ كلُّ معاجزٍ / وليخْشَ حربَ الدهرِ كلُّ جبانِ
لِيَثُرْ على القضبانِ كلُّ معذبٍ / وليحطمِ الأصفادَ كلُّ معاني
هذا الزمانُ الحرُّ ما لشعوبه / صبرٌ على الأصفادِ والقضبانِ
لكمُ الغدُ المرجوُّ فتيانَ الحمى / واليومَ يومكمُ العظيمُ الشانِ
لا تثنينَّكُمُ المنايا إنها / سرُّ البقاءِ وسنةُ العمرانِ
كونوا من الفادينَ إن عزَّ الفدا / كم في الفداءِ من الخلودِ معاني
ولئنْ حُرمتمْ من متاعِ شبابكم / إنَّ النعيمَ يُنال بالحرمان
ليَكُنْ لكمْ في كلِّ أفقٍ طائرٌ / ليكُنْ لكمْ في كلِّ أرضٍ باني
ولينخسن البحرَ من أسطولِكم / عَلمٌ كنجم المدلجِ الحيرانِ
سيروا بهدْي الأحمرينِ ومهّدوا / بهما سبيلَ المجدِ والسلطانِ
لم تبصرِ الأممُ الحياةَ على سنىً / كالنار في شَفَقِ الدماءِ القاني
طال انتظاركَ في الظلام ولم تزل
طال انتظاركَ في الظلام ولم تزل / عينايَ ترقب كلّ طيف عابرِ
ويطير سمعي صوب كلِّ مُرِنَّةٍ / في الأفق تخفق عن جَناحيْ طائرِ
وترفُ روحي فوق أنفاسِ الرُّبا / فلعلّها نَفَسُ الحبيبِ الزائرِ
ويخفُّ قلبي إثرَ كلِّ شعاعةٍ / في الليلِ تومض عن شهابٍ غائرِ
فلعلَّ من لمحات ثغرك بارقٌ / ولعلَّه وضحُ الجبينِ الناضرِ
ليلٌ من الأوهام طالَ سهاده / بين الجوى المضني وهجسِ الخاطرِ
حتى إذا هتفتْ بمقدمكَ المُنى / وأصختُ أسترعي انتباهةَ حائرِ
وسرى النسيمُ من الخمائلِ والرُّبى / نشوانَ يعبقُ من شذاكَ العاطرِ
وترنم الوادي بسلسلِ مائه / وتَلَتْ حمائمُه نشيد الصافرِ
وأطلت الأزهارُ من ورقاتها / حيرى تعجَّبُ للربيع الباكرِ
وجرى شعاعُ البدر حولكَ راقصاً / طرِباً على المرج النضيرِ الزاهرِ
وتجلتِ الدنيا كأبهج ما رأتْ / عينٌ وصوَّرها خيالُ الشاعرِ
ومضت تكذبني الظنونُ فأنثني / مُتسمِّعاً دقاتِ قلبي الثائرِ
أقبلْتَ بالبسمات تملأ خاطري / سحراً وأملأُ من جمالك ناظري
وأظلّنا الصمتُ الرهيبُ ونحن في / شكٍ من الدنيا وحلمٍ ساحرِ
حتى إذا حانَ الرحيلُ هتفت بي / فوقفتُ واستبقتْ خطاك نواظري
وصرختُ بالليلِ المودِّعِ باكياً / ويداكَ تمسك بي وأنت مغادري
يا ليتنا لم نَصحُ منكَ وليتها / ما أعجلتكَ رحى الزمانِ الدائرِ
ولقد أتت بعدُ الليالي وانقضت / وكأننا في الدهرِ لم نتزاورِ
بُدِّلتُ من عطفٍ لديك ورقةٍ / بحنين مهجورٍ وقسوةِ هاجرِ
وكأنني ما كنت إلفَك في الصبا / يوماً ولا كنتَ الحياة مشاطري
ونسيتَ أنتَ وما نسيتُ وأنني / لأعيشُ بالذكرى لعلك ذاكري
غَنِّي بأودية الربيع وطوفي
غَنِّي بأودية الربيع وطوفي / وصفي الطبيعةَ يا فتاةَ الريفِ
وَلَّى خريفُ العام بعد ربيعه / ولَكَمْ ربيعٍ مرَّ بعد خريفِ
يا أخت طالعة الشموس تطلَّعي / للورد بين مفتَّحٍ وكفيفِ
والطير هدارٌ فأفقٌ أكدرٌ / يرمي الغمامَ به وأفقٌ يوفي
لهفانَ يرتادُ الجداول باكياً / من كلِّ طيفٍ للربيع لطيفِ
أهدى الشتاءُ إليه من نَغمِ الأسى / صَخَبَ الرياح وأنَّةَ الشادوفِ
هذا بعبرته يجودُ وهذه / ما بين نقْسٍ في الربى وزفيفِ
إني لأذكرُ حقلنا وليالياً / أزهرنَ في ظلٍّ لديه وريفِ
ومراحنا بِقُرى الشمال وكوخَنا / تحت العرائش في ظلالِ اللوفِ
نلقي الخمائلَ بالخمائلِ حولنا / متعانقاتٍ سابغاتِ الفوفِ
ذكرى الطفولة أنتِ وحدك للصِّبا / حُلُمٌ يرفِّه عنه بالتشويفِ
يا رُبَّ رسمٍ من ربوعك دارسٍ / قَصُرَ الثواءُ به وطال وقوفي
إني طويتُ العيش بعدك ضارباً / في الأرض منفرداً بغير أليفِ
صَدَفَ الفؤادُ عن الشباب ولهوه / ومضى عن الأحبابِ غير صدوفِ
يا رُبَّ ليلٍ دبَّ في أحشائه / منا لفيفٌ سار إثر لفيفِ
نقتافُ آثار الطيور شوارداً / بين النخيلِ على رمال السِّيفِ
شادٍ هنا وهناك رَنَّةُ مِزْهَر / النجمُ في خفقٍ له ورفيفِ
والبدرُ نَقَّبهُ الغمامُ كأنه / وجهٌ تألَّقَ من وراءِ نصيفِ
والنهرُ سلسال الخرير كأنه / قيثارة سحريةُ التعزيفِ
قومي عذارى الريف والتمسي الرُّبى / نُضراً وغني بالغدير وطوفي
وتفيَّأي الدوحَ الظَّليل ومربأ / للفنِّ تحت أزاهرٍ وقطوفِ
غُصن يطلُّ الفجرُ من ورقاتِه / ويُقبِّلُ الأنداءَ جدَّ شغوفِ
أين الغديرُ عليه يخلع وشيَه / صنعُ الأنامل رائعُ التفويفِ
يا حبذا هو من مراحٍ للصبا / والكوخُ من مشتىً لنا ومصيفِ
صُوَرٌ نزلن على بنانِ مصورٍ / صُوِّرن من نسق أغرَّ شريفِ
أغرينَ بي حُلُمَ الطفولة والهوى / وأثرنَ بي ذكرى ليالي الريفِ
ما بالرُّعاةِ آثارَهم فترنَّموا
ما بالرُّعاةِ آثارَهم فترنَّموا / هلْ طافَ بالصحراءِ منهم مُلهمُ
أم ضوّأتْ سيناءُ في غسَقِ الدُّجى / وجلا النبوءةَ برْقُها المتكلمُ
نظَروا خِلالَ سمائِها وتأملوا / وتقابلتْ أنظارُهم فتبسَّموا
إيه فلاسفةَ الزمانِ فأنتمو / ببشائر الغيبِ المحجَّبِ أعلمُ
هذا النشيدُ الأسيويُّ مَعادُهُ / نبأٌ تقَرُّ به الشعوبُ وتنعَمُ
وطريقُكم مصرٌ وإنّ طريقها / أثرٌ من الوحي القديم ومعلمُ
ألا يكونَ الفجرُ هَديَ خُطاكمو / فدليلُكم قبَسُ الخلود المُضْرَمُ
هو سحرُ مصرَ وعرشُها ولواؤها / والصّولجانُ وتاجُها المتوسمُ
وجبينُ صاحِبها العزيزِ وإنّهُ / نورٌ على إصباحها مُتقدِّمُ
أوفى على الوادي بضاحكِ ثغرهِ / وجهٌ تُقبِّلهُ السماءُ وترأمُ
مُسترسِلُ النظرِ البعيدِ كأنّهُ / مَلك يُفكِّرُ أو نبيٌّ يُلهمُ
وكأنما الآمالُ عبْرَ طريقهِ / أنفاسُ روْضٍ بالعشيّة ينسِمُ
يتنظّرُ الحقلُ المنوّرُ خطوَهُ / والنهرُ والجبلُ العريضُ الأيهمُ
فكأنّ روحاً عائداً من طيبةٍ / فيه شبابُ ملوكِها يتبسمُ
هتفَ البشيرُ به فماجتْ أعصرٌ / وتلفّتتْ أممٌ ودارتْ أنجمُ
هذا هو الملِكُ الذي سعِدتْ به / مِصرٌ وهذا حُبُّها المتجسِّمُ
لمن البُنُودُ على العُبابِ خوافِقاً / لِمن النسورُ على السّحابِ تُحوِّمُ
لمن المواكبُ مائجاتٍ مثلما / أومتْ عصا موسى فشُقَّ العيْلمُ
ولِمَ الصباحُ كأنما أنداؤُه / كأسٌ تُصفّقُ أو رحيقٌ يسجمُ
ولِمَ اختلاجُ النيلِ فيه كأنه / شيخٌ يُذكرُ بالشبابِ ويحلمُ
ولمن هتافٌ بالضِّفاف مُردّدٌ / أشجى من الوترِ الحنونِ وأرخمُ
ولمن عواصمُ مصرَ حاليةَ الذُّوى / تغزو بوارقُها النجومَ وتزحُمُ
ولِمَ احتشادُ سرائري وخواطري / ولمن شفاهٌ بالدعاءِ تتمْتمُ
أسكندريةُ قد شهدتِ فحدِّثي / فاليومَ قد وضَحَ الحنينُ المبهمُ
هاتي املأي كأسي وغنِّي واعصري / خمراً أعلُّ بها ولا أتأثّمُ
إن كنت أفقَ الملهَمينَ وأيكَهم / إنِّي إذاً غرِّيدُك المترنِّمُ
يا درّة البحرِ التي لم يتّسِمْ / جِيدُ البحار بمثلها والمعصمُ
جدّدْتِ أعراسَ الزمانِ وزانها / ركبٌ لفاروق العظيمِ ومَقدِمُ
ما عادَ جبَّارُ الشعوبِ وإنما / قد عادَ قيصرُكِ الرشيدُ المسلمُ
في مهرجانٍ لم يُحِط بجلاله / وصفٌ ولم يبلغْ مداهُ توهُّمُ
يومُ الشباب ولا مِراءَ وإنه / للشرقِ عيدٌ والكنانةِ مَوسِمُ
قد فَتّحَ التاريخُ في كتابه / يُصغِي إليهِ ويشرئبُّ المِرْقَمُ
مولايَ أمْلِ عليه أوّلَ آيةٍ / لشبابِ شعبٍ خالدٍ لا يهرَمُ
هو من شبابكَ يستمدُّ رجاءَهُ / ويَسود باسمكَ في الحياةِ ويحكُمُ
فابعثهُ جيلاً واثباً متقحِّماً / إن الشبابَ توثُّبٌ وتقحُّمُ
هزّ الفتى الأمويّ تحت إهابهِ / منه مَضاءٌ كالحسامِ مُصمِّمُ
فمشى يطوِّحُ بالعروش كأنه / شمشونُ في حِلَقِ الحديد يحطمُ
دونَ الثلاثينَ استثيرَ فأجفلتْ / أُمَمٌ وراءَ تخومهِ تتأجَّمُ
والمجد موهبةُ الملوك وإنما / تَبْني المواهبُ والخلائقُ تدْعَمُ
ويضيقُ بالشعبِ الطموحِ يقينهُ / ويُثيرُ مِرّتهُ الخيالُ فيَعْرُمُ
قوتُ الشعوبِ ورِيُّها أحلامُها / إنّ الخيالَ إلى الحقيقةِ سُلّمُ
يا عاقدَ التاجِ الوضيءِ بمفرقٍ / كالحقِّ مَعْقِدُهُ هُدىً وتبسُّمُ
أعظِمْ بتاجكَ جوهراً لم يحوهِ / كنزٌ ولم يحرزْ جُلاهُ مِنجَمُ
ميراثُ أول مالكينَ سما بهم / عرشٌ أعزُّ من الجبالِ وأضخَمُ
نوابُ شعبكَ حينما طالعتهم / طافَ الرحيق البابليُّ عليهمُ
هتفوا بمجدِكَ واستخفّ وقارَهمْ / أملٌ يجلُّ عن الهتافِ ويعظمُ
أقسمتَ بالدستور والوطن الذي / بك بعد ربِّكَ في العظائم يُقسمُ
براً بوالدِكَ العظيم وذِمَّةً / لجدودك الصيدِ الذين تقدَّموا
وتطلّعَتْ عَبرَ المدائن والقرى / مُهَجٌ يكادُ خفوقُها يتكلمُ
تُصغي لصوتكَ في السحاب ورجعُهُ / لحنٌ على أوتارهنَّ يُنغّمُ
خشعتْ له النَّسَمات وهي هوازجٌ / وتنصّتَ العصفورُ وهو يُهينمُ
وَصَغَتْ سَنابلُ مثلما أوحَى لها / تأويلُ يوسفَ فهي خُضرٌ تنجمُ
يا صوتَ مصرَ ويا صدى أحلامها / زدْ روعتي مما يهزُّ ويُفْعِمُ
ألقى المقادَة في يديكَ وديعةً / شعبٌ لغير خُطاكَ لا يترسمُ
فَتَلَقَّ تاجَك من يديه فإنه / في الدهرِ عُروتهُ التي لا تُفصَمُ
فليهنأ الملِكُ الهمامُ بعيدهِ / ولْيعرضِ الجيشُ الكميُّ المعلمُ
مولايَ جندك ماثلونَ فأولهِمْ / سيفاً يُقبّل أو لواءً يُلثمُ
لما رأوْكَ على جوادكَ قائماً / وضعوا السيوف على الصدور وأقسموا
وكأن إبراهيمَ طيفك ماثلاً / وكأنك الرَّوحُ الشقيقُ التوأمُ
يا قائدَ الجيشِ المظفّر تِه بهِ / إن الشعوبَ بمثل جيشِك تُكرمُ
الأرضُ تعرفهُ وتشهدُ أنه / سيلٌ إذا لمعَ الحديدُ وقشعمُ
طوروسُ أم عكاءُ عن أمجادِهِ / تروي أم البيت العتيق وزمزمُ
أم حومةُ السودانِ وهي صحيفة / السيف خطّ سطورها واللهذمُ
أم مورةُ الشماءُ يوم أباحها / والنارُ حول سفينه تتهزّمُ
لولا قراصنةٌ عليها تآمروا / لم يَعْلُ نافارين هذا الميسمُ
فاغفر لما صنع الزمان فإنها / بؤسى تمرُّ على الشعوبِ وأنعُمُ
وانفخ به من بأسِ روحكَ سورةً / يرمي سُطاها المستخفّ فيُحجِمُ
فالرفقُ من نبل النفوسِ وربما / يُلحَى النبيلُ بفعله ويُذمّمُ
إنّا لفي زمنٍ حديثُ دُعاتِه / نُسْكٌ ولكنّ السياسةَ تأثّمُ
ووراءَ كلِّ سحابةٍ في أفقهِ / جيشٌ من المتأهِّبينَ عَرمرمُ
قالوا فتىً عشقَ الطبيعةَ واغتدى / بغرائب الأشعارِ وهو متيّمُ
وطوى البحارَ على شراعِ خيالهِ / يرتادُ عاليةَ الذُّرى ويُؤمِّمُ
أنا من زعمتمْ غيرَ أنِّي شاعرٌ / أرضى البيانَ بما يصوغُ ويرسُمُ
إنِّي بنيتُ على القديم جديدَهُ / ورفعتُ من بنيانهِ ما هدَّموا
الشعرُ عندي نشوةٌ عُلويةٌ / وشُعاعُ كأسي لم يُقبِّلها فمُ
ولحونُ سِلمٍ أو ملاحمُ غارةٍ / غنَّى الجبالَ بها السحابُ المرزِمُ
أرسلتهُ يومَ النداءِ فخلتُه / ناراً وخلتُ الأرضَ خضَّبها الدمُ
ودعاهُ عرشكَ فاستهلَّ خواطراً / فأتيتُ عن خَطراتهنَّ أترجمُ
ورفعتُ رأسي للسماءِ وخِلتُني / أتناولُ النجمَ البعيدَ وأنظمُ
فاقبلْ نشيديَ إنْ عطفتَ فإنه / صوتُ الشباب وروحهُ المتضرِّمُ
وسَلِمتَ يا مولايَ للوطن الذي / بكَ يستظلُّ ويستعزُّ ويسلمُ
سِحْر نطقتُ به وأنت المنطِقُ
سِحْر نطقتُ به وأنت المنطِقُ / ولكَ الولاءُ ولي بعرشكَ موثِقُ
يا أفقَ إلهامي ووحيَ خواطري / هذا نشيدي في سمائكَ يخفِقُ
توحي إليَّ الشعرَ علويَّ السنى / مصر ونورُ شبابكَ المتألِّقُ
وشواردٌ هزَّ النجومَ رويُّها / والكونُ مصغٍ والشعاعُ يُصفِّقُ
في ليلةٍ للنفس فيها هِزَّةٌ / ولكلِّ قلبٍ صبوةٌ وتشوُّقُ
ريَّا الأديمِ كلجَّةٍ مسجورةٍ / يسري عليها للملائكِ زورقُ
غنَّى بها الشعرُ الطروبُ وأقبلت / بالزهرِ حوريَّاتُهُ تتمنطقُ
وشدا الرعاةُ الملهَمون كأنما / سيناءُ من قبَسِ النبوةِ تُشرقُ
هيَ من طوالعِك الحسانِ وإنه / أمَلٌ لمصرَ على يديكَ يُحقَّقُ
مصرٌ إذا سُئلت فأنت لسانُها / وجنانُها وشعورُها المتدفِّقُ
فتلقَّ فرحتَها بعيدكَ إنَّه / عيدٌ يهنئُ مصرَ فيه المشرقُ
مولايَ هلْ لي أن أُقبلَ راحةً / بيضاءَ تُحيي المأثراتِ وتخلُقُ
مرَّتْ على الوادي فكلُّ شِعابِهِ / عَينٌ مفَجَّرَةٌ وغصنٌ مُورقُ
وجَلوتَها للناظرينَ فأبصروا / برهانَ ربك ساطعاً يتألقُ
لو رُدَّ فرعونٌ وسِحْرُ دعاتهِ / وتساءلوا بكَ مُجمعينَ وأحدقوا
لقِفَتْ عصاكَ عصيَّهم فتصايحوا / لا سحرَ بعد اليوم أنتَ مُصدِّقُ
يا باعثَ الرُّوح الفتيِّ بأمةٍ / تسمو بها آمالُها وتُحلِّقُ
أغلى الذخائر في كنوز فخارِها / تاجٌ يُجمِّلهُ بنوركَ مفرِقُ
صاغَتهُ من آمالِها ودمائها / وأجلّهُنَّ دمُ الشباب المهْرَقُ
إن أنسَ لا يَنسَ اليمينَ ويومهُ / قلبي الطروبُ وجفنيَ المغرورِقُ
وهُتافُ روحي في خِضمٍّ صاخبٍ / خِلتُ الفضاء الرَّحبَ فيه يغرقُ
القائد الأعلى وتحتَ لوائهِ / حُرَّاسُ مصرَ الباسلونَ السُّبَّقُ
طافوا بساحتكَ الكريمةِ فيلقاً / يحدُوهُ منْ آمالِ مصرٍ فيلقُ
وأنلتَهُمْ شرَفَ المثولِ فقرَّبوا / مُهَجاً يحوطُكَ حُبُّها ويُطوِّقُ
وضعوا الأكفَّ على الكتاب وأقسموا / وسُيوفُهمْ من لوعةٍ تتحرَّقُ
أوْمى لها الماضي فجنَّ حديدُها / حتى تكادَ بغيرِ كفٍّ تُمشقُ
ذكرَتْ بك النصرَ المبينَ وفاتحاً / يطأُ الجبالَ الشامخاتِ ويَصعقُ
يا صنوَ إبراهيمَ لو ناديتُه / بك لاستجاب وجاء باسمكَ ينطقُ
لك مصرُ والسودانُ والنهر الذي / يحيا المواتُ به ويغنيَ المُملِقُ
عرشٌ قوائمهُ التُّقى وظلالهُ / عَدْلٌ وروحانيةٌ وترفُّقُ
المسجدُ الأقصى يودُّ لو أنه / أسرى إليهِ بكَ الخيالُ الشيِّقُ
كم وقفةٍ لكَ في الصلاةِ كأنما / عمرٌ تحُفُّ به القلوبُ وتخفُقُ
لما وقفتَ تلفّتَ المحرابُ من / فرحٍ وأنتَ لديه حانٍ مطرقُ
ويكاد من بَهَج يضيءُ سِراجَه / وجهٌ عليه من الطهارةِ رَونقُ
أحييتَ سنةَ مالكينَ سما بهمْ / في الشرق أوج حَضارةٍ لا يُلحَقُ
فانين في حبِّ الإله ولن ترى / بعد الأُلوهة ما يُحبُّ ويُعْشَقُ
طُهْرٌ عَصَمْتَ به الشبابَ وإنما / شِيمُ الملوكِ به أحقُّ وأخلقُ
تُغضي لرقّتكَ النفوسُ مهابةً / وتهُمُّ بالنظرِ العيونُ فتُشفِقُ
إنَّ السيوفَ تُهاب وهي رقيقةٌ / وخَلائقُ العظماءِ حين تُرفَّقُ
ألقى البشيرُ على المدائنِ والقرى / نبأً كصوت الوحيِ ساعةَ يطلَقُ
عَبر الضِّفافَ الحالماتِ فمسَّحت / جَفناً وهبّ نخيلها يتأنَّقُ
فرحٌ تَمثّلَ مصرَ فهي خواطرٌ / صدَّاحةٌ وسرائرٌ تترقرقُ
اليومَ آمنَتِ الرعيةُ أنها / أدنى لقلبكَ في الحياة وألصقُ
آثرْتها فحبتْكَ من إيثارِها / تاجاً شعائرهُ الولاءُ المطلقُ
مَلكاتُ مصرَ الرائعاتُ إذا بدا / كفٌ تشير له وعينٌ ترمُقُ
وحديثُ أرواحٍ يَضوعُ عبيرهُ / ومن الطهارة ما يَضوعُ ويَعْبَقُ
يا صاحبيْ مصرٍ أظلَّكما الرِّضى / وجرى بيُمنِكما الربيعُ المونِقُ
وفداءُ عرشكما المؤثَّلِ أمةٌ / أمستْ خناصرُها عليه تُوَثَّقُ
يا شمسُ يا أمَّ الحياةِ تكلمي / فلقد يُثابُ على الكلام الصَّيْدَقُ
أأعزُّ منا تحتَ ضوئِك أمةٌ / هي بالحياة وبالسيادة أخْلَقُ
إنّا بنوكِ وإن سُئلتِ فأُمنا / مهدُ الشموسِ وعرشُهنَّ المعْرِقُ
عرشٌ لفاروقَ العظيمِ يزينهُ / هذا الشبابُ العبقريُّ المشرقُ
حيَّاك أرضاً وازدهاكِ سماءَ
حيَّاك أرضاً وازدهاكِ سماءَ / بحرٌ شدا صخراً وصفَّقَ ماءَ
يحبو شعابَكِ في الضحى قبلاته / ويرفُّ أنفاساً بهن مساءَ
متجدِّدَ الصبواتِ أودعَ حبَّهُ / شتى الأشعةِ فيكِ والأنداءَ
وَلِعٌ بتخطيطِ الرمال كأنه / عرَّافةٌ تستطلع الأنباءَ
ومصوّرٌ لبقُ الخيال يصوغُ من / فنِّ الجمالِ السِّحرَ والإغراءَ
نسق الشواطئ زينةً وأدقها / صوراً بريَّا صفحتيهِ تراءى
يجلو بريشته السماءَ وإنما / زادت بريشته السماءُ جلاءَ
لا الصبحُ أوضحُ من مطالعِهِ بِها / شمساً ولا أزهى سنىً وضياءَ
كلا ولا الليل المكوكبُ أفقُهُ / بأغرَّ بدراً أو أرقّ سماءَ
يا رُبَّ زاهيةِ الأصيلِ أحالها / أُفقاً أحمّ ولجَّةً حمراءَ
وكأنما طوتِ السماءَ ونشَّرَتْ / لهباً وفجَّرتِ الصخورَ دِماءَ
ولربَّ عاطرةِ النسيمِ عليلةٍ / طالعتُ فيها الليلةَ القمراءَ
رقصت بها الأمواجُ تحتَ شُعاعِها / وسرَتْ تجاذبُ للنسيم رداءَ
حتى إذا رانَ الكرى بجفونها / ألقت إليكِ بسمعها إصغاءَ
تتسمَّعُ النوتيَّ تحت شراعهِ / يشدو فيبدعُ في النشيدِ غِناءَ
هزَّت ليالي الصيفِ ساحرَ صوتهِ / فشجى الشواطئَ واستخفَّ الماءَ
وأثارَ أجنحةَ الطيورِ فحوَّمتْ / في الأفقِ حيرى تتبعُ الأصداءَ
صُورٌ فواتنُ يا شواطئُ صاغها / لكِ ذلكَ البحرُ الصناعُ رواءَ
فتنظّريهِ على شعابكِ مثلما / رجعَ الغريب إلى حماهُ وفاءَ
كم ظلّ يضربُ في صخورِكِ موجُهُ / مما أجَنَّ محبَّةً ووفاءَ
عذراً إذا عَيَّتْ بمنطقه اللُّغى / فهوَ العَيِيُّ المفحِم الفُصحاءَ
فخُذي الحديثَ عليه واستمعي لهُ / كم من جمادٍ حدَّثَ الأحياءَ
وسليهِ كيف طوى الليالي ساهداً / وبَلا الأحبَّةَ فيكِ والأعداءَ
كم ليلةٍ لك يا شواطئُ خاضَها / والهولُ يملأ حولكِ الأرجاءَ
والسفنُ مرهفةُ القلاعِ كأنما / تطأ السحابَ وتهبطُ الدأماءَ
حملتْ لمصرَ الفاتحينَ وطوّحتْ / بالنيل منهمْ جَحْفلاً ولواءَ
ولو استطاع لردَّ عنكِ بلاءَهم / وأطارَ كلَّ سفينةٍ أشلاءَ
أو كان يملك قدرةً حشَدَ الدُّجى / ونضا الرجومَ وجنَّد الأنواءَ
ودعا غواربَه الثقالَ فأقبلتَ / فرمى بها قدراً وردَّ قضاءَ
فاستعرضي سِيرَ الحياة وردِّدي / ما سرَّ من أنبائهنَّ وساءَ
وخُذي ليومكِ من قديمكِ أُهبةً / ومن الجديد تعِلَّةً ورجاءَ
إيهِ شواطئَ مصرَ والدنيا مُنىً / تهفو إليكِ بنا صباحَ مساءَ
ناجيتِ أحلامَ الربيعِ فأقبلتْ / وأشرتِ للصيف الوسيمِ فجاءَ
يحبوكِ من صفوِ الزمانِ وأنسه / ما شئتِ من مَرحِ الحياةِ وشاءَ
وغداً تضيءُ على جبينكِ لمحةٌ / طبعَ الخلودُ سماتها الغرّاءَ
وترفُّ منه على ثغورِك قبلةٌ / أصغى النسيم لها وغضَّ حياءَ
فاستقبلي الصيفَ الجميلَ وهيِّئي / للشعرِ فيكِ خميلةً غنّاءَ
وتسمّعي لحنَ الخيالِ وأفردي / لي فوق مائكِ صخرةً بيضاءَ
واستعرضي حورَ الجنانِ وأطلقي / لغة السماء وألهمي الشعراءَ
روحي المقيمُ لديكِ أم شبَحي
روحي المقيمُ لديكِ أم شبَحي / لعبتْ برأسي نشوةُ الفرحِ
يا حانةَ الأرواحِ ما صنعتْ / بالروح فيكِ صبابةُ القدحِ
ما للسماءِ أديمُها لهَبٌ / الفجرُ إنَّ الفجرَ لم يَلُحِ
ولمَ البحيرةُ مثلما سُجِرتْ / أو فُجِّرتْ من عرقِ منذَبحِ
نارٌ تطيرُ وموكبٌ صَخِب / منْ كل ساهي اللَّحظِ منسرحِ
لولا ابتسامةُ جارتي وفمٌ / يدنو إليَّ بصدرِ منشَرحِ
لحسبتها روما تمورُ لظىً / في قهقهاتِ السَّاخرِ الوقحِ
زهوٌ تملَّكني فأذهلني / ومن الذهولِ طرائفُ المُلحِ
أأنا الغريبُ هنا وملءُ يدي / أعطافُ هذا الأغيدِ المرِحِ
خفَقتْ على وجهي غدائرُها / فجذبتها بذراعِ مجترحِ
لم أدر وهيَ تُديرُ لي قَدحي / من أين مغتبقي ومصطبحي
وشدا المغنِّي فاحتشدتُ لها / كم للغناءِ لديَّ من مِنَحِ
عَرَضَتْ بفاكهة محرَّمةٍ / وعرضتُ لم أنطِقْ ولم أبُحِ
يا رَبِّ صُنعُكَ كلُّه فتنٌ / أين الفرارُ وكيف مُطَّرحي
هذي الروائعُ أنت خالقُها / ما بين مُنجرِدٍ ومتَّشحِ
تاييسُ لم تعبَثْ براهبها / لكنَّهُ أشفى على البُرَحِ
ما بين أسرارٍ مُغلَّقةٍ / وطروقِ بابٍ غيرِ منفتحِ
عرض الجمالُ له فأكبَره / ورآكَ فيهِ فجُنَّ من فَرحِ
أترى معاقبتي على قدَرٍ / لولاك لم يُكتَبْ ولم يُتَحِ
إنِّي عبدتُك في جَنى شفةٍ / ويدٍ ووجه مشرق الوضحِ
ولو استطعتُ جعلتُ مِسبحتي / ثَمَرَ النهودِ وجلَّ في السُّبَحِ
ماذا تركتَ بعالم الأحياء
ماذا تركتَ بعالم الأحياء / وأخذتَ من حبٍّ ومن بغضاءِ
لكَ بعد موتكَ ذكرياتٌ حيَّةٌ / جوَّابةُ الأشباحِ والأصداءِ
هتكت حجابَ الصمتِ عنكَ وربما / هتكتْ غشاءَ المقلةِ العمياءِ
فرأتْ مخايلَ وادعٍ متواضعٍ / في صورةٍ من رقَّةٍ وحياءِ
متطامنِ النظراتِ إلا أنها / نفَّاذةٌ لمكامن الأهواءِ
متفرِّساتٍ في سكينةِ قانصٍ / لم يخْلُ من حذرٍ وفرط دهاءِ
شيخٌ أطلَّ على الشتاء وقلبُه / متوقِّدٌ كالجمرةِ الحمراءِ
مرَّ الرفاقُ به فشيَّع ركبهم / وأقام فرداً في المكانِ النائي
وطوى الحياةَ كدوحةٍ شرقيةٍ / أمستْ غريبةَ تربةٍ وسماءِ
لبستْ جلال وحادِها وترفَّعتْ / بالصمت عن لغوٍ وعن ضوضاءِ
لم تنزل الأطيارُ فيءَ ظلالها / أو تَبْنِ عُشّاً أو تَحُمْ بغناءِ
حتى إذا عرّى الخريف غصونها / من وشي تلك الحلَّة الخضراءِ
عَبَرت بها صدَّاحةٌ في سجعها / لُغةُ الهوى ورطانةُ الغرباءِ
وارحمتا للنسر يخفُق قلبهُ / بصبابة القُمريّة البيضاءِ
هي لُمعةُ القَبَسِ الأخير وقد خبا / نجمُ المساءِ ورعشةُ الأضواءِ
وتوثُّبُ الروح الحبيس وقد شدا / ثَمِلاً بسحرِ الليلةِ القمراءِ
وحنايةُ الحسنِ الغريرِ إذا رمى / فشريقُ دمعٍ أو غريقُ دماءِ
ومهاجرٍ ضاقتْ به أوطانُه / وتأثَّرتْهُ مخاوفُ الطرداءِ
لم تثنه شيخوخةٌ مكدودةٌ / دون السِّفارِ ولا صقيعُ شتاءِ
متطلبٍ حقَّ الحياةِ لخافِقٍ / أمسى مهيضَ كرامةٍ وإباءِ
من كان في أمسٍ يسوسُ أمورَهم / ضنُّوا عليه بفرحةِ الطُّلقاءِ
يقضونَ باسمِ المال فيه كأنما / ضمِنُوا لمصرَ مصادرَ الإثراءِ
هلَّا قضوا لمقاصفٍ ومصارفٍ / مغفورةٍ منهومةِ الأحشاءِ
أكلتْ دمَ الفلَّاح ثم تكَفَّلَتْ / بحصادِ حنطتِهِ وجلدِ الشاءِ
حبٌّ بلوتَ به العذابَ ومثلهُ / مِقَتُ السياسةِ وهي شرُّ بَلاءِ
عَصَفَتْ بأحلامِ الرجالِ وسفهت / رأيَ اللبيبِ ومنطقَ الحكماءِ
كم فوق ساحِلها خُطىً مطموسةٌ / كانت سبيل هدايةٍ ورجاءِ
وسفينةٌ مهجورةٌ محطومةٌ / حَمَلتْ لها البشرى طيورُ الماءِ
أين اللواءُ وربُّهُ وجماعةٌ / كانوا طليعةَ موكبِ الشهداءِ
وأخو يراعٍ في الصفوفِ مدافعٌ / بيَديْ حواريٍّ وصدرِ فدائي
لم يُنْصَفوا حتى ببعض حجارةٍ / خرساءَ ماثلةٍ لعين الرائي
ومضوا فما وجدوا كفاءَ صنيعهِم / تمثالَ حبٍّ أو مثالَ وفاءِ
تأبى السياسةُ غيرَ لونِ طباعِها / وتريدُ غيرَ طبائعِ الأشياءِ
قالوا أحبَّ الإنكليزَ وزادهم / ودَّ الحميم وموثق القرناءِ
ها قد أتى اليوم الذي صاروا به / أوفى الدعاةِ وأكرمَ الحلفاءِ
بتنا نغاضب من يغاضبهم ولا / نأبى رعايتهم على الضَّراءِ
رأيٌ أُخِذْتَ به وليس بعائبٍ / ذمَمَ الرجالِ مآخذُ الآراءِ
لكن سكتَّ فقيلَ إنَّك عاجزٌ / عن ردِّ عادية ودفعِ بلاءِ
صَمْتٌ تحيَّرَ فيه كلُّ مُحدِّثٍ / والصمتُ بعضُ خلائق الكرماءِ
في عالمٍ يُنسي الحليمَ وقارَهُ / ويُري البنينَ عداوةَ الآباءِ
وتَرى التوائمَ فيه بينَ عشيَّةٍ / متنافراتِ طبيعةٍ ورواءِ
جهدُ الكرامِ به افترارُ مباسمٍ / وتكلُّفٌ في القولِ والإصغاءِ
صُوَرٌ عرفتَ لُبابَها ولحاءَها / فكأنما خُلِقَت بغير لحاءِ
قد كنتَ تُخلصُ لي الودادَ فهاكهُ / شعراً يصونُ مَودَّةَ الخلصاءِ
يجدُ الرجالُ به على حسناتِهم / مدحِي وعن هنواتِهم إغضائي
فاصعدْ لربِّكَ فهو أعدلُ حاكمٍ / وهو الكفيلُ برحمةٍ وجزاءِ
وتلَقَّ من حكمِ الزمانِ وعدلِهِ / ما شاءَ من نقدٍ ومن إطراءِ
هيَ حانةٌ شتَّى عجائبها
هيَ حانةٌ شتَّى عجائبها / معروشةٌ بالزّهْرِ والقصبِ
في ظُلَّةٍ باتت تُداعبُها / أنفاسُ ليْلٍ مُقمِرِ السُّحُبِ
وزَهَتْ بمصباحٍ جوانبُها / صاف الزُّجاجةِ راقصِ اللهَبِ
باخوس فيها وهو صاحبُها / لم يخْلُ حين أفاق من عَجبِ
قد ظنَّها والسحر قالبُها / شِيدَت من الياقوت والذهبِ
إبريقهُ حَلْيٌ من الدُّرَرِ / يُزْهى به قَدَحٌ من الماسِ
وكأنَّ ما حوليه من صُورِ / متحركاتٌ ذاتُ أنفاسِ
تركتْ مواضعها من الأُطُرِ / ومشتْ له في شِبْهِ أعراسِ
منهنَّ عازفةٌ على وتَرٍ / مُتَفَجِّرٍ بأرقِّ إحساسِ
وغريرةٌ حوراءُ كالقمرِ / تحنو على شفتيهِ بالكاسِ
أوَ تلكَ حانتُهُ فوا عجبا / أم صُنْعُ أحلامٍ وأهواءِ
ومَنِ الخيالُ أهلَّ واقتربا / فينُوس خارجةً من الماءِ
في موكب يتمثَّلُ الطَّرَبا / ويميلُ من سحرٍ وإغراءِ
وبكلِّ ناحيةٍ فتىً وثبا / متعلقاً بذراعِ حسناءِ
يتوهجون صبابةً وصِبا / يتمثَّلونَ غريبَ أزياءِ
حُمْرُ الثيابِ تخالُ أنهمو / يَفِدونَ من حانوت قصّابِ
جلسوا نشاوى مِثلما قُدِموا / يترقبونَ منافذَ البابِ
يتهامسون وهمسُهُمْ نغمُ / يسري على رنَّاتِ أكوابِ
إن تسألِ الخمَّارَ قال هُمُو / عُشاقُ فَنٍّ أهل آدابِ
لولا دُخانُ التَّبغ خلتَهمو / أنصافَ آلهةٍ وأربابِ
من كلِّ مرسِل شَعرِهِ حِلَقا / وكأنها قِطعٌ من الحَلَكِ
غليونهُ يَستشرفُ الأُفُقا / ويكادُ يُحرقُ قُبَّةَ الفَلَكِ
أمسى يُبعثرُ حوله وَرقَا / فكأنه في وسْطِ مُعْتَرَكِ
فإذا أتاهُ وحْيُهُ انطلقا / يُجري اليَراعَ بكفِّ مرتبكِ
ويقول شعراً كيفما اتفقا / يُغري ذوات الثُّكل بالضحكِ
باخوسُ يروي عن غرائبهمْ / شتى أحاديثٍ وأنباءِ
قصصٌ تداوَلُ عن صواحبهمْ / وعن الصبايا فِتنةِ الرائي
وعن الخطيئةِ في مذاهبهمْ / بدأتْ بآدمَ أم بحوَّاءِ
والمُلْهِمَأتُ إلى جوانبهمْ / يُكثرْنَ من غمزٍ وإيماءِ
يَعجبنَ من فعل الشرابِ بهم / ويَلذْنَ من سأمٍ بإغفاءِ
وتلفتوا لما بدا شَبَحُ / فنانةٌ دَلَفَتْ من البابِ
سمراءُ بالأزهار تتَّشحُ / ألقتْ غُلالتها بإعجابِ
ومشت تُراقصهم فما لمحوا / إلَّا خُطى روحٍ وأعصابِ
وسرى بسرِّ رحيقهِ القدَحُ / في صوتِ شاجي اللحنِ مِطرابِ
وشدا بجوِّ الحانةِ الفرَحُ / لإلهةٍ فرَّتْ من الغابِ
هي رقصةٌ وكأنها حُلُمُ / وإذا بفينوس تمدُّ يدا
الكأسُ فيها وهي تضطرمُ / قلبٌ يهزُّ نداؤه الأبدا
زنجيةٌ في الفنِّ تحتكمُ / قد ضاع فنُّ الخالدين سُدى
فأجابت السمراءُ تبتسمُ / الفنُّ روحاً كان أم جسدا
يا أيها الشعراءُ ويحَكُمُ / الليلُ ولَّى والنهارُ بدا
أشباحُ جنٍّ فوق صدر الماءِ
أشباحُ جنٍّ فوق صدر الماءِ / تهْفُو بأجنحةٍ من الظلماءِ
أم تلكَ عُقْبانُ السماءِ وثَبْنَ من / قُننِ الجبالِ على الخضمِّ النائي
لا بل سفينٌ لُحْنَ تحت لواءِ / لمَن السفينُ تُرى وأيُّ لواءِ
ومَن الفَتى الجبَّارُ تحت شراعها / متربِّصاً بالموج والأنواءِ
يُعْلي بقبضته حمائلَ سيفهِ / ويَضُمُّ تحت الليل فضلَ رداءِ
ويُنيلُ ضوءَ النجم عاليَ جبهةٍ / من وسْمِ إفريقية السمراءِ
ذهَبٌ ببوتقة السَّنَى من ذوبهِ / مَسَحَتْ مُحيَّاهُ يدُ الصحراءِ
لونٌ جَلَتْ فيه الصحارَى سحرَها / تحت النجوم الغُرِّ والأنداءِ
وسماءِ بحرٍ ما تطامنَ موجُهُ / من قبلُ لابن الواحةِ العذراءِ
بحرٌ أساطيرُ الخيال شطوطُهُ / ومسابحُ الإلهامِ والإيحاءِ
ومدائنٌ سحْريَّةٌ شارفنَهُ / بنَخيلها وضفافها الخضراءِ
ومعابدٌ شمٌّ وآلهةٌ على / سُفُنٍ ذواهبَ بينهنَّ جوائي
أبطالُ يونانٍ على أمواجه / يطوون كل مفازة وفضاءِ
يتجاذبون الغارَ تحت سمائه / يتناشدونَ ملاحمَ الشعراءِ
مازال يرمي الرَّومَ وهو سليلهم / ويُديلُ من قرطاجة العصماءِ
حتى طَلَعْتَ بهِ فكنتَ حديثهُ / عجباً وأيُّ عجائبِ الأنباءِ
ويسائلونَ بِكَ البروقَ لوامعاً / والموجَ في الإزبادِ والإِرغاءِ
من عَلَّمَ البدويَّ نشرَ شراعها / وهَدَاهُ للإبحار والإرساءِ
أين القفارُ من البحارِ وأين من / جنِّ الجبالِ عرائسُ الدأماءِ
يا ابن القِبَاب الحُمرِ ويحك من رَمى / بِكَ فوق هذه اللجَّةِ الزرقاءِ
تغزو بعينيكَ الفضاءَ وخلفَهُ / أُفُقٌ من الأحلامِ والأضواءِ
جُزُرٌ مُنَوَّرَةُ الثغور كأنّها / قطراتُ ضوءٍ في حفافِ إناءِ
والشرقُ من بُعْدٍ حقيقةُ عالمٍ / والغربُ من قُرْبٍ خيالةُ رائي
ضحِكتْ بصفحته المُنى وتراقصتْ / أطيافُ هذي الجنَّةِ الخضراءِ
وَوَثَبْتَ فوق صخورها وتلمَّسَتْ / كفَّاكَ قلباً ثائرَ الأهواءِ
فكأنما لك في ذُرَاها مَوعِدٌ / ضَرَبَتْهُ أندلسيةٌ للقاءِ
ووقفتَ والفتيانُ حولكَ وانبرتْ / لكَ صيحةٌ مرهوبةُ الأصداءِ
هذي الجزيرةُ إنْ جهلتم أمرَها / أنتمْ بها رهطٌ منَ الغُرباءِ
البحرُ خلفي والعدوُ إزائي / ضاعَ الطريق إلى السفين ورائي
وتلفتوا فإذا الخضمُّ سحابةٌ / حمراءُ مُطبِقةٌ على الأرجاءِ
قد أحرقَ الرُّبانُ كلَّ سفينةٍ / من خلفه إلَّا شراعَ رجاءِ
ألقى عليه الفجرُ خَيطَ أشعّةٍ / بيضاءَ فوقَ الصخرة الشمَّاءِ
وأتى النهارُ وسار فيه طارقٌ / يبني لِمُلكِ الشرق أيَّ بناءِ
حتى إذا عَبرَتْ ليالٍ طوَّفَتْ / أحلامُه بالبحر ذاتَ مساءِ
يرعى على الأُفقِ المُرصَّع قريةً / أعظِمْ بها للغزو من ميناءِ
مَدَّ المساءُ لها على خُلجانها / ظِلاً فنامتْ فوق صدرِ الماءِ
طَلَعُوا جبابرةً عليكِ وثاروا
طَلَعُوا جبابرةً عليكِ وثاروا / وَوَقفْتِ أنتِ ورُوحكِ الجبَّارُ
عصفوا ببابكِ فاستُبيحَ فلم يكنْ / إلَّا جَهَنَّم هاجَها الإعصارُ
حربٌ إذا ذُكِرَتْ وقائعُ يومِها / شابَ الحديدُ لِهولِها والنارُ
لو قِيلَ أبطالُ العصورِ فمنهُمو / لحُماتِكِ الإعظامُ والإِكبارُ
أو عاَد هُوميرٌ وسحْرُ غنائهِ / ورأى مَلاحمَهم وكيفَ تُثارُ
وهمُو حُماةُ مدينةٍ محْصورَةٍ / دُكَّتْ على حُرَّاسِها الأسوارُ
نسِيَ الذي غنّاهُ في طُرْوادةٍ / وشدَا بهم وترنَّمَ القيثارُ
كم من أخيلٍ فيهمو لكنَّهُ / رُدَّ المُغيرُ بهِ وفُكَّ حِصارُ
لم تجْرِ مَلحَمةٌ بوصفِ كفاحِه / لكن جرت بدمائهِ الأنهارُ
نادَتْهُ من خَلفِ الشواطئِ أُمَّةٌ / هو عن حِماها الذائدُ المِغوارُ
إن يَسألوا عنه ففارسُ حَلْبة / لم يَخْلُ من وثْباتِه مضمارُ
أو يقرأوا تاريخَهُ فصحيفةٌ / إمضاؤُه فيها عُلىً وفخارُ
أو يبحثوا عن قبْرِهِ فمكانهُ / فيما يُظِلُّ العُشْبُ والأزهارُ
فيما يُغطِّي الثلْجُ تحت رُكامهِ / فيما تُعرِّي الريحُ والأمطارُ
هو مهجةٌ فنيَتْ بأرضِ مِعَادِها / ليتمَّ غرسٌ أو يَطيبَ ثِمارُ
هو موجةٌ ذابت ببحر وجودها / كيما يثورَ برحُها التيارُ
في شاطئٍ وقف العدوُّ إزاءَهُ / يبغي العبورَ ودونه أشبارُ
ما زال يدفعُ عنه كلَّ كتيبةٍ / حتى تلاشى الجحْفلُ الجرَّارُ
وهوى وفي شفتيْهِ بسمةُ ظافرٍ / أوْدى وتمَّ على يديهِ الثارُ
يُزهى به تحت الحديد وبأسِهِ / رأس يكلِّلُ مفرقيهِ الغارُ
يا ربَّةَ الأبطالِ لا هانَ الحِمى / وسلمْتِ أنتِ وقومُكِ الأحرارُ
أأقولُ أبناءُ الوغى أم جِنةٌ / وأقولُ آلهَةٌ أمِ الأقدارُ
يستنقِذونكِ من براثنِ كاسِرٍ / ماجتْ بهِ الآجامُ والأغوارُ
مُتربِّصِ السطوات تختبىءُ الرُّبى / وتفِرُّ من طُرُقاتِهِ الأشجارُ
قهَرَ الطبيعةَ صيفَها وشتاءَها / حتى أتاهُ شِتاؤكِ القهَّارُ
مجْد المدائن والقرى إن الذي / أبدعتِه فيه العقولُ تحَارُ
عجباً أأنتِ مدينةٌ مسحورةٌ / أم عالمٌ حاطَتْ به الأسرارُ
طُرُقٌ مُحيرةٌ يَضِلُّ ويَهتدي / فيها الكُماةُ وليسَ ثَمَّ قرارُ
عَزَّتْ على قَدَمِ العدوِّ كأنما / من زِئبقٍ صيغت بها الأحجارُ
ومنازلٌ مشبوبةٌ وكأنها / للجنِّ في وادي اللظى أوكارُ
وترى زَبانيَةَ الجحيمِ ببابها / ضاقت بهم غُرَفٌ وناءَ جدارُ
يتصارعون بأذرعٍ مخضوبةٍ / والسقفُ فوق رؤوسهم يَنهارُ
يتنازعون بها الطِّباقَ خَرائبا / دَمِيَتْ على أنقاضها الأظفارُ
ما زِلْتِ صامِدة لهم حتَّى إذا / سَهَتِ العقولُ وزاغتِ الأبصارُ
وتقَبَّضَ المستَقتِلونَ وعربدَتْ / أيدي الرُّماةِ وعرَّدَ البتَّارُ
وتقوَّض الحِصنُ المنيعُ ولم يكن / إلَّا جِدارٌ يحتويهِ دَمارُ
وقسَا عليكِ المرجِفون وحدَّثوا / أنْ ليس تمضي ليلةٌ ونهارُ
أطبقتِ كالنَّسرِ المحلِّقِ ما لهمْ / منه ولا من مِخلبيهِ فِرارُ
وتفرَّستكِ قلوبهم فترنَّحوا / رُعْباً وأنتِ الخمرُ والخمّارُ
وخَبَتْ مَدافِعُهم وذاب حديدهم / والثَّلجُ يَعجبُ واللَّظى الموَّارُ
يا فِتيَةَ الفُولجا تحيَّة شاعرٍ / رقَّتْ له في شدوِهِ الأشعارُ
ملاَّحُ وادي النِّيلِ إلا أنهُ / أغرَته بالتِّيهِ السَّحيقِ بحارُ
أبداً يطوِّفُ حائراً بشراعهِ / يَرمي به أُفقٌ وتقذِفُ دارُ
إني رَفعْتُ بكم مِثالاً رائعاً / يُوما إليهِ في العُلى ويُشارُ
لشبابِ مِصرَ وهم بُناةُ حياتِها / وحُماتُها إنْ حاقتِ الأخطارُ
وبمثلِ ما قدَّمتمو وبذَلْتُمُو / تغلو الدِّيارُ وترخُصُ الأعمارُ
هذي مَدينتُكم وذاك صِراعُها / رمزٌ لكلِّ بُطولةٍ وشعارُ
جِئتمْ بكلِّ عجيبةٍ لم تحتفِلْ / يوماً بمثلِ حديثها الأمصارُ
تتحدَّثُ الدُّنيا بها وبصُنعكمْ / وتُحدِّثُ الأجيالُ والأدهارُ
أحقيقةٌ في الكونِ أم أُسطورةٌ / هذا الصِّراعُ الخالدُ الجبَّارُ
يا وحيَ شعري أينَ أنتْ
يا وحيَ شعري أينَ أنتْ / في أيِّ زاويةٍ ركَنْتْ
هل رُحْتَ في إغماءةٍ / أم بالمخدِّر قد حُقِنْتْ
أم نِمْتَ أم نام الزما / نُ أم اعتُقِلتَ أم انسجنْتْ
أم خِفْتَ من قلم الرَّقي / بِ فما أشرتَ وما أبنْتْ
أم هل سُقِيتَ كزوزةً / أم هل حَسَوْتَ البرمننْتْ
أم قد شربتَ زجاجةً / من صنع بار الكونتننتْ
أم في خزانة صالحٍ / تركوك سهواً فاختُزنْتْ
أم في البنوكِ لأزمةٍ / حَلَّتْ بأهلك قد رُهنْتْ
أم ذاك جندولُ الحَبي / بِ إلى لياليهِ حَنَنْتْ
وإلى عروس البحر هِمْ / تَ وفي شواطئها كمنْتْ
أم زُغْتَ يوم الانتخا / بِ ولستَ عضوَ البرلمنْتْ
لم تَدْرِ ما نالَ الرَّئي / سُ أزاد صوتاً أم كرَنْتْ
أنكرتَ ضَجَّةَ معشرٍ / لم ينصفوك وقد غُبِنْتْ
أم طِرْتَ في جوِّ الحَلِي / فَةِ مُنجداً أبطالِ كنْتْ
يا وحيُ كم من غارةٍ / شعواءَ فيها قد شَننْتْ
أم ثُرْتَ للحقِّ الطَّرِي / دِ وبالبطولة قد فُتِنْتْ
فسللتَ سيفَ مُدافعٍ / عن كالماس أو كُرِنْتْ
يا وحيَ شعري ما سكو / تك في الخطوب ألا حزنْتْ
أفَقدتَ رُشدك أم شعو / رَكَ بالحياةِ إذنْ جُنِنْتْ
عشرون يوماً جاوز التْ / تَقديرُ فيها ما ظَننْتْ
يا وحيَ شعري مُذْ نَأَيْ / تَ وهَى بياني أو وهنْتْ
بعد القصائد كالقلا / ع مشيَّداتٍ بالسمنْتْ
من كلِّ بيتٍ مشرِق / يُزرى بقصر اللابرنْتْ
أمسيتُ بعدك كل قا / فيةٍ نطقتُ بها لحنْتْ
يا وحي شعري هل أُسِرْ / تَ وأنت تهجم أم طُعِنْتْ
أم غُصْتَ في لجج البحا / رِ وفي مجاهلها دُفِنْتْ
أبكي عليكَ بكاءَ لا / مَرتين قبراً في سُرَنْتْ
يا وحيَ شعري أين أنتْ / في أيِّ زاويةٍ رَكْنتْ
زَهَرَاتُكِ الحُمْرُ التي أسْلمْتِها
زَهَرَاتُكِ الحُمْرُ التي أسْلمْتِها / بيديْ مودِّعةٍ يمينَ مُودِّعِ
لما وصلتُ إلى المصيف حملتُها / كالطفلِ نامَ على ذراعِ المرضعِ
أمشي بها فوق الرِّمالِ كأنني / أمشي بطيفٍ في الظَّلامِ مُقنَّعِ
مَضْمومةَ الورَقاتِ طيَّ غِلالَةٍ / وُسمَتْ بطابَعِ ذوقكِ المترفِّعِ
محْجوبةً كأميرةٍ شرقيةٍ / في هَوْدَجٍ أستارُهُ لم تُرفَعِ
حتى إذا أويتُها بَعْدَ السُّرى / وخلعْتُ عنها لِبسةَ المتمنِّعِ
هَشَّتْ لآنيتي وأشرَق لونُها / وتردّدتْ أنفاسُها في مَضْجعي
ومضتْ تُخالِسُني حَييَّ لحاظها / لا تشتكي سَهْراً وفَرْطَ تطلُّعِ
هي أنتِ أحلامٌ تغازلُ ناظري / وتصبُّ حُلوَ حَديثها في مِسمعي
هي أنتِ أطيافٌ تعانقُ مُهجتي / وتفِرُّ حين تُحسُّ حُرْقةَ أضلعي
أمستْ تُعابثُني وملءُ شفاهها / من مُغرياتكِ بسمةٌ لِتَولُّعي
ومكرتِ مكرَكِ يا حبيبةُ وانقضى / ليلي وأنتِ لديَّ ساهرةٌ معي
أرسلتِها عيناً عَلَيَّ رقيبةً / تأتيكِ بالخبرِ العجيبِ الممتِعِ
تُحصي حَراكيَ إن مشيتُ لشرفتي / وتَعدُّ خطوي إن رجعتُ لموضعي
شهِدَتْ بأني مُذ تركتُكِ حائرٌ / متفرِّدٌ بصبَابتي في مخْدعي
يا للعذوبةِ يا حبيبيَ حين أهبطُ للنَّهَرْ
يا للعذوبةِ يا حبيبيَ حين أهبطُ للنَّهَرْ /
كيْ أستحمَّ وأنتَ تمعنُ في مفاتنيَ النظرْ /
لودِدْتُ لو أني أمامك قد جلوتُ محاسني /
بغِلالةٍ مُبتلَّةٍ كشفت جميعَ مفاتني /
أهوَى إلى الماءِ الهبوطَ وأشتهي أن أتبعَكْ /
وأشدُّ ما أهواهُ منهُ صعودُنا وأنا معَكْ /
بيديَّ من سمكاتِهِ حمراءُ رائقةُ الجمالْ /
فتعالَ لي أنظرْ إليكَ تعالَ وانظرْ لي تعالْ /
لِمَ أنتِ أيَّتُها الطبيعةُ كالحزينةِ في بلادي
لِمَ أنتِ أيَّتُها الطبيعةُ كالحزينةِ في بلادي /
لولا أغاريدٌ ترسَّلُ بين شاديةٍ وشادي /
وخيالُ ثوْرٍ حول ساقيةٍ يُراوح أو يُغادي /
وقطيعُ ضأنٍ في المروجِ الخضرِ يضربُ بالهوادي /
لحسبتُ أنك جَنَّةٌ مهجورةٌ من عهدِ عادِ /
هجروكِ لا كنتِ العقيمَ ولستِ مُنجبةَ القَتادِ /
عجباً وماؤك دافقٌ ونجومُ أرضكِ في اتِّقاد /
حُسْنٌ يروع طرازهُ ويُمَلُّ في نَسقٍ مُعاد /
أرنو إليه ولا أحسُّ بفرحةٍ لكِ في فؤادي /
حسناءَ ساذجةَ الملامح في إطارٍ من سوادِ /
دِمَنٌ يُقالُ لها قُرىً غرقى أباطحَ أو وهاد /
الطينُ فيها واليراعُ أساسُ رُكنٍ أو عماد /
يأوي لها قومٌ يقال لهم جبابرة الجلاد /
وهمو ضعافٌ أوثروا بشقائهم بين العباد /
المكثرون الزادَ لم يتمتعوا بوفير زاد /
لهمو الغراسُ وَرَعيُهُ ولغيرهم ثمرُ الحصاد /
لو كنتِ في الغرب الصناع لكنتِ قِبلة كلِّ هادي /
وافتنَّ فيكِ الفنُّ بالروح المحرِّكِ للجماد /
وتفجَّرَ المرَحُ الحبيسُ بكل ناحيةٍ ووادي /
ولقلتُ أبتدر الشُّداةَ غداةَ فخرٍ أو تنادي /
هذي الروائعُ فيكِ لم تُخْلَق لغيركِ يا بلادي /
كم ليلةٍ حمراءَ خِلْتُ ظلامَها
كم ليلةٍ حمراءَ خِلْتُ ظلامَها / يَدَ ماردٍ سلَّتْ خضيبَ حُسامِ
وكأنَّ كلَّ سحابةٍ أُفقها / شَبَحُ الخطيئةِ فوق عِرْضٍ دامي
وكأنَّ أنجمها نوافذُ حانةٍ / شَرِبَ الدّخانُ بها بريقَ الجامِ
وكأنَّ أنوارَ المدينةِ تحتها / سُرُجُ الغَوايةِ في طريق حَرامِ
همدَ الهواءُ بها فجهدُ حَراكهِ / هَبَواتُ نارٍ في نفيثِ قَتامِ
وكأنما اختنقَ الفضاءُ فكلُّ ما / فيه صريعٌ أو وشيكُ حِمامِ
ألفيتني جسداً تُسارقُ روحَهُ / قُبَلٌ عواصفُ ضُرّجتْ بأثامِ
أجتاحُها وأضجُّ من لذعاتها / فكأنها بدمي نقيعُ سمامِ
وعلى يَدَيْ مسمورةٍ مخمورةٍ / ألتذُّ كالمقرورِ حرَّ ضرامِ
متضائلَ الأفكار مهدورَ القُوى / متزايلَ الأهواءِ والأحلامِ
هي من تُرى هيَ هنَّ هنَّ جواذبي / بأنيقِ ثوبٍ أو رشيقِ قوامِ
الشارداتُ العائداتُ مع الضحّى / الطارداتُ وراءَ كلِّ ظلامِ
هن اللواتي إنْ صحوتُ فإنني / منهنّ طالبُ مَهْربٍ وسلامِ
أخمدتُ فوق شفاههنّ شبيبتي / وذبحتُ بين عيونهنَّ غرامي
أقبَلتِ أم أمعنتِ في الإِعراضِ
أقبَلتِ أم أمعنتِ في الإِعراضِ / إنِّي بحبّكِ يا جميلةُ راضي
واللّه ما أعرضتِ بل جَنَّبتِني / شططَ الهوى وسموتِ عن أغراضي
ألقاك لستُ أراكِ إلَّا فِتنةً / عُلويّةَ الإشراقِ والإيماضِ
كم رُحتُ أُغمضُ ناظري من دونها / فأراهُ لا يقوَى على الإِغماضِ
وذهبتُ ألتمسُ السلوَّ وأطلقتْ / نفسِي زِمامَ جوادها الركَّاضِ
يجتازُ نارَ مفازةٍ مشبوبةٍ / ويخوض بَرْدَ جداولٍ ورياضِ
ولقِيتُ غيركِ غير أنَّ حُشاشتي / لم تَلقَ غير الوقدِ والإرماضِ
واعتضتُ باللذَّاتِ عنكِ فلم تجدْ / رُوحي كلذَّةِ حُلمكِ المعتاضِ
وأطعْتُ ثم عَصيتُ ثم وجدتني / بيديكِ لا عن ذلَّةٍ وتغاضي
لكن لأنّكِ إن خطرتِ تمثَّلتْ / دُنياكِ تسعَى لي بأروعِ ماضي