المجموع : 4
ما للقبور كأنّما لا ساكن
ما للقبور كأنّما لا ساكن / فيها و قد حوت العصور الماضية
طوت الملايين الكثيرة قبلنا / و لسوف تطوينا و تبقى خالية
أين المها و عيونها و فتونها ؟ / أين الجبابر و الملوك العاتية ؟
زالوا من الدنيا كأن لم يولدوا / سحقتهم كفّ القضاء القاسية
إنّ الحياة قصيدة أعمارنا / أبياتها و الموت فيها قافية
متّع لحظك في النجوم و حسنها / فلسوف تمضي و الكواكب باقية
كم بين طيّات الدهور الخالية
كم بين طيّات الدهور الخالية / عظة لأبناء الدهور الآتية
عبر اللّيالي كاللّيالي جمّة / لكنّما النزر القلوب الواعية
الدّهر يفنينا و نحسب أنّه / يفني بنا أيّامه و لياليه
فاذا مشى فينا الفناء فراعنا / خلق الخيال لنا الحياة الثانية
إنّ الحياة قصيدة أبياتها / أعمارنا و الموت فيها القافية
كم تعشق الدنيا و تنكر صدّها / أنسيت أنّ الخلف طبع الغانية ؟
و تودّ لو يبقى عليك نعيمها / أجهلت أن عليك ردّ العارية ؟
خل الغرور بما لديك فإنّما / دنياك زائلة و نفسك فانية
إنّ الألى وطئت نعالهم السّهى / و طئت جبالهم نعال الماشية
لو أنّ حيّا خالد فوق الثّرى / ما مات " هرون " و زال " معاوية "
أو كان عزّ دائما ما أصبحت / " بغداد " في عدد الطلول البالية
أخنت عليها فدورها / خرب تعاودها الرياح السّافية
يأوى إليها البوم غير مروّع / من كلّ نعّاب أحمّ الخافيه
نزل القضاء فما حماها سورها / ولطالما ردّ الجيوش الغازية
و اجتاح مجتاح العروش ملوكها / فكأنهم أعجاز نخل خاوية
أين القصور الشاهقات و أهلها / باد الجميع فما لهم من باقية
درست معالمها و غيّرها البلى / و لقد ترى حلل المحاسن كاسية
أيّام لا دوح المعارف ذابل / ذاو و لا دور الصّناعة خالية
أيّام لا لغة " الكتاب " غريبة / فيها و لا همم الأعارب وانية
أيّام كان العلم يغبط أهله / أهل الثراء ذوو البرود الضافية
أيّام كان لكلّ حسن شاعر / كلف به و لكلّ شعر راويه
أيّام " دجلة " مطمئن هاديء / جذلان يهزأ بالبحور الطامية
" النيل " خادمه الأمين و عبده / " نهر الفرات " و كلّ عين " جارية "
تهوى الكواكب أنّها حصباؤه / أو أنّها شجر عليه حانيه
و تودّ كلّ سحابة مرّت به / لو أنّه سحب عليها هامية
و ترى الغزاله طيفها عند الضحى / في سطحه فتبيت عطشى راوية
أيّام كان الشرق مرهوب / يكسو الجلال سهوله و روابيه
أيّام تحسها العواصم مثلما / حسد العواطل أختهنّ الحالية
و لطالما كانت تعزّ بعزّها / " مصر " و يحمي ذكرها " أنطاكيه "
أيّام " هرون " يدير شؤونها / يا عصر ط هرون " عليك سلاميه
ملك أدال من الجهالة علمه / و أذلّ صارمه الملوك العاتيه
ز مشت تطوّف في البلاد هباته / تغشى حواضرها و تغشى البادية
ملأ البلاد عوارفا و معارفا / و الأرض عدلا و النفوس رفاهيه
فتحضّر البادون في أيّاه / و استأنست حتّى الوحوش الضارية
و تسربلت " بغداد " ثوب مهابة / ليست تراه أو " تراه " ثانيه
هاتيك أيّام تلاشت مثلما / تمحو من الرقّ الحروف الماحية
لم يبق إلاّ ذكرها يا حسنها / ذكرى تهشّ لها العظام الباليه
لو أنّ هذا الدهر سفر كنت يا / عصر الحضارة متنه و الحاشية
عصر لئن جاء البشير بعودة / فلأخلعنّ على البشير شبابيه !..
إيه " أبا المأمون " ذكرك آبد / في الأرض مثل الشامخات الراسيه
باق على مرّ العصور بقاءها / و كذاك ذكر ذوي النفوس السامية
إن لم يكن لك مثال بيننا / فلأنّ روحك كلّ حين دانيه
هي في الخمائل زهرة فيّاحة / هي في الكواكب شمسها المتلالية
إنّي لأعجب كيف متّ و في الروي / حيّ و كيف طوتك هذي الطاوية
و من الزمان يهدّ ما شيّدته / ويح الزمان أما تهيّب بانيه ؟
تشكو إليك اليوم نفسي شجوها / فلأنت مفزع كلّ نفس شاكية
أتراك تعلم أنّ دارك بدّلت / من صوت " إسحق " بصوت النّاعية ؟
أتراك تعلم أنّ ما أثلته / قد ضيّعته الأنفس المتلاهية ؟
يا ويح هذا الشرق بعدك إنّه / للضعف بات على شفير الهاوية
ما كان يقنع بالنجوم وسائدا / و اليوم يقنع أهله بالعافية !
مسترسلون إلى الذهول كأنّما / سحروا أو اصطر عوا ببنت الخابية
مستسلمون إلى الفضاء كأنّما / أخذوا و لمّا يؤخذوا بالغاشية
ألمجد إدراك النفيس و عندهم / ما المجد إلاّ شادن أو شادية
يهوى الحياة الناس طوع نفوسهم / و هم يريدون الحياة كما هيه
صغرت نفوسهم فبات عزيزهم / يخشى الجبان كما يخاف الطاغية
حملوا المغارم ساكتين كأنّما / كبرت على أحناكهم لا الناهية
لم تسمع الدنيا بقوم قبلهم / ماتوا و ما برحوا الديار الفانية
الله لو حرصوا على أمجادهم / فتلك عنوان الشعوب الراقية
ملك " العلوج " أمورهم و متاعهم / حتّى سوامهم و حتّى الآنية
وا خجلة العربيّ من أجداده / صارت عبيدهم الطغاة موالية !..
أبني الغطارفة الجبابرة الألى / و طئوا " اللّوار " و دوّخوا " إسبانية "
من حولكم و أمامكم تاريخهم / فاستخبروه فذاك أصدق راويه
قادوا الجيوش فكلّ سهل ضيّق / ورموا المعاقل فهي أرض داحيه
و سطوا فأسقطت العروش ملوكها / رعبا و أجفلت الصروح العالية
و مشوا على هام النجوم فلم تزل / في اللّيل من وجل تحدّق ساهية
وردت خيولهم المجرّة شزّبا / و الشهب من حول المجرّة صادية
أعطاهم صرف الزمان زمامه / أمنوا و ما أمن الزمان دواهيه
لا أستفزّكم لمثل فتوحهم / لكن إلى حفظ البقايا الباقية
أتذلّ آناف الملوك جدودكم / و تسومكم خسفا رعاة الماشية ؟
كم تصبرون على الهوان كأنّكم / في غبطة و الذّلّ نار حامية
يا للرجال ! أما علمتم أنّكم / إن لم تثوروا أمّة متلاشية ؟
" دار السّلام " تحيّة من شاعر / حسدت مدامعه عليك قوافية
فأراق ماء شؤونه و لو أنّه / في الغاديات أراق ماء الغادية
لو كل مجدك مستردا بالبكا / قطرت محاجره الدماء القانية
فعليك تذهب كلّ نفس حسرة / و لمثل خطبك تستعار الباكية !!
لمّا سألت عن الحقيقة قيل لي
لمّا سألت عن الحقيقة قيل لي / الحقّ ما اتّفق السواد عليه
فعجبت كيف ذبحت ثوري في الضّحى / و الهند ساجدة هناك لديه
نرضى بحكم الأكثريّة مثلما / يرضى الوليد الظّلم من أبويه
إمّا لغنم يرتجيه منهما / أو خيفة من أن يساء إليه
شاهدتها كالميْت في أكفانه
شاهدتها كالميْت في أكفانه / فوجئت إلاّ عبرة أذريها
مهجورة كسفينة منبوذة / في الشّطّ غاب وراءه ماضيها
نسجت عليها خيوطها / و كسى الغبار غلالة تكسوها
أقوت و باتت كالمسامع بعدها / لا شيء يطربها و لا يشجيها
و كأنّها في صمتها مشدوهة / أن لا ترى بهتافها مشدوها
لاحسّ في أوتارها لا شوق في / أضلاعها لا حسن في باقيها
فارزح بحزنك يا حزين فإنّها / لا تنشر الشّكوى و لا تطويها
و إذا انفضى عهد التعلّل بالمنى / فالنّفس يشفقيها الذي يرديها
لله عهد مرّ لي ظلّها / أبكى عليه و تارة أبكيها
كانت كأنّ ضاوعها موصوله / بأضالعي و سرائري في فيها
كم مرّة حامت غرابيب الأسى / لتقيت من قلبي الجريح بنيها
فإذا الأغاريد اللّطيفة دونها / سور يصون حشاشتي و يقيها
كم هزّني الشّدو الرخيم فساقطت / نفسي همومما أوشكت تبليها
فإذا أنا مثل البنفسجية التي / ذبلت فباكرها النّدى يحييها
و لكم سمعت خفوق أجنحة المنى / و حفيفها في نغمة توحيها
فسكرت حتّى ما أوعى سكر امريء / بالخمر أترع كأسه ساقيها
ورأيتني من جنّة سحريّة / لا يرتوي من حسنها رائيها
و لمحت أحلام الشّباب مواكبا / تتلاى أمامي و الهوى حاديها
سرّ السعادة في الرّوءى إنّ الرءوى / لا كفّ تثبتها و لا تمحوها
و لكم سمعت دبيب أشباح الأسى / عند المسا في أنّه تزجيها
فذكرت ثمّ محاسنا الثرى / غابت و شوّهها البلى تشويها
فإذا أنا كالسنديانه شوشت / أغصانه الريح التي تلويها
أو كالسفينة في الضباب طريقها / ضلّت و غابت أنجم تهديدها
شهد الدّجى و الفجر أنّي جازع / لسكونها جزع الغدير أخيها
ما أن سمعت أنينه و نشيجه / إلاّ و يعرو النفس ما يعروها
روّى الثرى يا ليت روحي في الثرى / أو في النبات لعلّة يرويها
يا صاحبيّ و في حنايا أضلعي / همّ يكظّ الروح بل يدميها
إنّ التي نقلت حكايات الهوى / لم يبق غير حكاية ترويها
كمدينة دكّ القضاء صروحها / دكّا و كفّن بالسكوت ذويها
نعيت فريع الفجر و ارتعش الدّجى / ما كان أهونها على ناعيها
لا تعجبا في الغاب من نوح الصّبا / و عويلها إنّ الصّبا ترثيها
لو تسمعان نجّيها متمشّيا / كالسّحر في الأرواح يستهويها
لعلتما أنّ القضاء اغتالها / كيلا تبوح بكلّ سرّ فيها