المجموع : 3
قَضَيْتُ أَدوارَ الحَيَاةِ مُفَكِّراً
قَضَيْتُ أَدوارَ الحَيَاةِ مُفَكِّراً / في الكَائِناتِ مُعَذَّباً مَهْمُوما
فَوَجَدْتُ أَعراسَ الوُجُود مآتِماً / ووجدْتُ فِرْدَوْسَ الزَّمانِ جَحِيما
تدوي مَخَارِمُهُ بضَجَّةِ صَرْصَرٍ / مشبوبةٍ تَذَرُ الجِبالَ هَشِيما
وحَضَرْتُ مائدَةَ الحَيَاةِ فلمْ أَجِدْ / إلاَّ شراباً آجِناً مَسْمُوما
ونَفَضْتُ أَعماقَ الفَضَاءِ فلمْ أَجِدْ / إلاَّ سُكوناً مُتعَباً مَحْمُوما
تتبخَّرُ الأَعمارُ في جَنَباتِهِ / وتَمُوتُ أَشواقُ النُّفوسِ وُجُوما
ولَمَسْتُ أَوتارَ الدُّهُورِ فلمْ تُفِضْ / إلاَّ أَنيناً دامياً مَكْلُوما
يَتْلو أَقاصيصَ التَّعاسَةِ والأَسى / ويُصِيرُ أَفراحَ الحَيَاةِ هُمُوما
شُرِّدْتُ عن وَطَني الجميل أَنا الشَّقِ / يُّ فَعِشْتُ مَشْطورَ الفؤادِ يتيما
في غُربةٍ رُوحيَّةٍ مَلْعُونةٍ / أَشواقُها تَقْضي عِطاشاً هِيما
يا غُربَةَ الرُّوحِ المُفَكِّر إنَّهُ / في النَّاسِ يحيا سَائماً مَسْؤُوما
شُرِّدْتُ للدُّنيا وكُلٌّ تائهٌ / فيها يُرَوِّعُ راحلاً ومقيما
يدعو الحَيَاةَ فلا يُجيبُ سِوَى الرَّدى / ليدُسُّهُ تَحْتَ التُّرابِ رَميما
وتِظِلُّ سَائِرةً كأنَّ فقيدها / مَا كانَ يوماً صاحباً وحميما
يا أَيُّها السَّاري لقد طالَ السُّرى / حَتَّام تَرْقُبُ في الظَّلامِ نُجُوما
أَتَخَالُ في الوادي البعيدِ المرتَجَى / هيهاتَ لنْ تَلْقَى هناكَ مَرُوما
سرْ مَا اسْتَطَعْتَ فَسَوْفَ تُلفِي مثلما / خلَّفتَ مَمشُوقَ الغُصونِ حَطيما
بيتٌ بَنَتْهُ ليَ الحَيَاةُ من الشَّذَى
بيتٌ بَنَتْهُ ليَ الحَيَاةُ من الشَّذَى / والظِّلِّ والأَضواءِ والأَنغامِ
بيتٌ من السِّحْرِ الجميلِ مشَيَّدٌ / للحبِّ والأَحلامِ والإلهامِ
في الغابِ سِحْرٌ رائعٌ متجدِّدٌ / باقٍ على الأَيَّامِ والأَعوامِ
وشذًى كأَجنحَةِ الملائكِ غامضٌ / سَاهٍ يُرفرفُ في سُكونٍ سَامِ
وجداولٌ تشدو بمعسولِ الغِنا / وتسيرُ حالمةً بغيرِ نِظامِ
ومخارفٌ نَسَجَ الزَّمانُ بساطَها / مِنْ يابسِ الأَوراقِ والأَكمامِ
وحَنَا عليها الدَّوْحُ في جَبَروتِهِ / بالظّلِّ والأَغصانِ والأَنْسامِ
في الغابِ في تِلْكَ المخارف والرُّبى / وعلى التِّلاعِ الخُضْر ولآجامِ
كم مِنْ مشاعِرَ حلوةٍ مجهولةٍ / سَكْرى ومِنْ فِكَرٍ ومن أوهامِ
غنَّتْ كأَسرابِ الطُّيورِ ورفرفت / حولي وذابتْ كالدُّخانِ أَمامي
ولَكَمْ أَصَخْتُ إلى أَناشيدِ الأَسى / وتنهُّدِ الآلامِ والأَسقامِ
وإلى الرِّياحِ النَّائحاتِ كأَنَّها / في الغابِ تبكي ميّت الأَيَّامِ
وإلى الشَّبابِ مغَنِّياً متَرَنِّماً / حوْلي بأَلحانِ الغَرامِ الظَّامي
وسَمِعْتُ للطَّيرِ المغرِّدِ في الفضَا / والسِّنديانِ الشَّامخِ المتَسامي
وإلى أَناشيدِ الرُّعاةِ مُرِفَّةً / في الغابِ شاديةً كسِرْبِ يَمامِ
وإلى الصَّدى المِمْراحِ يهتُفُ راقصاً / بَيْنَ الفِجاجِ الفيحِ والآكامِ
حتَّى غَدَا قلبي كنايٍ متْرعٍ / ثَملٍ من الأَلحانِ والأَنغامِ
فَشَدَوْتُ باللَّحنِ الغريبِ مجنَّحاً / بكآبَةِ الأَحلامِ والآلامِ
في الغابِ دنيا للخيالِ وللرُّؤى / والشِّعرِ والتفكيرِ والأَحلامِ
للهِ يومَ مضيتُ أوَّلَ مرَّةٍ / للغابِ أَرزحُ تَحْتَ عبءِ سَقامي
ودخَلتُهُ وحدي وحوْلي موكبٌ / هَزِجٌ من الأَحلامِ والأَوهامِ
ومشيتُ تَحْتَ ظِلالهِ متَهَيِّباً / كالطِّفلِ في صَمْتٍ وفي استسلامِ
أَرنو إلى الأَدواحِ في جبروتها / فأخالُها عَمَدَ السَّماءِ أَمامي
قَدْ مسَّها سِحْرُ الحَيَاةِ فأَوْرَقَتْ / وتَمَايَلَتْ في جنَّةِ الأَحلامِ
وأُصيخُ للصَّمتِ المفكِّرِ هاتفاً / في مِسمعي بغرائبِ الأَنغامِ
فإذا أَنا في نشوَةٍ شِعريَّةٍ / فيَّاضَةٍ بالوحيِ والإِلهامِ
ومشاعري في يقظة مسحورة /
وَسْنَى كيقظةِ آدَمٍ لمَّا سَرَى / في جسمهِ روحُ الحَيَاة النَّامي
وَشَجتْهُ موسيقى الوُجُودِ وعانقتْ / أَحلامَهُ في رقَّةٍ وسَلامِ
ورأى الفَراديسَ الأَنيقَةَ تنثني / في متْرَفِ الأَزهارِ والأَكمامِ
ورأى الملائكَ كالأَشعَّةِ في الفَضَا / تَنْسابُ سابحةً بغيرِ نظامِ
وأَحسَّ روحَ الكونِ تخفقُ حولهُ / في الظِّلِّ والأَضواءِ والأَنسامِ
والكَائِناتِ تحوطُهُ بحَنانها / وبحبِّها الرَّحْبِ العميقِ الطَّامي
حتَّى تَمَلأ بالحَيَاةِ كيانُهُ / وسعى وراءَ مواكبِ الأَيَّامِ
ولَرُبَّ صُبْحٍ غائمٍ متحجِّبٍ / في كِلَّةٍ من زَعْزَعٍ وغَمامِ
تتنَفَّسُ الدُّنيا ضَباباً هائماً / متدفِّعاً في أُفْقهِ المُتَرامي
والرِّيحُ تخفقُ في الفَضَاءِ وفي الثَّرى / وعلى الجبالِ الشُّمِّ والآكامِ
باكَرْتُ فيهِ الغابَ موهونَ القُوَى / متخاذِلَ الخُطُواتِ والأَقدامِ
وجلستُ تَحْتَ السِّنديانَةِ واجماً / أرنو إلى الأُفُقِ الكئيبِ أَمامي
فأَرى المبانيَ في الضَّبابِ كأَنَّها / فِكْرٌ بأَرضِ الشَّكِّ والإِبهامِ
أَو عالَمٌ مَا زالَ يولَدُ في فضا / ءِ الكونِ بَيْنَ غياهبٍ وسدامِ
وأرى الفِجاجَ الدَّامِساتِ خلالَهُ / ومشاهدَ الوديانِ والآجامِ
فكأَنَّها شُعَبُ الجَحيمِ رهيبةً / ملفوفةً قي غُبْشَةً وظَلامِ
صُوَرٌ من الفنِّ المروِّعِ أعجزتْ / وَحْي القريض وريشَةَ الرَّسَّامِ
ولَكَمْ مَسَاءٍ حالمٍ متوشِّحٍ / بالظِّلِّ والضَّوءِ الحزينِ الدَّامي
قَدْ سِرْتُ في غابي كفِكْرٍ هائمٍ / في نَشْوَةِ الأَحلامِ والإِلهامِ
شِعري وأَفكاري وكُلُّ مشاعري / مَنْشورةٌ للنُّورِ والأَنْسامِ
والأُفْقُ يزخَرُ بالأَشعَّةِ والشَّذى / والأَرضُ بالأَعشابِ والأَكمامِ
والغابُ ساجٍ والحياةُ مُصِيخةٌ / والأفْقُ والشَّفَقُ الجميلُ أَمامي
وعروسُ أحلامي تُداعبُ عُودَهَا / فيرنُّ قلبي بالصَّدى وعظامي
روحٌ أَنا مسحورةٌ في عَالمٍ / فَوْقَ الزَّمانِ الزَّاخرِ الدَّوَّامِ
في الغابِ في الغابِ الحبيبِ وإنَّهُ / حَرَمُ الطَّبيعَةِ والجمالِ السَّامي
طهَّرْتُ في نارِ الجمالِ مَشاعري / ولقيتُ في دنيا الخَيالِ سَلامي
ونسيت دنيا الناس فهي سخافة / سكرى من الأوهام والآثام
وقَبسْتُ من عَطْفِ الوُجُودِ وحُبِّهِ / وجمالهِ قبساً أَضاءَ ظلامي
فرأيتُ أَلوانَ الحَيَاةِ نضيرةً / كنضارَةِ الزَّهرِ الجميلِ النَّامي
ووجدتُ سحرَ الكونِ أَسمى عنصراً / وأَجلَّ من حُزْني ومِنْ آلامي
فأَهَبْتُ مسحورَ المشاعر حالماً / نشوانَ بالقلبِ الكئيب الدَّامي
أَلمعبدُ الحيُّ المقدَّسُ ها هنا / يا كاهِنَ الأَحزانِ والآلامِ
فاخلعْ مُسُوحَ الحزنِ تَحْتَ ظِلالِهِ / والبسْ رِداءَ الشِّعرِ والأَحلامِ
وارفعْ صَلاتَكَ للجمالِ عَميقةً / مشبوبةً بحرارَةِ الإِلهامِ
واصدَحْ بأَلحان الحياة جميلةً / كجمال هذا العالَم البسَّامِ
واخفقْ مع العِطْر المرفرفِ في الفضا / وارقصْ مع الأَضواءِ والأَنسامِ
ومع الينابيع الطليقة والصدى /
وذَرَوْتُ أَفكاري الحزينَةُ للدُّجى / ونَثَرْتُها لعواصِفِ الأَيَّامِ
ومَضَيْتُ أَشدو للأشعَّةِ ساحراً / من صوت أحزاني وبطش سقامي
وهتفتُ يا روحَ الجمالِ تَدَفَّقي / كالنَّهرِ في فِكري وفي أَحلامي
وتغلغلي كالنُّورِ في روحي التي / ذَبُلَتْ من الأَحزانِ والآلامِ
أَنتِ الشُّعورُ الحيُّ يزخَرُ دافقاً / كالنَّارِ في روحِ الوُجُودِ النَّامي
ويَصُوغُ أَحلامَ الطَّبيعَةِ فاجعلي / عُمُري نشيداً ساحرَ الأَنغامِ
وشذًى يَضوعُ مع الأَشعَّةِ والرُّؤى / في معبدِ الحقِّ الجليلِ السَّامي
وَأَوَدُّ أَنْ أَحيا بفِكْرَةِ شاعرٍ
وَأَوَدُّ أَنْ أَحيا بفِكْرَةِ شاعرٍ / فأَرى الوُجُودَ يضيقُ عَنْ أَحلامي
إلاَّ إِذا قَطَّعْتُ أَسبابي مع الدُّ / نيا وعِشْتُ لوَحْدتي وظَلامي
في الغابِ في الجبلِ البعيدِ عن الورى / حيثُ الطَّبيعَةُ والجمالُ السَّامي
وأَعيشُ عِيشَةَ زاهدٍ متَنَسِّكٍ / مَا إنْ تُدَنِّسْهُ الحَيَاةُ بِذَامِ
هجرَ الجماعَةَ للجبالِ تَوَرُّعاً / عنها وعَنْ بَطْشِ الحَيَاةِ الدَّامي
تمشي حواليه الحَيَاةُ كأنَّها / الحلمُ الجميلُ خفيفَةَ الأَقدامِ
وَتَخرُّ أَمواجُ الزَّمانِ بهَيْبةٍ / قُدْسِيَّةٍ في يَمِّها المُتَرامي
فأَعيشُ في غابي حَياةً كُلُّها / للفنِّ للأحلامِ للإلهامِ
لكِنَّني لا أَستطيعُ فإنَّ لي / أُمًّا يَصُدُّ حَنَانُها أَوهامي
وصِغارُ إخوانٍ يَرَوْنَ سَلامَهُمْ / في الكَائِناتِ مُعَلَّقاً بسَلامي
فَقَدوا الأَبَ الحاني فكنتُ لضُعْفِ / هِمْ كهفاً يَصُدُّ غَوائلَ الأَيَّامِ
ويَقِيهمُ وَهجَ الحَيَاةِ ولَفْحَها / ويذودُ عنهم شَرَّةَ الآلامِ
فأَنا المُكَبَّلُ في سَلاسلَ حيَّةٍ / ضحَّيتُ مِنْ رَأَفي بها أَحلامي
وأَنا الَّذي سَكَنَ المدينَةَ مُكْرَهاً / ومشى إلى الآتي بقلبٍ دامِ
يُصغي إلى الدُّنيا السَّخيفَةِ راغماً / ويعيشُ مِثْلَ النَّاسِ بالأَوهامِ
وأَنا الَّذي يحيا بأَرضٍ قَفْرَةٍ / مَدْحُوَّةٍ للشَّكِّ والآلامِ
هَجَمَتْ بيَ الدُّنيا على أَهوالها / وخِضمِّها الرَّحْبِ العميقِ الطَّامي
من غيرِ إنذارٍ فأَحْمِلَ عُدَّتي / وأَخوضَهُ كالسَّابحِ العَوَّامِ
فتحطَّمتْ نفسي على شُطْآنِهِ / وتأَجَّجتْ في جَوِّهِ آلامي
الويلُ في الدُّنيا التي في شَرْعِها / فأْسُ الطَّعامِ كريشَةِ الرّسَّامِ