المجموع : 10
رَف الربيعُ على الشتاءِ الماحل
رَف الربيعُ على الشتاءِ الماحل / ورقدتَ أنت صريع هذا الساحل
اصغرتَ آلافَ الفراسخ جائزا / هذا العباب كعابر لجداول
وقدمتَ تُزجيك المحبة والوفا / هَزِجاً تدوس على عديد حوائل
أنَّى ترحَّل أو أقام فَحوله / زُمَرٌ تَحَّدثُ عن نهىً وشمائلِ
متهللاً معنى الشباب رواوءه / وخلاله كحديثه المتفائل
تتفيأُ الألبابُ في آدابه / وكأنَّها من أنسه بخمائل
ماذا دهاك وأنتَ زينةُ مجلسٍ / ورجاءُ أحبابِ ونفحةُ بابل
حتى سكنت الى الممات وطالما / قد كنت تهزأ بالممات الهازل
كنتَ الرياضيَّ العفيفَ مُساجلاً / فسقطت من غدر المصاب الهائل
كنت المثقف والأديب حياتهُ / هبةُ الفنونِ لأمةٍ ومحافل
وذهبت لا هذى الدموع سخينة / تكفى لتبيان العذاب الجائل
كلا ولا الأديان فيما فسرت / لتجيب عن ظُلم القضاءِ الخاذل
أو حيرةُ المتبادلين عزاءهم / لتحَّد من ذُعر الحزين الذاهل
جاء الممات من الحياة وقبله / جاء الوجود من الفناء الشامل
صور تضل لها العقول وربما / أغنى الغبُّى عن الحصيف العاقل
والعمرُ كيف العمر حظّ مقامرٍ / والحُّق كيف الحُّق أفظع باطل
ضيعتُ فلسفتي مراراً صاغرا / ووأدتُ تعزيتي أمام القاتل
إن كان إعزازُ الكمال فناءَه / فالحمقُ ان نحيا حياة الكامل
ونرى السوائم راتعين بنعمةٍ / ونرى المواهب في الحضيض السافل
ونرى الصباحَةَ والقسامَةَ في الثرى / ونرى الحقارة في أعزّ منازل
يا من عَددتُكَ في صميم جوارحي / ولدى ومن زودتُ منه فضائلي
فيمَ الرثاءُ وذاك عُرسكُ قادمٌ / أيصير عرسك لحن قلب الثاكل
كنا نهيئ مسعدين شرابه / فسقى الردى نخب الشباب الآفل
إن كان هذا عدل دنيا حرةٍ / بئسَ الجزاء من القضاء العادل
من أنبأ الغيدَ الحمائمَ أنَّهُ
من أنبأ الغيدَ الحمائمَ أنَّهُ / آتٍ لنا فَخففن لاستقبالهِ
هُنَّ الوداعةُ مثلض شكلِ قصيدةٍ / شمخت معانيها لقلبِ الواله
يرقصنَ في ضوء الربيعِ كأنما / جاءت أشعَّتهُ نشيدَ ظِلالِهِ
والقطرُ مِثلَ الحبِّ ينثرُ حولها / فَرِحاً ومثلَ الحبِّ في إقباِلهِ
متزحلقاتٍ كالغواني قُربها / فوقَ الجليدِ يرف مِلءَ جمالِهِ
والزهر في الأحواضِ وهو مُقيَّدٌ / حُرُّ يطيرُ بِعطرِهِ وخيالهِ
صورٌ توَحدت الطبيعةُ وانتشت / فيها فكُّل شاعرٌ بمثالِهِ
بمدينةٍ تاهَ الجمالُ بمجدِها / شعراً تلألأ ساحراً بكمالِهِ
أنَّى مشيت بها لمستَ جلالها / متواضعاً حتى لدى جُهّالهِ
سمقت كنفحِ روائع علويَّةٍ / للفنِّ وانتصرت على خُذَّاله
مهما وَصَفتُ لهن أوّفى حَقَّها / أو حَقَّهُ بنوا لها نواله
وَعَلامَ وصفي حين من أُهدى له / شعرِي يُحُّس بما أحُّس كآلِهِ
لمن النجومُ رقصنَ فوقَ خميلةٍ
لمن النجومُ رقصنَ فوقَ خميلةٍ / قُبلاً وأحلاماً تَرف طويلا
وخفقنَ ألواناً حملنَ عواطفاً / وأضأنَ أنغاماً تردُ جميلا
لمن التهَّللُ في الغصون نواعساً / سَكرىَ فأيقظها النسيمُ بليلا
لمن الثلوجُ وقد نُثرنَ جواهراً / بِيدِ الألوهةِ تستحث بخيلا
ساوت فما تركت عزيزاً مُفرداً / وَحَبت فلم تَذرَ الفقيرَ ذليلا
لِمن الحمائمُ قد طلعن عرائساً / سَفرت وأرسلت النشيدَ هَديلا
كانت يُحجِّبها الصقيعُ فردَّهَا / للناسِ تعييدٌ يَعُّز مثيلا
ورأت حُبور الناسِ دفأ مُنعشاً / من بَعدِ ما كان الجليدُ ثقيلا
لمن الطفولةُ في تحُّررِ بهجةٍ / لم تَرضَ عنها في السرورِ بديلا
غُصَّت حوانيتُ الهدايا حولها / بجميع ما فد جاوزَ التخييلا
وكأنّما اللعُّبُ استقلت مثلها / بالعيدِ واحتفلت به تمثيلا
لمن المعابدُ والمسارحُ اشرقت / أَمماً تقدّسُ رائعاً وجميلا
لمن الأناشيدُ الحبيبةُ رَدَّدت / لحنَ السلامِ مُسلسلاً ونبيلا
لمن الهوىَ والفُّن حينَ تألقَّا / طُهراً وحين تباريا تقبيلا
لمن التَّهلُّلُ والجميعُ كأنَّهم / أطفالُ لم يستمرئوا التحويلا
دُنيا السماحةِ والتحُّررِ والنَّدى / شَعَّت وما خَذلت بها تأميلا
وَكَسا منازِلنا نعيماً سابِغا / رُوحٌ باشهى الصفوِ كانَ كفيلا
لمن المظاهرُ والحقائقُ هذهِ / عَجباً كأنَّ البؤسَ رُدَّ قَتيلا
وَكَأنمَّا الظلمُ الرهيبُ قد انتفى / والعدلُ أصبحَ كالجمالِ ظليلا
هي بعضُ وجدانِ الوجودِ يَزفه / حُبَّاً لمن هو أطلعَ الإنجيلا
من لا تزالُ على السماءِ عظاتُه / هذى الشموسُ تُواكبُ التنزيلا
من روُحه روحُ الإِله وِسُّرهُ / سرُّ الحياةِ على الأبُودِ نزيلا
من عَلَّمَ الإنسانَ قيمةً نفسه / لو شاءَ حَظَّاً في الحياةِ جليلا
بُوركتَ ميلادَ المسيحِ وبُوركت / مُثلٌ رُفعتَ لنا وجئتَ مُنيلا
من عاشَ يُكرِمها فما ضاقت به / دُنيا ولا وَجدَ السلامَ ضئيلا
ألقاكَ في وطني الحبيب الأوَّلِ
ألقاكَ في وطني الحبيب الأوَّلِ / ولئن تكن قُربى ولم تتَّرحَل
لستَ الغريبَ ولستُ عنه مُغربَّاً / فَبكلِّ دارٍ فيه ألمحُ منزلي
فَتلقَّ من قلبيِ الوفيِّ تحيةً / هيَ من أشعَّةِ مصرَ لم تتبدل
ولو أن فيها من دُموع مشاعري / نَغماً يذوبُ إلى الحبيبِ الأوّلِ
ولو ان فيها من حنينِ عُروبتي / لحناً أَعمَّ ومن هواىَ ومأمليِ
حُيِّيت عيسى أينَ كنت فإنَّما / تَلقى غِراسَ السابقِ المتفضل
في كلِّ قُطرٍ للعروبةِ نَشوةٌ / بلقاءِ أكثم أو لقاءِ الأخطلِ
وبكلِّ ركن للحميِّةِ والهدى / للمسلمين تَحل أطيبَ مَنزل
يا من فَتنت الجيلَ غيرَ مدافعٍ / بجنانه وحديثه المتهلل
يا من بذلتَ من الفؤادِ مُضحِّياً / في دفعِ مَظلمةٍ ورفعِ مُؤملِ
يا من له غُررُ المواقفِ عّدُّها / لا يُستباحُ لو انتهت لِلمجتلى
يا صاحبَ الأدبِ الرفيع تَفننُّاً / وَمُجلجلَ الصوتِ النبيلِ الأكملِ
أنظر حيالكَ لا تجد إلاّ مُنى / رُسُلاً من الشعبِ الجريح الُمغفلِ
ولأنتَ أحصفُ بل وأكيسُ سامعاً / أو قائلاً أو عاملاً من مقولى
هذى تحَّيةُ وامقٍ بك واثقٍ / متطِّلع لبزوغِ عَهدِ أجمل
حتى يُقبِّلَ تُربَ مصر مُرحبِّاً / بكَ مرةً أخرى بشعرٍ أَمثل
وَيزفَّ ملحمةَ الخلودِ تألقت / بروائعِ الماضي إلى المستقبل
أديتَ واجبكَ المقدَّسَ كاملاً
أديتَ واجبكَ المقدَّسَ كاملاً / وتركتَ للأجيالِ ذكركَ شاغلا
مهلاً أبا الأحرار مهلاً إن تكن / أعمارُ مثلك كالشموسِ مراحلا
إنَّا بنى الأرضِ الذين شقاؤهم / باقٍ نودِّعُ فيكَ ظلاًّ راحلا
كنا نَفئُ إليكَ في آلامنا / ونرى رجاحَتكَ الملاذَ الكاملا
والآنَ واحتنا الفسيحةُ أصبحت / حُلماً وعانقت الفناءَ الهائلا
كَم كان خصمك خاذلاً ليقينه / وأبيتَ أن تلفىَ لخصمك خاذلا
ولكم أغثتَ من الكوارث جاحداً / وفككت مغلولاً فراحَ مُخاتلا
ولكم رددتَ من السهامِ مكافحاً / ولكم غَضضتَ عن العداءِ مُجاملا
وعُرفتَ في الحالينِ أكرمَ كَيسٍ / نسىَ الإساءةَ بل أقالَ الجاهلا
قد بحَّ صوتُك هادياً ومنادياً / أمماً بنكبتها تُطيعُ الهازلا
وإذا تيقَّظَ أى شعبٍ ببنها / ألفيته الأسرَ المسئَ الغافلا
يا ليتها في الرُّزءِ تدفن عجزَها / شمماً وتدفنُ ذلةً وسلاسلا
صورٌ تزاحمَ رسمها في عبرتَيِ / لما أتيتك راثياً ومُسائلا
يا ضيعةَ الإنسانِ في استعلائه / وكأنما بالمجدِ أصبحَ زائلا
ولقد بَحثتُ فما غَنمتُ حقيقةً / ودفنتُ آمالي وعشتُ الثَّاكلا
وسَخرتُ من علمي ومن أدبي معاً / وأبيتُ أن أُدعى الحكيمَ العاقلا
وظللتُ يقذفني الخضم بموجهِ / من بعدِ ما أبصرتُ فيك الساحلا
ولو ان إنشادى الدماءُ لشاعرٍ / حملَ الجراح ولم يزل مُتفائلا
أبداً يصارعُ عقلهُ وجدَنهُ / ويَرىَ الوجودَ مآسياً ومهازلا
ويرى مماتَ النابهينَ جريمةً / مهما تُسَّوغَ والقضاءَ القاتلا
أرقد صديقي في خلودك وَحدهُ / إن لم نَجد نحنُ الخلودَ الشاملا
أرقد فحسبك ما حَملت من الأذَى / وداع الممات يُميتُ داءكَ عاجلا
فلقد خلقتَ بما صنعتَ مآثراً / ملءَ البيانِ خوالداً وحوافلا
لو يعرف الطِّبُ الصَّناعُ وسيلةً / لأعَادَ صوتك بالمواعظِ حافلا
أو يَعلمُ الجراحُ أىَّ يتيمةٍ / قُطعت لدامَ من الفجيعةِ ذاهلا
عانى وعالجَ والمماتُ مرفرف يقظ / يُخيِّبُ آسياً أو حائلا
لبنانُ لم يبرح بذكرك شامخاً / ويظل معتزاً بفكركَ طائلا
جَبلٌ من الفكرِ الأصيلِ جيوشه / زحفت بمثلكَ كالغزاةِ جحافلا
إن تنسكَ الدنيا ولن تنسى فقد / أحيالكَ الأرزَ الوضئَ مشاعلا
أهلَ الهدى صُونوا تُراثا للهدَى / فخماً وذودوا عن عُلاَها الباطلا
عاشت لكم ذُخراً ومجداً صائلا / فابنوا لها ذُخراً ومجداً صائلا
وإذا مضى علمٌ فأحيوا ذكرهُ / علماً تناسخَ نورهُ متواصِلا
أمسائل القدر العتيّ محيّرا
أمسائل القدر العتيّ محيّرا / عن أصله ومجاله ومآله
اليوم يغنيك الممات كما مضى / من قبل بالخيام بعد سؤاله
فترى الطلاسم مفصحات مثلما / يتحدث الإشعاع خلف طلاله
وترى الجداول مترعات تنتهي / لبحاره وتعيد كل نواله
وترى الخمائل راقصات للردى / رقص المحب إذا احتفى بوصاله
سر في ركاب المحسنين مخلدا / بالعذب والمأنوس من سلساله
ما كنت تعشق في الحياة ككائن / واليوم تعشق ذائبا بخياله
والناس منهم من يحب لذاته / فهي الجواهر نمقت بخصاله
اشعارهم أرواحهم وخيالهم / في كل بيت عارم بخلاله
وسواهم المستوعبون جمالهم / مرآة دنيا الفن رجع جماله
ما كان معدنهم ممثل شعرهم / فصميمه مرآة غير مثاله
يكفيك ما أسديت من أنس لنا / دون التساؤل عن حدود كماله
وعن الكروم وكيف كان رحيقه / ومدى الأصالة فيه واستقلاله
يكفيك ترديد النداء وحولنا / هذي الموائد للوجود وآله
هشت أطايبها وكم صدف الورى / عنها وكل نائح بخباله
ولو أنهم عقلوا لطافوا حولها / ولهللوا للأنس قبل زواله
ولشاركوها في الحبور بصحبة / وترنموا معها بشعر الواله
ما هذه الدنيا سوى أحلامنا / والحلم مثل أب خفا بعياله
إذهب إلى دنيا الخيال ودع لنا / ما افتنّ شعرك شامخا بجلاله
ودع الجمال مرددا أنفاسه / عبق الربيع يشيع في أذياله
واترك تراثك حيرة وتساؤلا / جيلا فجيلا شاخصا لمحاله
بسط الضباب على الحقول كأنه
بسط الضباب على الحقول كأنه / كف لمارد عابس قتال
فمحا بضربته الجداول والربى / والغرس دون تمهّل وسؤال
لم تلق منه ولا محاكمة آمرىء / عات فاسرف بطشه المتوالي
قتل الضياء كقتله ألوانها / وأدال حسنا لم يكن بمدال
فكأنما الدنيا تأجل خلقها / وكأنما العدم الفسيح حيالي
ومضى الضباب إلى المدينة فاختفت / مثل اختفاء مدائن الأطفال
أو أنها ظل الخيال ظلالها / فإذا نظرن فهن غير ظلال
هذا مآل والضباب يحفّني / بالحزن لا أدري سواه مآلي
فكأنما أسكنت كهفا مظلما / ما فيه من صحب سوى إعوالي
وكأنما انطوت الحياة بزفرتي / وتعثرت منهوكة بخيالي
وكأنما وئدت قبيل فطامها / مثلي أو انتحرت بها آمالي
وكأنما قتل العزاء مضرجا / بدمي وبالوهم الحبيب الغالي
وكأنما للياس ملك خالد / وكأنما إقباله إقبالي
وكأنما ضيّعت في دنيا طوت / صور الجمال وروعة المثال
فاعتز فيها القبح غير منافس / واعتزّ فيها الموت غير مبالي
مهد الحضارة للعروبة كلها
مهد الحضارة للعروبة كلها / كيف انتهيت إلى نهاية ذلها
قد كنت سابقة القرون بعلمها / فرجعت في ذيل القرون وجهلها
عجبت تماثيل رفعن جلالة / فهوت لما بلغته خسة مثلها
وكأنما في أمسها قد اشعرت / أفعالهم فتحطمت من هولها
إن كان هذا وحي دين محمد / فعبادة الأوثان نعمة أهلها
حاشا وحاشا تلك نكبة أمة / بالحاكمين القاتلين لنبلها
من كل سيف قد تثلم مجده / في الموبقات ويستعز بفعلها
أو كل أبكم صار يحسب قاضيا / والمومياء أجل منه بأصلها
أو كل زنديق عريق عابد / للمال يحترف الدعارة والها
أو كل من زعم الإمارة حينما / عين الحقارة ما استباح مؤلها
أو كل مندوب تحشرج صوته / مثل الجنادب وهو دون أذلها
أو كل من زعم الإمامة بينما / حكت الذباب بطنها وبظلها
أو كل مأفون يصيح مغالطا / والشخر يتبع ما روى مستألها
وطن تجسمت العروبة نكبة / فيه ولا نكبات صور وبعلها
الناطحات به شمخن سوابقا / واليوم تسحقها الصروف بنعلها
والهندسات وسد مأرب خلفت / لهفى الخرائب في مهانة زملها
والسامقات من المدارس كلها / درست ولم يك مثلها من قبلها
لا ظلم ظلم الدهر عدل صارخ / ما دام أهل الأرض نقمة عدلها
يا منبت الكندي يا من ينتمي / نخب الفوارس والعقول لعقلها
من أدهشت كسرى بحكمة عمروها / من أنجبت بلقيس صورة دلها
من شيدت غمدان من إلهامها / وفحولة الشعراء دون أقلها
من أطلعت صنعاء نجم حضارة / عمت بأنفس روعة وأجلها
من لا نزال نحار في آياتها / إذ تغمر التاريخ سيرة فضلها
كيف استحلت إلى مباءة سوقة / عملوا على هدر الكرامة كلها
جعلوا البلاد وأهلها كبهائم / موبوءة حبست على إسطبلها
القات تمضغه فيجري سمه / فيها فتركع نشوة لمذلها
وإمامنا يحيى يمجد ويله / شعرا ويكنز تبره من ويلها
أسفي العروبة في الضجيج عريقة / الافخرات بخيلها وبرجلها
أمم العروبة في الضجيج عريقة / الفاخرات بخيلها وبرجلها
تشكو الطغاة وحين تهمل أختها / في الغل تصبح من تهش لغلها
إن الحوادث كلها عبر لكم / يا غافلين عن الحياة وقولها
تتستّرون على الفضائح ضلة / ولطالما خانت عهود محلها
فتمكنون لسارق ولمارق / جعلتهما صنعاء غاية شغلها
ليت ابن خلدون وتلك ربوعة / حي ليفصح رأيه عن ختلها
أو ليت لي شعر الزبيري الذي / في النفي ناح لخطبها ولثكلها
أو ليت لي يوما عواصف أحمد / وأبي فراس مزمجرا من أجلها
وأبي العلاء العبقري وغيرهم / من أهلها قد أترعوا من نهلها
المسهمين بعلمهم وبفنهم / في رفعة الإنسان أو في بذلها
أو ليت لي كالشنفرى غضباته / أو كامرىء القيس الوفاء لنصلها
أو شأن مالك من سلالة حمير / في الدين والتقوى لطهر محلها
أو وعظ نجم الدين رن كأنه / قدر يحذر في حماسة خلها
أو باس سيف الدولة العالي الذرى / المستعز بأصله في سهلها
ونهى الفراهيدي الذي أحيا اللغى / بعروضه وبحذقه في شكلها
وسنا البهاء وكم يداوي شعره / مرضى النفوس العانيات بسله
وبروج صرواح التي لما تزل / أطلالها تروي الخلود لطلها
وهياكلا ما زال علقمة بها / يوحي السيادة والجلال لجلها
يا ليت لي هذا وذاك وبضة / من روح علقمة الشهير بفحلها
حتى أهزّ السادرين لعلّهم / يتنبهون إلى عواقب قتلها
عيد الملايين ازدهت بجلاله
عيد الملايين ازدهت بجلاله / ورأت جمال حياتها بجماله
عيد البرية كلها إذ كلها / نعمت بوحي ضيائه وظلاله
عيد الحضارة فالحضارة لم تكن / إلا وليد العقل في استقلاله
عيد المساواة العميمة أنبتت / في فجره وتعلقت بهلالفه
عيد الإخاء مدى الزمان وباسمه / خلق الرجال الشم من أبطاله
عيد الهدى والتضحيات على الهدى / لتحرر الإنسان من أغلاله
عيد الشرائع جمعت آياتها / وتبلورت في نوره وكماله
عيد التشبث بالحقيقة وحدها / والحق لا يبقى لدى جهاله
عيد التسامي والتسامي وحده / نهج الوجود إلى سعادة حاله
عيد إلى ميثاقه متحرر / يدعو وملهوف لفك عقاله
عيد السلام وربما تحقيقه / جعل الدماء فدى وبعض نواله
عيد النبوة للحياة رسالة / وبها استعزّ وجل عن أمثاله
شرفا إمام المصلحين لأمة / لك ننتمي ولعالم بك واله
ألهم بمؤلدك السني شعوبه / حتى تثار إلى عظات جلاله
يا أيها الأمي يا من عقله / وسع العلوم كواكبا لرجاله
ومن اشتطاب لهم حياة حرة / لا زهو مفتون يدلّ بماله
ومن اكتفى لوجوده ببلاغه / وأشاح عن ملك وعن أمواله
يا من تعلق بالتقشف خله / للمفلحين تزين نبل خلاله
يا من تماثل حلمه وإباؤه / وكفاحه للحق مثل عياله
اليوم غضبتك الشريفة ترتجى / للحق مأسورا لدى خذاله
اليوم اسمع منك وحي رسالة / دوّى دويّ الغاب عن رئباله
هيهات ترضى للأنام مذلة / يا من عتقت العبد من إذلاله
والمسلمون هم الكماة حمية / الثائرون على العتي وناله
وعلى اللصوص الغادرين وغدرهم / لا ينتهي كالتيه في أهواله
جعلوا التبجح كالوباء شريعة / للظلم واحتكموا لخبث مقاله
واستعبدوا الأقوام باستعمارهم / وترنموا بصلاحه وفعاله
كالعبد يرهق كل حسن ناضر / ويمن بعد عليه باسم وصاله
والسقم يوغل في السليم فيغتدي / نهبا له فيعد من أفضاله
يا من أبى الإذعان دون حقوقه / واستعذب الآلام في آماله
أرجع إلى الإسلام عزة أهله / باليقظة الكبرى لنيل محاله
وأدل من المتحكمين بحفظهم / والجهل أولهم بسم نباله
وليبق مولدك الأغر منارة / لمجاهد مستقتل بقتاله
فالعيش من صور الممات لصاغر / والموت للحر الأبي كآله
ولكم جنى الإسلام من أعدائه / مثل الذي لاقاه من أقياله
فإلى الهداة رضاك في إقباله / وعلى الطغاة جفاك في زلزاله
كوَّنتَ ألباباً وسستَ عقولا
كوَّنتَ ألباباً وسستَ عقولا / فتلقَّ أنت وفاءها المعقولا
ودرست فلسفة (الحياة) وزدتها / شرحا، فحيِّ بيانها المأهولا
في العيش مثل الموت عمرك هكذا / عمرٌ يزيد على التألق طولا
إن أنس لا أنس الوداع وحرقة / في النفس أورثت الجنان ذهولا
فسخطت من غدر (الطبيعة) ناسيا / سنن (الطبيعة) والحياة الأولى
وأنا الذي ناجاك طول حياته / وقد انتقلتَ ولم أزل مشغولا
بالأمس حيرني الفراقُ وهدني / واليوم تلهمني الصوابَ حلولا
فأراك في هذا الوجود أشعة / وعقيدة ومآثرا وميولا
صورٌ تبين لباحثٍ متبصر / وتعاف من خذل الحياة جهولا
صرّوفُ والدنيا حديث ضيافة / قد كنت للبذل العظيم رسولا
منح من الآداب والعلم الذي / ترك الوجود مهذبا مصقولا
دعني أحدث عن خلالك أولا / فالمرء كان بخلقه مكفولا
لا خير في أدب لمن لم يتخذ / من طبعه طبعا ومنه أصولا
وحييتَ أنت بنهج خلقك مؤمنا / وعرفت للقول السديد فعولا
فسكنتَ في برج الجلال مؤهلا / ورقيت إيمانا، وجزت فحولا
خلق ينم عن الأزاهر للنهى / عزما، ولكن لا يصيب ذبولا
يفتر بالإخلاص في إحسانه / فندوم نعشق حسنه المبذولا
جم التواضع في كرامة عالم / تخذ التواضع ستره المقبولا
مبتسم لجليسه في هزة / تسقى الحديث مرنقا معسولا
شم الخلال وديعة وكريمة / مثل الجبال إذا انحدرن سهولا!
مثل الطبيعة في تبسط لطفها / نشرت على بسط المروج غسولا
وحبت مجملة الثمار شهية / عرضا ولم تترك لنا مأمولا
كان المحدث لا يمل إطالة / وعصمت من طبع يعد ملولا
كالنبع جياشا بمتعة عاشق / لحديثه، أو كالبواسق طولا
تحنو على النظار عند تأمل / وتجيب ما بقي السؤال سؤولا
لم ينسك المال الذي أحرزته / بالفضل حقا للورى مجهولا
فوضعت مالك جنب علمك نفحة / للناس في صحف وقين نحولا
وجعلتها مثل الزكاة سخية / تحيي مواتا أو تعيد طلولا
ما كنت في هذي الحياة ممثلا / بل كنت من وضع الفخار فصولا
خمسون عاما بل أجل بذلتها / بذل الكواكب نورها المسؤولا
ما بين معركة وبين سكينة / تركت بشتاتك العدو خجولا
وكسبت بالإخلاص كل مكرم / شيم الرجال عقيدة وميولا
درر من الأخلاق كانت ثروة / كبرى ولم تسب الورى لتحولا!
صروف ما فينا المعزي: كلنا / فقد العزاء ودمعه المطلولا
عشت (المسيح) لنا، وكنا كلنا / رسلا، ودمت على الهدى مجبولا
وشكرتنا قبل الوداع، ولم يكن / شكر الوداع بظننا (اليوبيلا)
هذي صحائفك اليتيمة لم تجد / شرفا تخص بها وكنت بخيلا
عصمتك أحكام العلوم من الهوى / وحبتك من حسب الجنان أثيلا
نقبت في الأجيال عن أسرارها / ونشرتها جيلا لديك فجيلا
لا (آدم) المأثور صدك عن هدى / بحثا، ولا أغني اليقين فتيلا
من كل (مقتطف) تنوع بحثه / وتوحدت أبحاثه تنزيلا
من كل سفر حجة بفنونه / ما فيه فن قد يراك دخيلا
ما كان منطقك الحكيم مسخرا / للوهم مهما سامنا تقتيلا
هيهات يذعن للمظاهر وحدها / ولكم أقام على الدليل دليلا
علم وفلسفة وفن سائغ / حولتها لنعيمنا تحويلا
بعبارة خلابة غلابة / تروي المدارك كوثرا وشمولا
وتبحر يعيا الجريء بجهده / ما فات للبحث الجريء سبيلا
في ذورة الأفلاك أو بطن الثرى / أو عالم الأحلام كان نزيلا
لا شيء يحسبه الحقير وإنما / وجد الوجود بما حواه جليلا
فيرتل الآيات ملء بلاغة / تستأهل الإصغاء والترتيلا
داع إلى أقصى التأمل مثلما / جعل التفاؤل للحياة دليلا
وإذا الحياة كبت فذاك لأنها / فقدت قبيل عثورها التأميلا
عشرات آلاف الصحائف قد شدت / بحجاك واستبقت حجاك زميلا
آراء جبار وحكمة كاهن / وكتاب إعجاز يشع مديلا
نظرت له (الأحقاب) من أسفارها / في حيرة مما وصفن رحيلا
فكأنما (...) كنت مصاحبا / أسفارها فرسمتها تحليلا!
ومفاخر (الآثار) وهي شهيدة / فخرت بعلمك موئلا ومقيلا
ومظاهر (العمران) وهي كثيرة / في (الشرق) لم تعدم لديك خليلا
و (الفكر) وهو لنا قوام حضارة / بجلته حتى استعز نبيلا
لم تلقه عرضا، ولم تأنس به / طمعا، ولم تبذل له تطفيلا
بل كنت ملجأه الحصين ومبعثا / للنور في بلد أسيء طويلا
تغذوه بالذهن البصير مصارحا / للحق لا تتصيد التهليلا
متتبعا نهج الصواب، مجافيا / نهج الغلو، وإن أصبت قليلا
حتى تركت مني (الحقيقة) وحدها / تهدي لرأسك شكرها إكليلا
ما ضر مثلك أن يخص بحبها / لو فات من حب الأنام قبيلا
لكن ظفرت بحبها وبحبنا / وعدمت في القدر الأعز مثيلا
من عهد (إسماعيل) في إجلاله / مسعاك زدت بشبل (إسماعيلا)
وطويت عمرك دون من أو منى / إلا الوفاء لما غرست ظليلا!
يا ابن (الصحافة) ثم شيخ قضاتها / والمحسن التبيين والتدليلا
ومعلما بشبابه ومشيبه / تسمو بسيرته الأيادي الطولى
(لبنان) (كالحدث) الذي ولدت به / هذي الشمائل لا يباهي النيلا
كلا ولا (بردى) ولا (الدنيا) التي / أمتعتها مما منحت جزيلا
إن أنت إلا عالميٌّ: مهده / كل (الوجود) فلم يعش مغلولا
بل كان أهلا للبرية كلها / لا يعرف الإيثار والتفضيلا
إلا الرعاية للفقير المجتبي / جدواه، لا يبقى بها مخذولا
كم أمة هذبتها ووهبتها / محض الشهاد وزدتها تأهيلا
فإذا انتسبت فما انتسبت حقيقة / إلا لفضل لم يكن مجهولا
أما الممالك والعباد فإنهم / عرفوك جَمْعاً فاتحا ورسولا
كل يراك زعيمه وصديقه / ومواطنا وسلاحه المسلولا
وأرى خيالك ما يزال عزيزهم / يأبى عن النهج القويم مميلا
متمثلا في همهم وشؤونهم / فيحل معضلة ويصلح قيلا
وبريق عينيه يشف كعزمه / عن حد ذهن لن يموت قليلا
وجبينه الوقاد مطلع نورهم / وجلالة حفظوا لها التكليلا
أعددت ثورات وقدت كتائبا / للرأي ثم نصرتها موصولا
ما خانك الإقدام يوما والألى / عشقوك إن خان الزمان ذليلا
فبلغت مجدك بالمواهب وحدها / تقتاد شبانا بها وكهولا
أين الذين يتابعونك حاملا / علم الشباب فيزدهي محمولا؟!
ما كنت تغفل جهدنا وحقوقه / بل كنت ترعى حرمة وأصولا
وتشجع البطل الصغير ليعتلي / وتصغر الرجل الحسود مهولا
لك في دمي حق الوفاء فخلني / أحيي كما يرضى الوفاء جميلا
كرّمت لي أدبا كأنك موجدي / أو عشت للأدب الجديد كفيلا
في جم إخلاص وجم صراحة / لا تقبل التغرير والتمثيلا
ولكم تحكم جاهل أو عابث / ومن المصائب أن نطيع كليلا
و (الجهل) في دست الزعامة نكبة / لن تنمحي عذرا ولا تأويلا
تخذ (الصحافة) للمهازل مهنة / فأثار داء في النفوس وبيلا
فمحرما طورا زهور مؤلف / ومحاربا همم الشباب عجولا
ومرتلا آنا مديح نقائص / لولا المدائح لم تكن لتجولا
قد كنت عونا (للنبوغ) وطالما / أردى (النبوغ) الحاسدوه قتيلا
أبكيك في شعري، وفي نثري وفي / فكري، كما أبكي الرياض حيولا
وأكفكف العبرات، لكن شأنها / باق، فدمعي لن يزال همولا
ومن المدامع ظاهر ومحجب / ما كل وجه نائح مبلولا
تجري الدموع الخافيات بخاطري / وبكل إحساسي هوى مبذولا
وتفيض من قلمي فأنظم هكذا / هذا النظيم عواطفا متبولا
وأؤبن (الفضل) الذي لإبائه / لا فاضلا نلقى ولا مفضولا!
والآن هل تكفي شؤون يراعتي؟ / حبس العواطف قد يكون قتولا
هيهات تكفي فالنظيم وحرقتي / يتبادلان مناحة وعويلا
أرثي فأرثي فيك أنفس ما ارتقى / ذهني وأحلامي له تبجيلا
من بهجة (الإنسان) في استعلائه / خلقا وفكرا مسعفا وجميلا
ومن انتهاء (العبقرية) و (الحجى) / لنهاية تستوجب التنزيلا
ومن (التسامح) في الحياة وقلما / عرف (التسامح) في الحياة خليلا
أسفي على هذا الفراق وإن يعد / هذا (النبوغ) مجددا تشكيلا
وأقلب الطرف الحزين فما أرى / إلا الورى والموت والترميلا
يا جنة (الفيوم) كيف، جزيتنا / نارا وحزنا فادحا وثقيلا
قد راح يلتمس الشفاء فخنته / كم كان روضك (...) مليلا
أسفي! أجل أسفي يدوم فلا تطل / عتبا علي فلم تكن لتطيلا
ما فاتني قبل (التفاؤل) هكذا / أو كنت أشعر بالحياة ذليلا
ولقد بدأت إلى (العلى) مستغفرا / ثم انتهيت إلى الشجون عليلا
عبثا أحاول أن أهدّئ لوعتي / هيهات أشفي للدموع غليلا
سخطي على (الدنيا) وأقبح هزلها / سخط يثير تأججا وصليلا
وأنا الذي يا طالما غازلتها / طربا، وكنت لها كذاك وصولا
مرت شرابا بعد حلو مذاقها / وجنت على أشهى الثمار أصيلا
لم أشك قبلك من يقيني هكذا / وكأنما صار (اليقين) مهيلا
وكأنما هذا (الوجود) بأنسه / أمسى بداجية المصاب محيلا!
لم لا أنوح في رثائك حسرة / أرثي لها نفسي وأرثي الجيلا؟!
ما كنت أجزع (للممات) وإن قسا / حتى رحلت فسامني تذليلا
أرثي العصامي العظيم المبتني / مثل (الثبات) لمن يهون ملولا
أرثي الخلود وما الخلود بدائم / في صورة، بل يتبع التعديلا
ما بين إيمان به وبضده / كم نتعب التفسير والتعليلا
أرثي وأبكي والأنام جميعهم / كالنبت يهضمه الزمان أكولا
الفيلسوف كجاهل، وكلاهما / يفني، وما عرف الممات ذهولا
وقليل ثأري أن مثلك فقده / جعل (القضاء) المستعز خجولا!
وعظيم صبري أن وحيك ملهمي / صبرا، وعلمك لم يزل منقولا
سقراط قبلك والمسيح كلاهما / ضحكا من الموت الخؤون مهولا
وضحكت أنت من الأساة معزيا / همما تناجيك المدى وعقولا