المجموع : 3
كمْ مِنْ عُهودٍ عذبةٍ
كمْ مِنْ عُهودٍ عذبةٍ / في عَدْوَةِ الوادي النَّضيرِ
فِضِّيَّةِ الأَسْحارِ مُذْهبَةِ / الأَصائِلِ والبُكورْ
كانتْ أرقُّ من الزُّهورِ / ومِنْ أَغاريدِ الطُّيورْ
وأَلذَّ مِنْ سِحْرِ الصِّبا / في بَسْمَةِ الطِّفلِ الغَريرْ
قضَّيتُها ومعي الحبيبَةُ / لا رَقيبَ ولا نَذيرْ
إلاَّ الطُّفولَةَ حولنا تلهو / معَ الحُبِّ الصَّغيرْ
أَيَّامَ كانتْ للحياةِ / حلاوَةُ الرَّوضِ المَطيرْ
وطَهَارَةُ الموتِ الجميلِ / وسِحْرُ شَاطئهِ المُنيرْ
وَوَداعَةُ العُصفورِ بَيْنَ / جداولِ الماءِ النَّميرْ
أَيَّامَ لم نعْرِفْ منَ الدُّنيا / سوَى مَرَحِ السُّرورْ
وتَتَبُّعِ النَّحْلِ الأَنيقِ / وقَطْفِ تِيجانِ الزُّهورْ
وتَسَلُّقِ الجبلِ المُكَلَّلِ / بالصّنَوْبَرِ والصُّخورْ
وبناءِ أَكواخِ الطُّفولَةِ / تحتَ أَعشاشِ الطُّيورْ
مسقوفةً بالوَردِ والأَعْشابِ / والوَرَقِ النَّضيرْ
نبني فتهدمُها الرِّياحُ / فلا نضجُّ ولا نَثُورْ
ونعودُ نَضْحَكُ للمروجِ / وللزَّنابقِ والغَديرْ
ونخَاطبُ الأَصداءَ وهي / ترِفُّ في الوادي المُنيرْ
ونعيدُ أُغنيَةَ السَّواقي / وهي تَلْغو بالخَريرْ
ونَظَلُّ نَرْكُضُ خلفَ / أَسرابِ الفَراشِ المُسْتَطيرْ
ونمرُّ مَا بَيْنَ المُروجِ الخُضْرِ / في سكر الشُّعورْ
نشدو ونرقصُ كالبلابلِ / للحياةِ وللحُبورْ
ونَظَلُّ ننثُرُ للفضاءِ / الرَّحْبِ والنَّهرِ الكبيرْ
مَا في فؤاديْنا من / الأَحْلامِ أَو حُلْوُ الغرورْ
ونَشيدُ في الأُفُقِ المخَضَّبِ / مِنْ أَمانينا قُصورْ
أَزهى من الشَّفَقِ الجميل / ورونقِ المرْجِ الخَضيرْ
وأجلَّ من هذا الوُجُودِ / وكلِّ أَمجادِ الدُّهورْ
أبداً تُذلِّلُها الحَيَاةُ / بكلِّ أَنواعِ السُّرورْ
وتَبُثُّ فينا مِنْ مراحِ / الكونِ مَا يُغوي الوَقُورْ
فنسيرُ نَنْشُدُ لهوَنا المعبودَ / في كلِّ الأُمورْ
ونَظَلُّ نعبثُ بالجليلِ / منَ الوُجُودِ وبالحقيرْ
بالسَّائلِ الأَعمى وبالمعتوهِ / والشَّيخِ الكَبيرْ
بالقطَّةِ البيضاءِ / بالشَّاةِ الوديعَةِ بالحميرْ
بالعُشبِ بالفَنَن المنوِّرِ / بالسَّنابلِ بالسَّفيرْ
بالرَّمْلِ بالصَّخْرِ المحطَّمِ / بالجداول بالغديرْ
واللهوُ والعَبَثُ البريءُ / الحلوُ مطمحُنا الأَخيرْ
ونَظَلُّ نقفزُ أو نُثَرْثِرُ / أَو نغنِّي أَو نَدورْ
لا نَسْأَمُ اللَّهْوَ الجميلَ / وليس يُدْرِكُنا الفُتُورْ
فكأَنَّنا نحيا بأَعصابٍ / من المَرَحِ المُثيرْ
وكأنَّنا نمشي بأَقدامٍ / مجنَّحةٍ تَطيرْ
أَيَّامَ كنَّا لُبَّ هذا / الكونِ والباقي قُشُورْ
أَيَّامَ تفرشُ سُبْلَنا / الدُّنيا بأَوراقِ الزُّهُورْ
وتمرُّ أَيَّامَ الحَيَاةِ بنا / كأَسْرابِ الطُّيورْ
بيضاءَ لاعبةً مُغرِّدةً / مجنَّحةً بِنُورْ
وتُرفّرفُ الأَفراحُ فوقَ / رؤوسنا أَنَّى نَسيرْ
آهٍ توارى فَجْرِيَ القُدسيُّ / في ليلِ الدُّهُورْ
وفَنَى كما يَفنى النَّشيدُ / الحلوُ في صَمْتِ الأَثيرْ
أَوَّاهُ قدْ ضاعتْ عليَّ / سَعَادَةُ القلبِ الغَريرْ
وبقيتُ في وادي الزَّمانِ / الجهْمِ أَدأَبُ في المسيرْ
وأَدوسُ أَشواكَ الحَيَاةِ / بقلبيَ الدامي الكَسيرْ
وأَرى الأَباطيلَ الكثيرَةَ / والمآثمَ والشُّرورْ
وتَصَادُمَ الأَهواءِ بالأَهواءِ / في كلِّ الأُمورْ
ومذلّةَ الحقِّ الضَّعيفِ / وعِزَّةَ الظُّلْمِ القَديرْ
وأَرى ابنَ آدَمَ سائراً / في رجلَةِ العُمُرِ القَصيرْ
مَا بَيْنَ أَهوالِ الوُجُودِ / وتحتَ أَعباءِ الضَّميرْ
مُتَسَلِّقاً جَبَلَ الحَيَاةِ الوعْرِ / كالشَّيْخِ الضَّريرْ
دامي الأَكُفِّ مُمزَّقَ / الأَقدامِ مُغْبَرَّ الشُّعُورْ
مترنِّحَ الخطواتِ مَا / بَيْنَ المَزالقِ والصُّخورْ
هالتْهُ أَشْباحُ الظَّلامِ / وراعَهُ صوتُ القُبورْ
ودويُّ إِعْصارِ الأَسَى / والموتُ في تِلْكَ الوُعورْ
ماذا جنيتُ من الحَيَاةِ / ومن تجاريبِ الدُّهُورْ
غيرَ النَّدامَةِ والأَسى / واليأسِ والدَّمعِ الغَزيرْ
هذا حَصادي من حقولِ / العالَمِ الرَّحْبِ الخَطيرْ
هذا حَصادي كُلُّهُ في / يقظةِ العَهْدِ الأَخيرْ
قدْ كنتُ في زمنِ الطُّفولَةِ / والسَّذاجَةِ والطُّهورْ
أَحْيا كما تحيا البلابلُ / والجداولُ والزُّهورْ
لا نَحْفَلُ الدُّنيا تدور / بأَهلها أَو لا تَدورْ
واليومَ أحيا مُرْهَقَ / الأَعصابِ مَشْبُوبَ الشُّعُورْ
متأَجِّجَ الإِحْساسِ أحفلُ / بالعَظيمِ وبالحقيرْ
تمشي على قلبي الحَيَاةُ / ويزحَفُ الكونُ الكبيرْ
هذا مصيري يا بني / أُمِّي فما أَشقى المصيرْ
يا أَيُّها الشَّادي المغرِّدُ ههُنا
يا أَيُّها الشَّادي المغرِّدُ ههُنا / ثَمِلاً بِغِبْطةِ قَلْبهِ المَسْرورِ
مُتَنقِّلاُ بَيْنَ الخَمائلِ تالِياً / وَحْيَ الرَّبيعِ السَّاحرِ المَسْحورِ
غَرِّدْ ففي تِلْكَ السُّهولِ زَنابِقُ / تَرْنو إليكَ بِناظرٍ مَنْظورِ
غَرِّدْ فَفي قَلبي إليكَ مَوَدَّةٌ / لَكِنْ مَوَدَّةُ طائرٍ مَأسورِ
هَجَرَتْهُ أسْرابُ الحمائمِ وانْبَرَتْ / لِعَذابِهِ جنِّيةُ الدَّيْجورِ
غَرِّدْ ولا تُرْهِبْ يميني إنَّني / مِثْلُ الطُّيورِ بمُهْجَتي وضَميري
لكنْ لَقَدْ هاضَ التُّرابُ مَلامعي / فَلَبِثْتُ مِثلَ البُلبلِ المَكْسورِ
أشدُو برنّاتِ النِّياحَةِ والأسى / مشبوبةً بعواطفي وشُعوري
غرِّدْ ولا تَحْفَل بقلبي إنَّهُ / كالمِعْزَفِ المُتَحَطِّمِ المَهْجورِ
رتِّل على سَمْع الرَّبيعِ نشيدَهُ / واصْدَحْ بفيْضِ فؤادك المَسْجورِ
وانْشِدْ أناشيدَ الجَمال فإنَّها / روحُ الوُجودِ وسَلْوَةُ المَقْهورِ
أنا طائرٌ مُتَغرِّدٌ مُتَرنِّمٌ / لكِنْ بصوتِ كآبتي وزَفيري
يَهْتاجُني صوتُ الطُّيورِ لأنَّه / مُتدفِّقُ بِحَرارةٍ وطَهورِ
مَا في وجود النَّاسِ من شيءٍ به / يَرضَى فؤادي أو يُسَرُّ ضَميري
فإذا استَمَعْتُ حديثهم ألْفَيْتُهُ / غَثًّا يَفيض بِركَّةٍ وفُتورِ
وإذا حَضَرْتُ جُموعَهُمْ ألْفَيْتَني / مَا بينهمْ كالبُلبلِ المأسورِ
متوحِّداً بِعَواطفي ومَشاعِري / وخَواطري وكَآبَتي وسُروري
يَنتابُني حَرَجُ الحياةِ كأنَّني / مِنهمْ بِوَهْدَة جَنْدَلٍ وصُخورِ
فإذا سَكَتُّ تضجَّروا وإذا نَطَقْتُ / تذمَّروا من فكْرَتي وشُعوري
آهٍ منَ النَّاسِ الذين بَلَوْتُهُمْ / فَقَلَوْتُهُمْ في وحشتي وحُبوري
مَا منهُمُ إلاَّ خَبيثٌ غادِرٌ / متربِّصٌ بالنَّاسِ شَرَّ مَصيرِ
ويَودُّ له مَلَكَ الوُجودَ بأسره / ورمى الوَرَى في جاحِمٍ مَسْجورِ
لِيَبُلَّ غُلَّتَهُ التي لا ترتوي / ويَكُضَّ تُهْمَةَ قلبهِ المَغْفورِ
وإذا دخلتُ إلى البلادِ فإنَّ أَف / كاري تُرَفْرِفُ في سُفوحِ الطُّورِ
حيثُ الطَّبيعَةُ حُلوةٌ فتَّانَةٌ / تختال بَيْنَ تَبَرُّجٍ وسُفُورِ
مَاذا أَوَدُّ مِنَ المدينَةِ وهي غا / رقةٌ بموَّارِ الدَّمِ المَهدورِ
مَاذا أَوَدُّ مِنَ المدينَةِ وهي لا / ترثي لصوتِ تَفجُّع المَوْتُورِ
مَاذا أَوَدُّ مِنَ المدينَةِ وهي لا / تَعْنو لغَير الظَّالمِ الشَّرِّيرِ
مَاذا أَوَدُّ مِنَ المدينَةِ وهي مُر / تادٌ لكلِّ دَعَارَةٍ وفُجُورِ
يا أَيُّها الشَّادي المغرِّدُ ههنا / ثَمِلاً بغبطة قَلْبِهِ المسرورِ
قبِّل أَزاهيرَ الرَّبيعِ وغنِّها / رَنَمَ الصَّباحِ الضَّاحِك المحبورِ
واشرب مِنَ النَّبْعِ الجميل الملتوي / مَا بَيْنَ دَوْحِ صَنَوبَرٍ وغَديرِ
واتْرُكْ دموعَ الفجرِ في أَوراقِها / حتَّى تُرشِّفَهَا عَرُوسُ النُّورِ
فَلَرُبَّما كانتْ أَنيناً صاعداً / في اللَّيلِ مِنْ متوجِّعٍ مَقْهُورِ
ذَرَفَتْهُ أَجفانُ الصَّباحِ مدامعاً / أَلاَّقَةً في دَوْحةٍ وزُهورِ
يا مَوْتُ قدْ مزَّقْتَ صَدْري
يا مَوْتُ قدْ مزَّقْتَ صَدْري / وقَصَمْت بالأَرزاءَ ظَهْرِي
ورمَيْتَني مِنْ حالقٍ / وسَخِرْتَ منِّي أَيَّ سُخْرِ
فلَبِثْتُ مرضوضَ الفؤادِ / أَجرُّ أجنحتي بذُعْرِ
وقَسَوْتَ إذْ أَبقيتَنِي في / الكونِ أَذْرَعُ كُلَّ وَعْرِ
وفَجَعْتَني فيمَنْ أُحِبُّ / ومنْ إليهِ أَبُثُّ سرِّي
وأَعُدُّهُ فَجْرِي الجميلَ / إِذا ادْلَهَمَّ عليَّ دَهْري
وأَعُدُّهُ وَرْدِي ومِزْماري / وكَاسَاتي وخَمْرِي
وأَعُدُّهُ غَابي ومِحْرابي / وأُغْنِيَتي وفَجْرِي
وَرَزَأْتَني في عُمْدَتي / ومَشُورَتي في كلِّ أمْرِ
وهَدَمْتَ صرحاً لا أَلوذُ / بغيرِهِ وهَتَكْتَ سِتْرِي
فَفَقَدْتُ روحاً طاهراً / شهماً يَجِيشُ بكلِّ خَيْرِ
وَفَقَدْتُ قلباً همُّهُ أَنْ / يستوي في الأُفقِ بدْرِي
وَفَقَدْتُ كفًّا في الحَيَاةِ / يصُدُّ عنِّي كلَّ شرِّ
وَفَقَدْتُ وجهاً لا يُعَبِّسُهُ / سوى حَزَني وضُرِّي
وَفَقَدْتُ نفساً لا تَني عنْ / صوْن أَفراحي وبِشْرِي
وَفَقَدْتُ رُكني في الحَيَاةِ / ورايَتي وعمادَ قصْرِي
يَا مَوْتُ قَدْ مَزَّقْتَ صَدْري / وقَصَمْتَ بالأَزراءِ ظهْرِي
يَا مَوْتُ ماذا تبتغِي منِّي / وقدْ مزَّقتَ صَدْرِي
ماذا تودُّ وأَنتَ قَدْ / سوَّدتَ بالأَحزانِ فِكْرِي
وتَرَكْتَني في الكائناتِ / أَئِنُّ منفرداً بإِصْرِي
وأَجوبُ صحراءَ الحَيَاةِ / أَقولُ أَيْنَ تُراهُ قبْرِي
ماذا تَوَدُّ من المُعَذَّبِ / في الوُجُودِ بغيرِ وِزْرِ
ماذا تودُّ من الشَّقيِّ / بعيشِهِ النَّكِدِ المُضِرِّ
إنْ كنتَ تطلبُني فهاتِ / الكأسَ أَشربُها بصَبْرِ
أَو كنتَ ترقُبُني فهاتِ / السَّهمَ أَرشُقُهُ بنَحْرِي
خذني إليكَ فقد تبخَّرَ / في فضاءِ الهمِّ عُمْرِي
وتَهَدَّلَتْ أَغْصانُ أَيَّامي / بلا ثَمَرٍ وزَهْرِ
وتناثَرَتْ أَوراقُ أَحلامي / على حَسَكِ المَمرِّ
خذني إليكَ فقدْ ظمِئْتُ / لكأسِكَ الكَدِر الأَمرِّ
خذني فقدْ أَصبَحْتُ أَرقُبُ / في فَضَاكَ الجوْنِ فَجْرِي
خذني فما أَشقى الَّذي / يقضي الحَيَاة بمِثْلَ أَمْرِي
يَا مَوْتُ قَدْ مزَّقتَ صدْرِي / وقصمتَ بالأَزراءِ ظهْرِي
يَا مَوْتُ قَدْ شاعَ الفؤادُ / وأقفرتْ عَرَصَاتُ صدْرِي
وغَدَوْتُ أَمشي مُطْرِقاً مِنْ / طُول مَا أَثْقَلْتَ فِكْرِي
يَا مَوْتُ نفسي ملَّتِ الدُّنيا / فهلْ لم يأْتِ دوْرِي