المجموع : 19
لا تَنثَني في الرَوضِ أَغصانُ الشَجَر
لا تَنثَني في الرَوضِ أَغصانُ الشَجَر / حَتّى تُدَغدِغُها النَسائِمُ في السَحَر
وَأَنا كَذَلِكَ لا يُفارِقُني الضَجَر / حَتّى تُداعِبَ لِمَّتي بِيَدَيها
الشَمسُ تُلقي في الصَباحِ حِبالَها / وَتَبيتُ تَنظُرُ في الغَديرِ خَيالَها
أَمّا أَنا فَإِذا وَقَفتُ حِيالَها / أَبصَرتُ نورَ الشَمسِ في خَدَّيها
الطَودُ يَقرَءُ في السَماءِ الصافِيَه / سَفراً جَميلٌ مَتنُهُ وَالحاشِيَه
أَمّا أَنا فَإِذا فَقَدتُ كِتابِيَه / أَتلو كِتابَ الحُبِّ في عَينَيها
الطَيرُ إِن عَطِشَت وَلَجَّ بِها الظَما / هَبَطَت إِلى الأَنهارِ مِن عَلوِ السَما
أَمّا أَنا فَإِذا ظَمِئتُ فَإِنَّما / ظَمَأي الشَديدُ إِلى لَمى شَفَتَيها
النَدُّ يَطلُبُهُ الخَلائِقُ في الرُبى / بَينَ الوُرودِ وَفي نُسَيماتِ الصَبا
أَمّا أَنا فَأَلَذُّ مِن نَشرِ الكَبا / عِندي الَّذي قَد فاحَ مِن نَهدَيها
الراحُ تَصرُفُ ذا العَناءِ عَنِ العَنا / وَتَطيرُ بِالصُعلوكِ في جَوِّ المُنى
فَيَرى الكَواكِبَ تَحتَهُ أَمّا أَنا / فَتَظَلُّ أَفكاري تَحومُ عَلَيها
فيها وَمِنها ذِلَّتي وَسَقامي / وَبِها غَرامي القاتِلي وَهُيامي
أَشتاقُها في يَقظَتي وَمَنامي / وَأَطوَلَ شَوقِ المُستَهامِ إِلَيها
كَم تَستَثيرُ بِيَ الصَبابَة وَالهَوى
كَم تَستَثيرُ بِيَ الصَبابَة وَالهَوى / عَنّي إِلَيكَ فَإِنَّ قَلبي مِن حَجَر
مالي وَلِلحَسناءِ أُغري مُهجَتي / بِوِصالِها وَالشَيبُ قَد وَخَطَ الشَعَر
كَم بَِلجَزيرَةِ لَو يُتاحُ لِيَ الهَوى / مِن غادَةٍ تَحكي بِطُلعَتِها القَمَر
وَلَكَم بِها مِن جَدوَلٍ وَحَديقَةٍ / مِن صَنعَةِ الرَحمَنِ لا صُنعِ البَشَر
فيها اللَواتي إِن رَمَت أَلحاظَها / شَلَّت يَدَ الرامي وَقَطَّعَتِ الوَتَر
قَد كانَ لي في كُلِّ خَودٍ مَطمَعٌ / وَلِكُلِّ رائِعَةِ المَحاسِنِ بي وَتَر
أَيّامُ شِعري كَالدُجى مُحلَولِكٌ / أَيّامُ عَيشي لا يُخالِطُهُ كَدَر
ذَرني وَأَشجاني وَجِسمي وَالضَنى / وَيَدي وَأَقلامي وَطَرفي وَالسَهَر
أَأَبيتُ أَلهو وَالهُمومُ تُحيطُ بي / وَأَنامُ عَن قَومي وَقَومي في خَطَر
صَوتُ المُصَفِّقِ مَوعِدٌ ما بَينَنا / ماذا أَقولُ لَهُم إِذا الديكُ اِستَحَر
نَسِيَ الكَنارُ نَشيدُهُ
نَسِيَ الكَنارُ نَشيدُهُ / فَتَعالَ كَي نَنسى الكَنار
وَليَقذِفَنَّ بِهِ المَلالُ / مِنَ القُصورِ إِلى القِفار
وَلتَرمِيَنَّ بِريشِهِ / لِلأَرضِ عاصِفَةُ النِفار
وَلنَستَعِض عَنهُ بِطَيرٍ / مِن لُجَينٍ أَي نُضار
لا لا فَإِن سَكَتَ الكَنا / رُ فَلَم يَزَل ذاكَ الكَنار
أَو كانَ فارَقَهُ الصُدا / حُ فَلَم يُفارِقهُ الوَقار
صَمتُ الكَنارِ وَإِن قَسا / خَيرٌ مِنَ النَغَمِ المُعار
صَبراً فَسَوفَ يَعودُ لِلـ / ـتَغريدِ إِن عادَ النَهار
أَنا لَستُ في دُنيا الخَيال وَلا الكَرى
أَنا لَستُ في دُنيا الخَيال وَلا الكَرى / وَكَأَنَّني فيها لِرَوعَةِ ما أَرى
يا قَومُ هَل هَذي حَقائِقُ أَم رُأىً / وَأَنا أَصاحٍ أَم شَرِبتُ مُخَدِّرا
لا تَعجَبوا مِن دَهشَتي وَتَحَيُّري / وَتَعَجَّبوا إِن لَم أَكُن مُتَحَيِّرا
كَيفَ اِلتَفَتُّ رَأَيتُ آيَةَ شاعِرٍ / لَبِقٍ تَعَمَّدَ أَن يُجيدَ لِيُبهِرا
مَسَحَت بِإِصبَعِها الحَياةُ جُفونَهُ / فَرأى المَحاسِنَ فَاِنتَقى وَتَخَيَّرا
ما لوس أَنجِلوس سِوى أُنشودَةٍ / اللَهُ غَنّاها فَجُنَّ لَها الوَرى
خَلَعَ الزَمانُ شَبابَهُ في أَرضِها / فَهوَ اِشضِرارٌ في السُفوح وَفي الذُرى
أَخَذَت مِنَ المُدُنِ العَواصِمِ مَجدَها / وَجَلالَها وَحَوَت حَلاواتِ القُرى
هِيَ راحَةٌ لِلمُتعَبين وَجَنَّةٌ / لِلعاشِقين وَمَلعَبٌ لِذَوي الثَرا
كَفَّنتُ في نيويوركَ أَحلامَ الصِبا / وَطَوَيتُها وَحَسَبتُها لَن تُنشَرا
لَكِنَّني لَمّا لَمَحتُ زُهورَها / شاهَدتُ أَحلامي تَطُلُّ مِنَ الثَرى
تَتَنَفَّسُ الهَضَباتُ في رَأدِ الضُحى / تِبرا وَفي الآصالِ مِسكاً أَذفَرا
فَالسِحرُ في ضَحِكِ النَدى مُتَرَقرِقاً / كَالسِحرِ في رَقصِ الضِياءِ مُعَطَّرا
قُل لِلأُلى وَصَفوا الجِنان وَأَطنَبوا / لَيسَت جِنانُ الخُلدِ أَعجَبَ مَنظَرا
كُلُّ الفُصولِ هُنا رَبيعٌ ضاحِكٌ / فَإِذا تَرى شَهراً رَأَيتَ الأَشهُرا
إِن كُنتَ تَجهَلُ ما حِكاياتُ الهَوى / فَاِنصُت لِوَشوَشَةَ النَسيمِ إِذا سَرى
وَاِنظُر إِلى الغَبراءِ تُنبِتُ سُندُساً / وَتَأَمَّلِ الغُدرانَ تَجري كَوثَرا
وَاِشرَب بِعَينَيكَ الجَمالَ فَإِنَّهُ / خَمرٌ بِغَيرِ يَدِ الهَوى لَن تُعصَرا
حاوَلتُ وَصفَ جَمالِها فَكَأَنَّني / وَلَدٌ بِأُنمُلِهِ يَحوشُ الأَبحُرا
وَاِستَنجَدَت روحي الخَيالَ فَخانَني / وَكَبا جَوادُ فَصاحَتي وَتَعَثَّرا
أَدرَكتُ تَقصيري وَضَعفِيَ عِندَما / أَبصَرتُ ما صَنَعَ الإِلاه وَصَوَّرا
إِنّي شَهِدتُ الحُسنَ غَيرَ مُزَيَّفٍ / بِئسَ الجَمالُ مُزَيَّفا وَمُزَوَّرا
أَحبَبتُ حَتّى الشَوكَ في صَحرائِها / وَعَشِقتُ حَتّى نَخلَها المُتَكَبِّرا
اللابِسَ الوَرَقَ اليَبيسَ تَنَسُّكاً / وَالمُشمَخِرَّ إِلى السَماءِ تَجَبُّرا
هُوَ آدَمُ الأَشجارِ أَدرَكَهُ الحَيا / لَمّا تَبدّى عُريُهُ فَتَسَتَّرا
إِبنُ الصَحارى قَد تَحَضَّر وَاِرتَقى / يا حُسنَهُ مُبتَدِياً مُتَحَضِّرا
وَبَدَت غِياضُ البُرتُقالِ فَأَشبَهَت / جِلبابَ خَودٍ بِالنُضارِ مُزَرَّرا
مِن فَوقِها اِنتَشَرَ الضِياءُ مَلاءَةً / مِن فَوقِهِ جَوٌّ صَفا وَتَبَلوَرا
وَكَأَنَّما تِلكَ القُصورِ عَلى الرُبى / عَقدٌ لِغانِيَةٍ هَوى وَتَبَعثَّرا
لَمّا تَراءَت مِن بَعيدٍ خِلتُها / سُفُنا وَخِلتُ الأَرضَ بَحراً أَخضَرا
نَفَضَ الصَباحُ سَناهُ في جُدرانِها / وَأَتى الدُجى فَرأى مَناثِرَ لِسَرى
مُتَأَلِّقاتٍ كَاِبتِساماتِ الرِضى / تُنسيكَ رُؤيَتُها الزَمانَ الأَعسَرا
أَنا شاعِرٌ ما لاحَ طَيفُ مَلاحَةٍ / إِلّا وَهَلَّلَ لِلجَمال وَكَبَّرا
وَزَّعتُ نَفسي في النُفوسِ مَحبَّةً / لا شاكِياً أَلَما وَلا مُتَضَجِّرا
وَمَشَيتُ في الدُنيا بقَلبٍ يابِسٍ / حَتّى لَقيتُ أَحِبَّتي فَاِخضَوضَرا
قَد كُنتُ أَحسَبُني كَياناً ضائِعاً / فَإِذا أَنا شَخصٌ يَعيشُ مُكَرَّرا
فَكَأَنَّني ماءُ الغَمامِ إِذا اِنطَوى / في الأَرضِ رَدَّتهُ نَباتاً مُثمِرا
ما أَكرَمَ الأَشجارِ في هَذا الحِمى / فيها لِقاصِدِها البَشاشَة وَالقِرى
تُقري الفَقيرَ عَلى خَصاصَةِ حالِهِ / كَرَماً كَما تُقري الغَنِيَّ الموسَرا
البَذلُ دَيدَنُها سَواءٌ جِئتَها / مُتَقَدِّماً أَم جِئتَها مُتَأَخِّرا
فَكَأَنَّها مِنكُم تَعَلَّمَتِ النَدى / كَيما تُغيثُ الناسَ إِن خَطبٌ عَرا
الحُسنُ حَولَك في الوِهاد وَفي الذُرى
الحُسنُ حَولَك في الوِهاد وَفي الذُرى / فَاِنظُر أَلَستَ تَرى الجَمالَ كَما أَرى
أَيلولُ يَمشي في الحُقول وَفي الرُبى / وَالأَرضُ في أَيلولَ أَحسَنُ مَنظَرا
شَهرٌ يُوَزِّعُ في الطَبيعَةِ فَنُّهُ / شَجَراً يُصَفِّقُ أَو سَناً مُتَفَجِّرا
فَالنورُ سِحرٌ دافِق وَالماءُ شِعرٌ / رائِق وَالعِطرُ أَنفاسُ الثَرى
لا تَحسَبِ الأَنهارَ ماءً راقِصاً / هَذي أَغانيهِ اِستَحالَت أَنهُرا
وَاِنظُر إِلى الأَشجارِ تَخلَعُ أَخضَراً / عَنها وَتَلبِسُ أَحمَراً أَو أَصفَرا
تَعرى وَتُكسى في أَوانٍ واحِدٍ / وَالفَنُّ في ما تَرتَديه وَفي العُرا
فَكَأَنَّما نارٌ هُناكَ خَفِيَّةٌ / تَنحَلُّ حينَ تَهُمُّ أَن تُستَشعَرا
وَتَذوبُ أَصباغاً كَأَلوانِ الضُحى / وَتَموجُ أَلحانا وَتَسري عَنبَرا
صُوَر وَأَطيافٌ تَلوحُ خَفيفَةً / وَكَأَنَّها صُوَرٌ نَراها في الكَرى
لِلَّهِ مِن أَيلولَ شَهرٍ ساحِرٍ / سَبَقَ الشُهور وَإِن أَتى مُتَأَخِّرا
مَن ذا يُدَبِّجُ أَو يَحوكُ كَوَشيهِ / أَو مَن يُصَوِّرُ مِثلَما قَد صَوَّرا
لَمَسَت أَصابِعُهُ السَماءَ فَوَجهُها / ضاح وَمَرَّ عَلى التُرابِ فَنَوَّرا
رَدَّ الجَلالَ إِلى الحَياة وَرَدَّني / مِن أَرضِ نيويوركَ إِلى أُمِّ القُرى
ما بالُهُم نَقَضوا العُهودَ جَهارا
ما بالُهُم نَقَضوا العُهودَ جَهارا / وَتَعَمَّدوا الإِذاء وَالإِضرارا
وَاِستَأسَدوا لَمّا رَأوا لَيثَ الشَرى / عافَ الزَئير وَقَلَّمَ الأَظفارا
داروا بِه وَالشَرُّ في أَحداقِهِم / ذا يَدَّعي حَقّا وَذَلِكَ ثارا
لُؤمٌ لَعَمرُ أَبيكَ لَم يَرَ مِثلَهُ / التاريخُ مُنذُ اِستَقرَأَ الأَخبارا
وَخِيانَةٌ ما جائَها القَومُ الأُلى / تَخِذوا مَعَ الوَحشِ القِفارَ دِيارا
أَمسى يُحَرِّضُ عاهِلَ الأَلمانِ عَن / أَمسى يُحَرِّضُ في الخَفا البُلغارا
أَمُعاشِرَ الإِفرَنجِ لَيسَ شَهامَةً / ما تَفعَلونَ إِذا أَمِنتُم عارا
أَمِنَ المُروأَةِ أَن يُساءَ جِوارُنا / في حينِ أَنّا لا نُسيءُ جِوارا
أَمِنَ المُروأَةِ أَن يُطَأطِئَ تاجَهُ / مَلِكٌ لِيَملُكَ في الثَرى أَشبارا
البَغيُ مَرتَعُهُ وَخيمٌ فَاِعلَموا / وَالظُلمُ يُعقَبُ لِلظَلومِ دَمارا
إِن تُحرِجوا الرِئبالَ في عَرينِهِ / يَذَرُ السُكوت وَيَركَبُ الأَخطارا
وَكَما عَلِمتُم ذَلِكَ الجَيشُ الَّذي / يَأبى وَيَأنَفُ أَن يُرى خَوّارا
فَالوَيلُ لِلدُنيا إِذا نَفَضَ الكَرى / وَالوَيلُ لِلأَيّامِ إِمّا ثارا
إِنّي أَرى لَيلاً يُخَيِّمُ فَوقَنا / لا يَنجَلي حَتّى يُشَبَّ النارا
فَحَذارِ ثُمَّ حَذارِ مِن يَومٍ بِهِ / يَجري انَجيعُ عَلى الثَرى أَنهارا
يَومٌ تُباعُ بِهِ النُفوسُ رَخيصَةً / يَومٌ يُقَصِّرُ هَولَهُ الأَعمارا
يَومٌ يَكونُ بِهِ الجَميعُ عَساكِراً / وَالكُلُّ يَدخُلُ في الوَغى مُختارا
دَبَّت وَقَد أَرخى الظَلامُ سِتارا
دَبَّت وَقَد أَرخى الظَلامُ سِتارا / وَلَطالَما كَتَمَ الدُجى الأَسرارا
سُفُنٌ هِيَ الأَطوادُ لَولا سَيرَها / أَعَهِدتُمُ جَبَلاً مَشى أَو سارا
كَالطَيرِ أَسرابا وَلَكِن إِن عَدَت / تَنَتِ الرِياح وَتَسبَقُ الأَطيارا
مِثلُ الكَواكِبِ في النِظام وَإِنَّها / لَكَما الكَواكِبُ تَبعَثُ الأَنوارا
هِيَ كَالمَدائِنِ غَيرَ أَن نُزيلَها / أَبَداً بِها يَتَوَقَّعُ الأَخطارا
وَأَظُنُّها فَقَدَت حَبيباً أَو أَخاً / وَلِذَلِكَ اِرتَدَتِ السَوادَ شِعارا
تَغشى المِياهَ لَعَلَّ ما في قَلبِها / يُطفى فَتَزدادُ الضُلوعُ أَوارا
وَتَميدُ حَتّى لا يُشَكُّ بِأَنَّها / سَكرى وَلَم تَذُقِ السَفينُ عَقارا
وَتُسَرُّ إِن رَأَتِ الثُغورَ كَأَنَّها / المَقرورُ أَبصَرَ بَعدَ جُهدٍ نارا
وَبَوارِجٌ قَد سُيِّرَت كَالجَحفَلِ / الجَرّارِ تَحمِلُ جَحفَلاً جَرّارا
حَمَلَت أُناساً كَالقُرودِ وُجوهُهُم / صَفراءُ يَحكي لَونَها الدينارا
فُطسُ الأُنوفِ قَصيرَةٌ قاماتُهُم / هَيهاتِ لا تَتَجاوَزُ الأَشبارا
قَد قادَها طوغو فَقادَ ذُلولَةً / تَهوى الصِعاب وَتَعشَقُ الأَسفارا
في قَلبِهِ نار وَفي أَحشائِها / مِثلُ الَّذي في نَفسِهِ قَد ثارا
ما زالَ يَدفَعُها البُخارُ فَتَرتَمي / كَالسَهمِ أُطلِقَ في الفَضاءِ فَسارا
طَوراً تَراها في السَحاب وَتارَةً / في القاعِ يوشِكُ جُرمُها يَتَوارى
حَتّى دَنَت مِن ثَغرِ شِمولبو الَّذي / جَمَعَ الأُلى يَعرِفوا ما صارا
نَفَرٌ مِنَ الرُؤوسِ الَّذينَ سَمِعتُ عَن / أَفعالِهِم فيما مَضى الأَخبارا
مِن كُلِّ مِغوارٍ إِذا زارَ الوَغى / زارَ الحِمامُ الفارِسَ المُغوارا
ما كانَ غَيرَ الفارِياجِ لَدَيهِم / وَسَفينَةً أُخرى أَخَفُّ دِثارا
قالَ العَدُوُّ لَهُم وَقَد داناهُمُ / وَكَفى بِما وافى بِهِ إِنذارا
أَمّا القِتالُ فَتَلحَقونَ بِمَن مَضَوا / أَو تُحسِنونَ فَتُؤخَذونَ أُسارى
كانَ الجَوابُ قَذائِفاً نارِيَّةً / تَهوى الوُرود وَتَكرَهُ الإِصدارا
مِثلُ الرُجومِ إِذا هَوَت لَكِنَّها / لا تَعرِفُ الأَخيار وَالأَشرارا
وَأَقَلُّها خَطباً فَكيفَ أَشَدُّها / لَو نالَتِ الجَبَلَ الأَشَمَّ أَنهارا
حَفَّت بِهِم سُفُنُ العُداة وَأَحدَقَت / حَتّى وَالكُلُّ إِخالَها أَسوارا
ما بَينَ بارِجَة وَطَرّادٍ إِلى / نَسّافَة وَالكُلُّ يَقذِفُ نارا
مَلَأَ الفَضاءَ دُخانُها وَذَكاءُ / اِحتَجَبَت وَما بَرَحَ النَهارُ نَهارا
وَالجَوُّ أَظلَم وَاِكفَهَرَّ أَديمُهُ / حَتّى كَأَنَّ عَلى السَماءِ سِتارا
وَالبَحرُ خُضِّبَ بِالدِماء وَأَصبَحَت / أَمواجُه وَهيَ اللُجَينُ نُضارا
ذا وَالقَنابِلُ لَم تَزَل مُنهَلَّةً / مِنها تُحاكي الصَيبَ المِدرارا
وَالمَركِبانُ الفارِياج وَأُختُها / في ابوَةٍ لا يَعرِفانِ قَرارا
إِحداهُما ظَفِرَت بِها مَقذوفَةٌ / فَكَأَنَّ صاعِقَةً أَصابَت دارا
فَهَوَت بِمَن فيها وَقَد فَتَحَت لَا / الأَمواجُ صَدراً يَكتُمُ الأَسرارا
هَبَطَت وَزادَ هُبوطَها المُتَقاتِ / لينَ عَلى مُداوَمَةِ الوَغى إِصرارا
لَكِنَّما الأُخرى أُصيبَت بِالأَذى / حَتّى غَدَت لا تَملِكُ التَسيارا
فَرَأى الفَتى رُبّانُها أَن يَفتَدي / الجُندَ الكِرامَ مِنَ المَماتِ فِرارا
قَد فَرَّ بَعضُهُم وَلَكِن جُلَّهُم / طَلَبوا الفِرارَ مِنَ الفِرارِ خَيارا
أَودوا بِها نَسفا وَماتوا عِندَها / غَرَقا وَيَأبى الباسِلونَ العارا
هَذي حِكايَتُهُم أُسَطِّرُها لَكُم / لا دِرهَماً أَبغي وَلا دينارا
فَلَئِن أَفادَتكُم فَخَيرٌ اءَ مَن / شَر وَإِلّا فَلتَكُن تَذكارا
قالَت وَصَفَت لَنا الرَحيق وَكوبَها
قالَت وَصَفَت لَنا الرَحيق وَكوبَها / وَصَريعَها وَمُديرَها وَالعاصِرا
وَالحَقل وَالفَلّاحَ فيهِ سائِراً / عِندَ المَسا يَرعى القَطيعَ السائِرا
وَوَقَفتُ عِندَ البَحرِ يَهدُرُ مَوجُهُ / فَرَجِعتُ بِالأَلفاظِ بَحراً هادِرا
صَوَّرتَ في القِرطاسِ حَتّى الخاطِرا / فَخَلَبَتنا وَسَحَرتَ حَتّى الساحِرا
وَأَرَيتَنا في كُلِّ قَفرٍ رَوضَةً / وَأَرَيتَنا في كُلِّ رَوضٍ طائِرا
لَكِن إِذا سَأَلَ اِمرُؤٌ عَنكَ اِمرَأً / أَبصَرتَ مُحتاراً يُخاطِبُ حائِرا
مَن أَنتَ يا هَذا فَقُلتُ لَها أَنا / كَالكَهرُباءِ أُرى خَفِيّاً ظاهِرا
قالَت لَعَمرُكَ زِدتَ نَفسي ضَلَّةً / ما كانَ ضَرَّكَ لَو وَصَفتَ الشاعِرا
فَأَجَبتُها هُوَ مَن يُسائِلُ نَفسَهُ / عَن نَفسِهِ في صُبحِه وَمَسائِهِ
وَالعَينَ سِرَّ سُهادِها وَرُقادِها / وَالقَلبَ سِرَّ قُنوطِه وَرَجائِهِ
فَيَحارُ بَينَ مَجيإِه وَذَهابِهِ / وَيَحارُ بَينَ أَمامِه وَوَرائِهِ
وَيَرى أُفولَ النَجمِ قَبلَ أُفولِهِ / وَيَرى فَناءَ الشَيءِ قَبلَ فَنائِهِ
وَيَسيرُ في الرَوضِ الأَغَنِّ فَلا تَرى / عَيناهُ غَيرَ الشَوكِ في أَرجائِهِ
إِن نامَ لَم تَرقُد هَواجِسُ روحِهِ / وَإِذا اِستَفاقَ رَأَيتَهُ كَالتَائِهِ
ما إِن يُبالي ضِحكَنا وَبُكاءَنا / وَيُخيفُنا في ضِحكِه وَبُكائِهِ
كَالنارِ يَلتَهِمُ العَواطِفَ عَقلُهُ / فَيُميتُها وَيَموتُ في صَحرائِهِ
قالَت أَتَعرِفُ مَن وَصَفتَ فَقُلتُ مَن / قالَت وَصَفتَ الفَيلَسوفَ الكافِرا
يا شاعِرَ الدُنيا وَفيكَ حَصافَةٌ / ما كانَ ضَرَّكَ لَو وَصَفتَ الشاعِرا
فَقُلتُ هُوَ اِمرُؤٌ يَهوى العُقارا / كَما يَهوى مُغازَلَةَ العَذارى
إِذا فَرَغَت مِن الراحِ الدِنانُ / تَوَهَّمَ أَنَّما فَرَغَ الزَمانُ
يُعاقِرُها عَلى ضَوءِ الدَراري فَإِن / غَرُبَت عَلى ضَوءِ النَهارِ
وَيَحسَبُ مِهرَجانَ الناسِ مَأتَم / بِلا خَمر وَجَنَّتُهُم جَهَنَّم
مَلولٌ لا يَدومُ عَلى وَلاءٍ / وَلَكِن لا يَدومُ عَلى عِداءِ
أَخو لُب وَلَكِن لا إِرادَه / وَذو زُهد وَلَكِن بَِلزَهادَه
يَميلُ إِلى الدُعابَة وَالمُزاحِ / وَلَو بَينَ الأَسِنَّة وَالصِفاحِ
وَيوشِكُ أَن يُقَهقِهَ في الجَنازَةِ / وَيَرقُصَ كَالعَواصِفِ في المَفازَه
إِذا بَصُرتَ بِهِ عَينُ الأَديبِ / فَقَد وَقَعَت عَلى رَجُلٍ مُريبِ
يُعَنِّفُهُ الصَحابُ فَلا يُنيبُ / وَيَزجُرُهُ المَشيبُ فَلا يَتوبُ
فَقالَت جِئتَ بِالكَلَمِ البَديعِ / وَلَكِن ما وَصَفتَ سِوى الخَليعِ
وَخِفتُ إِعراضَها عَنّي فَقُلتُ إِذَن / هُوَ الَّذي أَبَداً يَبكي مِنَ الزَمَنِ
كَأَنَّما لَيسَ في الدُنيا سِواهُ فَتىً / مُعَرَّضٌ لِخُطوبِ الدَهر وَالمِحَنِ
يَشكو السَقام وَما في جِسمِهِ مَرَضٌ / وَالسُهدَ هُوَ قَريبُ العَهدِ بِالوَسَنِ
وَالهَجر وَهوَ بِمَرءٍ مِن أَحِبَّتِهِ / وَالأَسر وَهوَ طَليقُ الروح وَالبَدَنِ
وَلا يَرى حَسَناً في الأَرضِ يَألَفُهُ / أَو يَشتَهِه وَكَم في الأَرضِ مِن حَسَنِ
يَنوحُ في الرَوض وَالأَشجارُ مورِقَةٌ / كَما يَنوحُ عَلى الأَطلال وَالدِمَنِ
فَقاطَعَتني وَقالَت قَد بَعدتَ بِنا / ما ذي الصِفاتُ الشاعِرِ الفَطِنِ
قُلتُ مَهلاً إِذا ضَلَلت وَعُذراً / رُبَّما أَخطَأَ الحَكيم وَضَلّا
هُوَ مَن تَرسُمُ الجَمالَ يَداهُ / فَنَراهُ في الطِرسِ أَشهى وَأَحلى
لَوذَعِيُّ الفُؤادِ يَلعَبُ بِالأَل / بابِ لُعباً إِن شاءَ أَن يَتَسَلّى
وَيُرينا ما لَيسَ يَبقى سَيَبقى / وَيُرِنا ما لَيسَ يَبلى سَيَبلى
يَطبَعُ الشُهبَ لِلأَنامِ نُقوداً / وَهوَ يَشكو الإِملاقَ كَيفَ تَوَلّى
أَفَما ذا مَن تَبتَغين وَأَبغي / وَصفَهُ قالَتِ المَليحَةُ كَلّا
يا هَذِهِ إِنّي عَيِّتُ بِوَصفِهِ / وَعَجِزتُ عَن إِدراكِ مَكنوناتِهِ
لا تَستَطيعُ الخَمرُ سَردَ صِفاتِها / وَالرَوضُ وَصفَ زُهورِه وَنَباتِهِ
هُوَ مَن نَراهُ سائِراً فَوقَ الثَرى / وَكَأَنَّ فَوقَ فُؤادِهِ خُطُواتِهِ
إِن ناحَ فَالأَرواحُ في عَبَراتِهِ / وَإِذا شَدا فَالحُبُّ في نَغَماتِهِ
يَبكي مَعَ الناءِ عَلى أَوطانِهِ / وَيُشارِكُ المَحزونَ في عَبَراتِهِ
وَتُغَيِّرُ الأَيّامُ قَلبَ فَتاتِهِ / وَيَظَلُّ ذا كَلَفٍ بِقَلبِ فَتاتِهِ
هُوَ مَن يَعيشُ لِغَيرِه وَيَظُنُّهُ / مَن لَيسَ يَفهَمُهُ يَعيشُ لِذاتِهِ
كانَت قُبَيلَ العَصرِ مَركَبَةٌ
كانَت قُبَيلَ العَصرِ مَركَبَةٌ / تَجري بِمَن فيها مِنَ السَفرِ
ما بَينَ مُنخَفِض وَمُرتَفِعٍ / عال وَبَينَ السَهل وَالوَعرِ
وَتَخُطُّ بِالعَجَلاتِ سائِرَةً / في الأَرضِ إِسطارا وَلا تَدري
كَتَبَت بِلا حِبر وَعَزَّ عَلى / الأَقلامِ حَرفٌ دونَ ما حِبرِ
سَيّارَةٌ في الأَرضِ ما فَتِأَت / كَالطَيرِ مِن وَكرٍ إِلى وَكرِ
تَأبى وَتَأنَفُ أَن يَلِمَّ بِها / تَعَب وَأَن تَشكو سِوى الزَجرِ
حَمَلَت مِن الرُكّابِ كُلَّ فَتىً / حَسَنَ الرُواء وَكُلَّ ذي قَدرِ
يَتَحَدَّثونَ فَذاكَ عَن أَمَلٍ / آت وَذا عَن سالِفِ العُمرِ
يَتَحَدَّثون وَتِلكَ سائِرَةٌ / بِالقَومِ لا تَلوي عَلى أَمرِ
فَكَأَنَّما ضَرَبَت لَها أَجَلاً / أَن تَلتَقي وَالشَمسَ في خِدرِ
حَتّى إِذا صارَت بِداحِيَةٍ / مَمدودَةٍ أَطرافَها صُفرِ
سَقَطَت مِنَ العَجَلاتِ واحِدَةٌ / فَطَحَطَّمَت إِرَباً عَلى الصَخرِ
فَتَشاءَمَ الرُكّاب وَاِضطَرَبوا / مِمّا أَلَمَّ بِهِم مِنَ الضَرِّ
وَتَفَرَّقوا بَعدَ اِنتِظامِهِمِ / بَدَدا وَكَم نَظمٍ إِلى نَثرِ
وَالشَمسُ قَد سالَت أَشِعَّتُها / تَكسو أَديمَ الأَرضِ بِالتِبرِ
وَالأُفقُ مُحمَرٌّ كَأَنَّ بِهِ / حَنَقاً عَلى الأَيّام وَالدَهرِ
وَالقَومُ واجِفَةٌ قُلوبُهُمُ / قَلَقاً كَأَنَّهُم عَلى الجَمرِ
قَد كانَ بَينَ الجَمعِ ناهِدَةُ / الثَديَينِ ذاتُ مَلاحَةٍ تُغري
تَبكي بُكاءَ القانِطين وَما / أَسخى دُموعَ الغادَةِ البِكرِ
وَقَفَت وَشَمسُ الأُفقِ غارِبَةٌ / تَذري عُلىً كَالوَردِ كَالقَطرِ
شَمسانَ لَولا أَنَّ بَينَهُما / صِلَةٌ لَمّا بَكَتا مِنَ الهَجرِ
وَتُديرُ عَنينَها عَلى جَزَعٍ / كَالظَبيِ مُلتَفِتاً مِنَ الذُعرِ
وَإِذا فَتىً كَالفَجرِ طَلعَتُهُ / بَل رُبَّما أَربى عَلى الفَجرِ
وافى إِلَيها قائِلاً عَجَباً / مِمَّ البُكاءُ شَقيقَةَ البَدرِ
قالَت أَخافُ اللَيلَ يَدهَمُني / ما أَوحَشَ الظَلماءِ في القَفرِ
وَأَشَدُّ ما أَخشاهُ سَفكُ دَمي / بِيَدِ الأَثيمِ اللِصِّ ذي الغَدرِ
هِنري اللَعين وَما الفَتى هِنري / إِلّا اِبنُ أُمِّ المَوتِ لَو تَدري
رَصَدَ السَبيلَ فَما تَمُرُّ بِهِ / قَدَم وَلا النَسَماتُ إِذ تَسري
وا شَقوَتي إِنَّ الطَريقَ إِلى / سَكَني عَلى مُستَحسَنِ النَكرِ
إِنّي لَأَعلَمُ إِنَّما قَدَمي / تَسعى حَثيثاً بي إِلى القَبرِ
قالَ الفَتى هَيهاتِ خَوفُكِ لَن / يُجديكِ شَيئاً رَبَّةَ الطُهرِ
فَتَشَجَّعي وَعَلَيَّ فَاِتَّكِلي / فَأَنا الَّذي يَحميكِ مِن هِنري
قالَت أَخافُ مِنَ الخَأونِ عَلى / هَذا الشَبابِ الناعِمِ النَضرِ
فَأَجابَها لا تَجزَعي وَثِقي / أَنّي عَلى ثِقَةٍ مِنَ النَصرِ
عادَت كَأَن لَم يَعرُها خَلَلٌ / تَخِدُ القِفارَ سَفينَةُ البَرِّ
وَاللَيلُ مُعتَكِرٌ يَجيشُ كَما / جاشَت هُمومُ النَفسِ في الصَدرِ
فَكَأَنَّهُ الآمالُ واسِعَةٌ / وَالبَحرُ في مَد وَفي جَزرِ
وَكَأَنَّ أَنجُمُه وَقَد سَطَعَت / دَمعُ الدَلال وَناصِعُ الدُرِّ
وَالبَدرُ أَسفَرَ رُغمَ شامِخَةٍ / قَد حاوَلَت تَطويهِ كَالسِرِّ
أَلقى أَشِعَّتُهُ فَكانَ لَها / لَونُ اللُجَين وَلُؤلُؤُ الثَغرِ
فَكَأَنَّهُ الحَسناءُ طالِعَةٌ / مِن خِدرِها أَو دُميَةُ القَصرِ
وَكَأَنَّما جُنحُ الظَلامِ جَنى / ذَنباً فَجاءَ البَدرُ كَالعُذرِ
وَضَحَت مَسالِكُ لِلمَطِيَّةِ قَد / كانَت شَبيهَ غَوامِضِ البَحرِ
فَغدَت تُحاكي السَهمَ مُنطَلِقاً / في جَريِها وَالطَيفَ إِذ يَسري
وَالقَومُ في لَهو وَفي طَرَبٍ / يَتَناشَدونَ أَطايِبَ الشِعرِ
حَتّى إِذا صارَت بِمُنعَرِجٍ / وَقَفَت كَمُنتَبِهٍ مِنَ السُكرِ
فَتَرَجَّلَت ليزا وَصاحِبَها / وَمَشَت وَأَعقَبَها عَلى الأَثرِ
وَاِستَأنَفَت تِلكَ المَطِيَّةُ ما / قَد كانَ مِن كَر وَمِن فَرِّ
مَشَتِ المَليحَة وَهيَ مُطرِقَةٌ / ما ثَمَّ مِن تيه وَلا كِبرِ
أَنّى تَتيه وَقَد أَناخَ بِها / هَم وَبَعضُ الهَمِّ كَالوَقرِ
لَم تَحتَثي خَمرا وَتَحسَبُها / مِمّا بِها نَشوى مِنَ الخَمرِ
في غابَةٍ تَحكي ذَوائِبَها / في لَونِها وَاللَف وَالنَشرِ
ضاقَت ذَوائِبُها فَما اِنفَرَجَت / إِلّا لِسَيرِ الذِئب وَالنَمرِ
كَاللَيلَةِ اللَيلاءِ ساجِيَةً / وَلَرُبَّ لَيلٍ ساطِعٍ غِرِّ
قَد حاوَلَ القَمَرُ المُنيرُ بِها / ما حاوَلَ الإيماُ في الكُفرِ
تَحنو عَلى ظَبي وَقَسوَرَةٍ / أَرَأَيتُمُ سِرَّينِ في صَدرِ
صَقر وَوَرقاء وَمِن عَجَبٍ / أَن تَحتَمي الوَرقاءُ بِالصَقرِ
هَذا وَأَعجَبُ أَنَّها سَلِمَت / مِنهُ عَلى ما فيهِ مِن غَدرِ
ظَلَّت تَسير وَظَلَّ يَتبَعُها / ما نَمَّ مِن إِثم وَلا وِزرِ
طالَ الطَريق وَطالَ سَيرَهُما / لَكِنَّ عُمرَ اللَيلِ في قِصَرِ
حَتّى إِذا سَفَرَ الصَباح وَقَد / رُفِعَ الظَلام وَكانَ كَالسِترِ
وَالغابُ أَوشَكَ أَن يَبوحَ بِها / وَبِهِ بِلا حَذَرٍ إِلى النَهرِ
نَظَرَت إِلَيهِ بِمُقلَةٍ طَفَحَت / سِحرا وَوَجهٍ فاضَ بَِلبِشرِ
قالَت لَهُ لَم ةَبقَ مِن خَطَرٍ / جَمٍّ نُحاذِرُه وَلا نَذرِ
أُنظُر فَإِنَّ الصُبحَ أَوشَكَ أَن / يَمحو ضِياءَ الأَنجُمِ الزُهرِ
وَأَراهُ دَبَّ إِلى الظَلامِ فَهَل / هَذا دَبيبُ الشَيبِ في الشَعرِ
وَأَسمَعُ فَأَصواتُ الطُيورِ عَلَت / بَينَ النَقا وَالضال وَالسِدرِ
قالَ الفَتى أَو كُنتُ في خَطَرٍ / قالَت لَهُ عَجَباً أَلَم تَدرِ
فَأَجابَها ما كانَ في خَطَرٍ / مَن كانَ صاحِبُهُ الفَتى هَنري
فَتَقَهقَرَت فَزَعاً فَقالَ لَها / لا تَهلَعي وَاِصغي إِلى حُرِّ
ما كُنتُ بِالشِرّيرِ قَط وَلا / الرَجُلُ الَّذي يَرتاحُ لِلشَرِّ
لَكِنَّني دَهرٌ يَجوزُ عَلى / دَهرٍ يَجوزُ عَلى بَني الدَهرِ
بَل إِنَّني خَطَرٌ عَلى فِأَةٍ / مِنها عَلى خَطَرٍ ذَوي الضُرِّ
قَتَلوا أَبي ظُلماً فَقَتَلتُهُمُ / عَدل وَحَسبِيَ العَدلُ أَن يَجري
لا سِلمَ ما بَيني وَبَينَهُمُ / لا سِلمَ بَينَ الهِر وَالفَأرِ
سَيَرَونَ في المَوتِ مُنتَقِماً / لا شافِعَ في الأَخذِ بِالثَأرِ
تَاللَهِ ما أَنساكَ يا أَبَتي / أَبَدا وَلا أُغضي عَلى الوِترِ
قالَت لَقَد هَيَّجتَ لي شَجَناً / فَإِلَيكَ ما قَد كانَ مِن أَمري
بَعَثَ المَليكُ إِلى أَبي فَمَضى / وَأَخي مَعاً تَوّاً إِلى القَصرِ
فَإِذا أَبي في القَبرِ مُرتَهَنٌ / وَإِذا أَخي في رِبقَةِ الأَسرِ
يا ساعِدَيَّ بُتِرتُما وَيَدُ / الدَهرِ الخَأونِ أَحَقُّ بَِلبَترِ
نابي وَظِفري بِتُّ بَعدَكُما / وَحدي بِلا ناب وَلا ظِفرِ
وَيلاهُ مِن جورِ الزَمانِ بِنا / وَالوَيلُ مِنهُ لِكُلِّ مُغتَرِّ
وَكَأَنَّنا وَالمَوتُ يَرتَعُ في / أَرواحِنا مَرعى وَمُستَمري
لَمّا اِنتَهَت وَإِذا بِهِ دَهِشٌ / حَيرانُ كَالمَأخوذِ بِالسِحرِ
شاءَ الكَلامَ فَنالَهُ خَرَسٌ / كُلُّ البَلاغَةِ تَحتَ ذا الحَصرِ
وَكَذَلِكَ الغَيداءُ أَذهَلَها / مَيلٌ إِلى هَذا الفَتى الغِرِّ
قالَت أَخي وَاللَه وَاِقتَرَبَت / تَرنو إِلَيهِ بِمُقلَةِ العَفرِ
وَإِذا بِهِ أَلقى عَباءَتَهُ / بَرَحَ الخَفاءُ بِها عَنِ الجَهرِ
صاحَت أَخي فَِكتورُ وا طَرَبي / روحي شَقيقي مُهجَتي ذُخري
وَتَعانَقا فَبَكى الفَتى فَرَحاً / إِنَّ البُخارَ نَتيجَةُ الحَرِّ
وَتَساقَطَت في الخَدِّ أَدمُعُها / كَالقَطرِ فَوقَ نَواضِرِ الزَهرِ
قُل لِلأُلى يَشكونَ دَهرَهُمُ / لا بُدَّ من حُلو وَمِن مُرِّ
صَبراً إِذا جَلَلٌ أَصابَكُمُ / فَالعُسرُ آخِرُهُ إِلى اليُسرِ
أَبصَرتُها في الخَمس وَالعَشرِ
أَبصَرتُها في الخَمس وَالعَشرِ / فَرَأَيتُ أُختَ الرِئم وَالبَدرِ
عَذراءَ لَيسَ الفَجرُ والِدَها / وَكَأَنَّها مَولودَةُ الفَجرِ
بَسّامَةٌ في ثَغرِها دُرَرٌ / وَهفو إِلَيها الشاعِرُ العَصري
وَلَها قَوامٌ لَو أُشَبِّهُهُ / بِالغُصنِ باءَ الغُصنُ بِالفَخرِ
مِثلُ الحَمامَةِ في وَداعَتِها / وَكَزَهرَةِ النِسرينِ في الطُهرِ
مِثلُ الحَمامَةِ غَيرَ أَنَّ لَها / صَوتَ الهَزار وَلَفتَةَ الصَقرِ
شاهَدتُها يَوما وَقَد جَلَسَت / في الرَوضِ بَينَ الماء وَالزَهرِ
وَيَدُ الفَتى هِنري تُطَوِّقُها / فَحَسَدتُ ذاكَ الطَوقَ في الخَصرِ
وَحَسَدتُ مُقلَتَه وَمِسمَعَهُ / لِجَمالِها وَكَلامِها الدُرّي
أَغمَضتُ أَجفاني عَلى مَضَضٍ / وَطَوَيتُ أَحشائي عَلى الجَمرِ
وَخَشيتُ أَنَّ الوَجدَ يَسلِبُني / حِلمي وَيَغلِبُني عَلى أَمري
فَرَجِعتُ أَدراجي أُغالِبُهُ / بِاليَأسِ آوِيَة وَبِالصَبرِ
ثُمَّ اِنقَضى عام وَأَعقَبَهُ / ثان وَذاكَ السِرُّ في صَدري
فَعَجِبَت مِنّي كَيفَ أَذكُرُها / وَقَد اِنقَضى حَولانِ مِن عُمري
خُلتُ اللَيالي في تَتابُعِها / تُزري بِها عِندي فَلَم تَزرِ
زادَت مَلاحَتَها فَزُدتُ بِها / كَلَفا وَموجَدَةً عَلى هِنري
وَسَإِمتُ داري وَهيَ واسِعَةٌ / فَتَركتُها وَخَرَجتُ في أَمرِ
فَرَأَيتُ فِتيانَ الحِمى اِنتَظَموا / كَالعِقدِ أَو كَالعَسكَرِ المَجرِ
يَتَفَكَّهونَ بِكُلِّ نادِرَةٍَ / وَعَلى الوُجوهِ عَلائِمُ البِشرِ
ساروا فَأَعجَبَني تَدَفُّقُهُم / فَتَبِعتُهُم أَدري وَلا أَدري
ما بالُهُم وَلِأَيَّةٍ وَقَفوا / لِمَنِ البِناءُ يَلوحُ كَالقَصرِ
أَوّاهُ هَذي دارُ فاتِنَتي / مَن قالَ ما لِلشَمسِ مِن خِدرِ
وَعَرَفتُ مِن فِرجَينِ جارَتِها / ما زادَني ضُرّاً عَلى ضُرِّ
قَد كانَ هَذا يَومَ خُطبَتِها / يا أَرضُ ميدي يا سَما خِرّي
وَرَأَيتُ ساعِدَها بِساعِدِهِ / فَوَدَدتُ لَو غُيِّبتُ في قَبرِ
وَشَعَرتُ أَنَّ الأَرضَ واجِفَةٌ / تَحتي وَأَنَّ النارَ في صَدري
وَخَشيتُ أَنَّ الوَجدَ يَسلِبُني / حِلمي وَيَغلِبُني عَلى أَمري
فَرَجِعتُ أَدراجي أُغالِبُهُ / اليَأسِ آوِنَة وَبِالصَبرِ
قالوا الكَنيسَةُ خَيرُ تَعزِيَةٍ / لِمَنِ اِبتُلي في الحُبِّ بِالهَجرِ
فَنَذَرتُ أَن أَقضي الحَياةَ بِها / وَقَصَدتُها كَيما أَفي نَذري
لازَمتُها بَدرَينِ ما اِلتَفَتَت / عَيني إِلى شَمس وَلا بَدرِ
أَتلو أَناشيدَ النَبِيِّ ضُحىً / وَأُطالِعُ الإِنجيلَ في العَصرِ
حيناً مَعَ الرُهبانِ أَوينَةً / وَحدي وَأَحياناً مَعَ الحَبرِ
في الغابِ فَوقَ العُشبِ مُضطَجِعاً / في السَفحِ مُستَنِداً إِلى الصَخرِ
في غُرفَتي وَالريحُ راكِدَةٌ / بَينَ المَغارِس وَالصَبا تَسري
حَتّى إِذا ما القَلبُ زايَلَهُ / تَبريحُه وَصَحَوتُ مِن سُكري
وَسَلَوتُها وَسَلَوتُ خاطِبَها / وَأَلِفتُ عَيشَ الضَنك وَالعُسرِ
عادَ القَضاءُ إِلى مُحارَبَتي / وَرَجِعتُ لِلشَكوى مِنَ الدَهرِ
في ضَحوَةٍ وَقَفَ النَسيمُ بِها / مُتَرَدِّداً في صَفحَةِ النَهرِ
كَالشاعِرِ الباكي عَلى طَلَلٍ / أَو قارِئٍ حَيرانَ في سِفرِ
وَالشَمسُ ساطِعَة وَلامِعَةٌ / تَكسو حَواشي النَهرِ بِالتِبرِ
وَالأَرضُ حالِيَةٌ جَوانِبُها / بِالزَهرِ مِن قان وَمُصفَرِّ
فَكَأَنَّها بِالعُشبِ كاسِيَةٌ / حَسناءَ في أَثوابِها الخُضرِ
وَعَلا هُتافُ الطَيرِ إِذ أَمِنَت / بَأسَ العُقاب وَصَولَةَ النَسرِ
تَتلو عَلى أَهلِ الهَوى سُوَراً / لَيسَت بِمَنظوم وَلا نَثرِ
يَحنو الهَزارُ عَلى أَليفَتِهِ / وَيُداعِبُ القَمَرِيَّةَ القُمري
وَاِنسابَ كُلُّ مُصَفِّقٍ عَذبٍ / وَاِهتَزَّ كُلُّ مُهَفهَفٍ مَضِرِ
فَتَذَكَّرَت نَفسي صَبابَتَها / ما أَولَعَ المَهجورَ بِالذِكرِ
أَرسَلتُ طَرفي رائِداً فَجَرى / وَجَرى عَلى آثارِهِ فِكري
حَتّى دَوى صَوتُ الرَئيسِ بِنا / فَهَرَعت وَالرُهبانُ في إِثري
وَإِذا بِنا نَلقى كَنيسَتَنا / بِالوافِدينَ تَموجُ كَالبَحرِ
وَإِذا بِها وَإِذا الفَتى هِنري / في حَلَّةٍ بَيضاءَ كَالفَجرِ
تَمشي وَيَمشي بَينَ ذي أَدَبٍ / حُلو وَبَينَ مَليحَةٍ بِكرِ
رَفَعَ الرَئيسُ عَلَيهِما يَدَهُ / وَأَنا أَرى وَيَدي عَلى صَدري
يا قَلبُ ذُب يا مُهجَتي اِنفَطِري / يَ طَرفُ فِض بِالأَدمُعِ الحُمرِ
أَغمَضتُ أَجفاني عَلى مَضَضٍ / وَطَوَيتُ أَحشائي عَلى الجَمرِ
وَخَشيتُ أَنَّ الوَجدَ يَسلِبُني / حِلمي وَيَغلِبُني عَلى أَمري
فَرَجِعتُ أَدراجي أُغالِبُهُ / بِاليَأسِ آوِنَة وَبِالصَبرِ
وَخَرَجتُ لا أَلوي عَلى أَحَدٍ / وَرَضيتُ بَعدَ الزُهدِ بِالكُفرِ
أَشفَقتُ مِن هَمّي عَلى كَبِدي / وَخَشيتُ مِن دَمعي عَلى نَحري
فَكَلفتُ بِالصَهباءِ أَشرَبُها / في مَنزِلي في الحانِ في القَفرِ
أَبغي الشِفاءَ مِنَ الهُمومِ بِها / فَتُزيدُني وِقراً عَلى وَقرِ
وَتَزيدُني وَلَعاً بِها وَهَوىً / وَتَزيدُني حِقداً عَلى هِنري
قالَ الطَبيب وَقَد رَأى سَقَمي / لِلَّهِ مِن فِعلِ الهَوى العُذري
ما لي بِدائِكَ يا فَتى قِبَلٌ / السِحرُ مُحتاجٌ إِلى سِحرِ
وَمَضى يُقَلِّبُ كَفَّهُ أَسَفاً / وَلَبِثتُ كَالمَقتولِ في الوَكرِ
ما أَبصَرَت عَينايَ غانِيَةً / إِلّا ذَكَرتُ إِلى الدُمى فَقري
وَسَإِمتُ داري وَهيَ واسِعَةٌ / فَتَرَكتُها وَخَرَجتُ في أَمرِ
فَرَأَيتُها في السوقِ واقِفَةً / وَدُموعُها تَنهَلُّ كَالقَطرِ
في بُردَةٍ كَاللَيلِ حالِكَةٍ / لَهَفي عَلى أَثوابِها الحُمرِ
فَدَنَوتُ أَسأَلُها وَقَد جَزِعَت / نَفسي وَزَلزَلَ حُزنُها ظَهري
قالَت قَضى هِنري فَقُلتُ قَضى / مَن كادَ لي كَيدا وَلَم يَدرِ
لا تَكرَهوا شَرّاً يُصيبُكُمُ / فَلَرُبَّ خَيرٍ جاءَ مِن شَرِّ
وَهَفا هَواها بي فَقُلتُ لَها / قَد حَلَّ هَذا المَوتُ مِن أَسري
قالَت وَمِن أَسري فَقُلتُ إِذَن / لي أَنتِ قالَت أَنتَ ذو الأَمرِ
فَأَدَرتُ زِندِيَ حَولَ مِنكَبِها / وَلَثَمتُها في النَحر وَالثَغرِ
وَشَفَيتُ نَفسي مِن لَواعِجَها / وَثَأَرتُ بَِلتَصريحِ مِن سِرّي
ثُمَّ اِنثَنَيتُ بِها عَلى عَجَلٍ / بابَ الكَنيسَةِ جاعِلاً شَطري
وَهُنالِكَ بارَكَني وَهَنَّأَني / مَن هَنَّأوا قَبلي الفَتى هِنري
مِن بَعدِ شَهرٍ مَرَّ لي مَعَها / أَبصَرتُ وَضحَ الشَيبِ في شَعري
ما كُنتُ أَدري قَبلَ صُحبَتِها / أَنَّ المَشيبَ يَكونُ في شَهرِ
فَكَّرتُ في هِنري وَكَيفَ قَضى / فَوَجَدتُ هِنري واضِحَ العُذرِ
يا طالَما قَد كُنتُ أَحسُدُهُ / وَاليَومَ أَحسُدُهُ عَلى القَبرِ
أَبصَرتُها وَالشَمسُ عِندَ شُروقِها
أَبصَرتُها وَالشَمسُ عِندَ شُروقِها / فَرَأَيتُها مَغمورَةً بِالنارِ
وَرَأَيتُها عِندَ الغُروبِ غَريقَةً / في لُجَّةٍ مِن سُندُس وَنُضّارِ
وَرَأَيتُها تَحتَ الدُجى فَرَأَيتُها / في بُردَتَينِ سَكينَة وَوَقارِ
فَتَنَبَّهَت في النَفسِ أَحلامُ الصِبى / وَغَرِقتُ في بَحرٍ مِنَ التَذكارِ
نَفسي لَها مِن جَنَّةٍ خَلّابَةٍ / نَسَجَت غَلائِلَها يَدُ الأَمطارِ
أَنّى مَشَيتَ نَشَقتَ مِسكاً أَزفَراً / في أَرضِها وَسَمِعتَ صَوتَ هَزارِ
ذاتَ الجِبالِ الشامِخاتِ إِلى العُلا / يا لَيتَ في أَعلى جِبالِكِ داري
لِأَرى الغَزالَةَ قَبلَ سُكّانِ الحِمى / وَأُعانِقُ النَسَماتِ في الأَسحارِ
لِأَرى رُعاتَكِ في المُروج وَفي الرُبى / وَالشِتاءَ سارِحَةً مَعَ الأَبقارِ
لِأَرى الطُيورَ الواقِعاتِ عَلى الثَرى / وَالنَخلَ حائِمَةً عَلى الأَزهارِ
لِأُساجِلَ الوَرقاءَ في تَغريدِها / وَتَهُزُّ روحي نَفحَةُ المِزمارِ
لِأُسامِرَ الأَقمارَ في أَفلاكِها / تَحتَ الظَلامِ إِذا غَفا سُمّاري
لِأُراقِبَ الدَلوارَ في جَرَيانِهِ / وَأَرى خَيالَ البَدرِ في الالدَلوارِ
بِئسَ المَدينَةُ إِنَّها سِجنُ النُهى / وَذَوي النُهى وَجَهَنَّمُ الأَحرارِ
لا يَملُكُ الإِنسانَ فيها نَفسَهُ / حَتّى يُرَوِّعُهُ ضَجيجُ قِطارِ
وَجَدَت بِها نَفسي المَفاسِد وَالأَذى / في كُلِّ زاوِيَة وَكُلِّ جِدارِ
لا يَخدَعَنَّ الناظِرينَ بِروجُها / تِلكَ البُروجُ مَخابِئٌ لِلعارِ
لَو أَنَّ حاسِدَ أَهلِها لاقى الَّذي / لاقَيتُ لَم يَحسُد سِوى بَشّارِ
غُفرانَكَ اللَهُمَّ ما أَنا كافِرٌ / فَلِمَ تُعَذِّبُ مُهجَتي بِالنارِ
لِلَّهِ ما أَشهى القُرى وَأَحَبَّها / لِفَتىً بَعيدِ مَطارِحِ الأَفكارِ
إِن شِئتَ تَعرى مِن قُيودِكَ كُلَّها / فَاِنظُر إِلى صَدرِ السَماءِ العاري
وَاِمشِ عَلى ضَوءِ الصَباحِ فَإِن خَبا / فَاِمشِ عَلى ضَوءِ الهِلالِ الساري
عِش في الخَلاءِ تَعِش خَلِيّاً هانِئً / كَاطَيرِ حُرّاً كَالغَديرِ الجاري
عِش في الخَلاءِ كَما تَعيشُ طُيورُهُ / الحُرُّ يَأبى العَيشَ تَحتَ سِتارِ
شَلّالُ مِلفِرد لا يَقَرُّ قَرارَهُ / وَأَنا لِشَوقي لا يَقِرُّ قَراري
فيهِ مِنَ السَيفِ الصَقيلِ بَريقُهُ / وَلَهُ ضَجيجُ صُخورَهُ الجَرّارِ
أَبَداً يَرُشُّ صُخورَهُ بِدُموعِهِ / أَتُراهُ يَغسِلُها مِنَ الأَوزارِ
فَإِذا تَطايَرَ مَأوهُ مُتَناثِراً / أَبصَرتَ حَولَ السَفحِ شِبهَ غُبارِ
كَالبَحرِ ذي التَيّارِ يَدفَعُ بَحضَهُ / وَيَصولُ كَالضِرغامِ ذي الأَظفارِ
مِن قِمَّةٍ كَالنَهدِ أَيُّ فَتىً رَأى / نَهداً يَفيضُ بِعارِضٍ مِدرارِ
فَكَأَنَّما هِيَ مِنبَر وَكَأَنَّهُ / ميرابُ بَينَ عَصائِبِ الثُوّارِ
مَن لَم يُشاهِد ساعَة وَثَباتِهِ / لَم يَدرِ كَيفَ تَغَطرُسُ الجَبّارِ
ما زِلتُ أَحسَبُ كُلَّ صَمتٍ حِكمَةً / حَتّى بَصُرتُ بِذَلِكَ الثَرثارِ
أَعدَدتُ قَبلَ أَراهُ وَقفَةَ عابِرٍ / لاهٍ فَكانَت وِقفَةَ اِستِعبارِ
يا أُختَ دارِ الخُلدِ يا أُمَّ القُرى / يا رَبَّةَ الغابات وَالأَنهارِ
لِلَّهِ يَومٌ فيكِ قَد قَضَّيتُهُ / مَعَ عُصبَةٍ مِن خيرَةِ الأَنصارِ
نَمشي عَلى تِلكَ الهِضاب وَدونَنا / بَحرٌ مِنَ الأَغراس وَالأَشجارِ
تَنسابُ فيهِ العَينُ بَينَ جَداوِلٌ / وَخَمائِل وَمَسالِك وَدِيارِ
آناً عَلى جَبَلٍ مَكينٍ راسِخٍ / راس وَآناً فَوقَ جُرفٍ هارِ
تَهوي الحِجارَةُ تَحتَنا مِن خالِقٍ / وَنَكادُ أَن نَهوي مَعَ الأَحجارِ
لَو كُنتَ شاهِدَنا نُهَروِلُ مِن عَلٍ / لَضَحَكتَ مِنّا ضِحكَةَ اِستِهتارِ
الريحُ ساكِنَة وَنَحنُ نَظُنُّنا / لِلخَوفِ مُندَفِعينَ مَع إِعصارِ
وَالأَرضُ ثابِتَة وَنَحنُ نَخالُها / تَهتَزُّ مَع دَفعِ النَسيمِ الساري
ما زالَ يَسنُدُ بَعضُنا بَعضاً كَما / يَتَماسَكُ الرُوّادُ في الأَسفارِ
وَيَشُدُّ هَذا ذاكَ مِن أَزرارِهِ / فَيَشُدُّني ذَيّاكَ مِن أَزراري
حَتّى رَجَعنا سالِمين وَلَم نَعُد / لَو لَم يَمُدَّ اللَهُ في الأَعمارِ
وَلَقَد وَقَفتُ حَيالَ نَهرِكِ بُكرَةً / وَالطَيرُ في الوَكَنات وَالأَوكارِ
مُتَهَيِّباً فَكَأَنَّني في هَيكَلٍ / وَكَأَنَّهُ سِفرٌ مِنَ الأَسفارِ
ما كُنتُ مَن يَهوى السُكوت وَإِنَّما / عَقَلَت لِساني رَهبَةُ الأَدهارِ
مَرَّ النَسيمُ بِهِ فَمَرَّت مُقلَتي / مِنهُ بِأَسطارٍ عَلى أَسطارِ
فَالقَلبُ مُنشَغِلٌ بِتَذكاراتِهِ / وَالطَرفُ مُندَفِعٌ مَعَ التَيّارِ
حَتّى تَجَلَّت فَوقَ هاتيكَ الرُبى / شَمسُ الصَباحِ تَلوحُ كَالدينارِ
فَعَلى جَوانِبِهِ وِشاحُ زَبَرجَدٍ / وَعَلى غَوارِبِهِ وِشاحِ بَهارِ
لَو أَبصَرَت عَيناكَ فيهِ خَيالَها / لَرَأَيتَ مِرآةً بِغَيرِ إِطارِ
يَمَّمتُهُ سَحرا وَأَسراري مَعي / وَرَجَعتُ في أَعماقِهِ أَسراري
إِنّي حَسَدتُ عَلى القُرى أَهلَ القُرى / وَغَبَطتُ حَتّى نافِخَ المِزمارِ
لَيل وَصُبحٌ بَينَ إِخوانِ الصَفا / ما كانَ أَجمَلَ لَيلَتي وَنَهار
يا لَيتَني لِصٌّ لِأَسرُقَ في الضُحى
يا لَيتَني لِصٌّ لِأَسرُقَ في الضُحى / سِرَّ اللَطافَةِ في النَسيمِ الساري
وَأَجُسَّ مُؤتَلَقَ الجَمالِ بِإِصبَعي / في زُرقَةِ الأُفقِ الجَميلِ العاري
وَيَبينَ لي كَنَهُ المَهابَةِ في الرُبى / وَالسِرُّ في جَذَلِ الغَديرِ الجاري
وَالسِحرُ في الأَلوان وَالأَنغام وَال / أَنداء وَالأَشذاء وَالأَذهارِ
وَبَشاشَةُ المَرجِ الخَصيب وَوَحشَةُ / الوادي الكَئيب وَصَولَةُ التَيّارِ
وَإِذا الدُجى أَرخى عَلَيَّ سُدولُهُ / أَدرَكتُ ما في اللَيلِ مِن أَسرارِ
فَلَكَم نَظَرتُ إِلى الجَمالِ فَخِلتُهُ / أَدنى إِلى بَصَري مِنَ الأَشفارِ
فَطَلَبتُهُ فَإِذا المَغالِقُ دونَهُ / وَإِذا هُنالِكَ أَلفُ أَلفِ سِتارِ
وَباد وَيُعجِزُ خاطِري إِدراكَهُ / وَفِتنَتي بِالظاهِرِ المُتَواري
مِن سِحرِ طَرفِكِ مَن مُجيري
مِن سِحرِ طَرفِكِ مَن مُجيري / يا ضَرَّةَ الرَشَأِ الغَريرِ
جِسمٌ كَخَصرِكِ في النُحو / ل وَمِثلُ جَفنِكِ في الفُتورِ
أَصبَحتُ أَضأَلَ مِن هِلا / لِ الشَكِّ في عَينِ البَصيرِ
مَحَقَ الضَنى جَسَدي فَبِتـ / ـتُ مِنَ الهَلاكِ عَلى شَفيرِ
وَمَشى الرَدى في مُهجَتي / اللَهَ مِن جَهلِ الخَبيرِ
جَهِلَ النَطاسِيُّ عِلَّتي / لِلَّهِ مِن جَهلِ الخَبيرِ
كَم سامَني جَرعَ الدَوا / وَكَم جَرَعتُ مِنَ المَريرِ
دَع أَيُّها الآسي يَدي / الحُبُّ يُدرَكُ بِالشُعورِ
يَدري الصَبابَة وَالهَوى / مَن كانَ في البَلوى نَظيري
لَو تَنظُرينَ إِلَيَّ كَالمَي / تِ المُسَجّى في سَريري
يَتَهامَسُ العُوّادُ حَو / لي كُلَّما سَمِعوا زَفيري
وَأَظُنُّهُمُ قَد أَدرَكوا / لا أَدرَكوا ما في ضَميري
فَأَبَيتُ مِن قَلَقي عَلَي / كِ كَأَنَّني فَوقَ السَعيرِ
وَأَدَرتُ طَرفي في الحُضو / رِ لَعَلَّ شَخصَكِ في الحُضورِ
فَاِرتَدَّ يَعثُرُ بِالدُمو / عِ تَعَثُّرَ الشَيخِ الضريرِ
قَد زارَني مَن لا أُحِبُّ / وَأَنتِ أَولى مَن تَزوري
صَدَّقتِ ما قالَ الحَوا / سِدُ فِيَّ مِن هُجر وَزورِ
وَأَطَعتِ بي حَتّى العِدى / وَضَنِنتِ حَتّى بِاليَسيرِ
أَمّا خَيالُكِ يا بَخيلَـ / ـةُ فَهوَ مِثلُكِ في النُفورِ
روحي فِداأُك وَهيَ لَو / تَدرينَ تُفدى بِالكَثيرِ
تيهي عَلى العاني كَما / تاهَ الغَنِيُّ عَلى الفَقيرِ
أَنا لا أُبالي بِالمَصي / ر وَأَنتِ ئدرى بَِلمَصيرِ
أَهواكِ رَغمَ مُعَنِّفي / وَيَلَذُّ نَفسي أَن تَجوري
لَيسَ المُحِبُّ بِصادِقٍ / حَتّى يَكونَ بِلا عَذيرِ
كَم لَيلَةٍ ساهَرَتُ في / ها النَجَمَ أَحسَبُهُ سَميري
وَالشُهبُ أَقعَدَها الوَنى / وَاللَيلُ يَمشي كَالأَسيرِ
أَرعى البُدور وَلَيسَ لي / مِن حاجَةٍ عِندَ البُدورِ
مُتَذَكِّراً زَمَن الصِبى / زَمَن الغِوايَة وَالغُرورِ
أَيّامَ أَخطُرُ في المَجا / مِع وَالمَعاهِدِ كَالأَميرِ
أَيّامَ أَمري في يَدي / أَيّامَ نَجمي في ظُهورِ
لَمَعَ القَتيرُ بِلِمَّتي / وَيلُ الشَبابِ مِنَ القَتيرِ
لا بِالغَوير وَلا النَقا / كَلَفي وَلا أَهلِ الغَويرِ
أَرضَ الجَزيرَةِ كَيفَ حا / لُكِ بَعدَ وَقعِ الزَمهَريرِ
نَزَلَ الشِتاءُ فَأَنتِ مَلعَ / بُ كُلِّ ساقِيَةٍ دَبورِ
وَتَبَدَّلَت تِلكَ العَرا / صُ مِنَ النَضارَةِ بِالدُثورِ
أَمسَيتِ كَالطَلَلِ المَحي / ل وَكُنتِ كَالرَوضِ النَضيرِ
آهاً عَلَيك وَآهِ كَيـ / ـفَ نَأَتكِ رَبّاتُ الخُدورِ
المائِساتُ عَنِ الغُصو / نِ السافِراتُ عَنِ البُدورِ
الذاهِباتُ مَعَ النُهو / دِ الذاهِباتُ مَعَ الصُدورِ
الحاسِراتُ عَنِ السَوا / عِد وَالتَرائِب وَالنبُحورِ
القاسِياتُ عَلى القُلو / بِ الجانِياتُ عَلى الخُصورِ
المالِكاتُ عَلى اللَآ / لِءِ في القَلائِد وَالثُغورِ
الضاحِكاتُ مِنَ الدَلا / لِ اللاعِباتُ مِنَ الحُبورِ
الآخِذاتُ قُلوبَنا / في زَيَّ طاقاتِ الزُهورِ
بيضُ نَواعِمُ كَالدُمى / يَرفُلنَ في حُلَلِ الحَريرِ
مِثلُ الحَمائِمِ في الوَدا / عَة وَالكَواكِبِ في السُفورِ
مِن كُلِّ ضاحِكَةٍ / كَأَنَّ بِوَجهِها وَجهَ البَشيرِ
أَنّى أَدَرتُ الطَرفَ في / ها جالَ في قَمَرٍ مُنيرِ
يا مَسرَحَ العُشّاقِ كَم / لي فيكَ مِن يَومٍ مَطيرِ
تَنسى البَرِيَّةُ عِندَهُ / يَومَ الخَوَرنَق وَالسَديرِ
وَلَكَم هَبَطتُك وَالحَبي / بَةَ فازِعينَ مِنَ الهَجيرِ
في زَورَقٍ بَينَ الزَوا / رِقِ كَالحَمامَةِ في الطُيورِ
مُتَمَهِّلٌ في سَيرِهِ / وَالماءُ يُسرِعُ في المَسيرِ
وَالشَمسُ إِبّانَ الضُحى / وَالجَوُّ صافٍ كَالغَديرِ
وَلَكَم وَثَبنا وَفي التِلا / ل وَكَم رَكَضنا في الوُعورِ
وَلَكَم أَصَحنا لِلحَفي / ف وَكَم شَجَينا بِالخَريرِ
وَلَكَم جَلَسنا في الرِياضِ / وَكَم نَشَقنا مِن عَبيرِ
وَلَكَم تَبَرَّدنا بِما / نُهَيرِكِ الصافي النَميرِ
طَوراً نَنامُ عَلى النَبا / ت وَتارَةً فَوقَ الحَصيرِ
لا نَتَّقي عَينَ الرَقيـ / ـب وَلا نُبالي بِالغَيورِ
فَكَأَنَّها وَكَأَنَّني الأَ / بَوانِ في ماضي العُصورِ
حُسِدَت عَلَيَّ مِنَ الإِنا / ثِ كَما حُسِدتُ مِنَ الذُكورِ
ظَنَّ الأَنامُ بِنا الظُنو / ن وَما اِجتَرَحنا من نَكيرِ
قَد صانَ بُردَتَها الحَيا / ء وَصانَني شَرَفي وَخيري
وَمَطِيَّةٍ رَجراجَةٍ / لا كَالمَطِيَّة وَالبَعيرِ
ما تَأتَلي في سَيرَها / صَخّابَةً لا مِن ثُبورِ
تَجري عَلى أَسلاكِها / جَريَ الأَراقِمِ في الحُدورِ
طَوراً تُرى فَوقَ الجُسو / ر وَتارَةً تَحتَ الجُسورِ
أَناً عَلى قِمَم وَآ / ناً في كُهوفٍ كَالقُبورِ
تَرقى كَما تَرقى المَصا / عِدُ ثُمَّ تَهبِطُ كَالصُخورِ
فَإِذا عَلَت حَسِبَ الوَرى / أَنّا نُصَعِّدُ في الأَثيرِ
وَإِذا هَوَت مِن حالِقٍ / هَوَتِ القُلوبُ مِنَ الصُدورِ
وَالرَكبُ بَينَ مُصَفِّقٍ / وَمُهَلِّلٍ جَذلِ قَريرِ
أَو خائِفٍ مُتَطَيِّرٍ / أَو صارِخٍ أَو مُستَجيرِ
هِيَ في التَقَلُّبِ كَالزَما / ن وَإِنَّما هِيَ لِلسُرورِ
وَمُدارَةٍ في الجَوِّ / يَحسَبُها الجَهولُ بِلا مُديرِ
لَو شِئتَ نَيلَ النَجمِ مِن / ها ما صَبَوتَ إِلى عَسيرِ
مَشدودَةٍ لَكِنَّها / أَجرى مِنَ الفَرَسِ المُغيرِ
زَفّافَةٍ زَفَّ الرِنا / لِ تَسفُ إِسفافَ النُسورِ
وَلَها حَفيفٌ كَالرِيا / ح وَهَدرَةٌ لا كَالهَديرِ
كَالأَرضِ في دَوَرانِها / وَلَكَالمِظَلَّةِ في النُشورِ
القَومُ فيها جالِسونَ / نَ عَلى مَقاعِدَ مِن وَثيرِ
وَالريحُ تَخفُقُ حَولَهُم / وَكَأَنَّما هُم في قُصورِ
وَالجَمعُ يَهتُفُ كُلَّما / مَرَّت عَلى الحَشدِ الغَفيرِ
وَلَكَم تَأَمَّلنا الجُمو / عَ تَموجُ كَالبَحرِ الزَخورِ
يَمشي الخَطيرُ مَعَ الحَقيـ / ـرِ كَأَنَّما هُوَ مَع خَطيرِ
وَتَرى المَهاةَ كَأَنَّها / لَيثٌ مَعَ اللَيثُ الهَصورِ
مُتَوافِقونَ عَلى التَبا / يُنِ كَالقَبيلِ أَوِ العَشيرِ
لا يَرهَبونَ يَدَ الخُطو / بِ كَأَنَّما هُم خَلفَ سورِ
يَمضي النَهار وَنَحنُ نَحـ / ـسَبُ ما بَرِحنا في البُكورِ
أَبقَيتَ يا زَمَن الحَرو / رِ بِمُهجَتي مِثلَ الحَرورِ
وَلَّت شُهورٌ كُنتُ أَر / جو أَن تُخَلَّدَ الدُهورِ
وَأَتَت شُهورٌ بَعدَها / ساعاتُها مِثلُ الشُهورِ
لَيسَت حَياةُ المَرءِ في الدُن / يا سِوى حُلمٍ قَصيرِ
وَأَرى الشَبابَ مِنَ الحَيا / ةِ لَكَاللُبابِ مِنَ القُشورِ
ذَهَبَ الرَبيعُ ذَهابَهُ / وَأَتى الشِتاءُ بِلا نَذيرِ
وَتَبَدَّدَ العُشّاقُ مِثلَ / تَبَدُّدِ الوَرَقِ النَثيرِ
رَضِيَ المُهَيمِنُ عَنهُمُ / وَاللَهُ يَعفو عَن كَثيرِ
عِندي لَكُم نَبَأٌ عَجيبٌ شَيِّقٌ
عِندي لَكُم نَبَأٌ عَجيبٌ شَيِّقٌ / سَأَقُصُّه وَعَلَيكُمُ تَفسيرُهُ
إِنّي رَأَيتُ البَحرَ أَخرَسَ ساهِياً / كَالشَيخِ طالَ بِما مَضى تَفكيرُهُ
فَسَأَلتُ نَفسي حائِراً مُتَلَجلِجاً / يا لَيتَ شِعري أَينَ ضاعَ هَديرُهُ
بَِلأَمسِ قالَت مَوجَةٌ ثَرثارَةٌ / وَمَضَت فَأَكمَلَتِ الحَديثَ صُخورُهُ
بِالأَمسِ مَرَّ بِنا فَتىً مِن قَومِكُم / رَقَّت شَمائِلُه وَدَقَّ شُعورُهُ
مُتَرَنِّحٌ مِن خَمرَةٍ قُدسِيَّةٍ / فيها الهَوى وَفُتونِه وَفُتورُهُ
مُتَرَفِّقٌ في مَشيِهِ يَطَءُ الثَرى / وَكَأَنَّما بَينَ النُجومِ مَسيرُهُ
يَلهو بِأَوتارِ الكَمَنجَة وَالدُجى / مَرخِيَّةٌ فَوقَ العُبابِ سُتورُهُ
يَهدي إِلى الوَطَنِ القَديمِ سَلامَهُ / وَيُناشِدُ الوَطَنَ الَّذي سَيَزورُهُ
فَشَجا الخِضَمَّ نَشيدُه وَهُتافُهُ / فَسَها فَضاعَ هَديرُه وَزَئيرُهُ
أَعَرفتُموهُ إِنَّهُ هَذا الفَتى / هَذا الَّذي سَحَرَ الخِضَمَّ مُرورُهُ
داوُد وَالمِزمارُ في نَغَماتِهِ / وَالموصِلِي وَمَعبَد وَسَريرُهُ
يا ضَيفَنا وَالأُنسُ أَنتَ رَسولُهُ / وَبَشيرُه وَالفَنُّ أَنتَ أَميرُهُ
لَو شاعَ في الفِردَوسِ أَنَّكَ بَينَنا / لَمَشَت إِلَينا سافِراتٍ حَورُهُ
ذَهَبَ الرَبيع وَجِئتَنا فَكَأَنَّما / جاءَ الرَبيعُ زُهورُه وَطُيورُهُ
الفَنُّ هَشَّ إِلَيكَ في أُمَرائِهِ / وَتَفَتَّحَت لَكَ دورُه وَقُصورُهُ
إِنَّ الجَواهِرَ بِالجَواهِرِ أُنسُها / أَمّا التُرابُ فَبِالتُرابِ حُبورُهُ
يا شاعِرَ الأَلحانِ إِنّي شاعِرٌ / أَمسى ضَئيلاً عِندَ نورِكِ نورُهُ
أَسمى الكَلامِ الشِعرُ إِلّا أَنَّهُ / أَسماهُ ما أَعيا الفَتى تَصويرُهُ
وَأُحِبُّ أَزهارِ الحَدائِقِ وَردَها / وَأُحِبُّ مِن وَردِ الرِياضِ عَبيرُهُ
أَنتَ الفَتى لَكَ في النَسيمِ حَفيفُهُ / وَلَكَ الغَديرُ صَفائُه وَخَريرُهُ
القَومُ صاغِيَةٌ إِلَيكَ قُلُبَهُم / وَاللَيلُ مُنصِتَةٌ إِلَيكَ بُدورُهُ
وَبِهَذِهِ الأَوتارِ سِحرٌ جائِلٌ / مُتَمَلمِلٌ كَالوَحيِ حانَ ظُهورُهُ
إِن كُنتَ لا تَهتاجَه وَتُثيرُهُ / فَمَنِ الَّذي يَهتاجَه وَيُثيرُهُ
دَغدِغ بِريشَتِكَ الكَمَنجَةَ يَنطَلِق / وَيَدُبُّ في أَرواحِنا تَأثيرُهُ
وَاِمشِ بِنا في كُلِّ لَحنٍ فاتِنٍ / كَالماءِ يَجري في الغُصونِ طُهورُهُ
وَأَدرِ عَلى الجَلّاسِ أَكوابَ الهَوى / في راحَتَيكَ سُلافُه وَعَصيرُهُ
فَيَخُفُّ في الرَجُلِ الحَليمِ وَقارُهُ / وَيُراجِعُ الشَيخَ المُسِنَّ غُرورُهُ
وَتَنامُ في صَدرِ الشَجِيِّ هُمومُهُ / وَيُفيقُ في قَلبِ الحَزينِ سُرورُهُ
هَذي الجُموعُ الآنَ شَخصٌ واحِدٌ / لَكَ حُكمُه وَكَما تَشاءُ مَصيرُهُ
إِن شِئتَ طالَ هُتافُه وَنَشيدُهُ / أَو شِئتَ دامَ نُواحُه وَزَفيرُهُ
إِنّا وَهَبناكَ القُلوب وَلَم نَهَب / إِلّا الَّذي لَكَ قَبلَنا تَدبيرُهُ
سَمِعَت عَويلَ النائِحاتِ عَشِيَّةً
سَمِعَت عَويلَ النائِحاتِ عَشِيَّةً / في الحَيِّ يَبتَعِثُ الأَسى وَيُثيرُ
يَبكَينَ في جُنحِ الظَلامِ صَبِيَّةً / إِنَّ البُكاءَ عَلى الشَبابِ مَريرُ
فَتَجَهَّمَت وَتَلَفَّتَت مُرتاعَةً / كَالظَبيِ أَيقَنَ أَنَّهُ مَأسورُ
وَتَحَيَّرَت في مُقلَتَيها دَمعَةٌ / خَرساءُ لا تَهمي وَلَيسَ تَغورُ
فَكَأَنَّها بَطَلٌ تَكَنَّفَهُ العِدى / بِسُيوفِهِم وَحُسامُهُ مَكسورُ
وَجَمَت فَأَمسى كُلُّ شَيءٍ واجِماً / النور وَالأَظلال وَالدَيجورُ
الكَونُ أَجمَعُ ذاهِلٌ لِذُهولِها / حَتّى كَأَنَّ الأَرضَ لَيسَ تَدورُ
لا شَيءَ مِمّا حَولَنا وَأَمامَنا / حَسَنٌ لَدَيها وَالجَمالُ كَثيرُ
سَكَتَ الغَديرُ كَأَنَّما اِلتَحَفَ الثَرى / وَسَها النَسيمُ كَأَنَّهُ مَذعورُ
وَكَأَنَّما الفَلَكُ المُنَوَّرُ بَلقَعٌ / وَالأَنجُمُ الزَهراءُ فيهِ قُبورُ
كانَت تُمازِحُني وَتَضحَكَُ فَاِنتَهى / دَورُ المِزاحِ فَضِحكَها تَفكيرُ
قالَت وَقَد سَلَخَ اِبتِسامَتَها الأَسى / صَدَقَ الَّذي قالَ الحَياةُ غُرورُ
أَكَذا نَموت وَتَنقَضي أَحلامُنا / في لَحظَة وَإِلى التُرابِ نَصيرُ
وَتَموجُ ديدانُ الثَرى في أَكبُدٍ / كانَت تَموجُ بِها المُنى وَتَمورُ
خَيرٌ إِذَن مِنّا الأُلى لَم يولَدوا / وَمِنَ الأَنامِ جَلامِد وَصُخورُ
وَمِنَ العُيونِ مَكاحِل وَمَراوِدٌ / وَمِنَ الشِفاهِ مَساحِق وَذُرورُ
وَمِنَ القُلوبِ الخافِقاتِ صَبابَةً / قَصَبٌ لِوَقعِ الريحِ فيهِ صَفيرُ
وَتَوَقَّفَت فَشَعَرتُ بَعدَ حَديثِها / أَنَّ الوُجودَ مُشَوَّشٌ مَبتورُ
الصَيفُ يَنفُثُ حَرَّهُ مِن حَولِنا / وَأَنا أُحِسُّ كَأَنَّني مَقرورُ
ساقَت إِلى قَلبي الشُكوكَ فَنَغَّصَت / لَيلي وَلَيسَ مَعَ الشُكوكِ سُرورُ
وَخَشيتُ أَن يَغدو مَعَ الرَيبِ الهَوى / كَالرَسمِ لا عِطر وَفيهِ زُهورُ
وَكَدُميَةِ المَثّالِ حُسنٌ رائِعٌ / مِلءُ العُيون وَلَيسَ ثَمَّ شُعورُ
فَأَجَبتُها لِتَكُن لِديدانِ الثَرى / أَجسامُنا إِنَّ الجُسومَ قُشورُ
لا تَجزَعي فَالمَوتُ لَيسَ يَضيرُنا / فَلَنا إِيابٌ بَعدَه وَنُشورُ
إِنّا سَنَبقى بَعدَ أَن يَمضي الوَرى / وَيَزولُ هَذا العالَمُ المَنظورُ
فَالحُبُّ نورٌ خالِدٌ مُتَجَدِّدٌ / لا يَنطَوي إِلّا لِيَسطَعُ نورُ
وَبَنو الهَوى أَحلامُهُم وَرُؤاهُمُ / لا أَعيُن وَمَراشِف وَنُحورُ
فَإِذا طَوَتنا الأَرضُ عَن أَزهارِها / وَخَلا الدُجى مِنّا وَفيهِ بُدورُ
فَسَتَرجُعينَ خَميلَةً مِعطارَةً / أَنا في ذُراها بُلبُلٌ مَسحورُ
يَشدو لَها وَيَطيرُ في جَنَباتِها / فَتَهِشُّ إِذ يَشدو وَحينَ يَطيرُ
أَو جَدوَلاً مُتَرَقرِقاً مُتَرَنِّماً / أَنا فيهِ مَوجٌ ضاحِك وَخَريرُ
أَو تَرجِعينَ فَراشَةً خَطّارَةً / أَنا في جَناحَيها الضُحى المَوشورُ
أَو نَسمَةً أَنا هَمسُها وَحَفيفُها / أَبَداً تُطَوِّفُ في الرُبى وَتَدورُ
تَغشى الخَمائِلَ في الصَباحِ بَليلَةً / وَتَأوبُ حينَ تَأوب وَهيَ عَبيرُ
أَو تَلتَقي عِندَ الكَئيبِ عَلى رِضىً / وَقَناعَةٍ صَفصافَة وَغَديرُ
تَمتَدُّ فيه وَفي ثَراهُ عُروقُها / وَيَسيلُ تَحتَ فُروعِها وَيَسيرُ
وَيَغوصُ فيهِ خَيالُها فَيَلفُّهُ / وَيَشِفُّ فَهوَ المُنطَوي المَنثورُ
يَأوي إِذا اِشتَدَّ الهَجيرُ إِلَيهِما / الناسِكانِ الظَبي وَالعُصفورُ
لَهُما سَكينَتُها وَوارِفُ ظِلِّها / وَالماءُ إِن عَطِشا لَدَيهِ وَفيرُ
أُعجوبَتانِ زَبَرجَدٌ مُتَهَدِّلٌ / نامٍ تَدَفَّقَ تَحتَهُ البَلّورُ
لا الصُبحُ بَينَهُما يَحول وَلا الدُجى / فَكِلاهُما بِكِلَيهِما مَغمورُ
تَتَعاقَبُ الأَيّام وَهيَ نَضيرَةٌ / مُخضَرَّةُ الأَوراق وَهوَ نُمَيرُ
فَالدَهرُ أَجمَعَهُ لَدَيها غِبطَةٌ / وَالدَهرُ أَجمَعَهُ لَدَيهِ حُبورُ
فَتَبَسَّمَت وَبَدا الرِضى في وَجهِها / إِذ راقَها التَمثيل وَالصَويرُ
عالَجتُها بِالوَهمِ فَهيَ قَريرَةٌ / وَلَكَم أَفادَ الموجَعَ التَخديرُ
ثُمَّ اِفتَرَقنا ضاحِكَينِ إِلى غَدٍ / وَالشُهبُ تَهمِسُ فَوقَنا وَتُشيرُ
هِيَ كَالمُسافِرِ آبَ بَعدَ مَشَقَّةٍ / وَأَنا كَأَنّي قائِدٌ مَنصورُ
لَكِنَّني لَمّا أَوَيتُ لِمَضجَعي / خَشُنَ الفِراشُ عَلَي وَهوَ وَثيرُ
وَإِذا سِراجي قَد وَهَت وَتَلَجلَجَت / أَنفاسُهُ فَكَأَنَّهُ المَصدورُ
وَأَجَلتُ طَرفي في الكِتابِ فَلاحَ لي / كَالرَسمِ مَطموسا وَفيهِ سُطورُ
وَشَرِبتُ بِنتَ الكَرمِ أَحسَبُ راحَتي / فيها فَطاشَ الظَن وَالتَقديرُ
فَكَأَنَّني فُلكٌ وَهَتَ أَمراسُها / وَالبَحرُ يَطغى حَولَها وَيَثورُ
سَلَبَ الفُؤادَ رَواه وَالجَفنَ الكَرى / هَمٌّ عَرا فَكِلاهُما مَوتورُ
حامَت عَلى روحي الشُكوكُ كَأَنَّها / وَكَأَنَّهُنَّ فَريسَة وَصُقورُ
وَلَقَد لَجَأتُ إِلى الرَجاءِ فَعَقَّني / أَمّا الخَيالُ فَخائِبٌ مَدحورُ
يا لَيلُ أَينَ النورُ إِنّي تائِهٌ / مُر يَنبَثِق أَم لَيسَ عِندَكَ نورُ
أَكَذا نَموت وَتَنقَضي أَحلامُنا / في لَحظَة وَإِلى التُرابِ نَصيرُ
خَيرٌ إِذَن مِنّا الأُلى لَم يولَدوا / وَمِنَ الأَنامِ جَنادِل وَصُخورُ
قالَ الغَديرُ لِنَفسِهِ
قالَ الغَديرُ لِنَفسِهِ / يا لَيتَني نَهرٌ كَبير
مِثلُ الفُراتِ العَذبِ أَو / كَالنيلِ ذي الفَيضِ الغَزير
تَجري السَفائِنُ موقِراتٌ / فيهِ بِالرِزقِ الوَفير
هَيهاتِ يَرضى بِالحَقيرِ / مِنَ المُنى إِلّا الحَقير
وَاِنسابَ نَحوَ النَهرِ لا / يَلوي عَلى المَرجِ النَضير
حَتّى إِذا ما جائَهُ / غَلَبَ الهَديرُ عَلى الخَرير
قالوا قَضى موسى فَقُلتُ قَدِ اِنطَوى
قالوا قَضى موسى فَقُلتُ قَدِ اِنطَوى / عَلَم وَأُغمِدَ صارِمٌ بَتّارُ
فَتَشَوَّشَت صُوَرُ المُنى وَتَناثَرَت / كَالزَهرِ بَدَّدَ شَملَها الإِعصارُ
وَكَأَنَّما وَتَرَ الرَدى كُلَّ اِمرِئٍ / لَمّا تَوَلّى ذَلِكَ الجَبّارُ
جَزِعَت لِمَصرَعِهِ البِلادُ كَأَنَّما / قَد غابَ عَنها جَحفَلٌ جَرّارُ
وَبَكَت فِلسطينُ بِهِ قَيدومَها / إِنَّ الرَزايا بِالكِبارِ كِبارُ
لَمّا نَعوهُ نَعَوا إِلَينا سَيِّداً / شَرُفَت خَلائِقُه وَطابَ نِجارُ
لَبِسَ الصِبا وَنَضاهُ غَيرَ مُدَنَّسٍ / كَالنَجمِ لَم تَعلَق بِهِ الأَوضارُ
وَمَشى المَشيبُ بِرَأسِهِ فَإِذا بِهِ / كَالحَقلِ فيهِ الزَهر وَالأَثمارُ
وَتَطاوَلَت أَعوامُهُ فَإِذا بِهِ / كَالطَودِ فيهِ صَلابَة وَوَقارُ
تَرتَدُّ عَنهُ العاصِفاتُ كَليلَةً / وَيَزُلُّ عَنهُ العارِضُ المِدرارُ
أوذي فَلَم يَجزَع وَضيمَ فَلَم يَهِن / إِنَّ الكَريمَ عَلى الأَذى صَبّارُ
صَقَلَت مُكافَحَةُ الشَدائِدِ نَفسُهُ / وَالرَوضُ تَجلو حُسنُهُ الأَمطارُ
فَلَهُ مِنَ الشَيخِ الأَصالَة وَالفَتى / إِقدامُهُ إِذ لِلفَتى أَوطارُ
يَتَهَيَّبُ الفُجّارُ صِدقَ يَقينِهِ / وَبِرَأيِهِ يَستَرشِدُ الأَحرارُ
ما زالَ يَزأَرُ دونَ ذَيّاكَ الحِمى / كَاللَيثِ ريعَ فَما لَهُ اِستِقرارُ
وَيُجَشِّمُ النَفسَ المَخاطِرَ هادِئً / كَيلا تُلِمَّ بِقَومِهِ الأَخطارُ
حَتّى اِستَقَرَّ بِهِ الرَدى في حُفرَةٍ / وَخَلا لِغَيرِ جَوادِهِ المِضمارُ
فَاِعجَب لِمَن مَلَأَ المَسامِعَ ذِكرُهُ / تَطويهِ في عَرضِ الثَرى أَشبارُ
أَيّارُ مَذكورٌ بِحُسنِ صَنيعِهِ / وَلَئِن تَوَلّى وَاِنقَضى أَيّارُ
فَاِخدِم بِلادَكَ مِثلُ موسى كاظِمٍ / تُسبِغ عَلَيكَ ثَنائَها الأَمصارُ
إِنَّ السِنينَ كَثيرُها كَقَليلِها / إِن لَم تَزِن صَفَحاتِها الآثارُ
فَاِصرِف عَنانَكَ في الشَباِ إِلى العُلى / بُردُ الشَبيبَةِ كَالجَمالِ مُعارُ
لا تَقعِدَنَّ عَنِ الجِهادِ إِلى غَدٍ / فَلَقَد يَجيءُ غَد وَأَنتَ غُبارُ
ماذا يُفيدُكَ أَن يَكونَ لَكَ الثَرى / وَلِغَيرِكَ الآصال وَالأَسحارُ
مَن لَيسَ يَفتَحُ لِلنَهارِ جُفونَهُ / هَيهاتِ يُكَحِّلُ مُقلَتَيهِ نَهارُ
وَاِحبِب بِلادَكَ مِثلُ موسى كاظِمٍ / حُبّاً بِهِ الإِخلاص وَالإيثارُ
تَضفَر لِرَأسِكَ مِن أَزاهِرِها الرُبى / تاجا وَتَهتُفُ بِاِسمِكَ الأَغوارُ
إِيّاكَ تَرمَقُها بِمُقلَةِ تاجِرٍ / إِن اِتِّجارَكَ بِالمَواطِنُ عارُ
وَدَعِ المُنافِقَ لا تَثِق بِعُهودِهِ / وَطَنُ المُنافِقِ فَضَّة وَنُضارُ
مُتَرَجرِجُ الأَخلاقِ أَصدَقُ وَعدِهِ / آل وَخَيرُ هِباتِهِ الأَعذارُ
يَدنو إِلَيكَ بِوَجهِهِ مُتَوَدِّداً / وَفُؤادُهُ بِكَ هازِئٌ سَخّارُ
هُوَ حينَ يَجري مَع هَواهُ خائِنٌ / وَإِذا سَمَت أَخلاقُهُ سِمسارُ
كَم مَعشَرٍ خِلناهُمُ أَنصارَنا / فَإِذا هُمُ لِعُداتِنا أَنصارُ
رَقَدَ العِدى فَتَحَمَّسوا حَتّى إِذا / جَدَّ الوَغى رَكِبوا العُقاب وَطاروا
شَرٌّ مِنَ الخَصمِ اللَدودِ عَلى الفَتى / الصاحِبُ المُتَذَبذِبُ الخُوّارُ
وَحَذارِ أَشراكَ السِياسَةِ إِنَّها / بِنتٌ أَبوها الزِئبَقُ الفَرّارُ
فيها مِنَ الرَقطاءِ ناقِعُ سُمِّها / وَلَها نُيوبُ الذِئب وَالأَظفارُ
تَرِدُ المَناهِل وَهيَ ماءٌ سائِغٌ / وَتَعودُ عَنها وَالمَناهِلُ نارُ
الكَذِب وَالتَمويهُ خَيرُ صِفاتِها / وَشِعارُها أَن لا يَدومَ شِعارُ
لا تَطلُبَنَّ مِنَ السِياسَةِ رَحمَةً / هِيَ حَيثُ طُلَّ دَم وَحَلَّ دَمارُ
الصَيدُ غَيرَكَ إِن سَهِرَت دَإِن تَنَم / فَالصَيدُ أَنت وَلَحمُكَ المُختارُ
يا قَومَنا إِنَّ العَدُوَّ بِبابِكُم / بِئسَ المُغيرِ عَلى البِلادِ الجارُ
وَلَهُ بِأَرضِكُم طَماعَة أَشعَبٍ / وَرَواغَه وَلِكَيدِهِ اِستِمرارُ
لا تَرقُدوا عَنهُ فَلَيسَ بِراقِدٍ / أَفَتَهجَعون وَقَد طَمى التَيّارُ
إِنَّ الطُيورَ تَذودُ عَن أَوكارِها / أَتَكونُ أَعقَلَ مِنكُمُ الأَتيارُ
سيروا عَلى آثارِ موسى وَاِعمَلوا / إِن شِئتُمُ أَن لا تَضيعَ دِيارُ
زوروا ثَراه وَاِستَمِدّوا قُوَّةً / مِنهُ فَكَم أَحيا الهَوى التَذكارُ
قَبرٌ يَفوحُ الطيبُ مِن جَنَباتِهِ / قَبرُ الكَريمِ خَميلَةٌ مِعطارُ
فَإِذا تَمُرُّ عَلَيهِ يَوماً نَسمَةٌ / أَرَجَت كَأَنَّ حِجارَهُ أَزهارُ
هَيهاتَ بَعدَكَ ما يُفيدُ تَصَبُّرُ
هَيهاتَ بَعدَكَ ما يُفيدُ تَصَبُّرُ / وَلَئِن أَفادَ فَأَيُّ قَلبٍ يَصبِرُ
إِنَّ البُكاءَ مِنَ الرِجالِ مُذَمَّمٌ / إِلّا عَلَيكَ فَتَركُهُ لا يُشكَرُ
لَو كانَ لي قَلبٌ لَقُلتُ لَهُ اِرعَوي / إِنّي بِلا قَلبٍ فَإِنّي أَزجُرُ
لازَمتُ قَبرَك وَالبُكاءُ مُلازِمي / وَاللَيلُ داج وَالكَواكِبُ سُهَّرُ
أَبكي عَلَيكَ بِأَدمُعٍ هَطّالَةٍ / وَلَقَد يَقلُ لَكَ النَجيعُ الأَحمَرُ
وَوَدِدتُ مِن شَجوي عَلَيك وَحَسرَتي / لَو اِنَّ لَحدَكَ في فُؤادي يُحفَرُ
إِنّي لَأَعجَبُ كَيفَ يَعلوكَ الثَرى / أَنّى ثَوى تَحتَ الرُغامِ النَيِّرُ
أَمسَيتُ مُستَتِراً بِهِ لَكِنَّما / آثارُ جودِكَ فَوقَهُ لا تُستَرُ
مَرِضَ النَدى لَمّا مَرِضت وَكادَ أَن / يَقضي مِنَ اليَأسِ المُلِمُّ المُعسِرُ
يَرجوكَ أَنَّكَ جابِرٌ كَسرَهُ / فَإِذا فُقِدتَ فَكَسرُهُ لا يُجبَرُ
وَعَلَت عَلى تِلكَ الوُجوهِ سَحابَةٌ / كَدراءُ لا تَصفو وَلا تُستَمطَرُ
كَم حاوَلوا كَتمَ الأَسى لَكِنَّهُ / قَد كانَ يَختَرِقُ الجُسومَ فَيَظهَرُ
حامَت حَوالَيكَ الجُموعُ كَأَنَّما / تَبغي وَقاءَ الشَرقِ مِمّا يُحذَرُ
وَالكُلُّ يَسأَلُ كَيفَ حالُ إِمامِنا / ماذا رَأى حُكَماأُنا ما أَخبَروا
وَالداءُ يَقوى ثُمَّ يَضعُفُ تارَةً / فَكَأَنَّهُ يَبلو القُلوب وَيَسبِرُ
أَورَدَتهُ عَذباً فَأَورَدَكَ الرَدى / تَبَّت يَداهُ فَذَنبُهُ لا يُغفَرُ
هَيهاتِ ما يَثني المَنِيَّةَ جَحفَلٌ / عَمَّن تَأُم وَلا يُفيدُ العَسكَرُ
رَصَدَ الرَدى أَرواحَنا حَتّى لَقَد / كِدنا نُعَزّي المَرءَ قَبلُ يُصَوِّرُ
نَهوى الحَياةَ كَأَنَّما هِيَ نِعمَةٌ / وَسِوى افَواجِعِ حُبُّها لا يُثمِرُ
وَنَظَنُّ ضِحكَ الدَهرِ فاتِحَةَ الرِضى / وَالدَهرُ يَهزَءُ بِالأَنام وَيَسخَرُ
أَفَقيدَ أَرضِ النيلِ أُقسِمُ لَو دَرى / بِالخَطبِ أَوشَكَ مائُهُ يَتَعَسَرُ
وَضَعوكَ في بَطنِ التُراب وَما عَهِد / تُ البَحرَ قَلبَكَ في الصَفائِحِ يَذخَرُ
وَرَأَوا جَلالَكَ في الضَريحِ فَكُلُّهُم / يَهوى وَيَرجو لَو مَكانَكَ يُقبَرُ
لَم تَخلُ مِن أَسَفٍ عَلَيكَ حَشاشَةٌ / أَبَداً فَيَخلو مِن دُموعٍ مِحجَرُ
آبو وَما آبَ العَزاءُ إِلَيهِمُ / وَالحُزنُ يُنظَم وَالمَدامِعُ يَنشُرُ
وَالكُلُّ كَيفَ يَكونُ حالُ بِلادِهِم / مِن بَعدِ ما ماتَ الإِمامُ يُفَكِّرُ
لَم يَبلِنا هَذا الزَمانُ بِفَقدِهِ / لَو كانَ مِمَن بِالرَزِيَّةِ يَشعُرُ
عندي لكم نبأ عجيب شيّق
عندي لكم نبأ عجيب شيّق / سأقصّه و عليكم تفسيره
إنّي رأيت البحر أخرس ساهيا / كالشيخ طال بما مضى تفكيره
فسألت نفسي حائرا متلجلجا / يا ليت شعري أين ضاع هديره ؟
" بالأمس " قالت موجة ثرثارة / و مضت فأكملت الحديث صخوره :
بالأمس مرّ بنا فتى من قومكم / رقّت شمائله ودقّ شعوره
مترنّح من خمرة قدسيّة / فيها الهوى و فتونه و فتوره
مترفّق في مشيه يطأ الثّرى / و كأنّما بين النجوم مسيره
يلهو بأوتار الكمنجة و الدجى / مرخيّة فوق العباب ستوره
يهدي إلى الوطن القديم سلامه / و يناشد الوطن الذي سيزوره
فشجا الخضمّ نشيده و هتافه / فسها فضاع هديره وزئيره
أعرفتموه ؟ ... إنّه هذا الفتى / هذا الذي سحر الخضمّ مروره
" داود " و المزمار في نغماته / و " الموصليّ " و معبد و سريره
يا ضيفنا / و الأنس أنت رسوله / و بشيره و الفنّ أنت أميره
لو شاع في الفردوس أنّك بيننا / لمشت إلينا سافرات حوره
ذهب الربيع و جئتنا فكأنّما / جاء الربيع زهوره و طيوره
ألفن هشّ إليك في أمرائه / و تفتّحت لك دوره و قصوره
إنّ الجواهر بالجواهر أنسها / أمّا التراب فبالتراب حبوره
يا شاعر الألحان إنّي شاعر / أمسي ضئيلا عند نورك نوره
أسمى الكلام الشعر إلاّ أنّه / أسماه ما أعيا الفتى تصويره
و أحبّ أزهار الحدائق وردها / و أحبّ من ورد الرياض عبيره
أنت الفتى لك في النسيم حفيفه / و لك الغدير صفاؤه و خريره
ألقوم صاغية إليك قلوبهم / و اللّيل منصته إليك بدوره
و بهذه الأوتار سحر جائل / متململ كالوحي حان ظهوره
إن كنت لا تهتاجه و تثيره / فمن الذي يهتاجه و يثيره ؟
دغدغ بريشتك الكمنجة ينطلق / و يدبّ في أرواحنا تأثيره
وامش بنا في كلّ لحن فاتن / كالماء يجري في الغصون طهوره
أدر على الجلّاس أكواب الهوى / في راحتيك سلافه و عصيره
فيخفّ في الرجل الحليم و قاره / و يراجع الشيخ المسنّ غروره
و تنام في صدر الشّجي همومه / و يفيق في قلب الحزين سروره
هذي الجموع الآن شخص واحد / لك حكمة و كما تشاء مصيره
إن شئت طال هتافه و نشيده / أو شئت دام نواحه وزفيره
إنّا و هبناك القلوب و لم نهب / إلّا الذي لك قبلنا تدبيره !