المجموع : 5
حيَّاك أرضاً وازدهاكِ سماءَ
حيَّاك أرضاً وازدهاكِ سماءَ / بحرٌ شدا صخراً وصفَّقَ ماءَ
يحبو شعابَكِ في الضحى قبلاته / ويرفُّ أنفاساً بهن مساءَ
متجدِّدَ الصبواتِ أودعَ حبَّهُ / شتى الأشعةِ فيكِ والأنداءَ
وَلِعٌ بتخطيطِ الرمال كأنه / عرَّافةٌ تستطلع الأنباءَ
ومصوّرٌ لبقُ الخيال يصوغُ من / فنِّ الجمالِ السِّحرَ والإغراءَ
نسق الشواطئ زينةً وأدقها / صوراً بريَّا صفحتيهِ تراءى
يجلو بريشته السماءَ وإنما / زادت بريشته السماءُ جلاءَ
لا الصبحُ أوضحُ من مطالعِهِ بِها / شمساً ولا أزهى سنىً وضياءَ
كلا ولا الليل المكوكبُ أفقُهُ / بأغرَّ بدراً أو أرقّ سماءَ
يا رُبَّ زاهيةِ الأصيلِ أحالها / أُفقاً أحمّ ولجَّةً حمراءَ
وكأنما طوتِ السماءَ ونشَّرَتْ / لهباً وفجَّرتِ الصخورَ دِماءَ
ولربَّ عاطرةِ النسيمِ عليلةٍ / طالعتُ فيها الليلةَ القمراءَ
رقصت بها الأمواجُ تحتَ شُعاعِها / وسرَتْ تجاذبُ للنسيم رداءَ
حتى إذا رانَ الكرى بجفونها / ألقت إليكِ بسمعها إصغاءَ
تتسمَّعُ النوتيَّ تحت شراعهِ / يشدو فيبدعُ في النشيدِ غِناءَ
هزَّت ليالي الصيفِ ساحرَ صوتهِ / فشجى الشواطئَ واستخفَّ الماءَ
وأثارَ أجنحةَ الطيورِ فحوَّمتْ / في الأفقِ حيرى تتبعُ الأصداءَ
صُورٌ فواتنُ يا شواطئُ صاغها / لكِ ذلكَ البحرُ الصناعُ رواءَ
فتنظّريهِ على شعابكِ مثلما / رجعَ الغريب إلى حماهُ وفاءَ
كم ظلّ يضربُ في صخورِكِ موجُهُ / مما أجَنَّ محبَّةً ووفاءَ
عذراً إذا عَيَّتْ بمنطقه اللُّغى / فهوَ العَيِيُّ المفحِم الفُصحاءَ
فخُذي الحديثَ عليه واستمعي لهُ / كم من جمادٍ حدَّثَ الأحياءَ
وسليهِ كيف طوى الليالي ساهداً / وبَلا الأحبَّةَ فيكِ والأعداءَ
كم ليلةٍ لك يا شواطئُ خاضَها / والهولُ يملأ حولكِ الأرجاءَ
والسفنُ مرهفةُ القلاعِ كأنما / تطأ السحابَ وتهبطُ الدأماءَ
حملتْ لمصرَ الفاتحينَ وطوّحتْ / بالنيل منهمْ جَحْفلاً ولواءَ
ولو استطاع لردَّ عنكِ بلاءَهم / وأطارَ كلَّ سفينةٍ أشلاءَ
أو كان يملك قدرةً حشَدَ الدُّجى / ونضا الرجومَ وجنَّد الأنواءَ
ودعا غواربَه الثقالَ فأقبلتَ / فرمى بها قدراً وردَّ قضاءَ
فاستعرضي سِيرَ الحياة وردِّدي / ما سرَّ من أنبائهنَّ وساءَ
وخُذي ليومكِ من قديمكِ أُهبةً / ومن الجديد تعِلَّةً ورجاءَ
إيهِ شواطئَ مصرَ والدنيا مُنىً / تهفو إليكِ بنا صباحَ مساءَ
ناجيتِ أحلامَ الربيعِ فأقبلتْ / وأشرتِ للصيف الوسيمِ فجاءَ
يحبوكِ من صفوِ الزمانِ وأنسه / ما شئتِ من مَرحِ الحياةِ وشاءَ
وغداً تضيءُ على جبينكِ لمحةٌ / طبعَ الخلودُ سماتها الغرّاءَ
وترفُّ منه على ثغورِك قبلةٌ / أصغى النسيم لها وغضَّ حياءَ
فاستقبلي الصيفَ الجميلَ وهيِّئي / للشعرِ فيكِ خميلةً غنّاءَ
وتسمّعي لحنَ الخيالِ وأفردي / لي فوق مائكِ صخرةً بيضاءَ
واستعرضي حورَ الجنانِ وأطلقي / لغة السماء وألهمي الشعراءَ
ماذا تركتَ بعالم الأحياء
ماذا تركتَ بعالم الأحياء / وأخذتَ من حبٍّ ومن بغضاءِ
لكَ بعد موتكَ ذكرياتٌ حيَّةٌ / جوَّابةُ الأشباحِ والأصداءِ
هتكت حجابَ الصمتِ عنكَ وربما / هتكتْ غشاءَ المقلةِ العمياءِ
فرأتْ مخايلَ وادعٍ متواضعٍ / في صورةٍ من رقَّةٍ وحياءِ
متطامنِ النظراتِ إلا أنها / نفَّاذةٌ لمكامن الأهواءِ
متفرِّساتٍ في سكينةِ قانصٍ / لم يخْلُ من حذرٍ وفرط دهاءِ
شيخٌ أطلَّ على الشتاء وقلبُه / متوقِّدٌ كالجمرةِ الحمراءِ
مرَّ الرفاقُ به فشيَّع ركبهم / وأقام فرداً في المكانِ النائي
وطوى الحياةَ كدوحةٍ شرقيةٍ / أمستْ غريبةَ تربةٍ وسماءِ
لبستْ جلال وحادِها وترفَّعتْ / بالصمت عن لغوٍ وعن ضوضاءِ
لم تنزل الأطيارُ فيءَ ظلالها / أو تَبْنِ عُشّاً أو تَحُمْ بغناءِ
حتى إذا عرّى الخريف غصونها / من وشي تلك الحلَّة الخضراءِ
عَبَرت بها صدَّاحةٌ في سجعها / لُغةُ الهوى ورطانةُ الغرباءِ
وارحمتا للنسر يخفُق قلبهُ / بصبابة القُمريّة البيضاءِ
هي لُمعةُ القَبَسِ الأخير وقد خبا / نجمُ المساءِ ورعشةُ الأضواءِ
وتوثُّبُ الروح الحبيس وقد شدا / ثَمِلاً بسحرِ الليلةِ القمراءِ
وحنايةُ الحسنِ الغريرِ إذا رمى / فشريقُ دمعٍ أو غريقُ دماءِ
ومهاجرٍ ضاقتْ به أوطانُه / وتأثَّرتْهُ مخاوفُ الطرداءِ
لم تثنه شيخوخةٌ مكدودةٌ / دون السِّفارِ ولا صقيعُ شتاءِ
متطلبٍ حقَّ الحياةِ لخافِقٍ / أمسى مهيضَ كرامةٍ وإباءِ
من كان في أمسٍ يسوسُ أمورَهم / ضنُّوا عليه بفرحةِ الطُّلقاءِ
يقضونَ باسمِ المال فيه كأنما / ضمِنُوا لمصرَ مصادرَ الإثراءِ
هلَّا قضوا لمقاصفٍ ومصارفٍ / مغفورةٍ منهومةِ الأحشاءِ
أكلتْ دمَ الفلَّاح ثم تكَفَّلَتْ / بحصادِ حنطتِهِ وجلدِ الشاءِ
حبٌّ بلوتَ به العذابَ ومثلهُ / مِقَتُ السياسةِ وهي شرُّ بَلاءِ
عَصَفَتْ بأحلامِ الرجالِ وسفهت / رأيَ اللبيبِ ومنطقَ الحكماءِ
كم فوق ساحِلها خُطىً مطموسةٌ / كانت سبيل هدايةٍ ورجاءِ
وسفينةٌ مهجورةٌ محطومةٌ / حَمَلتْ لها البشرى طيورُ الماءِ
أين اللواءُ وربُّهُ وجماعةٌ / كانوا طليعةَ موكبِ الشهداءِ
وأخو يراعٍ في الصفوفِ مدافعٌ / بيَديْ حواريٍّ وصدرِ فدائي
لم يُنْصَفوا حتى ببعض حجارةٍ / خرساءَ ماثلةٍ لعين الرائي
ومضوا فما وجدوا كفاءَ صنيعهِم / تمثالَ حبٍّ أو مثالَ وفاءِ
تأبى السياسةُ غيرَ لونِ طباعِها / وتريدُ غيرَ طبائعِ الأشياءِ
قالوا أحبَّ الإنكليزَ وزادهم / ودَّ الحميم وموثق القرناءِ
ها قد أتى اليوم الذي صاروا به / أوفى الدعاةِ وأكرمَ الحلفاءِ
بتنا نغاضب من يغاضبهم ولا / نأبى رعايتهم على الضَّراءِ
رأيٌ أُخِذْتَ به وليس بعائبٍ / ذمَمَ الرجالِ مآخذُ الآراءِ
لكن سكتَّ فقيلَ إنَّك عاجزٌ / عن ردِّ عادية ودفعِ بلاءِ
صَمْتٌ تحيَّرَ فيه كلُّ مُحدِّثٍ / والصمتُ بعضُ خلائق الكرماءِ
في عالمٍ يُنسي الحليمَ وقارَهُ / ويُري البنينَ عداوةَ الآباءِ
وتَرى التوائمَ فيه بينَ عشيَّةٍ / متنافراتِ طبيعةٍ ورواءِ
جهدُ الكرامِ به افترارُ مباسمٍ / وتكلُّفٌ في القولِ والإصغاءِ
صُوَرٌ عرفتَ لُبابَها ولحاءَها / فكأنما خُلِقَت بغير لحاءِ
قد كنتَ تُخلصُ لي الودادَ فهاكهُ / شعراً يصونُ مَودَّةَ الخلصاءِ
يجدُ الرجالُ به على حسناتِهم / مدحِي وعن هنواتِهم إغضائي
فاصعدْ لربِّكَ فهو أعدلُ حاكمٍ / وهو الكفيلُ برحمةٍ وجزاءِ
وتلَقَّ من حكمِ الزمانِ وعدلِهِ / ما شاءَ من نقدٍ ومن إطراءِ
أشباحُ جنٍّ فوق صدر الماءِ
أشباحُ جنٍّ فوق صدر الماءِ / تهْفُو بأجنحةٍ من الظلماءِ
أم تلكَ عُقْبانُ السماءِ وثَبْنَ من / قُننِ الجبالِ على الخضمِّ النائي
لا بل سفينٌ لُحْنَ تحت لواءِ / لمَن السفينُ تُرى وأيُّ لواءِ
ومَن الفَتى الجبَّارُ تحت شراعها / متربِّصاً بالموج والأنواءِ
يُعْلي بقبضته حمائلَ سيفهِ / ويَضُمُّ تحت الليل فضلَ رداءِ
ويُنيلُ ضوءَ النجم عاليَ جبهةٍ / من وسْمِ إفريقية السمراءِ
ذهَبٌ ببوتقة السَّنَى من ذوبهِ / مَسَحَتْ مُحيَّاهُ يدُ الصحراءِ
لونٌ جَلَتْ فيه الصحارَى سحرَها / تحت النجوم الغُرِّ والأنداءِ
وسماءِ بحرٍ ما تطامنَ موجُهُ / من قبلُ لابن الواحةِ العذراءِ
بحرٌ أساطيرُ الخيال شطوطُهُ / ومسابحُ الإلهامِ والإيحاءِ
ومدائنٌ سحْريَّةٌ شارفنَهُ / بنَخيلها وضفافها الخضراءِ
ومعابدٌ شمٌّ وآلهةٌ على / سُفُنٍ ذواهبَ بينهنَّ جوائي
أبطالُ يونانٍ على أمواجه / يطوون كل مفازة وفضاءِ
يتجاذبون الغارَ تحت سمائه / يتناشدونَ ملاحمَ الشعراءِ
مازال يرمي الرَّومَ وهو سليلهم / ويُديلُ من قرطاجة العصماءِ
حتى طَلَعْتَ بهِ فكنتَ حديثهُ / عجباً وأيُّ عجائبِ الأنباءِ
ويسائلونَ بِكَ البروقَ لوامعاً / والموجَ في الإزبادِ والإِرغاءِ
من عَلَّمَ البدويَّ نشرَ شراعها / وهَدَاهُ للإبحار والإرساءِ
أين القفارُ من البحارِ وأين من / جنِّ الجبالِ عرائسُ الدأماءِ
يا ابن القِبَاب الحُمرِ ويحك من رَمى / بِكَ فوق هذه اللجَّةِ الزرقاءِ
تغزو بعينيكَ الفضاءَ وخلفَهُ / أُفُقٌ من الأحلامِ والأضواءِ
جُزُرٌ مُنَوَّرَةُ الثغور كأنّها / قطراتُ ضوءٍ في حفافِ إناءِ
والشرقُ من بُعْدٍ حقيقةُ عالمٍ / والغربُ من قُرْبٍ خيالةُ رائي
ضحِكتْ بصفحته المُنى وتراقصتْ / أطيافُ هذي الجنَّةِ الخضراءِ
وَوَثَبْتَ فوق صخورها وتلمَّسَتْ / كفَّاكَ قلباً ثائرَ الأهواءِ
فكأنما لك في ذُرَاها مَوعِدٌ / ضَرَبَتْهُ أندلسيةٌ للقاءِ
ووقفتَ والفتيانُ حولكَ وانبرتْ / لكَ صيحةٌ مرهوبةُ الأصداءِ
هذي الجزيرةُ إنْ جهلتم أمرَها / أنتمْ بها رهطٌ منَ الغُرباءِ
البحرُ خلفي والعدوُ إزائي / ضاعَ الطريق إلى السفين ورائي
وتلفتوا فإذا الخضمُّ سحابةٌ / حمراءُ مُطبِقةٌ على الأرجاءِ
قد أحرقَ الرُّبانُ كلَّ سفينةٍ / من خلفه إلَّا شراعَ رجاءِ
ألقى عليه الفجرُ خَيطَ أشعّةٍ / بيضاءَ فوقَ الصخرة الشمَّاءِ
وأتى النهارُ وسار فيه طارقٌ / يبني لِمُلكِ الشرق أيَّ بناءِ
حتى إذا عَبرَتْ ليالٍ طوَّفَتْ / أحلامُه بالبحر ذاتَ مساءِ
يرعى على الأُفقِ المُرصَّع قريةً / أعظِمْ بها للغزو من ميناءِ
مَدَّ المساءُ لها على خُلجانها / ظِلاً فنامتْ فوق صدرِ الماءِ
قالتْ تُعاتبُني أراكَ مَنَعْتني
قالتْ تُعاتبُني أراكَ مَنَعْتني / من قطفِ هذي الوردة الصفراءِ
وبسحرِ هذا اللون كم غنَّيتَني / وهتفتَ بالشقراءِ والصهباءِ
قلتُ اغفري لي يا حبيبةُ نظرتي / إِني أعيدُ الحسنَ من أهوائي
أخشى ظنونَ الناس فيكِ وأتقي / سِمَةَ الضَّنى والغيرة الحمقاءِ
وأذود عَنْ عينيكِ ذكرى ليلةٍ / شابتْ ونجمٍ شاحبِ الأضواءِ
في لونِ خدَّيْكِ اقطِفِي ما شِئتِهِ / من زهرةٍ أو كوكبٍ وضّاءِ
قالتْ أتمنعني الذي أحببتُهُ / في نظرةٍ لكَ وادِّكارِ وفاءِ
في عرضِكَ الماضي ونبشِكَ ما ذوى / من ذكرياتِ شبيبةٍ هوجاءِ
وبسخرياتكَ بي وبسمتِكَ التي / تلقى بها المفضوحَ من إِغوائي
وشحوبِ وجهكَ إِن أرِقتَ صبابةً / حيرانَ بين قطيعةٍ ولقاءِ
يا فرحتي للبحرِ أرجعُ ثانياً
يا فرحتي للبحرِ أرجعُ ثانياً / متفرداً بعبابهِ وسائهِ
أقصى منايَ سفينة ممشوقة / وبزوغُ نجم أهتدي بضيائهِ
وصريرُ دفّتها وعَزفُ رياحهِ / وخفوقُ قلعٍ أبيضٍ في مائه
وأرى الضباب يرفُّ فوقَ جبينهِ / في شاهبٍ من لونهِ وروائهِ
يجلوه ألاق رماديّ السنى / متطلعٌ بالفجرِ خلفَ فضائهِ
يا فرحتي للبحر أرجعُ ثانياً / كيما ألبّي المدّ في طفراتهِ
هذا المزمجرُ لست أنكرُ صوتهُ / إنّ الوضوحَ يشيع في نبراتهِ
أقصى منايَ لديه يومٌ عاصفٌ / يهفو رقيق الغيم في سبحانهِ
ورشاشُ موجٍ مستطارٌ تحتهُ / زبدٌ يفور الرغو ملءَ كراتهِ
وضجيج زُمّج مائهِ متخبطا / بالموج وهو يثيرُ من صرخاتهِ
يا فرحتي للبحرِ أرجع ثانيا / جوّابَ آفاقٍ غريب مسالك
أطوي مسارح طيره ومسابحاً / للحوت عبرَ طريقيَ المتشابكِ
حيثُ الرياح كأنما وخزاتها / حدُّ المدى وشبا الحسام الفاتكِ
أقصى منايَ روايةٌ محبوكةٌ / من نسيجِ قرصانِ طروبٍ ضاحكِ
ولذيذُ أحلامٍ وقد طاب الكرى / وتزايلت صورٌ هناك تواركي