القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : ناصِيف اليازجي الكل
المجموع : 161
بغدادَ أيَّتُها الرِّكابُ فبادِري
بغدادَ أيَّتُها الرِّكابُ فبادِري / نَهرَ السَّلامِ بِنَهْلةٍ من باكرِ
وإذا وَقفتِ على الرُّصافةِ فانشُدي / قلبي ولكنْ من لَظاهُ فحاذِري
هل تَحملينَ من المَشُوقِ تَحيَّةً / نَفَحَتْ بأرواحِ الخُزامِ العاطرِ
وَلْهانُ تَرعَى الطَّيفَ مُقلةُ نائمٍ / منهُ وتَرعَى النَّجْمَ مُقلةُ ساهرِ
ما كُلُّ مَن عَرَفَ المَحبَّةَ عارفٌ / حَقَّ المحبّةِ باطناً كالظَّاهرِ
هانتْ مَوَدَّةُ مَن أحبَّكَ أوَّلاً / حَتَّى تَراهُ ثابتاً في الآخِرِ
وأنا الذي ذَهَبَ الهَوَى بفُؤادِهِ / من حيثُ ليسَ على الرُجوعِ بقادرِ
أضحى يُعنِّفُ عاذلي حتَّى إذا / عَرَفَ الذي أهواهُ أمسى عاذِري
أهوَى الكريمَ من الرِّجالِ ولو على / سَمْعٍ بهِ إنْ كُنْتُ لستُ بناظرِ
وأُحبُّ آثارَ العُلومِ وأبتغي / صُحُفَ الأدِيبِ على نُضارِ التاجرِ
للنَّاس في ما يعشَقُونَ مذاهبٌ / يَذهبْنَ بينَ ميَامِنٍ وميَاسِرِ
في كُلِّ قلبٍ من حبيبٍ صَبْوةٌ / يَبلَى ويترُكُها لقَلْبٍ غابرِ
لا تَنتَهِي هِمَمُ الفتَى فإذا انقَضَى / وَطَرٌ تجَدَّدَ غَيرُهُ في الخاطرِ
أمَلٌ طويلٌ والحَياةُ قصيرةٌ / تَنْجابُ بينَ مَواردٍ ومَصادرِ
ولَقد بَكَيْتُ على الشَّبابِ وعَصرهِ / فأضَعْتُ دَمْعي خاسراً في خاسرِ
لا يَعرِفُ الإنسانُ قِيمةَ نِعمةٍ / حتى تَزُولَ فَيستَفيقُ كحاسرِ
يَمْضي بما فيهِ الزَّمانُ كأنَّهُ / لم يأتِ عندَ أصاغرٍ وأكابرِ
والشَّيخُ أشبَهُ بالغُلامِ كلاهُما / في زَعْمِهِ مولودُ يومٍ حاضرِ
جرَّبتُ أخلاقَ الزَّمانِ وأهلِهِ / فَعَرَفْتُ يومي قبلَ أمسِ الدَّابرِ
وصَبَرتُ لكنْ حيثُ لم يكُ في يدي / دَفعُ البَلاءِ فأينَ فضلُ الصَّابرِ
يا أيُّها الطَّيفُ المُعَلِّلُ مُهجتي / بمَواعدٍ يُبرِقنَ غيرَ مَواطرِ
إنْ كُنتَ لا تَبغي الوفاءَ فلا تَعِدْ / بُخْلُ الحريصِ ولا مِطالُ الغادرِ
كيفَ اهتدَيتَ إليَّ تحتَ دُجُنَّةٍ / تَطغى بها عينُ الشِهابِ السائرِ
أنتَ الخَيالُ تَزُورُ مثلَكَ في الضَّنَى / لو كانَ مِثلَكَ في خُفوقِ الطَّائرِ
هل تُبلِغُ الشَّيخَ الكبيرَ رِسالةً / من عاجزٍ جُعِلَتْ وكيلَ القاصرِ
نَقَّطتُها مِثلَ العَرُوسِ بأدمُعٍ / مِثلِ اللآلئِ فَهْيَ نظمُ الناثرِ
زُفَّت إلى من لا تَقُومُ بِبابهِ / لو عُزِّزَتْ بِبيانِ عبدِ القاهرِ
اللَوْذعيُّ الكاملُ الفَرْدُ الذي / أفعالُهُ يَغلِبْنَ قولَ الشاعرِ
أمَةٌ إلى عبدِ الحميدِ جَلَبتُها / ممَّا تَفَضَّلَ من كِرامِ حَرائرِ
قد سَهَّلتْ لي الشِّعرَ صَنْعةُ صائغٍ / تأتي فأُرجِعُها بصَنْعةِ كاسرِ
يا أيُّها البحرُ العَرَمْرَمُ لم نُصِبْ / لَكَ لُجَّةً فأصَبْتَنا بِجواهرِ
أسرارُ عَقْدٍ من لَدُنْكَ تَضمَّنتَ / إكسِيرَ حَلٍّ من صِناعةِ جابرِ
بَيني وبَيْنَك ذِمَّةٌ مَطْويَّةٌ / طَيَّ السِجِلِّ إلى المَعادِ النَّاشرِ
لم يُبقِ لي هذا الزَّمانُ ذَخيرةً / فَجَعْلتُها في القلبِ بعضَ ذخائري
قِفْ بالدِّيارِ وإنْ شجَاكَ المَوقِفُ
قِفْ بالدِّيارِ وإنْ شجَاكَ المَوقِفُ / وسَلِ المنَازلَ بَعدَنا مَن تألَفُ
وإذا عَثَرْتَ على فُؤادي بينَها / يوماً فَسَلْهُ إلى مَتَى يَتَخلَّفُ
رَبْعٌ صَرَفْتُ العَينَ عنهُ أشهُراً / والقلبُ عنهُ ساعةً لا يُصرَفُ
قد كانَ لي داراً فصارَت مُهجتي / داراً لهُ بفِنِائها يتَكنَّفُ
وبجانبِ الجَرْعاءِ قومٌ عِندَهم / ذِمَمٌ لَنا مَحفوظةٌ لا تُخْلَفُ
تَدنُو مَوَدَّتُهم على بُعدِ المَدَى / ويَزيدُ صِحَّتَها الزَّمانُ المُدنِفُ
إخوانُ صِدقٍ في الإخاءِ تَرَى لهم / كَلَفاً ولكن ليسَ فيهِ تَكَلُّفُ
ما زِلتُ أمزُجُ بالمدامعِ ذِكرَهُمْ / طَرَباً كما مُزِجتْ بماءٍ قَرْقَفُ
يا مَن جَلا عينَ البعيدِ برَسْمِ ما / كانتْ بهِ أُذُنُ القريبِ تُشنَّفُ
طِرسٌ على الأنفاسِ منكَ خَتَمتَهُ / سِرّاً فذَلكَ بالعَبيرِ مُغَلَّفُ
إنْ كُنتَ يعقوبَ المُحبَّ فنِعْمَ ما / تُدعَى ولكنْ ما حَبيبُكَ يُوسُفُ
أثَبتَّ لي في الوَصفِ ما لا أدَّعيِ / وعَرَفتَ لي في الحُبِّ ما لا أعرِفُ
هذِهْ صَحيفةُ من تَوَدُّ عُيُونُهم / لو أنَّها ضِمنَ الصحيفةِ أحرُفُ
كادتْ تَطِيرُ بها إليكَ صبابةٌ / فيها أرَقُّ مِن النَسيمِ وألطَفُ
جارَيَتني فسَبَقْتَني ولَطالَما / قد كُنتَ تَقْوَى في السِّباقِ وأضعُفُ
إنْ كُنتُ عن حَقِّ الوفاءِ مُقصِّراً / فالفضلُ في إنصافِ من لا يُنصِفُ
ألحمدُ للهِ الذي خلَقَ الوَرَى
ألحمدُ للهِ الذي خلَقَ الوَرَى / لكنَّ حمدي قاصرٌ دُونَ الوَفا
الحمدُ للهِ الذي يَقضي بما / يَهوى ولكنْ لا مَرَدَّ لِما قَضَى
بِتنا نَلُومُ الدَّهرَ في أحداثِهِ / والدَّهرُ ظَرْفٌ بينَ صُبحٍ أو مسَا
ماذا تَرَى هذا الزَمانَ مَعَ الذي / خَلَق الزَمانَ ومَن على العَرْشِ استَوَى
اللهُ أكبَرُ كُلُّ ما فَوقَ الثَّرَى / فانٍ ويبقَى وجهُ رَبِّكَ لا سِوى
وإذا رأيتَ السُّخطَ ليسَ بِنافعٍ / ممَّا قَضاهُ فاعتَمِدْ حُسنَ الرِضَى
جِئنا إلى الدُّنيا وقد شابتْ على / غَصْبِ النُّفوسِ ولم تَدَعْ هِمَمَ الصِبا
لو كانَ يَبقَى قَبلَنا حَيٌّ بها / لَطَمِعتُ منها في السَّلامةِ والبَقا
نَمشي إلى المَوْتَى على أجسادِهمْ / في الأرضِ دارِسةً كمنثُورِ الهَبا
لو كانَ يُمكِنُ أنْ تُميِّزَ أرضَنا / لَوَجَدْتَ نِصفَ تُرابِها رِمَمَ البِلَى
هيهاتِ ما الدُنيا بِدارِ إقامةٍ / إلاَّ كما نَزلَ المُسافِرُ في الدُّجَى
تَصِلُ التَلاقِيَ بالفِراقِ ودُونَهُ / يأتي فِراقٌ ليسَ يَعقُبُه لِقا
ولَقد أقُولُ لراحلٍ عن رَبعِهِ / ماذا أخَذتَ وما تَرَكت مِنَ الحشَا
هذي القُلوبُ وَديعةٌ لكَ فارْعَها / يا خَيرَ مَن حفِظَ الوديعةَ والوَلا
مِنا السَّلامُ عليكَ حيثُ نَزَلْتَ مِن / شَرْقِ البِلادِ وغَرْبِها ولَكَ الثَّنا
تلك اليدُ البيضاءُ لو نَنَسى الذي / غَرَسَتْهُ ذَكَّرَنا بهِ غَضُّ الجَنى
لكَ عندَنا شوقٌ يطُولُ فهلْ لنا / صَبرٌ يطولُ عليهِ إنْ طالَ المَدَى
أوحَشتَ داراً كُنتَ تُؤْنِسُها فلو / كانتْ لها عَينٌ لَفاضَتْ بالبُكا
يا صَدرَ مَجلِسِنا الكريمَ ورأسَهُ / هل تَذكُرُ الأعضاءَ من بَعدِ النَوَى
يا صاحبَ القلبِ السليمِ وصاحبَ ال / وَجهِ الوَسيمِ كأنَّهُ عينُ الضُحَى
يا ساهرَ الطَرْفِ الجَليِّ وطاهرَ ال / عرضِ النَقّيِ كأنّهُ زَهرُ الرُبَى
يا أيُّها الشَهْمُ المُجَّربُ صاحبُ ال / خُلقِ المُهذَّبِ والإناءُ المُصطَفَى
ضاقَ الكلامُ بنا فهل من بَسطةٍ / تجري علينا منك يا قطر الندى
أعجزتنا عن شكرِ نعمتكَ التي / شهدت بصِحَّتها ملائكةُ السَّما
هل منكَ يا زَهرَ الحدائقِ نَفحةٌ / تُهدَى إلينا اليومَ مع رِيحِ الصَّبا
وعَسى عَمُودُ الصُّبحِ يُلقي فَوقَنا / ظُلَلاً مُضمخَّمةً بأرواحِ الشَذا
وخَزائنُ الأصدافِ تَنثِرُ بيننا / دُرَراً تُزَانُ بها المَعاصِمُ والطُلَى
نَقضي بها حَقَّ الثَناءِ لمن قَضَى / حَقَّ الإلهِ وخَلقِهِ حَقَّ القَضا
يا مَعشَرَ الأصحابِ أيُّ رِجالِكم / وَلَّى وأيُّ قلوبِكُمْ باقٍ هُنَا
لا تَحسَبُوا رَجُلاً على فُلكٍ ثَوَى / لكنَّهُ بحرٌ على بحرٍ مَشَى
هذا فِراقٌُ تَعلَمُونَ زَمانَهُ / أفتعلَمُونَ مَتى يكونُ المُلتَقَى
قد مالَ هذا البدرُ نحوَ غُروبِهِ / لكنْ سَيَطلُعُ فاسعِفُوهُ بالدُعَا
أعطَى مُحَّمدُ عِزَّةٍ من فَضلِهِ
أعطَى مُحَّمدُ عِزَّةٍ من فَضلِهِ / شَرَفاً لِساحَتِنا بوَطْأةِ نَعلهِ
قَسَمَ اسمَهُ السَّامي فنالَ مُحَمَّداً / منهُ وأعطَى عِزَّةً لمَحلِّهِ
هذا الوزيرُ وزيرُ سُلطانِ الوَرَى / وخليفةِ اللهِ العليِّ وظِلِّهِ
أخفَيتُ عن داري بِشارةَ وَفْدِهِ / كي لا تصفِقَ بالسُّرورِ لأجلهِ
يا زائراً بيتي أراك فَتَنْتَهُ / فَعَليكَ بَيتٌ غيرُهُ من مِثلِهِ
أجْلَلتَهُ عَنّي فصِرتُ أهابُهُ / حَتَّى كأنّي لم أكُنْ من أهلِهِ
خَلَتِ الدِّيارُ كأنَّها لم تُؤهَلِ
خَلَتِ الدِّيارُ كأنَّها لم تُؤهَلِ / ومَضَى النَزِيلُ كأنَّهُ لم يَنزِلِ
والمَرْءُ في دُنياهُ يعرِفُ حاصلاً / فإذا مَضَى فكأنَّهُ لم يَحصُلِ
إنَّ الذي مَلأَ العُيُونَ بأُنسِهِ / مَلأَ القُلوبَ كأنَّهُ لم يَرحَلِ
في كُلِّ نادٍ منهُ ذِكرٌ يُجتَلَى / ولِكُلِّ عينٍ منهُ شَخصٌ ينجلي
يا نازلاً في الأرضِ أكرَمَ بُقعةٍ / إنَّ النزيلَ يَكونُ حَسْبَ المَنزِل
لم تَلقَ أهلاً للإقامةِ عِندَنا / فأقَمْتَ في القُدسِ الشريفِ بمَعزِلِ
لمَّا وَفْدتَ على الدِّيارِ تَعجَّبت / من بعثِ بُولُسَ قبلَ يومِ المَحفَلِ
أنتَ الخَليقُ بأنْ يَزُورَكَ ماشياً / مَن زارَ آثارَ الزَّمانِ الأوَّلِ
تَشْتاقُ طَلعَتُكَ المنابرُ كُلُّها / ويَرِفُّ من طرَبٍ جَناحُ الهَيكَلِ
وتَعافُ أرواحَ الكِباءِ وفَوقَها / لَكَ طيبُ أنفاسٍ كَعرْفِ المَنْدَلِ
نُهدي لصهيُونَ الهَناءَ كحُسَّدٍ / ولثَغرِ بيروتَ العَزاءَ كعُذَّلِ
ظَمأٌ تأجَّجَ في الرِّكابِ فعندما / وَرَدتْ أتاها الرِيُّ قبلَ المَنهَلِ
قَصُرَتْ ليالينا فكُنتَ بِدارنا / كمُسافرٍ لكنَّهُ لم يَعجَلِ
والوَردُ ليسَ يطُولُ عهدُ لِقائهِ / والبدرُ ليسَ بثابتٍ في مَنزلِ
والدَّهرُ بينَ النَّاسِ ليسَ بعادلٍ / والناسُ بينَ الدهرِ ليسَ بأعدَلِ
فانزِعْ إلى دارِ السَّلامةِ في النَّقا / وإذا مَرَرتَ على الحُصَيب فهَرْولِ
وإذا أتيتَ القَومَ فارِبضْ جانباً / وإذا استَطعتَ العيشَ وَحدَكَ فافَعلِ
فَعَلَت كما فَعَلَتْ سُلافُ الساقي
فَعَلَت كما فَعَلَتْ سُلافُ الساقي / هَيفاءُ تَحكِي الغُصنَ في الأَوراقِ
لَبِسَتْ منَ الوَشيِ البديعِ مَطارِفاً / ولها من الأَسرارِ حَبْكُ نِطاقِ
أَحيَتْ بِزَورتِها فُؤَادَ مُحِبِّها / مِثلَ السَّليمِ أتاهُ نَفثُ الراقي
بَعَثَ الحبيبُ بها إليَّ حبيبةً / هاجَتْ إليهِ بلابلَ الأشواقِ
مكنونةٌ أَخَذَت خُدُورَ صَحائِفٍ / فإذا بَدَت أَخَذَت خُدُورَ تَراقِ
أَلقَتْ على بَصَري وسَمعي صَبْوةً / فكلاهُما من عُصبةِ العُشَّاقِ
يا سَيِّداً مَلَكَ النُفوسَ بلُطفِهِ / فغدَت رقيقةَ رِقَّةِ الأخلاقِ
أَسمعتَها نظمَ الحبيبِ فما دَرَتْ / أحبيبُ طيٍّ أم حبيبُ عِراقِ
قد جاءَني منكَ المديحُ كأَنَّهُ / زَهرٌ يَمُدُّ لقَفرةٍ بِرِواقِ
من صَنعةِ الأَقلامِ كانَ طِرازُهُ / وطِرَازُكم من صَنعةِ الخلاَّقِ
هَجَرَتْ فبِتُّ بمُقلةٍ لم تَرْقُدِ
هَجَرَتْ فبِتُّ بمُقلةٍ لم تَرْقُدِ / فأَنا على الحالينِ راعي الفَرْقَدِ
يا طَالما حَكَتِ النُجومَ بحُسنِها / حَتَّى حَكَتها في المَقامِ الأَبعَدِ
سُبحانَ من طَبَعَ القُلوبَ على الهوَى / فتَراهُ يَقصِدُها وإنْ لم يُقصَدِ
لاخيرَ في قَلبٍ بلا شُغلٍ ولا / أَرَبِ فذلكَ قِطعةٌ من جَلمَدِ
ولَقد وَقَفتُ على المنازِلِ باكياً / بينَ العميقِِ وبينَ بُرقةِ ثَهمَدِ
ما كانَ من شِيَمِي البُكاءُ وإنَّما / يأتي الزَّمانُ بشِيمةٍ لم تُعهدِ
ولَرُبَّ طَيفٍ زارَني تحتَ الدُّجَى / فلَقيتُهُ طَرَباً بلَهجةِ مَعَبَدِ
وسألتُ زَورَتهُ الغدَاةَ فقالَ لي / مَهلاً إذا ما جَنَّ لَيلُكَ فارصُدِ
يا جائِرِينَ على ضَعيفٍ حائرٍ / لا يَهتدي وَيَوَدُّ أن لا يَهتدي
ما في يدي سيفُ الإمامِ ولا أَرى / قَلَمَاً لشَيخِ القُطرِ يَجرِي في يدي
العالمُ العلمُ الذي من ظِلِّهِ / عَلَمٌ على تَيماءَ حتى المِربَدِ
يَلقاهُ طالِبُهُ بمُقلةِ خاشعٍ / ويَراهُ حاسِدُهُ بمُقلةِ أَرمَدِ
قابلتُهُ فنَظَرتُ شخصاً رَيثَما / جالستُهُ فإذا ببحرٍ مُزبِدِ
ولَكَمْ سَمِعتُ بهِ فحينَ رأَيتُهُ / ضَحِكَ العِيانُ على السَّماعِ المُسنَدِ
رجلٌ لَدَى الأَسماءِ يُحْسَبُ مُفرَداً / لكن لَدَى الأَفعالِ ليسَ بمُفرَدِ
لو أنَّ فُسحةَ عِلمِهِ في عمرهِ / لَرَجَوْتُ أن يَبقى ليَومِ المَوعدِ
أَرضى الإلهَ وخَلقَهُ كمُؤَلِّفٍ / يوماً بِنُونِ البحرِ ضَبَّ الفَدفَدِ
فيَظَلُّ يَجَهَدُ في المَدارِسِ يَومَهُ / أَبَداً ويُصبحُ عاكفاً في المَسجدِ
أَهدَيتُهُ من آلِ عيسى غادةً / أَلقى بها الإِعرابَ آلَ محمَّدِ
فإذا اقتَصَرتُ فلا لأِنَّ صِفاتِهِ / نَفِدَتْ ولكنْ ضاقَ ذَرعُ المُنشِدِ
ماتَ الحبيبُ كأنَّهُ لم يُولَدِ
ماتَ الحبيبُ كأنَّهُ لم يُولَدِ / وسلا المُحِبُّ كأنهُ لم يُفقَدِ
والُحزنُ يُنشِئُهُ الحبيبُ كما نَشا / فإذا بَلِي كبَلآئهِ لم يَعْتَدِ
يا مَن نَراهُ اليومَ يَغلبُهُ البُكا / سَنَراكَ يَعصِيك التَباكي في غَدِ
هَبْ في فُؤَادِكَ من شُجُونِكَ جمرةً / أَرأَيتَ وَيَحْكَ جَمرةً لم تَخمَدِ
كم يجَهدُ الباكي المعَدِّدُ نَوحَهُ / والمَيْتُ لا يَدرِي بنَوْحِ مُعَدِّدِ
المَيْتُ لا يَدري بحالةِ قائمٍ / والحَيُّ لا يَدرِي بحالِ مُوَسَّدِ
لو دام هذا الحُزنُ ألقى رَبَّهُ / في اللحد قبلَ بِلَى الحبيبِ المُلحَدِ
من غابَ عن عينٍ فسَوفَ يغيِبُ عن / قَلبٍ فتِلكَ وِثاقُهُ في المَشهَدِ
لو أنصَفَ الباكُونَ أنفُسَهم بكَوْا / حُزناً عليها في انتِظار المَوعِدِ
هل يأمنُ الباكي هُجومَ حِمامِهِ / ما بينَ مسحِ دُمُوعِهِ المُتَرَدِّدِ
ما لي تَكلَّفتُ النَّصيحةَ مُرِشداً / في ما أعوزُ بهِ نَصيحةَ مُرشِدِ
جُمَلٌ أتيتُ بها اعتِراضاً حيثُ لا / عمَلٌ فما قامت مَقامَ المُفرَدِ
قد كنتُ أرغَبُ أن أرى قلبي كما / أهوَى ولكن ليسَ قلبي في يَدي
والقلبُ مثل العِهنِ إنْ جارَيتَهُ / لكن إذا عاصَيتهُ كالجَلمَدِ
آهاً لهذا الموتِ لا يَرثي لِمَن / يبكي ولا يحنو على المُتَنهِّدِ
كم شَقَّ أكباداً وأبكى أعيُناً / ولكم يَشُقُّ على المَدَى من أكبُدِ
والموتُ ليس بجيِّدٍ لكنّما / لولاهُ كان الحالُ ليسَ بجيِّدِ
لولا قديمُ الموتِ لاصطَنَعَ الوَرَى / مَوتاً فماتَ النَّاسُ بالمُتَجدِّدِ
لو قامَ من قَتَلتْهُ سَطوةُ مِثلِهِ / ضاقت بكثرتِهمْ رِحابُ الفدْفَدِ
والقتلُ قبلَ الموتِ كان قَدِ ابتدا / إذ كان حَتفُ الأنفِ لمَّا يَبتدي
ولقد رأيتُ الأُسْدَ أحسَنَ خَلّةً / من جِنسِ هذا الناطقِ المُتَمرِّدِ
الناسُ تَقتُلُ كلَّ يومٍ بعضَها / والأُسدُ تَقتُلُ غيرَها إذ تَعتدِي
كلٌّ يخافُ من المَنُونِ لوَقتهِ / ونَراهُ يَجهَدُ في الغِنى كمخُلَّدِ
هذا على حُكم الجُنونِ وإنَّما / قد أصبحَ المجنونُ غيرَ مُقيَّد
يا صاحِ ذَرْ عنك التَغَفُّلَ وانتَبِهْ / لا تَنظُرِ الدُنيا بطَرْفٍ أرمَدِ
سَفَرٌ بعيدٌ في مفَاوِزِ قَفْرةٍ / فالوَيلُ إنْ سافَرتَ غيرَ مُزوَّدِ
المَرْءُ في الدُنيا خَيالٌ قد سَرَى
المَرْءُ في الدُنيا خَيالٌ قد سَرَى / والعَيشُ مِثلُ الحُلم في سِنَةِ الكَرَى
والناسُ رَكْبٌ قد أناخَ بمَنزِلٍ / فبَنى على الطُّرُقِ المدائنَ والقُرَى
لا مَرحَباً إنْ جاءَتِ الدُّنيا ولا / أسَفاً إذا وَلَّتْ وما الدُّنيا تُرَى
هيَ كالسَّرابِ يَزيدُ مُهجةَ وارِدٍ / ظَمأً ويَملأُ مُقلتَيهِ مَنظَرا
غَرَّارةٌ يسبي الحكيمَ خِدَاعُها / مكراً ويُطغِي الفَيلَسُوفَ الأكبرا
لاحت لنا نارُ الحُباحِبِ في الدُّجَى / منها فخلنا أنَّها نارُ القِرَى
عِشْنا كأنَّا لم نَعِشْ ونموتُ عن / كَثَبٍ كأنّا لم نَكُنْ بينَ الوَرَى
ذَهَبَ الزَّمانُ ومَنْ طَواهُ مُقدَّماً / وكذاكَ يَذَهبُ مَن يَليهِ مُؤَخراً
نبكي ونَضحَكُ للمَنّيةِ والمُنَى / وكِلاهما عَبَثٌ يَدُورُ مُكرّرا
بِتْنا نُنادي حَيدَراً ويَحي وما / يُجدِي إذا بِتْنا نُنادِي حَيدَرا
هذا الأميرُ قَضَى فسالَتْ أكبُدٌ / ومَدامعٌ وجَرَى القَضاءُ بما جَرَى
لم تَحْمِهِ البِيضُ الصَوارِمُ والقَنا / والشُوسُ والجُرْدُ السَلاهِبُ والذُرَى
هذا الذي كنَّا نَعيِشُ بظِلِّهِ / قد صار تحتَ ظِلالِ رَمسٍ أقفَرا
هذا الذي ضبَطَ البِلادَ بكَفِّهِ / قد باتَ مغلولَ اليَدينِ مُعفَّرا
يا طالما أغنَى الفقيرَ بجُودِهِ / واليومَ صار أضَرَّ منهُ وأفقَرا
أمسَى وحيداً في جوانبِ حُفْرةٍ / مَن كان يَجمَعُ في حِماهُ عَسكَرا
مِنَّا السَّلامُ بكل تَكْرِمةٍ على / مَن لم يَمُدَّ إلى وَداعٍ خِنصِرا
قامت تُشيِّعُهُ الرِجالُ مُشخَّصاً / ومَضَتْ تُشيِّعُهُ القُلوبُ مُصوَّرا
أولى العِبادِ برَحمةٍ من لم يَكُنْ / عَرَفَ المَظَالِمَ في العِبادِ ولا دَرَى
وأحَقُّ بالإحسانِ مَن لم يُهمِل ال / مَعروفَ قَطُّ ولم يُباشِرْ مُنكرَا
بَكَتِ الأراملُ واليَتامَى حَسْرةً / لمَّا رأتْ قلبَ السَماحِ تَحسَّرا
وتَنهَّدَ المجدُ الذي ربَّاهُ من / صِغَرٍ فكانَ لهُ أباً ومُدبِّرا
سَلَبَ الزَّمانُ منَ الأفاضلِ دُرَّةً / لو كَلَّفوهُ بمِثلِها لَتَعذَّرا
ولرُبما نَفِدَ الزَّمانُ وذِكرُهُ / نُملي بهِ جُمَلاً ونَكتُبُ أسطُرا
قد كانَ عَوْفاً في الوَفاءِ ولم يَزَلْ / في الحِلمِ مَعْناً والسَماحةِ جَعْفَرا
وإذا تَفقدَّتَ المَحامِدَ كلَّها / ألفَيتَ كُلَّ الصَيدِ في جَوفِ الفَرا
كلٌّ يُبالغُ في المديحِ بِشعرِهِ / ويَظَلُّ مادِحُهُ الأمينُ مُقَصِّرا
ومَتَى طَلَبْنا رِيبةً في نفسِهِ / كانَتْ لنا عَنقاءُ مَغرِبَ أيسَرا
ذاكَ الذي لم يَتَّخِذْ لكُنوزِهِ / عَرَضاً من الدُّنيا فصادَفَ جَوْهَرا
حَقٌّ على الخُطَباءِ ذِكرُ صِفاتِهِ / مَثَلاً شَرُوداً حينَ تَعلُو المِنْبرا
بَحرٌ حَواهُ النَّعشُ فوقَ مناكبٍ / تَسعَى ولم نَعهَدْ كذاكَ الأبحُرا
وفَريدةٌ في الرَّمس قد دُفِنَتْ وكم / من معدنٍ تحتَ التُّراب تَستَّرا
وَيلاهُ مِن هذي الحياةِ فإنَّها / كالظِلِّ تحتَ الشَمسِ يَمشِي القَهْقَرى
إنَّ الحياةَ هيَ الشبابُ وإن تَزِدْ / نَقَصتْ كلفظٍ بالزيادةِ صُغِّرِا
نرجو من الدُّنيا الدَّوامَ ونَفسُها / كحُطامِها ممَّا يُباعُ ويُشترَى
دُوَلٌ وأجيالٌ تَمُرُّ وتَنقَضي / فيها وتَبقَى الكائِناتُ كما تَرَى
فسَقَتْ غَوَادِي الفَضلِ تُربةَ فاضِلٍ / ممَّن يُؤَرَّخُ كان غُوثاً للوَرَى
كُنَّا نُؤَرّخُ فضلَ مِنْحةِ كَفِّهِ / صِرنا نؤَرّخُ رمسهُ تحتَ الثَّرى
نَزَعَ القَرِيضُ إلى حِمَى نَقَّاشِهِ
نَزَعَ القَرِيضُ إلى حِمَى نَقَّاشِهِ / كالطَيْرِ مُبتدرِاً إلى أعشاشِهِ
حَملَتْهُ أجنِحَةُ الصَبابةِ فاستَوَى / مُتَمَتِعّاً منها بِلينِ فِراشِهِ
يا حَبَّذا ذَاكَ المَزارُ فإنَّهُ / وِرْدٌ بهِ يُرْوَى غليلُ عِطاشِهِ
خَلَعَ الحبيبُ عليهِ بَهْجةَ أُنسِهِ / وعلى مَنازِلِنا دُجَى إيحاشِهِ
يا دارَ مَن أهوَاهُ حَيَّاكِ الصَّبا / وسَقاكِ مُزْنُ الصُبحِ صَفْوَ رَشاشِهِ
إن كانَ قَدْ سَكَنَتْ عليكِ رِحالُهُ / فالقلبُ لم تَسكُنْ بلابلُ جاشِهِ
طُبِعَ الزَّمانُ على تَقَلُّبِ حالهِ / وعلى تَلَوُّن وَجهِهِ ورِياشِهِ
ما زَالَ يَنصَحُنا بنَكْبَةِ غيرِنا / ويَظُنُّهُ المنصوحُ من غُشَّاشِهِ
لا يذكُرُ الإنسانُ أمرَ مَعادِهِ / إذ كان مُشتَغِلاً بأمر مَعاشِهِ
يَستأْمِنُ الجَزَّارُ وهْوَ يَرَى المُدَى / يَخْطَفْنَ حَوْلَ نِعاجِهِ وكِباشِهِ
يا مُسعِفاً دهري عليَّ بهَجْرِهِ / لا تُسعِفِ البازي على خُفّاشِهِ
أنْعِمْ بتَرْداد الرسائل مُنعِشاً / مَن أنتَ مُقْتَدِرٌ على إنعاشِهِ
ماذا الوُقوفُ على رُسوم المَنزِلِ
ماذا الوُقوفُ على رُسوم المَنزِلِ / هَيهاتِ لا يُجدي وُقوفُكَ فارحَلِ
تِلكَ الأثافي في العِراصِ تَخلَّفَتْ / أظَنَنْتَ قبلكَ بَينَها فتأمَّلِ
دارٌ عَفَتْها الذارِياتُ فأبرَزَتْ / فيها خُطوطاً مثلَ رَقْمِ الجُمَّلِ
ومتى سألتَ رُبوعَها عن أهلِها / صَدَرَ الجَوابُ عن الصَّبَا والشَمْألِ
هَيهاتِ ما دارُ الحَياةِ بمَنزِلٍ / يُرجَى ولا ماءُ الحَياةِ بمَنَهلِ
ولَطالما سَرَّتْ فساءَت فانقَضَتْ / فكأنَّ ذلكَ كُلَّهُ لم يَحصُلِ
يا أيُّها النِحرِيرُ جِهبِذُ عَصرِهِ / ما لي أُبثُّكَ علمَ ما لم تَجهَلِ
إن المُقَدِّمَ للحكيمِ إفادةً / كمُقَدِّمٍِ للشمسِ ضَوْءَ المِشْعَلِ
بَعُدَ المَزَارُ على مَشُوقٍ لم يكن / يُشْفى على قُرب المَزار الأوَّلِ
يُدني إليهِ الوَهْمُ دارَ حبيبِه / حتى يكادُ يَمَسُّها بالأنُملِ
للناسِ أيامٌ تَمُرُّ كأنَّها / خَيلُ البَريدِ مُغيرةً في الهَوجَلِ
إن كُنتَ تأمَنُ جانبَ الماضي بها / فالخَوفُ بينَ الحالِ والمُستَقبَلِ
ذَهَبَتْ بما ذَهبَتْ فما تَرَكَتْ سِوى / ذِكرَى الحبيبِ ويومِ دارةِ جُلجُلِ
والذِّكرُ قد يُؤذِي الفُؤادَ وإن حلا / كالمِسكِ يَصدَعُ مَفرِقَ المُستعمِلِ
زادُ المُودّعِ نَظرةٌ فإذا انقَضَتْ / وَقَفَ الرَّجاءُ على الحديثِ المُرسَلِ
إنْ كانَ قد بَعُدَ اللِقاءُ لِعلّةٍ / فابعَثْ إليَّ بلُهنةِ المُتَعلِّلِ
قِفْ بالعَقيقِ وسَلْ نَسِيمَ رياحِهِ
قِفْ بالعَقيقِ وسَلْ نَسِيمَ رياحِهِ / هل من سَلامٍ تحتَ طيِّ وِشاحِهِ
ولَعلَّهُ بالجِزْع باتَ عَشيةً / فتوَسَّدَ الرَيحانَ بينَ بطاحِهِ
دارَ الأحِبَّةِ جادَ مَغناكِ الحَيا / وكَساكِ بُرْدَ خِزامهِ وأقاحِهِ
إن كانَ بانَ الرَّكبُ عنكِ بعينهِ / فقُلوبُنا لم تَخْلُ من أشباحِهِ
طُبعَ الزَمانُ على العِنادِ فلم يزَلْ / يَغْتالُ بينَ غُدُوِّهِ ورَواحِهِ
فالوَيلُ بينَ صباحِهِ ومَسائِهِ / والعَولُ بينَ مَسائِهِ وصَباحِهِ
لِلدَّهرِ في الأحكامِ بابٌ مُغلَقٌ / لا يَهتدِي أحَدٌ إلى مفتاحِهِ
شَهْدٌ وصابٌ في مَشارِبِ أهلِهِ / والكلُّ يَرتَشِفُونَ من أقداحِهِ
يَتَقلَّبُ الثَكْلانُ في أحزانِهِ / كَتَقلُّبِ الجَذْلانِ في أفراحِهِ
فيطيِبُ للجَذلانِ صَوتُ غنائِهِ / ويَطيبُ للثَكْلانِ صَوْتُ نُواحهِ
ولَقَدْ غَزَتْ قلبي الهُمومُ بجَيْشها / دهراً فكانَ الصبرُ خيرَ سِلاحهِ
والصَبرُ يكفي القلبَ جُرحاً حادثاً / إن كانَ لا يَشِفي قديمَ جِراحِهِ
رَوَّضتُ نفسي بالرِّضَى منذُ الصِّبى / فجَنيتُ طِيبَ النَّفسِ من أدواحِهِ
والنَّفسُ كالمُهرِ الجَمُوحِ إذا نَشَا / في جَهلِهِ أعياكَ رَدُّ جماحِهِ
إن أنتَ لم تُصلِحْ طَريقَكَ يافعاً / فإذا كَبِرْتَ عَجَزْتَ عن إصلاحِهِ
والجهلُ مثلَ الدَّاءِ يَرسُخُ في الفَتى / فيسُدُّ عن بُقراطَ نَهْجَ فَلاحِهِ
وبمُهجتي شَوقٌ قديمٌ لم يزلْ / لقديم حُبٍّ حالَ دُونَ بَراحِهِ
رَبعٌ يَسُرُّ الناظرينَ بحُسنهِ / ويُبشِّرُ العافي بُحسنِ نَجاحِهِ
الفخرُ بينَ بُرُوجهِ وسُرُوجهِ / والنَّصرُ بينَ سُيوفهِ ورِماحِهِ
ولَقد كَتَبتُ إلى الحبيبِ رسالةً / تَشتاقُ صَفْحتُها اغتِنامَ صِفاحِهِ
لو طارَ شوقٌ قَبلَها بصَحيفةٍ / طارَتْ إليهِ على خُفُوقِ جَناحهِ
ضَمَّنتُها مما تَضمَّنَهُ الحَشا / ما يَعجِزُ المِنطيقُ عن إيضاحِهِ
حَسْبُ اللبيبِ إشارةٌ يَغْنَى بها / داعيهِ بالإيماءِ عن إفصاحهِ
هَهياتِ لا يَهْدِي ضِياءُ الصُبحِ مَنْ / لا يَهتدي بالضَوءِ من مِصباحهِ
لمن الخِيامُ ومن هُنالِكَ نازِلُ
لمن الخِيامُ ومن هُنالِكَ نازِلُ / أتُرَى بِهِنَّ رَبيعةٌ أم وَائلُ
كَذَبَتْكَ نَفسُكَ بل غَطارِفَةُ الحِمَى / قومٌ لديهمْ ذِكرُ تُبَّعَ خاملُ
هذِهْ خيامُ الهاشمّيةِ حَولَها / مِلّء العُيونِ مَنازِلٌ ومَناهِلُ
ومنَاصلٌ وذَوابلٌ وجحافلٌ / وقنابلٌ ورواحلٌ وقوافلُ
غَرْثى الوِشاحِ لها قَوامٌ رامحٌ / تغزو القلوبَ به وطَرْفٌ نابلُ
ومن العُجاب نَرَى قتيلاً ساقِطاً / يبغي اللِقا فَيفِرُّ منهُ القاتلُ
أفدِي المُحجَّبةَ التي مِن دُونِها / للدَمعِ في عينِي حِجابٌ سادِلُ
يا طالما رَدَّتْ أمَيمةُ سائلاً / أفَلا يُرَدُّ اليومَ هذا السائلُ
يا ظَبيةً في الحَيِّ نَبغي صَيدَها / فَتصيدُنا عُنْفاً وليس تُخاتِلُ
لا سَهمَ غيرُ لِحاظِها ترمي بهِ / قَنَصَاً ولا غيرَ الفُروعِ حبائلُ
أنتِ الجميلةُ فوقَ كلِّ جميلةٍ / فالحَقُّ أنتِ وكُلُّهنَّ الباطلُ
قد قامَ عُذري في هَواكِ فليسَ لي / في الناس غيرَ الحاسدينَ عواذلُ
أهواكِ لا عارٌ عليَّ لأننَّي / أَهْوَى الكِرامَ فما يقولُ القائلُ
مارستُ أخلاقَ الحليمِ فخانَني / دَهرٌ لأخلاقِ السَّفيهِ يُشاكلُ
وعَدَلتُ عن شِيَمِ الجَهولِ فظُنَ بي / جَهلاً لأنّي عن هواهُ ناكلُ
وإذا أتتني مِدْحةٌ من جاهلٍ / فهيَ المَذَمَّةُ لي بأنِّي جاهلُ
رُمتُ الوَفاءَ من الزَّمانِ وأهلهِ / فظَفِرتُ منهُ بما يجودُ الباخلُ
وسألتُ عن ذِمَمِ الوِدادِ فقيلَ لي / مَهلاً كأنَّكَ عن مُحمَّدَ غافلُ
ذاك الصَّديقُ وإن تناءَت دارُهُ / عنَّا وإن حالَ الزَّمانُ الحائلُ
إنَّ ابنَ وُدِّكَ مَن يَراكَ بقلبِهِ / لا مَن يَراكَ بعينِهِ فيغازِلُ
قد قَيَّدتْ قلبي على بُعد المَدَى / بالحُبِّ من تلك السُطورِ سلاسلُ
القلبُ يَعلَمُ أنهنَّ جواهرٌ / والعينُ تَزعُمُ أنَّهُنَّ رسائلُ
الشاعرُ الفَطِنُ اللبيبُ الكاتبُ ال / لَبِقُ الأديبُ اللَوذَعيُّ الفاضلُ
في كَفِّهِ البيضاءِ سُمْرُ يَراعةٍ / لَعِبتَتْ لها بالمُعرَباتِ عواملُ
حُلوُ الفُكاهةِ والقريضِ مُهذَّبٌ / أقلامُهُ عَسَّالةٌ وعواسلُ
لو كان ماءُ النيل مُرّاً آجناً / حَلَّتْه أنفاسٌ لهُ وشمائلُ
طَودٌ لَدَيهِ كلُّ طودٍ رِبْوَةٌ / بَحرٌ لديهِ كلُّ بحرٍ ساحلُ
يَنتْابُنا بالمَكرماتِ تَبرُّعاً / والمَكرُماتُ فرائضٌ ونوافلُ
بيني وبينكَ يا مُحمَّدُ شُقَّةٌ / تُطوى إليها في البلادِ مراحلُ
وفواصلُ الأوطانِ غيرُ مُضرَّةٍ / إن لم يكن بين القُلوبِ فواصلُ
تاهَتْ بك الإسكندريةُ عِزَّةً / فَبَدَتْ عليها للسُرورِ دلائلُ
إن كانَ في جيدِ الصَّعيدِ قلائِدٌ / منها فما جيدُ العَواصمِ عاطلُ
يا كَعْبةَ الأدَبِ التي حَجَّت لها / من كلِّ فَجٍّ للقريض قبائلُ
أغرَقْتَنا في بحرِ فضلكَ جُملةً / فكأنَّنا ضَرْبٌ وأنتَ الحاصلُ
جئنا بأبياتٍ لَدَيكَ سخيفةٍ / لَوْلاكَ ما عَمِرتْ لَهُنَّ منازِلُ
شامِيَّةٌ نَقَصَت معانيها وإنْ / أهدى بها في اللفظِ بحرٌ كاملُ
ما أكثَرَ الشُّعرَاءَ حينَ تَعُدُّهم / سَرْداً ولكنَّ الفُحولَ قلائلُ
لا تجزَعي يا نفسِ من حُكم الرَّدَى
لا تجزَعي يا نفسِ من حُكم الرَّدَى / إن كانَ ما لا بُدَّ منهُ ولا فِدَى
لا خيرَ في هذي الحياةِ فإنّها / تَزدادُ سُوءاً كُلَّما طالَ المَدَى
سُحقاً لها من سَكرةٍ لا تَنجلِي / إلاّ وحادي البينِ فينا قد حَدا
حُلمٌ يُسَرُّ بهِ الفَتَى في نَومِهِ / جهلاً ويَضحكُ حينَ يَذكرُهُ غدا
هيهاتِ ليسَ مُهَّذبٌ بينَ الوَرَى / زاغ الحكيمُ ومَنْ بِحكمتهِ اقتَدَى
لا يَصرفُ الإنسانُ قيمةَ دِرهَمٍ / عَبَثاً ويَصرِفُ عُمرَهُ الغالي سُدَى
نَسعَى لنمتلِكَ الحُطامَ لغيرنا / من قومِنا ولَقد يكونُ منَ العِدَى
ومنَ العجائِب أن يقومَ خطيبُنا / يَهدِي العِبادَ بحيثُ ضَلَّ فما اهتَدَى
قد شابتِ الدُنيا وشابَ زَمانُها / مَعها وظَلَّ الموتُ فيها أمرَدا
سَيفٌ على طولِ المَدَى يَفرِي ولا / يَنبو ولا يَشكو الفُلولَ ولا الصَدا
والعيشُ بعدَ الموتِ في دارِ البَقا / لا قبلَهُ فالموتُ يُحسبُ مَولِدا
والموتُ يختار النَّفيسَ لنفسِهِ / مِنَّا كما نختارُ نحنُ فما اعتَدَى
قد نالَ مِنَّا دُرَّةً مكنونةً / كانت لبَهجتِها الدَراري حُسَّدا
كَنْزٌ ذَخرناهُ لنا فاغتالَهُ / لِصُّ المنيةِ خاطفاً مُتَمرِّدا
هذا شَقيقُ الرُّوح فَارَقَ في الحَشَا / بيتاً له قد صارَ شطراً مُفْردا
ليلي لوَحشتهِ طويلٌ أسودٌ / ولَوِ استَطَعتُ جعلتُ صحبي أسوَدا
أسفي على النَقَّاشِ نُخبةِ عصرِهِ / في كلِّ فنٍّ مُطلقاً ومُقيَّدا
أسفي على غُصنِ النَقا أسفي على / بدرِ الدُّجى أسَفي على بحرِ النَّدَى
نُوحي عليهِ يا حَماماتِ اللِوَى / مَعنَا وسَكِّتْنَ الهَزارَ إذا شَدا
وابكي عليه يا غماماتِ الضُّحَى / عنَّا فإنَّ الدَّمعَ منَّا اُستُنفِدا
نوحي عليه أيُّها الدَّارُ التِّي / كانتْ ببهَجتهِ تنادي مَعْبَدا
نُوحي عليهِ أيُّها الكُتُبُ التِّي / كانت أعزَّ جليسهِ حيثُ انتَدَى
تَسقِي ببيروتَ المدامعُ دارَهُ / وثَراهُ في تَرْسيسَ يَسقيهِ النَّدَى
خافت عليهِ أن يُبارحَ وَجْهها / فَتبطَّنتْهُ بقلبها مُتَوطِّدا
يا أيُّها الذَّهَبُ المُصفَّى جوهراً / مالي رأيتُكَ في الثَّرى مُتَرَمِّدا
ياأيها الحجرُ الكريمُ المُصطفى / مالي رأيتك صرت عظْماً أجردا
يا أيُّها السَّيفُ الصَّقيلُ المُنتضَى / مالي رأيتُكَ في تُرابٍ مُغمَدا
أرثيكَ ثُمَّ أراكَ تطلُبُ فوقَ ما / أرثي فأغتَرِمُ الرِّثاءَ مُجدَّدا
منا السَّلامُ عليكَ لكنْ يا تُرَى / هل مَن يُبلِّغُكَ السَّلامَ مُرَدَّدا
هل تسمَعُ الدَّاعي إليك مُلبِّياً / أم يستجيبُ صُراخَهُ رَجْعُ الصَّدَى
نبكي عليكَ ولو رأيتَ بُكاءَنا / لَبَكيتَ أنتَ لأجلِنا مُتنهِّدا
لم تترُكِ الأحزانُ قلباً سالماً / منَّا فكيف نُطيقُ أن نَتَجلَّدا
مارونُ خُذْ بيدي فإني ساقطٌ / إن كانَ أبقى الدَّهرُ منكَ لنا يدا
ما كانَ ضَرَّكَ لو سمحتَ بنَظْرةٍ / قبلَ الفِراقِ بها أكونُ مُزَوَّدا
هَلاّ بعثتَ مُبرِّداً أشواقنا / برِسالةٍ نُرْوي برُؤْيتها الصَّدَى
مالي رأيتُكَ لا تقومُ بمَوعِدٍ / ولقد عَهِدتُكَ ليس تُخلِفُ مَوعِدا
قد كنتُ أنتَظِرُ المُبشِّرَ باللِقا / فإذا بناعِيكَ المُبكِّر قد غَدا
يا وَيحَ قلبي هل تَعودُ إلى الحِمى / هيهاتِ ليس العَودُ عندكَ أحمَدا
مَن كان يبغي أن يراكَ فقُلْ لهُ / مهلاً فإنَّك في الطَّريقِ على هُدَى
إن كُنتَ عِفْتَ اليومَ جيرتَنا فقد / جاوَرتَ رَبَّكَ في عُلاهُ سَرْمَدا
أو غِبتَ عن نَظَرٍ فقد خلَّفتَ بالتْ / تَأْريخِ ذِكراً في القُلوبِ مُخلَّدا
نادى مُنادِي البيِنِ حيَّ على السُّرَى
نادى مُنادِي البيِنِ حيَّ على السُّرَى / فتَنَّبهوا يا غافلينَ مِنَ الكَرَى
سَفَرٌ طويلٌ شاسعٌ فتَزَوَّدوا / زاداً يُبلِّغُكمُ إلى وادي القُرى
هذَا هُوَ الحَقُّ اليَقينُ فما لكم / تَلهُونَ عنهُ كالحديثِ المُفتَرَى
كم ترقُدونَ وعينُهُ سَهرَانةٌ / ولَكَمْ تَراكُم مُقلتاهُ ولا يُرَى
يَخشَى الفَتَى من حيثُ يَدرِي نَكبةً / وتُصيبُهُ من حيثُ لم يكُ قد دَرَى
يَبغِي الفِرارَ من المَنيِّةِ جاهداً / وإلى المنيَّةِ كلَّ يومٍ قد جَرى
قُلْ للذي رامَ الفَخارَ بنفسِهِ / أنتَ الثَّرَى ومنَ الثَّرَى وإلى الثَّرَى
مَن يَفتخِرْ فبصالحِ العَمل الذي / كُنَّا نَعُدُّ لهُ الرَّئيسَ الأكبَرا
السَيِّدُ الحبرُ المُعظَّمُ شأنُهُ / ومَكانُهُ المرفوعُ في أعلَى الذُّرَى
العالِمُ العَلَمُ الإناءُ المُصطَفَى / والكاشفُ الخَطبَ الشَّديد إذا اعتَرَى
ذاك المُكلِّلُ تاجُ قَيصَرَ رأسَهُ / شَرَفاً وليسَ عليهِ دَولةُ قَيصَرا
ذاك الذي بيمينهِ قامَتْ عصَا / مُوسَى التِّي منها الجَمادُ تَفجَّرا
ذاكَ الذي شَقَّ القلوبَ فكادَ أنْ / يُجري منَ الأجفانِ بحراً أحمَرا
ذاكَ الذي أبكى هياكلَ بِيعةٍ / قد كانَ يُضحِكُها وأبكى المِنبَرا
ذو الهِمَّةِ العُليا التي أضحَى بها / فَرداً يَقودُ إلى النوائبِ عسكَرا
وخليفةُ الرُّسُلِ الذي هيهاتِ أن / يُؤَتى لهُ بخليفةٍ بينَ الوَرَى
المُهتدِي الهادي الأمينُ لشَعبِهِ / كالماءِ يجرِي طاهراً ومُطَهِّرَا
ذو الغَيرةِ العُظمَى التي اتَّقَدَتَ بهِ / مثلَ اللَظَى بينَ الهَشِيمِ تَسعَّرا
دَقَّت معَانيهِ ورَقَّ نسيمُها / وسَمَت على أوهامِنا أنْ تُحصَرا
فإذا طلَبناها فقد رُمْنا السُّهَى / وإذا ذَكرناها فَتقْنا العَنْبَرا
رُكنٌ هَوَى بدِيارِ مِصرَ فأوشَكَتْ / منهُ رُبى لُبنانَ أن تَتَفطَّرا
ضَجَّت بهِ الإسكنْدَريَّةُ هَيبةً / فكأنَّ فوقَ سريرهِ الإسكَنْدَرا
يا أيُّها الطُورُ الذي عَبِثَتْ بهِ / أيدي المَنُونِ فمالَ محلولَ العُرَى
غَدَرَت بك الأيَّامُ مظلوماً كما / تُدعى فألَقَتْ في التُّرابِ الجوهرا
يجري القَضاءُ بما أرادَ ولم يكن / مِمَّنْ يُراعِي ما نُريدُ إذا جرى
كأسٌ إذا فاتَ النديمَ مُقدَّماً / ذَكَرَ العُهودَ فلم يَفُتْهُ مُؤَخرّا
هذا فِراقُ الدَّهرِ لا نُحصِي لهُ / عَدَدَ السِنينَ ولا نَعُدُّ الأشُهرا
من أجلِهِ خُلِقَ الزَمانُ وأهلُهُ / وكِلاهُما يَمضي عليهِ كما تَرَى
غُضِّي جُفونَكِ يا عُيُونَ النَرْجِسِ
غُضِّي جُفونَكِ يا عُيُونَ النَرْجِسِ / إنَّ المَلاحةَ للعُيُونِ النُعَّسِ
لا تَنظُري وَجْهَ الحبيبِ فطالما / فَتَنَ العُيونَ مُنكِّساً للأرْؤُسِ
إنْ كان هذا الوَردُ يحكي خَدَّهُ / فلِمَ استظَلَّ بكُمِّهِ في المَجلِسِ
وإذا ادَّعَتْ سُمرُ الرِّماحِ قَوامَهُ / صَدَقَتْ ولكن أينَ لِينُ المَلمَسِ
رِشأٌ تجلَّى في رفيعٍ أطلسٍ / كالبدرِ يَطلُعُ في الرَقيعِ الأطلَسِ
حَسَدَتْ مَراشِفَهُ السُلافةُ واستَحى / من حُسنِ بَهْجتِهِ طِرازُ السُندُسِ
نَسَجَ العِذارُ على صفائحِ خَدِّهِ / زَرَداً يَقيهِ نواظرَ المُتَفرِّسِ
وذَكا اللهيبُ بهِ فقال لثَغْرهِ / لا يَطمَعِ الظامي ببَرْدِ الأكؤُسِ
يا مَن أرَتني وَجنتاهُ صَحيفةً / كانت عليَّ صحيفةَ المُتَلمِّسِ
أنكرتُ صَدّاً من حبيبٍ مُوحِشٍ / فأصَبتُ رَدّاً من حبيبٍ مُؤْنِسِ
عاد الحبيبُ إلى الدِّيارِ عَشِيةً / تَرَكَ الحِجارةَ كالجواري الكُنَّسِ
ألقى عليها فضلَ بَهْجتِهِ كما / تَغشَى الجليسَ بفَضْلِ ذَيل البُرْنُسِ
فَرْعٌ كريمٌ يُستطابُ وإنما / طِيبُ الفُروعِ بحَسْبِ طيبِ المَغْرَسِ
يزهو القريضُ بهِ ويحلو نظمُهُ / فيروحُ بين مُشطَّرٍ ومُخمَّسِ
شُغِفَت بهِ العِلَلُ التي قد شاهدَت / شَغَفَ القُلوبِ بهِ وحُبَّ الأنفُسِ
لو كانَ يَستْشفِي العليلُ بنفسِهِ / أغناهُ لُطفُ صِفاتِهِ عن رُوفُسِ
هذا ابنُ مُوسَى الخالِدِ الذِّكر الذي / في كلِّ سِفرٍ ذكرُهُ لم يُطَمسِ
أثرٌ تَيَمَّنا بهِ من بعدِهِ / كالبعضِ من آثارِ بيتِ المَقدِسِ
يا أيُّها الرجُلُ السليمُ فُؤَادُهُ / أنتَ السليمُ فلم تَزلْ في مَحْرَسِ
لا زلتَ مُعجزةَ لكلِّ كريهةٍ / مثلَ الكلام على لِسانِ الأخرَسِ
قِفْ فوقَ رابيةٍ تُجاهَ المسِجِدِ
قِفْ فوقَ رابيةٍ تُجاهَ المسِجِدِ / وقُلِ السَّلامُ على ضَريحِ مُحَمَّدِ
واتْلُ الفَواتِحَ فوقَ تُربتهِ التي / حُفَّت بأملاكٍ تَرُوحُ وتَغتَدي
هذا صَفِيُّ اللهِ خيرُ عِبادِهِ / وأبَرُّ كُلِّ مُوَحِّدٍ مُتَعبِدِ
ما زالَ يسعَى كُلَّ يومٍ باحثاً / في يومِهِ عَمَّا يُحاسَبُ في غَدِ
عَلَمٌ من الأقطابِ أصبَحَ مُفرداً / في العالمينَ بفَضلِهِ المُتَعدِّدِ
قد صَحَّ وَضعُ الحُوتِ في لَقَبٍ لهُ / إذ خاضَ في بحر العُلومِ المُزبِدِ
صافي السريرةِ مُخلِصٌ لله في / عَمَلٍ سليمُ القلبِ عَذْبُ المَوْرِدِ
مُتوَاضعٌ فوقَ الكَرامةِ كُلَّما / قامتْ عُلاهُ يقولُ للنفس اقعْدي
لم تُغْوِهِ الدُّنيا فكانَ نَصيبُهُ / نَصَبَ العِبادةِ لا نِصابَ العَسْجَدِ
حَزِنَ القريبُ عليهِ مُلتاعاً كما / حَزِنَ البعيدُ على الحديث المُسنَدِ
لم تبقَ عينٌ في البِلادِ عليهِ لم / تَدمَعْ ولا شَفَةٌ لهُ لم تَحْمَدِ
بيروتُ نُوُحي في الأصائِلِ والضُّحَى / حُزناً عليهِ ولا أقولُ تَجَلَّدي
قد غابَ عنكِ وفيكِ بدرٌ مُشرِقٌ / بدرُ التَمامِ إزاءَهُ كالفَرقَدِ
بدرٌ يدورُ على العُيون فتنجلي / أبصارُها وعلى القُلوب فتَهتَدي
ما عِيبَ قَطُّ بريبةٍ إذ لم يزَلْ / طُولَ الحَياةِ لنفسِهِ بالمَرْصَدِ
يُشكَى إليه ليسَ منهُ فإنَّهُ / عن كل سُوءٍ كانَ مكفوفَ اليدِ
يا أيُّها المَيْتُ الذي يبقى لهُ / في أرضنا ذِكرٌ ليومِ المَوْعدِ
قد مُتَّ في الدُنيا كأنَّكَ لم تَمُتْ / والبعضُ ماتَ كأنَّهُ لم يُولَدِ
لِمَنِ الهوادِجُ في عَراءِ الهَوْجَلِ
لِمَنِ الهوادِجُ في عَراءِ الهَوْجَلِ / تحتَ القِبابِ تَشُقُّ ذَيلَ القَسطَلِ
يَتَتَّبعُ الآثارَ قلبي خَلفَها / فلَوِ انثَنيْنَ وَطِئنَهُ بالأرجُلِ
أبراجُ أقمارٍ تَغيبُ نَهارَها / فيها وتَطلعُ في الظَّلامِ المُقبلِ
حَمّلننَي ما لو تَحَمَّلَ بَعضَهُ / حُمْرُ النِّياقِ لمَا نَهَضْنَ بمَحمَلِ
لي ذاتُ خِدرٍ بَينَهُنَّ أنا لَها / وأوَدُّ لو رَضِيَتْ فقالتْ أنتَ لي
قامَتْ تَصُولُ منَ الرِّماحِ بأبيضٍ / ومِنَ السُّيوفِ بأسوَدٍ لم يُصقَلِ
ولَقد أقُولُ لِمَنْ أقامَ بمَرْصَدٍ / ما كانَ ضَرَّكَ لو أقَمْتَ بمَعْزِلِ
أقصِرْ عَناكَ وحيثُ حَلَّتْ نِعمةُ الرْ / رُوحِ الأمينِ على مُحمَّدَ فانزِلِ
زُرْ ذلكُ الرَبْعَ الخصيبَ وقِفْ بهِ / يوماً وُقوفَ الآملِ المُتأمِّلِ
يومٌ يَحقُّ لهُ التَذَكُّرُ بعدَ ما / طالَ المَدَى لا يومُ دارةِ جُلجُلِ
هذا ابنُ رِسلانَ التَنُوخِيُّ الذي / هُوَ في السَرَاةِ منَ الطِرازِ الأوَّلِ
هذا الذي تُروَى مآثِرُهُ كما / يُروى الحديثُ عن النبيِّ المُرسَلِ
مَولىً يَظَلُّ السَّعدُ يَخدُمُ بابَهُ / ويَسيرُ حولَ رِكابهِ في الجَحفَلِ
غَلَبَ الطَّوالِعَ نَجمُهُ فتضاءلت / كالشَّمسِ تُزري بالسِّماكِ الأعزَلِ
فإذا مَشَى تَمشي المواكبُ خَلفَهُ / وإذا استَقَرَّ يَحُلُّ صَدرَ المَحفِلِ
وإذا تَكلَّمَ يُنصِتونَ كأنَّهُ / يدعو بآياتِ الكتابِ المُنزَلِ
مُتوَقِّدُ الأفكارِ لو بَرَزَت لنا / أغنَتْ عنِ المِصباحِ بالصُّبحِ الجَلي
يَرمِي صُروفَ الحادثاتِ بأسهُمٍ / منْ لحظِهِ فيُصِيبُ عينَ المَقتَلِ
ما زالَ يفعَلُ ما يَقولُ وإنني / في المدحِ لَستُ أقولُ ما لم يَفعَلِ
ما زلتُ كالرَّواي الأمينِ ورُبَّما / غَلَبَ الهُيامُ فكنُتُ كالمتُغَزِّلِ
بمُحمَّدٍ وأبي مُحمَّدَ أشرَقَتْ / دارُ الإمارةِ كالثُرَيَّا تَنْجَلي
فَرعٌ نشا من خيرِ أصلٍ طاهرٍ / والشهدُ لا يأتي بماءِ الحَنظَلِ
قابلتُهُ فإذا غُلامٌ أمرَدٌ / وخَبَرتُهُ فإذا بشيخٍ أكمَلِ
يَروي حديثَ الأوَّلينَ كأنَّهُ / من عهدِ طَسْمٍ شاهدٌ لم يَغفُلِ
أبصَرتُ مِن ألطافِهِ ما لم يَسعْ / لفظُ الرُواةِ فكانَ ما لم يُنقَلِ
ورأيتُ سِرَّ أبيهِ فيهِ مُصوَّراً / كالشَّخصِ يبدو مِن ورَاءِ سَجنجَلِ
إن لم تُصِبْ قدَمِي الحُلولَ بدارِهِ / فالقلبُ فيها نازلٌ لم يَرحلِ
هيَ أفضَلُ الأوطانِ عندي رُتبةً / ولذاكَ قد خَصَّصتُها بالأفضَلِ
دارٌ بها نَيلُ الفوائدِ والمُنَى / ولها العَوائِدُ في الجميلِ الأجمَلِ
لا غَيَّرَ الرحمنُ عادَتَهُ على / من لم يُغَيِّرْ عادةً لُمؤمِّلِ
أعَرَفتَ رَسمَ الدارِ أم لم تَعرِفِ
أعَرَفتَ رَسمَ الدارِ أم لم تَعرِفِ / بينَ العَقيقِ وبينَ دارَةِ رَفْرَفِ
دارٌ عَهِدناها مَراتعَ للظِّبا / فغَدَتْ مَسارحَ للضواري الخُطَّفِ
خَطَّتْ صَفائِحَها الرِّياحُ فنَقَّطت / أيدي السَحائبِ غُفْلَ تلكَ الأحرُفِ
فترَى الرُسومَ تَلوحُ حولَ خُطوطِها / مِثلَ الجَداولِ حولَ خَطِّ المُصحَفِ
ولقد وَقَفتُ على المَنازلِ وَقفةً / نَصَبَتْ لِعَيني هَوَلَ يومِ المَوقِفِ
نادَيتُها كالمُستجيرِ وإنَّما / ماذا يفُيدُ نِداءُ قاعٍ صَفصَفِ
يا أيُّها الرَّكبُ الذينَ تَحَمَّلوا / هل كانَ يُثقِلُكم فُؤادُ المُدنَفِ
تَبِعَ الرِّكابَ فما استَطاعَ لحاقَها / وبَغَى الرُّجوعَ فلم يجِدْ منْ مَصْرِفِ
خَلَتِ الدِّيارُ فلا كَرامةَ عِندَها / تُرجَى ولا ابنُ كَرَامةٍ للمُعتَفي
هَيهاتِ إنَّ ابنَ الكَرامةِ حَلَّ في / دارِ الخِلافةِ بالمَقامِ الأشرَفِ
سُبحانَ ذي العَرشِ المَجيدِ فقد بَدَتْ / في شَخصِ إبراهيمَ صورةُ يُوسُفِ
أَصلَى بنارِ فِراقِهِ قلبي ولا / بَرْدٌ هُناكَ ولا سَلامَ فتَنطفِي
ذاك الكريمُ ابنُ الكِرامِ ومَنْ لهُ الذْ / ذِكرُ الشَهيرُ ومنْ لهُ اللُطفُ الخَفِي
وَرِثَ الكَرامةَ عن أبيهِ وجَدِّهِ / لكنَّهُ بتَليدِها لا يكتفِي
شهدَتْ له الأتراكُ بالفضلِ الذي / شهدَتْ به الأعرابُ دون تكلُّفِ
قد نالَ ما هُوَ أهلُ ما هُوَ فَوقَهُ / فانظُرْ لأيِّهِما الهَناءُ وأنصِفِ
سِمَةٌ تليقُ بهِ فنِعمَ المُصطَفى / منَّ الكريمُ بها فنِعمَ المُصطَفِي
يا راحلاً لو تَستطِيعُ دِيارُهُ / رَحَلَتْ إليهِ بحيثُ لم تَتَوقَّفِ
إن كُنتَ أنتَ صَرَفْتَ وَجهَكَ نائياً / عَنّا فذِكرُكَ عِندَنا لم يُصرفِ
منّي إليك رِسالةٌ في طَيِّها / شَوقُ الشَّجِي وتَحيَّةُ الخِلِّ الوَفِي
أشحَنتُها كالفلكِ في فُلكٍ على / بحرٍ إلى بحرٍ لذيذِ المَرشَفِ
عَلِمَتْ بأنَّ القلبَ نحوَكَ قد مَضَى / فسعَتْ على آثارِهِ كالمُقتَفِي
يا راحلينَ إلى الدِّيارِ الباقيَهْ
يا راحلينَ إلى الدِّيارِ الباقيَهْ / لا تَعمُروا دارَ الخَرابِ الفانيَهْ
تِلكَ الدِيارُ هي المُقامُ وإنَّما / هذي الدِّيارُ مَراحلٌ في الباديَهْ
ويحْي مَتَى تُصْحُونَ من سُكرٍ بلا / خمرٍ ومن نومٍ بعينٍ ساهيَهْ
إن كانَ غَرَّكُمُ الغُرورُ بأمرِكم / فتذَكَّروا أمرَ القُرونِ الخاليَهْ
يا سائراً والموتُ مِلءُ طَرِيقِهِ / احذَرْ فأنتَ على شَفيرِ الهاويَهْ
واعلَمْ بأنَّكَ ليس تخطو خَطْوةً / مأنونةً مِن أنْ تَكُونَ القاضيَهْ
يلهو الجَهُولُ عنِ المَنيَّةِ زاعماً / أنَّ المنيَّةَ عنهُ أمسَتْ لاهيَهْ
النَّاسُ أمثالُ الفرائسِ حَولَها / رُسُلُ المنيَّةِ كالذِّئابِ الضاريَهْ
يَتَجَنَّبُ المَرْءُ البَلاءَ وطالما / فاتَتْهُ داهيةٌ فصادَفَ داهيَهْ
وإذا تَعافى مُدنَفٌ من عِلَّةٍ / فعَليهِ أُخرى ليسَ منها عافيَهْ
أشكُو مُصابَكَ يا شَكوراً لم تَكُنْ / يوماً لهُ في الدَّهرِ نفسٌ شاكيَهْ
يا طائعاً أمرَ الإلهِ وزاجراً / عن تَرْكِ طاعتِهِ النُّفوسَ العاصيَهْ
يا صاحبَ القلبِ السَّليمِ كأنَّهُ / قد صِيغَ من عَذْبِ المياهِ الصافيَهْ
والصادِقَ الكَلِمِ التي لسَدادِها / كانت تَقودُ إلى الهُدَى بالناصيَهْ
والنَّاصِحَ البَرَّ الوَدُودَ المُستَوِي / قولاً وفِعلاً خُفْيةً وعَلانَيهْ
واللازمَ التهذيبِ في أعمالهِ / مثلَ التزامِ الشِّعرِ حرفَ القافيَهْ
لَمَّا دَعاكَ اللهُ من فِردَوْسِهِ / لَبيَّتَ مُمتثِلاً بنفسٍ راضيَهْ
ما كانَ ذاك العَزمُ إلاّ لَيلةً / حتى نَزَلتَ بِدارِهِ في الثانيَهْ
سَكَبَ الإلهُ عليكَ رَحمتَهُ كما / كانت مَراحِمُ قلبكَ المُتَواليَهْ
لم تبكِ عينٌ منكَ قَطُّ بسَوءَةٍ / وعليكَ صارت كلُّ عينٍ باكيَهْ
جَبَلٌ رفيعٌ هَزَّهُ ريحُ القَضا / والرِّيحُ يَعصِفُ بالجِبالِ العاليَهْ
ريحٌ توهَّمَ فيهِ لوناً أصفَرا / مَن ظنَّ فيهِ لَهيبَ نارٍ حاميَهْ
هُوَ زُبدةُ الأمراضِ في جُمهورِها / مثلَ الخُلاصةِ من بيوتٍ الكافيَهْ
فلَو اتَّخذْتَ إليهِ في أفعالِهِ / نَسَباً لكانَ البحرَ وَهْيَ الساقيَهْ
تَبّاً لها من ضَربةٍ فَتَّاكةٍ / كُثُرَتْ لوَقْعتها الشِّجاجُ الداميَهْ
فَتَكَتْ بهِ ولعلَّها اعتذَرَتْ لنا / إذ لم تَكُنْ وَقَعَتْ برأسِ الزاويَهْ
أنتَ المُرادُ ولا أُسمِّي غُنيةً / منِّي عَنِ اسمِكَ بالصِّفاتِ الغانيَهْ
وإذا سَلِمتَ فأنتَ شَمسٌ قد كَفَتْ / عن ضَوءِ كلِّ الأنجُمِ المُتَواريَهْ

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025