المجموع : 30
هذا الرحيقُ فأين كأسُ الشاعِرِ
هذا الرحيقُ فأين كأسُ الشاعِرِ / قد أوحشَ الأحبابَ ليلُ السامرِ
لِمَ يا حياةُ وقد أحلَّكِ قلبَهُ / لَمْ تؤثريهِ هوى المحبِّ الشاكرِ
أخليتِ منه يديكِ حين حلاهما / من ذلك الأدب الرفيع الباهرِ
لو عاشَ زادكِ من غرائب فنّهِ / ما لا يُشَبّهُ حسنهُ بنظائرِ
وظَفِرتِ من تمثيله وغنائهِ / بأدقّ مثّالٍ وأرخمِ طائرِ
أملٌ محا المقدارُ طيفَ خيالهِ / وتخطّفَتْهُ يد الزمان الجائرِ
وأصار فرحتنا بمُقْبلِ يومهِ / مأساةَ مَيتٍ في الشباب الباكرِ
متوسّداً شوكَ الطريق مُلَثَّماً / بجراحِهِ مثل الشهيد الطاهرِ
رُدُّوا المراثي يا رفاق شبابهِ / لن تُطفئوا بالدمع لوعةَ ذاكرِ
هذا فتىً نظم الشبابَ وصاغَهُ / وحياً تحدّرَ من أرقِّ مشاعرِ
جعل الثلاثين القِصارَ مدىً له / والخلدَ غايةَ عمرهِ المتقاصرِ
غَنُّوهُ بالشِّعْرِ الذي صَدَحتْ بهِ / أشواقُهُ لحنَ الحبيب الزائرِ
غَنُّوهُ بالشِّعْرِ الذي خفقتْ بهِ / أنفاسُهُ لحنَ الحبيب الهاجرِ
تلك القوافي الشارداتُ حُشاشةٌ / ذابت على وَتَرِ المغَنِّي السَّاحرِ
فتسمّعوا أصداءها في موكب / للموت مُحتشدِ الفواجع زاخرِ
مَشَتِ الطبيعةُ فيه بين جداولٍ / خُرسٍ وأدواحٍ هناك حواسرِ
ولو استطاعت نضّدت أوراقها / كفناً له والنعشَ غضَّ أزاهرِ
وَدَعَت سواجع طيرها فتألّقت / أمماً تخِفّ إلى وداع الشاعرِ
يا ابن الخيال تساءلَت عنكَ الذُّرى / والشُّهبُ بين خوافقٍ وزواهرِ
وشواطئٌ محجوبةٌ شارفتَها / فوق العواصف والخضمِّ الهادرِ
أيُرى جناحُكَ في السماء كعهده / متوشّحاً فَلقَ الصباح الساغرِ
أيُرى شراعك في العباب كعهده / مُتقلّداً حَلَقَ السحاب الماطرِ
هدأ الصراعُ وكفّ عن غمراته / من عاش في الدنيا بروحِ مغامرِ
وطوى البلى إلَّا قصيدةَ شاعر / أبقى من المثلِ الشرودِ السائرِ
شعرٌ تمثَّلَ كلَّ حسٍّ مُرهَفٍ / لا رصف ألفاظٍ ورصَّ خواطرِ
ودُمىً مُفضَّحة الطلاءِ كأنها / خُشُبُ المسارح مُوّهَتْ بستائرِ
تتمثّلُ التاريخَ في أزيائهِ / بين المصفّقِ وابتسام السّاخرِ
من صُنعِ نظّامينَ جَهدُ خيالهم / مَسحُ الزجاج من الغبار الثائرِ
مُتخلفين عن الزمان كأنهم / أشباحُ كهفٍ أو ظلالُ مساحرِ
يا قومُ إن الشِّعرَ روحانيةٌ / وذكاء قلبٍ في توقّد خاطرِ
نظر الضريرُ به فأدرك فوق ما / لمست يَدُ الآسي وعينُ الناظرِ
مُتَعرّفاً صُوَرَ الخلائق سابراً / أعماقَ أرواحٍ وَغَورَ سرائرِ
هذي عروسُ الزَّنجِ ليلتهُ التي / أومَتْ بكفٍّ حُلّيَت بأساورِ
والنَّجمُ أشواقٌ فمهجة عاشقٍ / وذراعُ مُعتنِقٍ ووجنةُ عاصرِ
الشِّعرُ موسيقى الحياة مُوَقَّعاً / مُتدَفِّقاً من كلِّ عِرقٍ فائرِ
عشاقُ بابلَ لو سُقوا برحيقه / لم يذكروها بالرحيقِ الساكرِ
وتنَصَّتَت أقداحُهم لمغردٍ / مَرِحٍ يُصَفّقُ بالبيان الساحرِ
أو كان كلَّمَ بُرجَها بلسانه / والقومُ شتّى ألسنٍ وحناجرِ
لم نَشكُ من عِوجِ اللسان وَوُحّدت / لهجاتُ هذا العالم المتنافرِ
هل كُنْتَ بين الموت والميلادِ
هل كُنْتَ بين الموت والميلادِ / إلَّا حياةَ مآثرٍ وأيادي
وهل استطبتَ على الرفاهة والصِّبا / إلَّا نهارَ ضنىً وليلَ سُهادِ
وكفاحَ أَيامٍ وعَرْكَ شدائدٍ / بجميلِ صبر أو طويلِ جِهَادِ
مُتواضعاً مترفِّعاً ترقَى الذُّرى / في مثل صمتِ الكوكبِ الوقّادِ
يُلقي أشِعَّتهُ هُناكَ وههُنا / ويُضيء في الأغوارِ والأنجادِ
أهرَامُكَ المُثلى نتاجُ قرائحٍ / خلَّاقةٍ موصُولةِ الإِمدادِ
دُنيا من الفِكرِ الطليقِ وعالمٌ / رَحْبُ الجوانبِ شاسعُ الآمادِ
تهدِي الحَيَارى المُدْلجينَ كأنَّها / في شاطئِ الوادي مَنَارةُ هادي
قُمْ يا فتى الأهرامِ وانظر رفقةً / ينتظرون خُطاكَ في الميعادِ
ويُسائلون بِكَ العَشيَّ كدأبهم / هذا النديُّ فأين صدرُ النَّادي
يا لهفَ ما عَلموا بأنَّكَ مُزمِعٌ / سَفَرَ الحياةِ ورِحلةَ الآبادِ
يا لهفَ ما ظَفِروا كما عوَّدْتهم / عِندَ الودَاعِ بنظرةٍ وتنادي
حينَ الوفاءُ الجمُّ شيمَتُكَ التي / أسرَتْ قلوبَ أحبَّةٍ وأعادِي
دخلوا عَليك البيتَ جسماً ضارِعاً / مُتَفَرّداً والموتُ بالمرْصادِ
والفكرُ صحوٌ والجبينُ شُعاعَةٌ / ألَّاقةٌ والروحُ في إِيقادِ
والشمسُ بينَ سَحَابَتَينِ تدَجَّتا / رمَقٌ يُصارعُ حَيْنَهُ ويُرادي
في شاطئٍ قاني المياهِ كأنها / مصبُوغةٌ بدَمِ النهار الفَادي
هي صورةٌ لكَ والمساءُ مقاربٌ / والرُّوحُ ركبٌ والمنيةُ حادي
والقلبُ في كفِّ القضاءِ فراشةٌ / رفّافةٌ والعمر وشكَ نفَاد
عجباً أيشكو قلبَهُ من قلبه / كنزُ الرِّضى والخيرِ والأسعادِ
وتخونهُ الأنفاسُ وهو رحابةٌ / كم نفَّستْ عن أمّةٍ وبلادِ
وإذا أتى الأجلُ النفوسَ فلا تسَلْ / عَنْ صِحَّةِ الأرواحِ والأجسَادِ
أأبا بشارةَ لا يَرُعكَ بِعادُهُ / مصرُ اجتَبَتهُ فلا تُرَعْ ببعادِ
آثرتَها بهَواكَ يا لغرَامِها / هي مِصْرُ مَهدُ الموتِ والميلادِ
حفِظتْ لوَالداكَ الصنيعَ المجتبى / ورَعَتْ فتاةُ البرِّ في الأولادِ
ورأتْ نجيبكَ فاستفاض حنانُها / لسميِّه المرجوِّ في الأحفادِ
ذكرَتْ بيُتْمكَ يُتمَهُ فتفجَّرتْ / حُبّاً وقبَّلتِ الرجاءَ البادي
لبنانُ نازعها هواكَ وما أرى / لبنانَ إلَّا من ضفاف الوادي
الأرزُ فيهِ والنخيلُ كلاهُما / أعشاشُ حبٍّ أو خمائلُ شادي
أرضُ العروبةِ لا تُخومَ ولا صُوىً / ما مصرُ غيرُ الشّام أو بغدادِ
وأُخُوَّةٍ بالمسجدين وجيرةٍ / من آل طارقَ أو بني عبَّادِ
قسماً بأمساء النديِّ ومجلسٍ / متألقٍ بالرفقةِ الأمجادِ
وجمالِ أسحارٍ وطيبِ أصائلٍ / بالذِّكرياتِ روائحٍ وغَوَادي
ومحبَّةٍ للخيرِ صَفوُ مِزاجِها / مرضاةُ نفسٍ أو عزاءُ فُؤادِ
ألَّا استمعتَ إلى رفاقكَ ليلةً / والنارُ في مهجٍ وفي أكبادِ
جَمَدَ المدادُ على شبا أقلامهم / فصريرُها نوحٌ ولحنُ حدادِ
واحسرتا أيُّ الرثاء أصوغهُ / لوفاءِ حقِّ محبّتي وودادي
أرثيكَ للأُممِ التي شاطرْتَها / كُرَبَ الخطوبِ وفرحةَ الأعيادِ
وأذعتَ دعوتَها وجُزْتَ بصوتِها / في المغْرِبينِ شوامخَ الأطوادِ
ووصَلتَ بينَ قريبها وبعيدها / رَحِمَ العروبة أو عُهُودَ الضَّادِ
قم حدِّثِ القُرَّاءَ عما شِعتَهُ / في العالمِ المُتنافِرِ المُتعادي
وصفِ الممالكَ والشعوبَ كما ترى / ببرَاعَةِ الوصَّافةِ النقَّادِ
تطوي الغمائمَ والخضَارِمَ والثَّرى / وتجُولُ بين حَوَاضرٍ وبوادي
بفَطانةِ الصحفيِّ وهي بصيرَةٌ / تغزُو وتفتَح مُغلقَ الأسدادِ
يا رُبَّما نبأٌ أثارَ بوقعه / ما لا تُثيرُ مَلاحِمُ الأجنادِ
وهَدى قبيلاً أو أضلَّ جماعةً / لسبيلِ غيٍّ أو سبيلِ رشادِ
وا لهفَ نفسي كم تمنَّيتَ المُنى / يوم السيوف تقَرُّ في الأغمادِ
هل كنت تُبصِرُ منْ حضارة عصرها / إلا نثير حجارةٍ ورَمَادِ
إن السَّلامَ الحقَّ ما آثرتهُ / والأرضُ غرقى في دمٍ وسَوَادِ
والناسُ ما زالوا كما خلَّفتهُمْ / صرْعَى الهوى وفرائسَ الأحقادِ
قالتْ تُعاتبُني أراكَ مَنَعْتني
قالتْ تُعاتبُني أراكَ مَنَعْتني / من قطفِ هذي الوردة الصفراءِ
وبسحرِ هذا اللون كم غنَّيتَني / وهتفتَ بالشقراءِ والصهباءِ
قلتُ اغفري لي يا حبيبةُ نظرتي / إِني أعيدُ الحسنَ من أهوائي
أخشى ظنونَ الناس فيكِ وأتقي / سِمَةَ الضَّنى والغيرة الحمقاءِ
وأذود عَنْ عينيكِ ذكرى ليلةٍ / شابتْ ونجمٍ شاحبِ الأضواءِ
في لونِ خدَّيْكِ اقطِفِي ما شِئتِهِ / من زهرةٍ أو كوكبٍ وضّاءِ
قالتْ أتمنعني الذي أحببتُهُ / في نظرةٍ لكَ وادِّكارِ وفاءِ
في عرضِكَ الماضي ونبشِكَ ما ذوى / من ذكرياتِ شبيبةٍ هوجاءِ
وبسخرياتكَ بي وبسمتِكَ التي / تلقى بها المفضوحَ من إِغوائي
وشحوبِ وجهكَ إِن أرِقتَ صبابةً / حيرانَ بين قطيعةٍ ولقاءِ
لا السيفُ قَرَّ ولا المحارِبُ عادا
لا السيفُ قَرَّ ولا المحارِبُ عادا / وَيْحَ البشيرِ بأيِّ سلْمٍ نادى
الأرضُ من أجسادِ من قُتِلوا بها / تَجْني العذابَ وتُنْبِتُ الأحقادا
فاض السحابُ لها دَماً مذ شَيَّعت / شمسَ النهارِ فخالطتْهُ سوادا
رأتِ الحِدادَ به على أحيائها / أتُراهمو صَبَغوا السماءَ حِدادا
ودَّ الطُّغاةُ بكلِّ مطلَعِ كوكبٍ / لو أطفأوهُ وأسقطوهُ رَمادا
وتخوّفوا وَمْضَ الشَّهابِ إذا هوى / وَبُروقَ كلِّ غمامةٍ تتهادى
ولو أنَّهم وَصَلوا السماءَ بعِلْمِهم / ضَرَبوا على آفاقها الأسدادا
لولا لوامِعُ من نُهىً وبصائر / تغزو كُهوفاً أو تَؤُمُّ وهادا
لم يَرْقَ عَقْلٌ أو تَرِقُّ سريرةٌ / وقضى الوجودُ ضلالةً وفسادا
راعَ الطُّغاةَ شُعاعُهُ فتساءلوا / مَنْ نَصَّ هذا الكوكبَ الوقَّادا
إنْ تجهلوا فسلوا به آباءَكُم / أيامَ شَعَّ عدالَةً ورِغادا
هل أبصروا حُريَّةً إلَّا به / أو شيَّدوا لحضارةٍ أوْتادا
حَمَلَتْ سناهُ لهم يَدٌ عربيَّةٌ / تبني الشعوبَ وتنسجُ الآبادا
هي أُمَّةٌ بالأمس شادتْ دولةً / لا تعرفُ العِبْدانَ والأسيادا
جُرْتُمْ عليها ظالمين بعَدِّكم / وعدِيدِكم تتخايلون عَتَادا
ومَنَعْتُمُوها من مواهب أرضِها / ماءً به تجدُ الحياةَ وَزَادا
في المغرب الأقصى فتىً من نورِها / قدَحَتْ به كفُّ السماءِ زِنادا
سَلَّتهُ سيفاً كي يحرِّرَ قوْمَهُ / ويُزِيلَ عن أوطانِهِ استعبادَا
ما بالُكم ضِقْتُم به وحشَدْتُمُو / من دونه الأسيافَ والأجنادَا
أشعلتُمُوها ثورةً دمَوِيَّةً / لا تعرفونَ لنارِها إخمادَا
حتى إذا أوْهَى القتالُ جِلادَكم / ومضى أشدَّ بسالةً وجِلادَا
جئتمْ إِليهِ تُهادِنونَ سُيوفهُ / وسيوفُهُ لم تسكُنِ الأغمادَا
وكتبتمو عهداً بحدِّ سيوفكم / مزَّقتُمُوهُ ولم يجِفَّ مِدَادَا
الأهلُ أهْلُك يا أميرُ كما تَرَى / والدَّارُ دارُكَ قُبَّةً وعِمَادَا
أنّى نَزَلْت بمصرَ أو جاراتِها / جئتَ العُروبَةَ أُمَّةً وبلادَا
مَدَّتْ يَديْها واحتَوَتكَ بصدرها / أُمٌّ يَضمُّ حنانُها الأولادا
ولو استطاعت رَدَّ ما استودَعْتَها / ردَّتْ عليك المَهْدَ والميلادا
وأتَتكَ بالذِّكر الخوالِدِ طاقةً / كأجَلِّ ما جمعَ المحبُّ وهادى
ماذا لقِيتَ من الزمان بصخرةٍ / قاسَيتَ فيها غُرْبةً ووِحادَا
وبَلَوْتَ من صَلفِ الطُّغاةِ وعَسْفِهم / فيها الليالي والسنين شِدَادا
جعلوا البحارَ ومثلُهُنَّ جبالُها / سَدّاً عليك وأوسعوك بعادا
دعْهُم فأنتَ سَخِرْتَ من أحلامهم / وأطرتُهُنَّ مع الرياحِ بدادا
عشرين عاماً قد حَرمتَ عيونَهم / غُمْضَ الجفونِ فما عَرفنَ رُقادا
يَتَلفَّتُون وراءَ كلِّ جزيرةٍ / ويسائلون الموجَ والأطوادا
من أيِّ وادٍ موجةٌ هتفَتْ به / ومضى فحمَّلها السلامَ وعادا
لو أنصفوا قدرُوا بطولةَ فارسٍ / لبلادِهِ بدَم الحشاشة جادا
نادَى بأحرار الرجال فقرَّبوا / مُهجاً تموتُ وراءَه استشهادا
يدعو لحقٍّ أو لإِنسانيَّةٍ / تأبى السجونَ وتلعنُ الأصفادا
شيخَ الفوارِسِ حسبُ عيْنِك أن ترى / هذي الفتوح وهذه الأمجادا
الرِّيفُ هَبَّ منازلاً وقبائلاً / يدعو فتاهُ الباسلَ الذَّوَّادا
حَنَّ الحسامُ لقَبْضَتَيْكَ وحَمْحَمَتْ / خيلٌ تُقرِّبُ من يديك قِيادا
وعلى الصَّحَارَى من صَداكَ مَلاحِمٌ / تُشْجي النُّسورَ وتُطرِبُ الآسادا
أوحَتْ إلى العُرْبِ الحُداءَ وألهمتْ / فُرسانهم تحت الوغى الإِنشادا
عبدَ الكريم أنظُرْ حِيالك هل ترى / إلَّا صراعاً قائماً وجهادا
الشرق أجمَعهُ لواءٌ واحدٌ / نَظَمَ الصفوفَ وهيَّأ القُوَّادا
لم يتركِ السيفُ الجوابَ لسائلٍ / أو يَنْسَ من مُترقِّبٍ ميعادا
سالت حلوقُ الهاتفين دماًن وما / هزُّوا لطاغيةِ الشعوب وِسادا
فصُغِ البيانَ بِهِ وأَنْطِقْ حَدّهُ / يَسْمَعْ إِليكَ مكرَّراً ومُعادا
كَذَبَتْ مودَّاتُ الشِّفاه ولم أجدْ / رغم العداوة كالسيوف وِدادا
لهجَتْ قلوبٌ بالذي صَنَعَتْ يدٌ / شَدَّتْ لجُرْح المسلمين ضِمادا
حَملَتْ نَدَى مَلِكٍ ونخوة أُمَّةٍ / صانت بها شرفاً أَشمَّ تِلادا
وحَمَتْ عزيزاً لا يقِرُّ وأَمّنت / حُرّاً يقاسي الجورَ والإِبعادا
فادٍ من الغُرِّ الكُماةِ مجاهدٌ / تتنازعُ الآلامُ منه فؤادا
جارت عليه الحربُ ثم تعقَّبَتْ / في السّلْمِ تحت جَناحِهِ أكبادا
زُغْبٌ صِغارٌ مثل أفراخ القَطَا / وحرائرٌ بِتنَ السنين سُهادا
هو من رواسي المجد إِلا أنه / عَصَفَ الزمانُ بجانِبَيْهِ فمادا
رَجُلٌ رأى شرّاً ففادى قوْمَهُ / وأحسّ عاديَةً فهبّ ورادى
ظلموا هواهُ إذْ أحبّ بلادَهُ / ما كان ذنباً أنْ أَحبّ ففادى
رُدّوا على الوادي ربيعَ نهاره
رُدّوا على الوادي ربيعَ نهاره / آب الزعيمُ اليوم من أسفارِهِ
جاب البحارَ إليكمو حتى إذا / نصلَ الدُّجى ألقى عصا تسيارِهِ
هذا الذي قدر الإِلهُ حياتَه / ليُنَقِّل التاريخ في أداورِهِ
الأعزلُ المنفيُّ فارق قيدَه / ورمى بآسره وذلَّ إِسارِهِ
عجبا يُخافُ مطاردٌ بجزيرةٍ / ضرب الوجودُ بها وراءَ بحارِهِ
فيُجشَّم المنفى البعيدَ بصخرةٍ / في مائجٍ مُتَلَثّمٍ بخطارِهِ
تخشى أساطيلُ الغزاة عبوره / ويروع وحشَ البحرَ صمتُ قرارِهِ
سِيرٌ من الأمجاد لم يُسْمَعْ بها / حتى أُتِحْنَ فكنَّ من أخبارِهِ
تلك البطولةُ لم تكن يوماً ولم / يطلعْ بها زمنٌ على حُضَّارِهِ
قم حدِّثِ التاريخ غير مُكذَّبٍ / يا منْ غدا التاريخُ مِن آثارِهِ
أنت المصاولُ عن حماك فصِفْ لنا / حربَ الفدائيين من أنصارِهِ
والأرضُ كيف تَصُدُّ عن رحمائها / والكونُ كيف يضيق عن أحرارِهِ
والغاصبُ السَّفاحُ من أنيابه / يجري الدمُ القاني ومن أظفارِهِ
يا من شَدَوْتُمْ بالسلام رويدكم / داوودُ لمَّا يَشْدُ في مزمارِهِ
تحت الرِّماد وميضُ نارٍ فالدجى / والبرقُ بعضُ دخانه وشرارِهِ
رُدُّوا السلامَ إِلى الحوادث تشهدوا / أنَّ المآمنَ هن من أخطارِهِ
حمل البشيرُ قميصَهُ بيمينه / ودمُ الجنايةِ صارخٌ بيسارِهِ
هذا ضياءُ العدل بدّد ظلمهم / كالليل بدّدهُ الضُّحَى بمنارِهِ
سعدٌ أهلَّ به وسعدٌ جاءكم / بالحق أبلجَ في سماءِ ديارِهِ
فاستقبلوه كعهدكم وَتَخَيَّروا / لجبينه العالي مُضَفَّرَ غارِهِ
قالوا نُفِيت فهل نفى عنك الهوى / ظُلمٌ سُقِيتَ الأمس كأس عقارِهِ
لا تَلْحَ من كفروا بدعوتك التي / وضَحتْ وخلِّ أذى المسيءِ ودارِهِ
آثامُهم فَزِعَتْ بخالقهم فَدَعْ / للّه حكمَ اللّه في كفَّارِهِ
واللّه لو لمَسوا فؤادك لانثنوا / جَزِعينَ مما لامسوا من نارِهِ
ومحا سناهُ ظلام أنفسهم وما / حُمِّلْنَ من ذل النكوص وعارِهِ
الشعبُ مثل البحر إنْ يغضبْ فما / تقفِ السدودُ الشمُّ في تيَّارِهِ
ورجالُهُ الأبطالُ ويحَ رجاله / لم يهدأوا والظلمُ في تهدارِهِ
خاضوا الحتوفَ فَما انثنت عزماتُهم / عن قاهر الوادي وعن جبَّارِهِ
طلعوا على حِصْن الظلام فزحزحوا / أحجاره ومَشوا إِلى أغوارِهِ
قذفوا به غَضب السرائر فانظروا / للحصن يسقط في يديْ ثُوَّارِهِ
أمسى ورايات الجهاد خوافقٌ / حُمْرٌ مُنَشَّرةٌ على أسوارِهِ
هبَّ الكميُّ على النفير الصَّادح
هبَّ الكميُّ على النفير الصَّادح / مهلاً فديتُكَ ما الصباحُ بواضحِ
أيُّ الملاحم بين أبطال الوغى / فجِئَتكَ بالشوق الملحِّ البارحِ
فقضيتَ ليلكَ لا هدوءَ ولا كرىً / ووثبتَ في غسَقِ الظلام الجانِحِ
والشرقُ من خلف الجبالِ غمامةٌ / حمْراءُ تُرعَشُ في وميضٍ لامحِ
سَلَّتْ حرابَ البرق فوق سمائه / هوجاءُ تُنذر بالقضاءِ الجائحِ
هي صيحةُ الوطن الجريح وأمةٍ / هانت على سيفِ المغير الطامحِ
قَرَنَتْ بحظكَ حظَّها فتماسكتْ / ترعَى خُطاكَ على رُبىً وأباطحِ
في موكب الفادين مجد أُميَّة / بجوانح مشبوبة وجَوَارحِ
لو قِسْتهم بعدوِّهم وسلاحِهِ / أيقنتَ أنهمو فريسةُ جارحِ
الخائضونَ الفَجر بحر مصارع / السابحون على السَّعير اللافحِ
الناهضون على السيوف وتحتَها / شتَّى جَماجم في التراب طرائحِ
الرابضون على الحصونِ خرائباً / مُهَجاً تضرّم في حُطام صفائحِ
صرعى ولو فتَّشْتَ عن أجسادهم / أَلفيتَ ما أَلفيتَ غير جرائحِ
يا ميسلون شهدتِ أي روايةٍ / دمويةٍ ورأيت أيَّ مذابحِ
ووقفتِ مُثخَنَةَ الجراح بحومةٍ / ماجتْ بباغ في دمائكِ سابحِ
تتأملين دمشقَ يا لهوانها / ذاتُ الجلالة تحت سيف الفاتِحِ
جرَّت حَديد قيودها وتقدَّمتْ / شمَّاءَ من جلَّادها المتصايحِ
نسيَتْ أليم عذابها وتذكرتْ / في ميسلون دم الشهيد النازِحِ
من هبَّ في غسق الظلام يحوطها / بذراع مقتتلٍ وصدرِ مُكافِحِ
وتسمَّعتْ صوتاً فكان هتافُهُ / يا للحبيبِ من المحبِّ البائحِ
أُمَّاهُ خانتني المقادر فاغفري / قدَري وإن قلَّ الفداءُ فسامحي
فيحاءُ إن نصَّتْ حواليكِ القرى / أعلامَها وازَّينت بمصابحِ
وتواكب الفُرسان فيك وأقبلوا / بالغار بين عَصائبٍ ووشائحِ
وشدا الرعاةُ الملهمون وأغرقوا / أبهاءَ ليلكِ في خِضَمّ مفارحِ
أقبلتُ بين صفوفهم مُتَقَرِّباً / بأزاهري مترنماً بمدائحي
حيث الشهيدُ رنا لمطلع فجره / ورأى الغمائمَ في الفضاءِ الفاسح
وتَلفَّتتْ لكِ روحُهُ فتمثّلتْ / وجهَ البطولة في أرق ملامحِ
حيث الربى في ميسلون كأنما / تهفو إليهِ بزهرها المُتفاوحِ
وكأنما غسَلتْه بغداديةٌ / بدموع مَلْكٍ في ثَراكِ مراوِحِ
أسعى إِليه بكل ما جمعتْ يدي / وبكل ما ضُمّتْ عليه جوانحي
وهو الجدير بأن أُحَييَ باسمِهِ / في الشرق كلَّ مناضل ومنافحِ
من كلِّ حُرٍّ نافضٍ مما اقتنى / يَده ووهَّابِ الحشاشةِ مانحِ
أو كلِّ فادٍ بالحياة عشيرَهُ / لا القولِ في خُدَع الخيال السانِحِ
قُلْ للدعاة المحسنينَ ظَنونَهم / بالغرب ماذا في السَّراب لماتحِ
لا تُغرينّكمو وعودُ محالف / يطأ الممالك بادِّعاءِ مصالحِ
تمضي السنون وأنتمو من وعده / تَتَقلبون على ظهور أراجحِ
واللّه لو حسر القناعَ لراعكم / قَبرٌ أُعدَّ لكم وخَنْجَرُ ذابحِ
من كلّ مصاص الدماءِ مُنَوِّمٍ / يُدْعَى بمنقذِ أمةٍ ومُصالحِ
يا يوسف العظمات غرسُكَ لم يضِع / وجَناهُ أخلدُ من نتاج قرائحِ
قمْ لحظةً وانظرْ دمشق وقل لها / عاد الكمِيُّ مع النفير الصادحِ
ودعاك يا بنتَ العروبةِ فانهضي / واستقبلي الفجرَ الجديدَ وصافحي
رزءُ العروبةِ فيكَ والإِسلامِ
رزءُ العروبةِ فيكَ والإِسلامِ / رزءُ النُّهَى وفجيعةُ الأقلامِ
هو مأتمُ الأحرار في متوثّبٍ / بصفوفهم مستقتلٍ مقدامِ
أأنا المثاليين صوتُكَ لم يزل / في الشرق وحيَ براعةٍ وحسامِ
ونداءَ فادٍ تسأل الدنيا به / أصريعَ حربٍ أم شهيد سلامِ
لخلاص دارٍ أو فكاك عَشِيرةٍ / خُضْتَ الحياةَ كثيرةَ الآلامِ
واجتزتَ جِسْرَ العمر بين عواصف / هُوجٍ وموجٍ مُزْبدٍ مترامي
وشهرتها حرباً على مستعمر / مُتجبّرٍ أو غاصبٍ ظلَّامِ
تلقَى ببسمتك العريضةِ نارها / في موكب من ذائدين كرامِ
متفرِّقين على البعاد منازلاً / متجمِّعين على هوىً ووئامِ
كالبحر ماجَ وفي غواربهِ التَقى / سيلُ الرُّبَى وشوامخ الأعلامِ
وقفوا الحياة على الجهاد وقرَّبوا / دعَةَ النفوس وصحَّةَ الأجسامِ
إِرثُ الجدود الصيد أنت وهَبتَهُ / قلماً يصاول دونه ويحامي
وشبابَ مهدور الدماءِ مجاهد / في اللّه عَن عربٍ وعن إِسلامِ
الشاعرُ الغرِّيدُ نازحُ جَنّة / مَسْحُورةِ الأفنانِ والأكمامِ
أفياؤها ظُللُ الدهور وأرزها / أعلامُ آلهةٍ على آطامِ
قامت على جَبلٍ أشمّ سماؤه / مسرَى البيان ومسبحُ الإِلهامِ
تُهدِي إِليه بكل مغربِ كوكبٍ / أشواقَ نِضوى لوعة وغرامِ
أُمُّ تحنُّ إلى لقاءِ نجيبها / وأبٌ هو الوطن المشوق الظامي
يتساءَلان متى الإِيابُ ويومُهُ / يومُ الرحيل ولات حين مقامِ
مرَّتْ جنيفُ بخاطري فتمثَّلتْ / صُوَرُ الشهيد كأنهنَّ أمامي
متوحِّداً في غُرْبةٍ متوقِّداً / بصبابةٍ متفرِّداً بسقامِ
شيحٌ يدبُّ على عصاهُ وقلبُهُ / متوثِّبُ الآمال والأحلامِ
يطوي الثمانين الوضاءَ مَليئَةً / بمواكبٍ للذِّكريات ضخامِ
وجلائل للمأثرات مواثل / وجَحافل للحادثات جسامِ
هيهات ما أوهتْ قواه ولا ثَنَتْ / من خطوهِ عن غاية ومرامِ
هيهات ما نالتْ على إرهاقها / من قلبه في نَضْرَةٍ ووسامِ
هيهات ما شابتْ بِمُرِّ مذاقها / فيه حلاوةَ روحه البسَّامِ
طَلْقُ الجبين على نديِّ شمائل / كالفجر بين أشعةٍ وغَمَامِ
يا ابن الإمارة نافضاً من إِرثها / يَدَهُ لِنُصْرَةِ مبدأٍ وذمامِ
حين الغِنَى والجاهُ فتنةُ معشر / عن قومهم متخلفين نيامِ
صف كيف أبصرت الحياة وأنت في / عزِّ الملوكِ وهيبة الحكّامِ
ورأيتَ دنيا المالكين بعالم / متخوِّن متلوِّن هَدَّامِ
تومِي إليكَ قصورُهم وكأنها / عينٌ مقرَّحةٌ وقلبٌ دامي
ومشيتَ تُنذرُ والوغَى مُتَسَعِّرٌ / والأرض غرقى في دم وضِرامِ
في حومةٍ من قاهرين تربَّصوا / بالمضعفين منافذَ الأيامِ
عَنَتِ الشعوبُ لسيفهم فتألَّبوا / يتنازعون مصايرَ الأقوامِ
يأبى يَراعُك أن يُفارق راحةً / خُلِقَتْ لردِّ تحيّةٍ وسلامِ
بيضاءُ ملهَمةُ البنان مِزاجُها / فَيْضٌ من الأضواءِ والأنغامِ
أخذتْ خِناق الظلم فاسْتحذَى لها / وارتدَّ يستر وجهه بِلِثامِ
وَتَعَقَّبَتْهُ تهزُّ قبضة ثائر / فإِذا الحديدُ بها صديعُ حطامِ
وإِذا الحصونُ الشامخاتُ حجارةٌ / منثورةٌ والنارُ سُحبُ قتامِ
وإِذا المجاهدُ تحتَ غار جهاده / طُهْرُ اليدين مُخضَّبُ الصمصامِ
روحٌ يَهزُّ الشرق من أعماقه / وسنىً يمزِّق عنه كل ظلامِ
وَيَدٌ تُعانِقهُ برغم مَنيَّةٍ / وفَمٌ يُقَبِّلُهُ برغم حِمامِ
يا فرحتي للبحرِ أرجعُ ثانياً
يا فرحتي للبحرِ أرجعُ ثانياً / متفرداً بعبابهِ وسائهِ
أقصى منايَ سفينة ممشوقة / وبزوغُ نجم أهتدي بضيائهِ
وصريرُ دفّتها وعَزفُ رياحهِ / وخفوقُ قلعٍ أبيضٍ في مائه
وأرى الضباب يرفُّ فوقَ جبينهِ / في شاهبٍ من لونهِ وروائهِ
يجلوه ألاق رماديّ السنى / متطلعٌ بالفجرِ خلفَ فضائهِ
يا فرحتي للبحر أرجعُ ثانياً / كيما ألبّي المدّ في طفراتهِ
هذا المزمجرُ لست أنكرُ صوتهُ / إنّ الوضوحَ يشيع في نبراتهِ
أقصى منايَ لديه يومٌ عاصفٌ / يهفو رقيق الغيم في سبحانهِ
ورشاشُ موجٍ مستطارٌ تحتهُ / زبدٌ يفور الرغو ملءَ كراتهِ
وضجيج زُمّج مائهِ متخبطا / بالموج وهو يثيرُ من صرخاتهِ
يا فرحتي للبحرِ أرجع ثانيا / جوّابَ آفاقٍ غريب مسالك
أطوي مسارح طيره ومسابحاً / للحوت عبرَ طريقيَ المتشابكِ
حيثُ الرياح كأنما وخزاتها / حدُّ المدى وشبا الحسام الفاتكِ
أقصى منايَ روايةٌ محبوكةٌ / من نسيجِ قرصانِ طروبٍ ضاحكِ
ولذيذُ أحلامٍ وقد طاب الكرى / وتزايلت صورٌ هناك تواركي
أقدم فداكَ حديدها ولهيبها
أقدم فداكَ حديدها ولهيبها / واغنم مجادتها فأنت ربيبها
مجد الفتوح الغرّ أنت وريثه / والحرب أنت على المدى موهوبها
ما الحرب إلا ما شرعت وما رأت / أممٌ تذود عن الحقوق شعوبها
نادت فهبّ على الدماء ضريجها / يمشي ويقتحم السعير خضيبها
شرف المحارب أن يعفّ سلاحه / إن جارت الهيجاء وهو حريبها
ليجير شعباً أو يحرّر أمّة / لا تستباح ولا يضامُ نجيبها
النصر أن تلقى الطغاة بضربةٍ / شعواء لم يضب الطغاة ضريبها
فخذ العدوّ المستخفّ بطعنةٍ / إن لم تمته غدا تمته ندوبها
والمجد أن تحمي وراءك قرية / ضاعت مسالكها وضاق رحيبها
جنّ الحديد بأرضها وسمائها / فجرى وطار تصيبه ويصيبها
شدّت يد الفولاذ حول نطاقها / حلقا تصيح النار كيف أذيبها
بالروح والإيمان أنت قهرتها / بأساً فلان على يديك صليبها
حتى إذا أعيا العدوّ جلادُها / ووهت جحافِله وطاش وثوبُها
عضّت على كفّيه والتفّت على / ساقيه وانسدّت عليه دروبها
ومشت له منها ضراغم غابة / كلّ الردى أخلابُها ونيوبُها
قذفت به عنها وغودر جيشه / بددا تعقّبه الخوف وحوبها
جثثا تعاف البيد شرب دمائها / ويعفّ كاسرها ويأنف ذيبها
شرفا كماة النيل أيّ بطولةٍ / راع الكماة فنونها وضروبها
ومواقف لكمو تشيد بذكرها / دول وراء النار قام رقيبها
وملاحم الأبطالِ في فلوجه / قصص الكفاح غريبها وعجيبها
هومير ما غنّى بها طروادة / وكمثلها ما ألهمته حروبها
ضربوا الحصار على الكماة فجاءهم / فطِنُ الشجاعة في الحروب أريبها
متمرس بطباعها متفرّسٌ / في روعها يقط الخطى مرهوبها
فادٍ أحمّ كأنما احترقت به / حربٌ من الميلاد كان نشوبها
فنما وشبّ عليه من يحمومها / أدمٌ زهاه من السمات مهيبها
طلعت به إفريقيا وتطلّعت / آجامها وجبالها وسهوبها
يزرى بما نصب الدهاة لصيده / ويضلّ أشراك الردى ويخيبها
ما زال مصطرعا يصول ودونه / بيداء يغشاها اللظى ويجوبها
ساق الطغاة لها فرائس فتنةٍ / حمراء ينفخ في الجحيم ربوبها
عرضت مآثمها بهم وتقدّمت / أمم تمور على الرمال ذنوبها
حتى رأته كوى السماء ففتّحت / وتلألأت بسنى السلام ثقوبها
ومشى الكميّ أشمّ بين رجالهِ / أبطالِ حربٍ لا يقرّ سليبُها
لن يستذلّ ثرىً عليه دماؤهم / سالت لقد روى الحياة صبيبها
يا أيها الأبطال مصرُ إليكمُ / بالغار يستبق الشبيبةَ شيبها
وعقائلٌ خلفَ الخدور هواتفٌ / كالطير أذن بالصباح هبوبها
ينثرنَ بالريحان فوق رؤوسكم / طاقاتِ وردٍ ليس يذهبُ طيبها
وهفت غمائمُ في السماء تظلُّكم / ويرفُّ مصعدُها لكم ومصيبها
وعلى طريق المجد من فالوجةٍ / مهجٌ حوائمُ في التراب وجيبها
شهداؤكم ودُّوا هناك لو اَنَّهم / قدموا بألويَّةٍ يروعُ خضيبها
طلعوا بنور الفجر فوق مآذنٍ / تدعو ورحمن السماء يجيبها
هاتوا حديث الحرب كيف تطامنت / لكمُ مفازعها وهان عصيبها
في قرية محصورة كسفينة / في لجة هاجت وماج غضوبها
لم تدر فيها الريح أين قرارُها / والشمس أين شروقها وغروبها
كم حدثوا عنها وقالوا في غد / للقاع تهوي أو يحين رسوبها
وبِمصرَ والدنيا عيونُ أحِبةٍ / السُّهدُ والألم الممِضُّ حبيبها
ترعى النهار وتتقي غسق الدجى / هذا يطمئنها وذاك يريبها
إيهٍ حماةَ الشرق كم بجهادكم / تشدو العصور بعيدها وقريبها
هذي الضفاف وهذه داراتكم / دارات شمس لا يحول شيوبها
ترنو لكم وتكاد من أشواقها / تمشي وكيف حراكها ودبيبها
لِمَ لا أغنيكم قوافيَّ التي / غنَّى بملحمة الحياة طروبها
هي من روائعكم ووحيُ جديدها / منكم ومني في البيان وَجيبُها
بالله إن طفتُم بساحة عاهل / ترعاه مصر عيونها وقلوبها
فتقدموا تحت اللواء وقرّبوا / هذي السيوف الداميات عزوبها
أحيت له ولمصر أيّ مجادةٍ / هي ذخرهُ المأثورُ وهو وهوبها
هيهات تنبت تربة غير العلى / ما دام يسقى بالدماء خصيبها
مالوا بمصباح البيان صباحا
مالوا بمصباح البيان صباحا / ومشوا به في الذاهبين رواحا
ومضوا به إلا شعاعاً لم يزل / في الأرض مؤتلق السنى وضاحا
تهفو النجوم إلى سناه وتغتدي / نشوى كأن من الأشعة راحا
وعلى جوانب أرضها وسمائها / شفق تقلّده السماء وشاحا
هذا شعاع العبقرية لم يزل / يولي الحياة طلاقة وسماحا
قدر الخلود له وبارك أفقه / رب أراد به هدى وصلاحا
أجرى البيان على لسان نبيه / غدقا من السحر المبين قراحا
وحبابه الشعراء من ألحانه / فشدوا بألسنة الطيور فصاحا
لما مشى في الأرض فجر صخرها / ماء ونضرها ربى وبطاحا
وأنار في شرف السماء نجومها / فتلون من آياته الألواحا
فكأنما الدنيا ضحلا وكأنما / في كل داجية نرى مصباحا
قل لابن هانئ لا ذوت لك كرمة / فقد الربيع هزارها الصداحا
قد كنت في أمس نزيل رحابها / فنزلت أشرف ما أبلغ ساحا
ألقى وأسمع عبقريا ملهما / طلق المحيا ماجدا مسماحا
يولي النفوس بشاشة وينيلها / أدبا ويسقيها الوداد صراحا
أنست زمانا بالبيان وأهله / حتى تبدل أنسها أتراحا
وقفت بي الدنيا على جنباتها / فرأيت حزنا واستمعت نواحا
وشهدت ظل الموت فوق ظلالها / يغشى الربى ويجلل الأدواحا
وجمت وكانت الموت فوق ظلالها / تستقبل الإمساء والإصباحا
وذو ت أزاهرها ونفر طيرها / ينزو ويقطر أدمعا وجراحا
يبكي من الصدر الورود لجدول / كم عب من دفاقه وامتاحا
لما نعيت لها تزايل حسنها / وصغا الربيع بوجهه وأشاحا
سيان بعدك يابن هانئ دهرها / يسري نسيما أم يهب رياحا
قم وابك للشعر النبوغ وقل له / أمضى زمان النابغين وراحا
واهتف بصومعة البيان فقد خلا / عهد الرسالة بالقريض وطاحا
ولى بسر العبقرية شاعر / اللّه هيأه لنا وأتاحا
لم تسعد الفصحى بمثل يراعه / يوما ولا لقي الخيال جناحا
شعر حوى الدنيا ونسق حسنها / صورا ومثلها منى وطماحا
ويزيح عن ماضي العصور ستارها / فترى بها الغادين والرواحا
هو مثل هذا الطير في صدحاته / والزهر لطفا والعبير نفاحا
وأراه كالبحر الخضم عبابه / يعيى مداه الخائض السباحا
ويظنه الملاح طوع شراعه / فيرد عن غمراته الملاحا
يهدي إذا هدأ الثرى أصدافه / وإذا تمرد دره اللماحا
وأراه حين يرق عاطر نسمة / وإذا قسا فالعاصف المجتاحا
شعر يشف عن الحياة وداعة / ويؤج منها ثورة وكفاحا
ويبين من غضب النفوس وصفوها / مثل الحياة كآبة ومراحا
ويفيض من نبع القلوب فآنة / ماء وآنا جاحما لفاحا
والشعر مرآة الحياة ولم يزل / يجلو الرؤى ويصور الأشباحا
والشعر من أدب النفوس ولن ترى / من دونه هديا ولا إصلاحا
ولقد تذوقت الحياة فلم أجد / كالشعر ريا للنفوس وراحا
قل للكنانة عن رمائك أقصري / فلقد فقدت الرامي النضاحا
صياد أسراب الجمال إذا رنا / جاءته ما عرفت لديه جماحا
يدني القصي من الشوارد لفظه / ويروض منها النافر الممراحا
من كل معنى بالروائع حافل / يجلى كما تجلى الشموس صباحا
وقصيدة كالروض باكره الحيا / فاهتز ريحانا ورف أقاحا
من للطبيعة يستزيد جمالها / غررا كآيات الكتاب وضاحا
ذهب الذي غنى خمائل روضها / حتى مددن إلى النسيم الراحا
المرقص الزاهرت فوق غصونها / والمستخف عبيرها الفواحا
والمسعد الأيكات منه بملهم / كانت به الجنات قبل شحاحا
أوحى له المرح الوجود فصاغه / شدوا بأسرار القلوب وباحا
سبحان من أهدى الخيال يراعه / وهدى له الإبداع والإسجاحا
فتسمعوه فلم يزل من شعره / شاد يهزّ بسحره الأرواحا
يا نازحا عنا نزلت بعالم / تلقى الأحبة فيه والنزاحا
فاحلل بجنات الخلود ورو من / عين النعيم فؤادك الملتاحا
واملأ من الزهر المنور والجنى / كفيك واطرح عبئك الفداحا
سترى الرسول على معطر روحها / يهدي إليك ببابها المفتاحا
يسعى بحسان إليك وأنتما / وضحان من فجر النبوة لاحا
يختال في بردية من بردة / حاك القريض خيوطها أمداحا
يستاف من ميلاده شوقية / الله كان لمسكها النفاحا
فاشرح هواك له وبث لواعجا / كانت لهن دموعك الشراحا
أبلغ إلى صبري التحية والهوى / عنا وحي جبينه الوضاحا
وامسح دموعك عن أسرة حافظ / فلقد لقيت بقربه الأفراحا
وتساق أقداح المسرة معهما / فلكم ملأت بدمعك الأقداحا
واذكر على الأرض الشقية رفقة / باتوا عليك يقلبون الراحا
في عالم ما زال في غلوائه / ومنى على رث الحطام تلاحى
أشرق بوجهك في غياهب ليله / يخلع دجاه إذا جبينك لاحا
وأضىء على شط الحياة منارة / واطلع بكل دجية مصباحا
ونم الغداة وحسب روحك أن ثرى / من نور مجدك هذه الأوضاحا