القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : علي محمود طه الكل
المجموع : 30
هذا الرحيقُ فأين كأسُ الشاعِرِ
هذا الرحيقُ فأين كأسُ الشاعِرِ / قد أوحشَ الأحبابَ ليلُ السامرِ
لِمَ يا حياةُ وقد أحلَّكِ قلبَهُ / لَمْ تؤثريهِ هوى المحبِّ الشاكرِ
أخليتِ منه يديكِ حين حلاهما / من ذلك الأدب الرفيع الباهرِ
لو عاشَ زادكِ من غرائب فنّهِ / ما لا يُشَبّهُ حسنهُ بنظائرِ
وظَفِرتِ من تمثيله وغنائهِ / بأدقّ مثّالٍ وأرخمِ طائرِ
أملٌ محا المقدارُ طيفَ خيالهِ / وتخطّفَتْهُ يد الزمان الجائرِ
وأصار فرحتنا بمُقْبلِ يومهِ / مأساةَ مَيتٍ في الشباب الباكرِ
متوسّداً شوكَ الطريق مُلَثَّماً / بجراحِهِ مثل الشهيد الطاهرِ
رُدُّوا المراثي يا رفاق شبابهِ / لن تُطفئوا بالدمع لوعةَ ذاكرِ
هذا فتىً نظم الشبابَ وصاغَهُ / وحياً تحدّرَ من أرقِّ مشاعرِ
جعل الثلاثين القِصارَ مدىً له / والخلدَ غايةَ عمرهِ المتقاصرِ
غَنُّوهُ بالشِّعْرِ الذي صَدَحتْ بهِ / أشواقُهُ لحنَ الحبيب الزائرِ
غَنُّوهُ بالشِّعْرِ الذي خفقتْ بهِ / أنفاسُهُ لحنَ الحبيب الهاجرِ
تلك القوافي الشارداتُ حُشاشةٌ / ذابت على وَتَرِ المغَنِّي السَّاحرِ
فتسمّعوا أصداءها في موكب / للموت مُحتشدِ الفواجع زاخرِ
مَشَتِ الطبيعةُ فيه بين جداولٍ / خُرسٍ وأدواحٍ هناك حواسرِ
ولو استطاعت نضّدت أوراقها / كفناً له والنعشَ غضَّ أزاهرِ
وَدَعَت سواجع طيرها فتألّقت / أمماً تخِفّ إلى وداع الشاعرِ
يا ابن الخيال تساءلَت عنكَ الذُّرى / والشُّهبُ بين خوافقٍ وزواهرِ
وشواطئٌ محجوبةٌ شارفتَها / فوق العواصف والخضمِّ الهادرِ
أيُرى جناحُكَ في السماء كعهده / متوشّحاً فَلقَ الصباح الساغرِ
أيُرى شراعك في العباب كعهده / مُتقلّداً حَلَقَ السحاب الماطرِ
هدأ الصراعُ وكفّ عن غمراته / من عاش في الدنيا بروحِ مغامرِ
وطوى البلى إلَّا قصيدةَ شاعر / أبقى من المثلِ الشرودِ السائرِ
شعرٌ تمثَّلَ كلَّ حسٍّ مُرهَفٍ / لا رصف ألفاظٍ ورصَّ خواطرِ
ودُمىً مُفضَّحة الطلاءِ كأنها / خُشُبُ المسارح مُوّهَتْ بستائرِ
تتمثّلُ التاريخَ في أزيائهِ / بين المصفّقِ وابتسام السّاخرِ
من صُنعِ نظّامينَ جَهدُ خيالهم / مَسحُ الزجاج من الغبار الثائرِ
مُتخلفين عن الزمان كأنهم / أشباحُ كهفٍ أو ظلالُ مساحرِ
يا قومُ إن الشِّعرَ روحانيةٌ / وذكاء قلبٍ في توقّد خاطرِ
نظر الضريرُ به فأدرك فوق ما / لمست يَدُ الآسي وعينُ الناظرِ
مُتَعرّفاً صُوَرَ الخلائق سابراً / أعماقَ أرواحٍ وَغَورَ سرائرِ
هذي عروسُ الزَّنجِ ليلتهُ التي / أومَتْ بكفٍّ حُلّيَت بأساورِ
والنَّجمُ أشواقٌ فمهجة عاشقٍ / وذراعُ مُعتنِقٍ ووجنةُ عاصرِ
الشِّعرُ موسيقى الحياة مُوَقَّعاً / مُتدَفِّقاً من كلِّ عِرقٍ فائرِ
عشاقُ بابلَ لو سُقوا برحيقه / لم يذكروها بالرحيقِ الساكرِ
وتنَصَّتَت أقداحُهم لمغردٍ / مَرِحٍ يُصَفّقُ بالبيان الساحرِ
أو كان كلَّمَ بُرجَها بلسانه / والقومُ شتّى ألسنٍ وحناجرِ
لم نَشكُ من عِوجِ اللسان وَوُحّدت / لهجاتُ هذا العالم المتنافرِ
هل كُنْتَ بين الموت والميلادِ
هل كُنْتَ بين الموت والميلادِ / إلَّا حياةَ مآثرٍ وأيادي
وهل استطبتَ على الرفاهة والصِّبا / إلَّا نهارَ ضنىً وليلَ سُهادِ
وكفاحَ أَيامٍ وعَرْكَ شدائدٍ / بجميلِ صبر أو طويلِ جِهَادِ
مُتواضعاً مترفِّعاً ترقَى الذُّرى / في مثل صمتِ الكوكبِ الوقّادِ
يُلقي أشِعَّتهُ هُناكَ وههُنا / ويُضيء في الأغوارِ والأنجادِ
أهرَامُكَ المُثلى نتاجُ قرائحٍ / خلَّاقةٍ موصُولةِ الإِمدادِ
دُنيا من الفِكرِ الطليقِ وعالمٌ / رَحْبُ الجوانبِ شاسعُ الآمادِ
تهدِي الحَيَارى المُدْلجينَ كأنَّها / في شاطئِ الوادي مَنَارةُ هادي
قُمْ يا فتى الأهرامِ وانظر رفقةً / ينتظرون خُطاكَ في الميعادِ
ويُسائلون بِكَ العَشيَّ كدأبهم / هذا النديُّ فأين صدرُ النَّادي
يا لهفَ ما عَلموا بأنَّكَ مُزمِعٌ / سَفَرَ الحياةِ ورِحلةَ الآبادِ
يا لهفَ ما ظَفِروا كما عوَّدْتهم / عِندَ الودَاعِ بنظرةٍ وتنادي
حينَ الوفاءُ الجمُّ شيمَتُكَ التي / أسرَتْ قلوبَ أحبَّةٍ وأعادِي
دخلوا عَليك البيتَ جسماً ضارِعاً / مُتَفَرّداً والموتُ بالمرْصادِ
والفكرُ صحوٌ والجبينُ شُعاعَةٌ / ألَّاقةٌ والروحُ في إِيقادِ
والشمسُ بينَ سَحَابَتَينِ تدَجَّتا / رمَقٌ يُصارعُ حَيْنَهُ ويُرادي
في شاطئٍ قاني المياهِ كأنها / مصبُوغةٌ بدَمِ النهار الفَادي
هي صورةٌ لكَ والمساءُ مقاربٌ / والرُّوحُ ركبٌ والمنيةُ حادي
والقلبُ في كفِّ القضاءِ فراشةٌ / رفّافةٌ والعمر وشكَ نفَاد
عجباً أيشكو قلبَهُ من قلبه / كنزُ الرِّضى والخيرِ والأسعادِ
وتخونهُ الأنفاسُ وهو رحابةٌ / كم نفَّستْ عن أمّةٍ وبلادِ
وإذا أتى الأجلُ النفوسَ فلا تسَلْ / عَنْ صِحَّةِ الأرواحِ والأجسَادِ
أأبا بشارةَ لا يَرُعكَ بِعادُهُ / مصرُ اجتَبَتهُ فلا تُرَعْ ببعادِ
آثرتَها بهَواكَ يا لغرَامِها / هي مِصْرُ مَهدُ الموتِ والميلادِ
حفِظتْ لوَالداكَ الصنيعَ المجتبى / ورَعَتْ فتاةُ البرِّ في الأولادِ
ورأتْ نجيبكَ فاستفاض حنانُها / لسميِّه المرجوِّ في الأحفادِ
ذكرَتْ بيُتْمكَ يُتمَهُ فتفجَّرتْ / حُبّاً وقبَّلتِ الرجاءَ البادي
لبنانُ نازعها هواكَ وما أرى / لبنانَ إلَّا من ضفاف الوادي
الأرزُ فيهِ والنخيلُ كلاهُما / أعشاشُ حبٍّ أو خمائلُ شادي
أرضُ العروبةِ لا تُخومَ ولا صُوىً / ما مصرُ غيرُ الشّام أو بغدادِ
وأُخُوَّةٍ بالمسجدين وجيرةٍ / من آل طارقَ أو بني عبَّادِ
قسماً بأمساء النديِّ ومجلسٍ / متألقٍ بالرفقةِ الأمجادِ
وجمالِ أسحارٍ وطيبِ أصائلٍ / بالذِّكرياتِ روائحٍ وغَوَادي
ومحبَّةٍ للخيرِ صَفوُ مِزاجِها / مرضاةُ نفسٍ أو عزاءُ فُؤادِ
ألَّا استمعتَ إلى رفاقكَ ليلةً / والنارُ في مهجٍ وفي أكبادِ
جَمَدَ المدادُ على شبا أقلامهم / فصريرُها نوحٌ ولحنُ حدادِ
واحسرتا أيُّ الرثاء أصوغهُ / لوفاءِ حقِّ محبّتي وودادي
أرثيكَ للأُممِ التي شاطرْتَها / كُرَبَ الخطوبِ وفرحةَ الأعيادِ
وأذعتَ دعوتَها وجُزْتَ بصوتِها / في المغْرِبينِ شوامخَ الأطوادِ
ووصَلتَ بينَ قريبها وبعيدها / رَحِمَ العروبة أو عُهُودَ الضَّادِ
قم حدِّثِ القُرَّاءَ عما شِعتَهُ / في العالمِ المُتنافِرِ المُتعادي
وصفِ الممالكَ والشعوبَ كما ترى / ببرَاعَةِ الوصَّافةِ النقَّادِ
تطوي الغمائمَ والخضَارِمَ والثَّرى / وتجُولُ بين حَوَاضرٍ وبوادي
بفَطانةِ الصحفيِّ وهي بصيرَةٌ / تغزُو وتفتَح مُغلقَ الأسدادِ
يا رُبَّما نبأٌ أثارَ بوقعه / ما لا تُثيرُ مَلاحِمُ الأجنادِ
وهَدى قبيلاً أو أضلَّ جماعةً / لسبيلِ غيٍّ أو سبيلِ رشادِ
وا لهفَ نفسي كم تمنَّيتَ المُنى / يوم السيوف تقَرُّ في الأغمادِ
هل كنت تُبصِرُ منْ حضارة عصرها / إلا نثير حجارةٍ ورَمَادِ
إن السَّلامَ الحقَّ ما آثرتهُ / والأرضُ غرقى في دمٍ وسَوَادِ
والناسُ ما زالوا كما خلَّفتهُمْ / صرْعَى الهوى وفرائسَ الأحقادِ
قالتْ تُعاتبُني أراكَ مَنَعْتني
قالتْ تُعاتبُني أراكَ مَنَعْتني / من قطفِ هذي الوردة الصفراءِ
وبسحرِ هذا اللون كم غنَّيتَني / وهتفتَ بالشقراءِ والصهباءِ
قلتُ اغفري لي يا حبيبةُ نظرتي / إِني أعيدُ الحسنَ من أهوائي
أخشى ظنونَ الناس فيكِ وأتقي / سِمَةَ الضَّنى والغيرة الحمقاءِ
وأذود عَنْ عينيكِ ذكرى ليلةٍ / شابتْ ونجمٍ شاحبِ الأضواءِ
في لونِ خدَّيْكِ اقطِفِي ما شِئتِهِ / من زهرةٍ أو كوكبٍ وضّاءِ
قالتْ أتمنعني الذي أحببتُهُ / في نظرةٍ لكَ وادِّكارِ وفاءِ
في عرضِكَ الماضي ونبشِكَ ما ذوى / من ذكرياتِ شبيبةٍ هوجاءِ
وبسخرياتكَ بي وبسمتِكَ التي / تلقى بها المفضوحَ من إِغوائي
وشحوبِ وجهكَ إِن أرِقتَ صبابةً / حيرانَ بين قطيعةٍ ولقاءِ
لا السيفُ قَرَّ ولا المحارِبُ عادا
لا السيفُ قَرَّ ولا المحارِبُ عادا / وَيْحَ البشيرِ بأيِّ سلْمٍ نادى
الأرضُ من أجسادِ من قُتِلوا بها / تَجْني العذابَ وتُنْبِتُ الأحقادا
فاض السحابُ لها دَماً مذ شَيَّعت / شمسَ النهارِ فخالطتْهُ سوادا
رأتِ الحِدادَ به على أحيائها / أتُراهمو صَبَغوا السماءَ حِدادا
ودَّ الطُّغاةُ بكلِّ مطلَعِ كوكبٍ / لو أطفأوهُ وأسقطوهُ رَمادا
وتخوّفوا وَمْضَ الشَّهابِ إذا هوى / وَبُروقَ كلِّ غمامةٍ تتهادى
ولو أنَّهم وَصَلوا السماءَ بعِلْمِهم / ضَرَبوا على آفاقها الأسدادا
لولا لوامِعُ من نُهىً وبصائر / تغزو كُهوفاً أو تَؤُمُّ وهادا
لم يَرْقَ عَقْلٌ أو تَرِقُّ سريرةٌ / وقضى الوجودُ ضلالةً وفسادا
راعَ الطُّغاةَ شُعاعُهُ فتساءلوا / مَنْ نَصَّ هذا الكوكبَ الوقَّادا
إنْ تجهلوا فسلوا به آباءَكُم / أيامَ شَعَّ عدالَةً ورِغادا
هل أبصروا حُريَّةً إلَّا به / أو شيَّدوا لحضارةٍ أوْتادا
حَمَلَتْ سناهُ لهم يَدٌ عربيَّةٌ / تبني الشعوبَ وتنسجُ الآبادا
هي أُمَّةٌ بالأمس شادتْ دولةً / لا تعرفُ العِبْدانَ والأسيادا
جُرْتُمْ عليها ظالمين بعَدِّكم / وعدِيدِكم تتخايلون عَتَادا
ومَنَعْتُمُوها من مواهب أرضِها / ماءً به تجدُ الحياةَ وَزَادا
في المغرب الأقصى فتىً من نورِها / قدَحَتْ به كفُّ السماءِ زِنادا
سَلَّتهُ سيفاً كي يحرِّرَ قوْمَهُ / ويُزِيلَ عن أوطانِهِ استعبادَا
ما بالُكم ضِقْتُم به وحشَدْتُمُو / من دونه الأسيافَ والأجنادَا
أشعلتُمُوها ثورةً دمَوِيَّةً / لا تعرفونَ لنارِها إخمادَا
حتى إذا أوْهَى القتالُ جِلادَكم / ومضى أشدَّ بسالةً وجِلادَا
جئتمْ إِليهِ تُهادِنونَ سُيوفهُ / وسيوفُهُ لم تسكُنِ الأغمادَا
وكتبتمو عهداً بحدِّ سيوفكم / مزَّقتُمُوهُ ولم يجِفَّ مِدَادَا
الأهلُ أهْلُك يا أميرُ كما تَرَى / والدَّارُ دارُكَ قُبَّةً وعِمَادَا
أنّى نَزَلْت بمصرَ أو جاراتِها / جئتَ العُروبَةَ أُمَّةً وبلادَا
مَدَّتْ يَديْها واحتَوَتكَ بصدرها / أُمٌّ يَضمُّ حنانُها الأولادا
ولو استطاعت رَدَّ ما استودَعْتَها / ردَّتْ عليك المَهْدَ والميلادا
وأتَتكَ بالذِّكر الخوالِدِ طاقةً / كأجَلِّ ما جمعَ المحبُّ وهادى
ماذا لقِيتَ من الزمان بصخرةٍ / قاسَيتَ فيها غُرْبةً ووِحادَا
وبَلَوْتَ من صَلفِ الطُّغاةِ وعَسْفِهم / فيها الليالي والسنين شِدَادا
جعلوا البحارَ ومثلُهُنَّ جبالُها / سَدّاً عليك وأوسعوك بعادا
دعْهُم فأنتَ سَخِرْتَ من أحلامهم / وأطرتُهُنَّ مع الرياحِ بدادا
عشرين عاماً قد حَرمتَ عيونَهم / غُمْضَ الجفونِ فما عَرفنَ رُقادا
يَتَلفَّتُون وراءَ كلِّ جزيرةٍ / ويسائلون الموجَ والأطوادا
من أيِّ وادٍ موجةٌ هتفَتْ به / ومضى فحمَّلها السلامَ وعادا
لو أنصفوا قدرُوا بطولةَ فارسٍ / لبلادِهِ بدَم الحشاشة جادا
نادَى بأحرار الرجال فقرَّبوا / مُهجاً تموتُ وراءَه استشهادا
يدعو لحقٍّ أو لإِنسانيَّةٍ / تأبى السجونَ وتلعنُ الأصفادا
شيخَ الفوارِسِ حسبُ عيْنِك أن ترى / هذي الفتوح وهذه الأمجادا
الرِّيفُ هَبَّ منازلاً وقبائلاً / يدعو فتاهُ الباسلَ الذَّوَّادا
حَنَّ الحسامُ لقَبْضَتَيْكَ وحَمْحَمَتْ / خيلٌ تُقرِّبُ من يديك قِيادا
وعلى الصَّحَارَى من صَداكَ مَلاحِمٌ / تُشْجي النُّسورَ وتُطرِبُ الآسادا
أوحَتْ إلى العُرْبِ الحُداءَ وألهمتْ / فُرسانهم تحت الوغى الإِنشادا
عبدَ الكريم أنظُرْ حِيالك هل ترى / إلَّا صراعاً قائماً وجهادا
الشرق أجمَعهُ لواءٌ واحدٌ / نَظَمَ الصفوفَ وهيَّأ القُوَّادا
لم يتركِ السيفُ الجوابَ لسائلٍ / أو يَنْسَ من مُترقِّبٍ ميعادا
سالت حلوقُ الهاتفين دماًن وما / هزُّوا لطاغيةِ الشعوب وِسادا
فصُغِ البيانَ بِهِ وأَنْطِقْ حَدّهُ / يَسْمَعْ إِليكَ مكرَّراً ومُعادا
كَذَبَتْ مودَّاتُ الشِّفاه ولم أجدْ / رغم العداوة كالسيوف وِدادا
لهجَتْ قلوبٌ بالذي صَنَعَتْ يدٌ / شَدَّتْ لجُرْح المسلمين ضِمادا
حَملَتْ نَدَى مَلِكٍ ونخوة أُمَّةٍ / صانت بها شرفاً أَشمَّ تِلادا
وحَمَتْ عزيزاً لا يقِرُّ وأَمّنت / حُرّاً يقاسي الجورَ والإِبعادا
فادٍ من الغُرِّ الكُماةِ مجاهدٌ / تتنازعُ الآلامُ منه فؤادا
جارت عليه الحربُ ثم تعقَّبَتْ / في السّلْمِ تحت جَناحِهِ أكبادا
زُغْبٌ صِغارٌ مثل أفراخ القَطَا / وحرائرٌ بِتنَ السنين سُهادا
هو من رواسي المجد إِلا أنه / عَصَفَ الزمانُ بجانِبَيْهِ فمادا
رَجُلٌ رأى شرّاً ففادى قوْمَهُ / وأحسّ عاديَةً فهبّ ورادى
ظلموا هواهُ إذْ أحبّ بلادَهُ / ما كان ذنباً أنْ أَحبّ ففادى
رُدّوا على الوادي ربيعَ نهاره
رُدّوا على الوادي ربيعَ نهاره / آب الزعيمُ اليوم من أسفارِهِ
جاب البحارَ إليكمو حتى إذا / نصلَ الدُّجى ألقى عصا تسيارِهِ
هذا الذي قدر الإِلهُ حياتَه / ليُنَقِّل التاريخ في أداورِهِ
الأعزلُ المنفيُّ فارق قيدَه / ورمى بآسره وذلَّ إِسارِهِ
عجبا يُخافُ مطاردٌ بجزيرةٍ / ضرب الوجودُ بها وراءَ بحارِهِ
فيُجشَّم المنفى البعيدَ بصخرةٍ / في مائجٍ مُتَلَثّمٍ بخطارِهِ
تخشى أساطيلُ الغزاة عبوره / ويروع وحشَ البحرَ صمتُ قرارِهِ
سِيرٌ من الأمجاد لم يُسْمَعْ بها / حتى أُتِحْنَ فكنَّ من أخبارِهِ
تلك البطولةُ لم تكن يوماً ولم / يطلعْ بها زمنٌ على حُضَّارِهِ
قم حدِّثِ التاريخ غير مُكذَّبٍ / يا منْ غدا التاريخُ مِن آثارِهِ
أنت المصاولُ عن حماك فصِفْ لنا / حربَ الفدائيين من أنصارِهِ
والأرضُ كيف تَصُدُّ عن رحمائها / والكونُ كيف يضيق عن أحرارِهِ
والغاصبُ السَّفاحُ من أنيابه / يجري الدمُ القاني ومن أظفارِهِ
يا من شَدَوْتُمْ بالسلام رويدكم / داوودُ لمَّا يَشْدُ في مزمارِهِ
تحت الرِّماد وميضُ نارٍ فالدجى / والبرقُ بعضُ دخانه وشرارِهِ
رُدُّوا السلامَ إِلى الحوادث تشهدوا / أنَّ المآمنَ هن من أخطارِهِ
حمل البشيرُ قميصَهُ بيمينه / ودمُ الجنايةِ صارخٌ بيسارِهِ
هذا ضياءُ العدل بدّد ظلمهم / كالليل بدّدهُ الضُّحَى بمنارِهِ
سعدٌ أهلَّ به وسعدٌ جاءكم / بالحق أبلجَ في سماءِ ديارِهِ
فاستقبلوه كعهدكم وَتَخَيَّروا / لجبينه العالي مُضَفَّرَ غارِهِ
قالوا نُفِيت فهل نفى عنك الهوى / ظُلمٌ سُقِيتَ الأمس كأس عقارِهِ
لا تَلْحَ من كفروا بدعوتك التي / وضَحتْ وخلِّ أذى المسيءِ ودارِهِ
آثامُهم فَزِعَتْ بخالقهم فَدَعْ / للّه حكمَ اللّه في كفَّارِهِ
واللّه لو لمَسوا فؤادك لانثنوا / جَزِعينَ مما لامسوا من نارِهِ
ومحا سناهُ ظلام أنفسهم وما / حُمِّلْنَ من ذل النكوص وعارِهِ
الشعبُ مثل البحر إنْ يغضبْ فما / تقفِ السدودُ الشمُّ في تيَّارِهِ
ورجالُهُ الأبطالُ ويحَ رجاله / لم يهدأوا والظلمُ في تهدارِهِ
خاضوا الحتوفَ فَما انثنت عزماتُهم / عن قاهر الوادي وعن جبَّارِهِ
طلعوا على حِصْن الظلام فزحزحوا / أحجاره ومَشوا إِلى أغوارِهِ
قذفوا به غَضب السرائر فانظروا / للحصن يسقط في يديْ ثُوَّارِهِ
أمسى ورايات الجهاد خوافقٌ / حُمْرٌ مُنَشَّرةٌ على أسوارِهِ
هبَّ الكميُّ على النفير الصَّادح
هبَّ الكميُّ على النفير الصَّادح / مهلاً فديتُكَ ما الصباحُ بواضحِ
أيُّ الملاحم بين أبطال الوغى / فجِئَتكَ بالشوق الملحِّ البارحِ
فقضيتَ ليلكَ لا هدوءَ ولا كرىً / ووثبتَ في غسَقِ الظلام الجانِحِ
والشرقُ من خلف الجبالِ غمامةٌ / حمْراءُ تُرعَشُ في وميضٍ لامحِ
سَلَّتْ حرابَ البرق فوق سمائه / هوجاءُ تُنذر بالقضاءِ الجائحِ
هي صيحةُ الوطن الجريح وأمةٍ / هانت على سيفِ المغير الطامحِ
قَرَنَتْ بحظكَ حظَّها فتماسكتْ / ترعَى خُطاكَ على رُبىً وأباطحِ
في موكب الفادين مجد أُميَّة / بجوانح مشبوبة وجَوَارحِ
لو قِسْتهم بعدوِّهم وسلاحِهِ / أيقنتَ أنهمو فريسةُ جارحِ
الخائضونَ الفَجر بحر مصارع / السابحون على السَّعير اللافحِ
الناهضون على السيوف وتحتَها / شتَّى جَماجم في التراب طرائحِ
الرابضون على الحصونِ خرائباً / مُهَجاً تضرّم في حُطام صفائحِ
صرعى ولو فتَّشْتَ عن أجسادهم / أَلفيتَ ما أَلفيتَ غير جرائحِ
يا ميسلون شهدتِ أي روايةٍ / دمويةٍ ورأيت أيَّ مذابحِ
ووقفتِ مُثخَنَةَ الجراح بحومةٍ / ماجتْ بباغ في دمائكِ سابحِ
تتأملين دمشقَ يا لهوانها / ذاتُ الجلالة تحت سيف الفاتِحِ
جرَّت حَديد قيودها وتقدَّمتْ / شمَّاءَ من جلَّادها المتصايحِ
نسيَتْ أليم عذابها وتذكرتْ / في ميسلون دم الشهيد النازِحِ
من هبَّ في غسق الظلام يحوطها / بذراع مقتتلٍ وصدرِ مُكافِحِ
وتسمَّعتْ صوتاً فكان هتافُهُ / يا للحبيبِ من المحبِّ البائحِ
أُمَّاهُ خانتني المقادر فاغفري / قدَري وإن قلَّ الفداءُ فسامحي
فيحاءُ إن نصَّتْ حواليكِ القرى / أعلامَها وازَّينت بمصابحِ
وتواكب الفُرسان فيك وأقبلوا / بالغار بين عَصائبٍ ووشائحِ
وشدا الرعاةُ الملهمون وأغرقوا / أبهاءَ ليلكِ في خِضَمّ مفارحِ
أقبلتُ بين صفوفهم مُتَقَرِّباً / بأزاهري مترنماً بمدائحي
حيث الشهيدُ رنا لمطلع فجره / ورأى الغمائمَ في الفضاءِ الفاسح
وتَلفَّتتْ لكِ روحُهُ فتمثّلتْ / وجهَ البطولة في أرق ملامحِ
حيث الربى في ميسلون كأنما / تهفو إليهِ بزهرها المُتفاوحِ
وكأنما غسَلتْه بغداديةٌ / بدموع مَلْكٍ في ثَراكِ مراوِحِ
أسعى إِليه بكل ما جمعتْ يدي / وبكل ما ضُمّتْ عليه جوانحي
وهو الجدير بأن أُحَييَ باسمِهِ / في الشرق كلَّ مناضل ومنافحِ
من كلِّ حُرٍّ نافضٍ مما اقتنى / يَده ووهَّابِ الحشاشةِ مانحِ
أو كلِّ فادٍ بالحياة عشيرَهُ / لا القولِ في خُدَع الخيال السانِحِ
قُلْ للدعاة المحسنينَ ظَنونَهم / بالغرب ماذا في السَّراب لماتحِ
لا تُغرينّكمو وعودُ محالف / يطأ الممالك بادِّعاءِ مصالحِ
تمضي السنون وأنتمو من وعده / تَتَقلبون على ظهور أراجحِ
واللّه لو حسر القناعَ لراعكم / قَبرٌ أُعدَّ لكم وخَنْجَرُ ذابحِ
من كلّ مصاص الدماءِ مُنَوِّمٍ / يُدْعَى بمنقذِ أمةٍ ومُصالحِ
يا يوسف العظمات غرسُكَ لم يضِع / وجَناهُ أخلدُ من نتاج قرائحِ
قمْ لحظةً وانظرْ دمشق وقل لها / عاد الكمِيُّ مع النفير الصادحِ
ودعاك يا بنتَ العروبةِ فانهضي / واستقبلي الفجرَ الجديدَ وصافحي
رزءُ العروبةِ فيكَ والإِسلامِ
رزءُ العروبةِ فيكَ والإِسلامِ / رزءُ النُّهَى وفجيعةُ الأقلامِ
هو مأتمُ الأحرار في متوثّبٍ / بصفوفهم مستقتلٍ مقدامِ
أأنا المثاليين صوتُكَ لم يزل / في الشرق وحيَ براعةٍ وحسامِ
ونداءَ فادٍ تسأل الدنيا به / أصريعَ حربٍ أم شهيد سلامِ
لخلاص دارٍ أو فكاك عَشِيرةٍ / خُضْتَ الحياةَ كثيرةَ الآلامِ
واجتزتَ جِسْرَ العمر بين عواصف / هُوجٍ وموجٍ مُزْبدٍ مترامي
وشهرتها حرباً على مستعمر / مُتجبّرٍ أو غاصبٍ ظلَّامِ
تلقَى ببسمتك العريضةِ نارها / في موكب من ذائدين كرامِ
متفرِّقين على البعاد منازلاً / متجمِّعين على هوىً ووئامِ
كالبحر ماجَ وفي غواربهِ التَقى / سيلُ الرُّبَى وشوامخ الأعلامِ
وقفوا الحياة على الجهاد وقرَّبوا / دعَةَ النفوس وصحَّةَ الأجسامِ
إِرثُ الجدود الصيد أنت وهَبتَهُ / قلماً يصاول دونه ويحامي
وشبابَ مهدور الدماءِ مجاهد / في اللّه عَن عربٍ وعن إِسلامِ
الشاعرُ الغرِّيدُ نازحُ جَنّة / مَسْحُورةِ الأفنانِ والأكمامِ
أفياؤها ظُللُ الدهور وأرزها / أعلامُ آلهةٍ على آطامِ
قامت على جَبلٍ أشمّ سماؤه / مسرَى البيان ومسبحُ الإِلهامِ
تُهدِي إِليه بكل مغربِ كوكبٍ / أشواقَ نِضوى لوعة وغرامِ
أُمُّ تحنُّ إلى لقاءِ نجيبها / وأبٌ هو الوطن المشوق الظامي
يتساءَلان متى الإِيابُ ويومُهُ / يومُ الرحيل ولات حين مقامِ
مرَّتْ جنيفُ بخاطري فتمثَّلتْ / صُوَرُ الشهيد كأنهنَّ أمامي
متوحِّداً في غُرْبةٍ متوقِّداً / بصبابةٍ متفرِّداً بسقامِ
شيحٌ يدبُّ على عصاهُ وقلبُهُ / متوثِّبُ الآمال والأحلامِ
يطوي الثمانين الوضاءَ مَليئَةً / بمواكبٍ للذِّكريات ضخامِ
وجلائل للمأثرات مواثل / وجَحافل للحادثات جسامِ
هيهات ما أوهتْ قواه ولا ثَنَتْ / من خطوهِ عن غاية ومرامِ
هيهات ما نالتْ على إرهاقها / من قلبه في نَضْرَةٍ ووسامِ
هيهات ما شابتْ بِمُرِّ مذاقها / فيه حلاوةَ روحه البسَّامِ
طَلْقُ الجبين على نديِّ شمائل / كالفجر بين أشعةٍ وغَمَامِ
يا ابن الإمارة نافضاً من إِرثها / يَدَهُ لِنُصْرَةِ مبدأٍ وذمامِ
حين الغِنَى والجاهُ فتنةُ معشر / عن قومهم متخلفين نيامِ
صف كيف أبصرت الحياة وأنت في / عزِّ الملوكِ وهيبة الحكّامِ
ورأيتَ دنيا المالكين بعالم / متخوِّن متلوِّن هَدَّامِ
تومِي إليكَ قصورُهم وكأنها / عينٌ مقرَّحةٌ وقلبٌ دامي
ومشيتَ تُنذرُ والوغَى مُتَسَعِّرٌ / والأرض غرقى في دم وضِرامِ
في حومةٍ من قاهرين تربَّصوا / بالمضعفين منافذَ الأيامِ
عَنَتِ الشعوبُ لسيفهم فتألَّبوا / يتنازعون مصايرَ الأقوامِ
يأبى يَراعُك أن يُفارق راحةً / خُلِقَتْ لردِّ تحيّةٍ وسلامِ
بيضاءُ ملهَمةُ البنان مِزاجُها / فَيْضٌ من الأضواءِ والأنغامِ
أخذتْ خِناق الظلم فاسْتحذَى لها / وارتدَّ يستر وجهه بِلِثامِ
وَتَعَقَّبَتْهُ تهزُّ قبضة ثائر / فإِذا الحديدُ بها صديعُ حطامِ
وإِذا الحصونُ الشامخاتُ حجارةٌ / منثورةٌ والنارُ سُحبُ قتامِ
وإِذا المجاهدُ تحتَ غار جهاده / طُهْرُ اليدين مُخضَّبُ الصمصامِ
روحٌ يَهزُّ الشرق من أعماقه / وسنىً يمزِّق عنه كل ظلامِ
وَيَدٌ تُعانِقهُ برغم مَنيَّةٍ / وفَمٌ يُقَبِّلُهُ برغم حِمامِ
يا فرحتي للبحرِ أرجعُ ثانياً
يا فرحتي للبحرِ أرجعُ ثانياً / متفرداً بعبابهِ وسائهِ
أقصى منايَ سفينة ممشوقة / وبزوغُ نجم أهتدي بضيائهِ
وصريرُ دفّتها وعَزفُ رياحهِ / وخفوقُ قلعٍ أبيضٍ في مائه
وأرى الضباب يرفُّ فوقَ جبينهِ / في شاهبٍ من لونهِ وروائهِ
يجلوه ألاق رماديّ السنى / متطلعٌ بالفجرِ خلفَ فضائهِ
يا فرحتي للبحر أرجعُ ثانياً / كيما ألبّي المدّ في طفراتهِ
هذا المزمجرُ لست أنكرُ صوتهُ / إنّ الوضوحَ يشيع في نبراتهِ
أقصى منايَ لديه يومٌ عاصفٌ / يهفو رقيق الغيم في سبحانهِ
ورشاشُ موجٍ مستطارٌ تحتهُ / زبدٌ يفور الرغو ملءَ كراتهِ
وضجيج زُمّج مائهِ متخبطا / بالموج وهو يثيرُ من صرخاتهِ
يا فرحتي للبحرِ أرجع ثانيا / جوّابَ آفاقٍ غريب مسالك
أطوي مسارح طيره ومسابحاً / للحوت عبرَ طريقيَ المتشابكِ
حيثُ الرياح كأنما وخزاتها / حدُّ المدى وشبا الحسام الفاتكِ
أقصى منايَ روايةٌ محبوكةٌ / من نسيجِ قرصانِ طروبٍ ضاحكِ
ولذيذُ أحلامٍ وقد طاب الكرى / وتزايلت صورٌ هناك تواركي
أقدم فداكَ حديدها ولهيبها
أقدم فداكَ حديدها ولهيبها / واغنم مجادتها فأنت ربيبها
مجد الفتوح الغرّ أنت وريثه / والحرب أنت على المدى موهوبها
ما الحرب إلا ما شرعت وما رأت / أممٌ تذود عن الحقوق شعوبها
نادت فهبّ على الدماء ضريجها / يمشي ويقتحم السعير خضيبها
شرف المحارب أن يعفّ سلاحه / إن جارت الهيجاء وهو حريبها
ليجير شعباً أو يحرّر أمّة / لا تستباح ولا يضامُ نجيبها
النصر أن تلقى الطغاة بضربةٍ / شعواء لم يضب الطغاة ضريبها
فخذ العدوّ المستخفّ بطعنةٍ / إن لم تمته غدا تمته ندوبها
والمجد أن تحمي وراءك قرية / ضاعت مسالكها وضاق رحيبها
جنّ الحديد بأرضها وسمائها / فجرى وطار تصيبه ويصيبها
شدّت يد الفولاذ حول نطاقها / حلقا تصيح النار كيف أذيبها
بالروح والإيمان أنت قهرتها / بأساً فلان على يديك صليبها
حتى إذا أعيا العدوّ جلادُها / ووهت جحافِله وطاش وثوبُها
عضّت على كفّيه والتفّت على / ساقيه وانسدّت عليه دروبها
ومشت له منها ضراغم غابة / كلّ الردى أخلابُها ونيوبُها
قذفت به عنها وغودر جيشه / بددا تعقّبه الخوف وحوبها
جثثا تعاف البيد شرب دمائها / ويعفّ كاسرها ويأنف ذيبها
شرفا كماة النيل أيّ بطولةٍ / راع الكماة فنونها وضروبها
ومواقف لكمو تشيد بذكرها / دول وراء النار قام رقيبها
وملاحم الأبطالِ في فلوجه / قصص الكفاح غريبها وعجيبها
هومير ما غنّى بها طروادة / وكمثلها ما ألهمته حروبها
ضربوا الحصار على الكماة فجاءهم / فطِنُ الشجاعة في الحروب أريبها
متمرس بطباعها متفرّسٌ / في روعها يقط الخطى مرهوبها
فادٍ أحمّ كأنما احترقت به / حربٌ من الميلاد كان نشوبها
فنما وشبّ عليه من يحمومها / أدمٌ زهاه من السمات مهيبها
طلعت به إفريقيا وتطلّعت / آجامها وجبالها وسهوبها
يزرى بما نصب الدهاة لصيده / ويضلّ أشراك الردى ويخيبها
ما زال مصطرعا يصول ودونه / بيداء يغشاها اللظى ويجوبها
ساق الطغاة لها فرائس فتنةٍ / حمراء ينفخ في الجحيم ربوبها
عرضت مآثمها بهم وتقدّمت / أمم تمور على الرمال ذنوبها
حتى رأته كوى السماء ففتّحت / وتلألأت بسنى السلام ثقوبها
ومشى الكميّ أشمّ بين رجالهِ / أبطالِ حربٍ لا يقرّ سليبُها
لن يستذلّ ثرىً عليه دماؤهم / سالت لقد روى الحياة صبيبها
يا أيها الأبطال مصرُ إليكمُ / بالغار يستبق الشبيبةَ شيبها
وعقائلٌ خلفَ الخدور هواتفٌ / كالطير أذن بالصباح هبوبها
ينثرنَ بالريحان فوق رؤوسكم / طاقاتِ وردٍ ليس يذهبُ طيبها
وهفت غمائمُ في السماء تظلُّكم / ويرفُّ مصعدُها لكم ومصيبها
وعلى طريق المجد من فالوجةٍ / مهجٌ حوائمُ في التراب وجيبها
شهداؤكم ودُّوا هناك لو اَنَّهم / قدموا بألويَّةٍ يروعُ خضيبها
طلعوا بنور الفجر فوق مآذنٍ / تدعو ورحمن السماء يجيبها
هاتوا حديث الحرب كيف تطامنت / لكمُ مفازعها وهان عصيبها
في قرية محصورة كسفينة / في لجة هاجت وماج غضوبها
لم تدر فيها الريح أين قرارُها / والشمس أين شروقها وغروبها
كم حدثوا عنها وقالوا في غد / للقاع تهوي أو يحين رسوبها
وبِمصرَ والدنيا عيونُ أحِبةٍ / السُّهدُ والألم الممِضُّ حبيبها
ترعى النهار وتتقي غسق الدجى / هذا يطمئنها وذاك يريبها
إيهٍ حماةَ الشرق كم بجهادكم / تشدو العصور بعيدها وقريبها
هذي الضفاف وهذه داراتكم / دارات شمس لا يحول شيوبها
ترنو لكم وتكاد من أشواقها / تمشي وكيف حراكها ودبيبها
لِمَ لا أغنيكم قوافيَّ التي / غنَّى بملحمة الحياة طروبها
هي من روائعكم ووحيُ جديدها / منكم ومني في البيان وَجيبُها
بالله إن طفتُم بساحة عاهل / ترعاه مصر عيونها وقلوبها
فتقدموا تحت اللواء وقرّبوا / هذي السيوف الداميات عزوبها
أحيت له ولمصر أيّ مجادةٍ / هي ذخرهُ المأثورُ وهو وهوبها
هيهات تنبت تربة غير العلى / ما دام يسقى بالدماء خصيبها
مالوا بمصباح البيان صباحا
مالوا بمصباح البيان صباحا / ومشوا به في الذاهبين رواحا
ومضوا به إلا شعاعاً لم يزل / في الأرض مؤتلق السنى وضاحا
تهفو النجوم إلى سناه وتغتدي / نشوى كأن من الأشعة راحا
وعلى جوانب أرضها وسمائها / شفق تقلّده السماء وشاحا
هذا شعاع العبقرية لم يزل / يولي الحياة طلاقة وسماحا
قدر الخلود له وبارك أفقه / رب أراد به هدى وصلاحا
أجرى البيان على لسان نبيه / غدقا من السحر المبين قراحا
وحبابه الشعراء من ألحانه / فشدوا بألسنة الطيور فصاحا
لما مشى في الأرض فجر صخرها / ماء ونضرها ربى وبطاحا
وأنار في شرف السماء نجومها / فتلون من آياته الألواحا
فكأنما الدنيا ضحلا وكأنما / في كل داجية نرى مصباحا
قل لابن هانئ لا ذوت لك كرمة / فقد الربيع هزارها الصداحا
قد كنت في أمس نزيل رحابها / فنزلت أشرف ما أبلغ ساحا
ألقى وأسمع عبقريا ملهما / طلق المحيا ماجدا مسماحا
يولي النفوس بشاشة وينيلها / أدبا ويسقيها الوداد صراحا
أنست زمانا بالبيان وأهله / حتى تبدل أنسها أتراحا
وقفت بي الدنيا على جنباتها / فرأيت حزنا واستمعت نواحا
وشهدت ظل الموت فوق ظلالها / يغشى الربى ويجلل الأدواحا
وجمت وكانت الموت فوق ظلالها / تستقبل الإمساء والإصباحا
وذو ت أزاهرها ونفر طيرها / ينزو ويقطر أدمعا وجراحا
يبكي من الصدر الورود لجدول / كم عب من دفاقه وامتاحا
لما نعيت لها تزايل حسنها / وصغا الربيع بوجهه وأشاحا
سيان بعدك يابن هانئ دهرها / يسري نسيما أم يهب رياحا
قم وابك للشعر النبوغ وقل له / أمضى زمان النابغين وراحا
واهتف بصومعة البيان فقد خلا / عهد الرسالة بالقريض وطاحا
ولى بسر العبقرية شاعر / اللّه هيأه لنا وأتاحا
لم تسعد الفصحى بمثل يراعه / يوما ولا لقي الخيال جناحا
شعر حوى الدنيا ونسق حسنها / صورا ومثلها منى وطماحا
ويزيح عن ماضي العصور ستارها / فترى بها الغادين والرواحا
هو مثل هذا الطير في صدحاته / والزهر لطفا والعبير نفاحا
وأراه كالبحر الخضم عبابه / يعيى مداه الخائض السباحا
ويظنه الملاح طوع شراعه / فيرد عن غمراته الملاحا
يهدي إذا هدأ الثرى أصدافه / وإذا تمرد دره اللماحا
وأراه حين يرق عاطر نسمة / وإذا قسا فالعاصف المجتاحا
شعر يشف عن الحياة وداعة / ويؤج منها ثورة وكفاحا
ويبين من غضب النفوس وصفوها / مثل الحياة كآبة ومراحا
ويفيض من نبع القلوب فآنة / ماء وآنا جاحما لفاحا
والشعر مرآة الحياة ولم يزل / يجلو الرؤى ويصور الأشباحا
والشعر من أدب النفوس ولن ترى / من دونه هديا ولا إصلاحا
ولقد تذوقت الحياة فلم أجد / كالشعر ريا للنفوس وراحا
قل للكنانة عن رمائك أقصري / فلقد فقدت الرامي النضاحا
صياد أسراب الجمال إذا رنا / جاءته ما عرفت لديه جماحا
يدني القصي من الشوارد لفظه / ويروض منها النافر الممراحا
من كل معنى بالروائع حافل / يجلى كما تجلى الشموس صباحا
وقصيدة كالروض باكره الحيا / فاهتز ريحانا ورف أقاحا
من للطبيعة يستزيد جمالها / غررا كآيات الكتاب وضاحا
ذهب الذي غنى خمائل روضها / حتى مددن إلى النسيم الراحا
المرقص الزاهرت فوق غصونها / والمستخف عبيرها الفواحا
والمسعد الأيكات منه بملهم / كانت به الجنات قبل شحاحا
أوحى له المرح الوجود فصاغه / شدوا بأسرار القلوب وباحا
سبحان من أهدى الخيال يراعه / وهدى له الإبداع والإسجاحا
فتسمعوه فلم يزل من شعره / شاد يهزّ بسحره الأرواحا
يا نازحا عنا نزلت بعالم / تلقى الأحبة فيه والنزاحا
فاحلل بجنات الخلود ورو من / عين النعيم فؤادك الملتاحا
واملأ من الزهر المنور والجنى / كفيك واطرح عبئك الفداحا
سترى الرسول على معطر روحها / يهدي إليك ببابها المفتاحا
يسعى بحسان إليك وأنتما / وضحان من فجر النبوة لاحا
يختال في بردية من بردة / حاك القريض خيوطها أمداحا
يستاف من ميلاده شوقية / الله كان لمسكها النفاحا
فاشرح هواك له وبث لواعجا / كانت لهن دموعك الشراحا
أبلغ إلى صبري التحية والهوى / عنا وحي جبينه الوضاحا
وامسح دموعك عن أسرة حافظ / فلقد لقيت بقربه الأفراحا
وتساق أقداح المسرة معهما / فلكم ملأت بدمعك الأقداحا
واذكر على الأرض الشقية رفقة / باتوا عليك يقلبون الراحا
في عالم ما زال في غلوائه / ومنى على رث الحطام تلاحى
أشرق بوجهك في غياهب ليله / يخلع دجاه إذا جبينك لاحا
وأضىء على شط الحياة منارة / واطلع بكل دجية مصباحا
ونم الغداة وحسب روحك أن ثرى / من نور مجدك هذه الأوضاحا

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025