المجموع : 66
جمالك يا وجه الفضاء عجيب
جمالك يا وجه الفضاء عجيب / وصدرك يأبى الانتهاء رحيب
وعينُك في أم النجوم كبيرةٌ / تضيء على أن الضياء لهيب
وما زلت تغضيها فنُخطئ قصدنا / وتفتحها برّاقةً فنصيب
فيحمرّ منها في الغَدّية مطلع / ويصفرّ منها في العشيّ مغيب
ويخلفها البدر المنير حفيدها / وعنها إذا جنّ الظلام ينوب
وليلٍ كأنّ البدر فيه مليحةٌ / أغازلها والنيّرات رقيب
سريت به والبحر رهوٌ بجانبي / وردُن النسيم الغضّ فيه رطيب
فشاهدت فيه الحسن أزهر مشرقاً / له في العلا وجهٌ أغرّ مهَيب
ورحت وأهل الحيّ في قبضة الكرى / وفي الليل صمتٌ بالسكون مشوب
فكنت كأنّي أسمع الصمت سارياً / له بين أحشاء الفضاء دبيب
ولو أنّ صمت الليل لم يك مطرباً / لما هزّ أعطاف النسيم هبوب
ألا أن وجه البحر بالنور ضاحك / طليق وثغر الماء فيه شنيب
ترقرق منساباً به الماء والسنى / فلم أدر أيّ اللامعين يسيب
وللبدر نورٌ يمنح البحر رونقاً / فيبدو كأنّ الماء فيه ضريب
إذا جمّش البحر النسيم تهلّلت / أسارير فيها للضياء وثوب
وقفت ولألاء السني يستخفّني / فتطرب نفسي والكريم طروب
أردّد بين البدر والبحر ناظري / قيصعد طرفي مرة ويصوب
تأمّلت في حسن العوالم مَوهِناً / فجاش بصدري الشعر وهو نسيب
كأنّي وعُّلويَّ العوالم عاشقَ / أطلّ من الأعلى عليه حبيب
فقام له مستشرفاً ويمينه / تشدّ ضلوعاً تحتهنّ وجيب
ولما رأيت الكون في الأصل واحداً / عجبت لأن الخلق فيه ضروب
ألا أن بطناً واحداً أنتج الورى / كثيرين في أخلاقهم لرغيب
وإن فضاءً شاسعاً قد تضاربت / بأبعاده أيدي القوى لرهيب
وإن اختلاف الآدميين سيرةً / وهم قد سلووا صورة لعجيب
وأعجب ما في الكائنات ابن آدم / فما غيره في الكائنات مريب
يذمّم فعل السوء وهو حليفه / ويحمد قول الصدق وهو كذوب
رأيت الورى كلاًّ يراقب غيره / فكلّ عليه من سواه رقيب
ومن أجل هذا قد نرى كل فاعل / إلى الناس في كلّ الفِعال ينيب
فكم حَمَل في مجمع القوم يُتّقى / به ثعلب عند الخلاء وذيب
ولو باح كلٌّ بالذي هو كاتمٌ / لما كان في هذا الأنام أديب
وليس يجدّ المرء إلاّ تكلُّفاً / وذاك لأن الطبع فيه لعوب
ويجتنب المرء العيوبَ لأنّها / لدى عائبيه لا لديه عيوب
رئاء قديم في الورى شقيت به / قبائل منهم جَمةٌ وشعوب
ورَّبتَ أخلاق يراها خبيثةً / اناس وعند الآخرين تَطيب
وحلم الفتى عند الضعيف فضيلةٌ / ولكنه عند القوىّ مّعيب
وقد يفتري المال الفضائل للورى / وليس لهم مما افتراه نصيب
وللفقر بين الناس وجهٌ تبينّت / به حسنات المرء وهي ذنوب
لقد أحجم المثري فسّموه حازماً / وأحجم ذو فقرٍ فقيل هيوب
وإن يتواضع مُعدمِ فهو صاغرٌ / وإن يتواضع ذو الغنى فنجيب
وذو العُدم ثرثار بكثر كلامه / وذو الوُجد منطيق به ولبيب
وللناس عادات كثير تقودهم / فكلّ امرئ منهم لهنّ جنيب
وهنّ إذا ما يأكلون أكيلهم / وهنّ إذا ما يشربون شريب
أبو أن يحيدوا ضلّة عن طريقها / وإن مسّهم من أجلهن لغوب
هي الداء أعيا الأولين فهل له / على عقمه في الآخرين طبيب
قرأت وما غير الطبيعة من سفر
قرأت وما غير الطبيعة من سفر / صحائف نحوي كل فن من الشعر
أرى غرر الأشعار تبدو نضيدوً / على صفحات الكون سطراً على سطر
وما حادثات الدهر إلاّ قصائد / يفوه بها للسامعين فم الدهر
وما المرء إلا بيت شعر عروضه / مصائب لكن ضربه حفرة القبر
تنظّمنا الأيام شعراً وإنّما / ترّد المنايا ما نظمن إلى النثر
فمّنا طويل مسهب بحر عمره / ومنّا قصير البحر مختصر العمر
وهذا مديح صيغ من أطيب الثنا / وذاك هجاء صيغ من منطق هجر
وربّ ينام في المقابر زرتهم / بمنهل دمع لا ينهنه بالزجر
وقفت على الأجداث وقفة عاشق / على الدار دارس الطلل القفر
فما سال فيض الدمع حتى قرنته / إلى زفرات قد تصاعدن من صدري
أسكان بطن الأرض هلاّ ذكرتم / عهوداً مضت منكم وأنتم على الظهر
رضيتم بأكفان البلى حللاً لكم / وكنتم أولي الديباج والحلل الحمر
وقد كنتم تؤذي الحشايا جنوبكم / فكيف رقدتم والجنوب على العَفر
ألا يا قبوراً زرتها غير عارف / بها ساكن الصحراء من ساكن القصر
لقد حار فكري في ذويك وإنه / ليختار في مثوى ذويك أو لو الفكر
فقلت وللأجداث كفي مشيرة / ألا أن هذا الشعر من أفجع الشعر
وليل عدافىّ الجناحين بته / أسامر في ظلمائه واقع النسر
وأقلع من سفن الخيال مراسياً / فنجري من الظلماء في لجج خضر
أرى القية الزرقاء فوقي كأنها / رواق من الديباج رصع بالدر
ولولا خروق في الدجى من نجومه / قبضت على الظلماء بالأنمل العشر
خليليّ ما أبهى وأبهج في الرؤى / نجوماً بأجواز الدجى لم تزل تسرى
إذا ما نجوم الغرب ليلا تغورت / بدت أنجم في الشرق أخرى على الأثر
تجوّلت من حسن الكواكب في الدجى / وقبح ظلام الليل في العرف والنكر
إلى أن رأيت الليل ولّت جنوده / على الدهم يقفو أثرها الصبح بالشقر
فيالك من ليل قرأت بوجهة / نظيم إليها في نثر أنجمه الزهر
وقلت وطرفي شاخص لنجومه / ألا أن هذا الشعر من أحسن الشعر
ويوم به استيقظت من هجمة الكرى / وقد قدّ درع الليل صمصامةُ الفجر
فأطربني والديك مشجٍ صياحه / ترنّم عصفور يزقزق في وكر
ومما ازدهى نفسي وزاد ارتياحها / هبوب نسيم سجسجٍ طيب النشر
فقمت وقام الناس كل لشأنه / كأنا حجيج البيت في ساعة النَّفر
وقد طلعت شمس النهار كأنّها / مليك من الأضواء في عسكر مجر
بدت من وراء الأفق ترفل للعلا / رويداً رويداً في غلائلها الحُمر
غدت ترسل الأنوار حتّى كأنّها / تسيل على وجه الثرى ذائب التبر
إلى أن جلت في نورها رونق الضحا / صقيلاً وفي بحر الفضاء غدت تجري
وأهدت حياةً في الشعاع جديدةً / إلى حيوان الأرض والنبت والزهر
فقلت مشيراً نحوها بحفاوة / إلا أن هذا الشعر من أبدع الشعر
وبيضة خدر أن دعت نازح الهوى / أجاب ألا لّبيك يا بيضة الخدر
من اللاء يملكن القلوب بكلمة / ويحيين ميت الوجد بالنظر الثزر
تهادت تريني البدر محدقةً بها / أوانس إحداق الكواكب بالبدر
فللّه ما قد هجِنَ لي من صبابة / ألفت بها طيّ الضلوع على الجمر
تصافح إحداهّن في المشي تربها / فنحر إلى نحر وخصر إلى خصر
مررنَ وقد أقصرت خطوي تأدّباً / وأجمعت أمري في محافظة الصبر
فطأطأنّ للتسليم منهنَ أرؤساً / عليها أكاليل ضفرن من الشعر
فألقيت كفّي فوق صدري مسلمّاً / وأطرقت نحو الأرض منحني الظهر
وأرسلت قلبي خلفهنّ مشيعاً / فراح ولم يرجع إلى حيث لا أدري
وقلت وكفي نحوهنّ مشيرة / ألا أن هذا الشعر من أجمل الشعر
ومادة نسج الدمقس غطاؤها / بمجلس شبان هم أنجم العصر
رقى من أعاليها الفنغراف منبراً / محاطاً بأصحاب غطارفة غر
وفي وسط النادي سراج منور / فتحسبه بدراً وهم هالة البدر
فراح بإذن العلم ينطق مقولاً / عرفنا به أن البيان من السحر
فطوراً خطيباً يحزن القلب وعظه / وطوراً يسرّ السمع بالعزف والزمر
يفوه فصيحاً باللغى وهو أبكم / ويسمع ألحان الغنا وهو ذو وقر
أمين أبي التدليس في القول حاكياً / فتسمعه يروي الحديث كما يجري
تراه إذا لقنته القول حافظاً / تمرّ الليالي وهو منه على ذكر
فيالك من صنع به كل عاقل / أقر لآديسون بالفضل والفخر
فقلت وقد تمت شقاشق هدره / ألا أن هذا الشعر من أعجب الشعر
وأصيد مأثور المكارم في الورى / يريك إذا يلقاك وجه فتى حر
يروح ويغدو في طيالسة الغنى / ويقضي حقوق المجد من ماله الوفر
تخوّنه ريب الزمان فاولعت / بإخلاقها ديباجتيه يد الفقر
فأصبح في طرق التصعلك حائراً / يجول من الاملاق في سمل طمر
كأن لم يرح في موكب العزّ راكباً / عتاق المذاكي مالك النهي والأمر
ولم تزدحم صيد الرجال ببابه / ولم يغمر العافين بالنائل الغمر
فظل كئيب النفس ينظر للغنى / بعين مُقِلٍّ كان قس عيشة المثري
إلى أن قضى في علة العُدم نحبه / فجّهزه من مالهم طالبو الأجر
فرحت ولم يحفل بتشييع نعشه / أشيعه في حامليه إلى القبر
وقلت وأيدي الناس تحثوا ترابه / ألا أن هذا الشعر من أحزن الشعر
ونائحة تبكي الغداة وحيدها / بشجو وقد نالته ظلماً يد القهر
عزاه إلى إحدى الجنايات حاكم / عليه قضى بطلاً بها وهو لا يدري
فويل له من حاكم صُبَ قلبه / من الجور مطبوعاً على قالب الغدر
من الروم أما وجهه فمشوّه / وقاح وأما قلبه فمن الصخر
أضرّ بعفّ الذيل حتى أمضّه / ولم يلتفت منه إلى واضح الغدر
تخطّفه في مخلب الجور غيلةً / فزجّ به من مظلم السجن في القمر
تنوء به الأقياد أن رام نهضةً / فيشكو الأذى والدمع من عينه يجري
تناديه والسجان يكثر زجرها / عجوز له من خلف عالية الجدُر
بنيّ أظنّ السجن مسّك ضّره / بنيّ بنفسي حلّ ما بك من ضرّ
بنيّ استعن بالصبر ما أنت جانياً / وهل يخذل الله البريء من الوزر
فجئت أعاطيها العزاء وادمعي / كأدمعها تنهلّ منّي على النحر
وقلت وقد جاشت غوارب عبرتي / ألا أن هذا الشعر من اقتل الشعر
لعمرك ما كل انكسار له جبر
لعمرك ما كل انكسار له جبر / ولا كل سّر يستطاع به الجهر
لقد ضربت كفّ الحياة على الحِجا / ستاراً فعِلم القوم في كنهها نزر
فقمنا جميعاً من وراء ستارها / نقول بشوق ما وراءك يا ستر
حكت سرحة فنواء نُبصر فرعها / ولم ندرِ منها ما الأنابيش والجذر
وقد قال بعض القوم إن حياتنا / كليلٍ وإن الفجر مطلعه القبر
وروح الفتى بعد الردى إن يكن لها / بقاء وحسّ فالحياة هي الخُسر
وإن رقيت نحو السماء فحبّذا / إذا أصبحت مأوىً لها الأنجم الزهر
وأعجب شأن في الحياة شعورنا / وأعجب شأن في الشعور هو الحجر
وللنفس في أفق الشعور مخايل / إذا برقت فالفكر في برقها قطر
وما كل مشعور به من شؤونها / قدير على إيضاحه المنطق الحر
ففي النفس ما أعيا العبارة كشفُه / وقصّر عن تبيانه النظم والنثر
ومن خاطرات النفس ما لم يقم به / بيان ولم يَنهض بأعبائه الشعر
ويا ربّ فكرٍ حاك في صدر ناطق / فضاق من النطق الفسيح به الصدر
ويا ربّ فكر دق حتى تخاوصت / إليه من الألفاظ أعينها الخزر
أرى اللفظ معدوداً فكيف أسومه / كفاية معنّى فاته العدّ والحصر
وافق المعاني في التصور واسع / يتيه إذا ما طار في جوّه الفكر
ولولا قصور في اللغى عن مرامنا / لما كان في قول المجاز لنا عذر
ولست أخُص الشعر بالكَلمِ التي / تُنظّم أبياتاً كما ينظم الدرّ
وذاك لأن الشعر أوسع من لغى / يكون على فعل اللسان لها قصر
وما الشعر إلا كلّ ما رنّح الفتى / كما رنّحت أعطافَ شاربها الخمر
وحرّك فيه ساكنَ الوجد فاغتدى / مهيجاً كما يستنّ في المرح المُهر
فمن نفثات الشعر سجع حمامة / على أَيْكة يُشجي المشوق لها هدر
ومن شذرات الشعر حوم فراشة / على الزهر في روض به ابتسم الزهر
ومن ضحكات الشعر دمعة عاشق / بها قد شكا للوصل ما فعل الهجر
ومن لمعات الشعر نظرة غادة / بنجلاء تسبي القلب في طرَفْها فتر
ومن جمرات الشعر رنّة ثاكل / مفجّعة أودى بواحدها الدهر
ومن نفحات الشعر ترجيع مطرب / تعاور مَجرى صوته الخفض والنبر
وإن من الشعر ائتلاق كواكب / بجنح الدجى باتت يضاحكها البدر
وإن لريحانيِّنا شاعرّيةً / من الشعر فيها أن يقال هي الشعر
وما الشعر إلا الروض أما أميننا / فريحانه والخلق منه هو النشر
وإن لم يكن شعري من الشعر لم يكن / لعمرُ النهى للشعر عند النهى قدر
بني الأرض هل مِن سامع فأبثَّه
بني الأرض هل مِن سامع فأبثَّه / حديث بصير بالحقيقة عالم
جُبلنا على حبّ الحياة وإنها / مخيفة أحلام أطافت بحالم
سعى الناس والأقدار مخبوءة لهم / وناموا وما ليلُ الخطوب بنائم
جرت سفُن الأيام مشحونةً بنا / على بحر عيش بالردى متلاطم
تأمّلت في الأحياء طُرّاً فلم أجد / بهم باسماً إلاّ على ألف واجم
وربّ سعيد واحدٍ تمّ سعده / بألف شقىّ في المعيشة راغم
وما المرء إلاّ دوحة في تنوفةٍ / ملوّحةٌ أغصانها بالسمائم
لها ورق قد جفّ إلاّ أقلَّه / وعيدانها بين النيوب العواجم
ولابدّ أن تجتثّ يوماً جذورها / وتقلعها إحدى الرياح الهواجم
أرى العمر مهما ازداد يزداد نقصه / إذاً نحن في نقص من العمر دائم
ولولا انهدام في بناء جسومنا / لما احتيج في تعميرها للمطاعم
لحى الله بأساء الحياة كأننا / نكبّل من حاجاتها بالأداهم
نروح كما نغدو نجاهد دونها / أموراً دعتنا لارتكاب الجرائم
فلو كنت في هذا الوجود مخيّراً / وفي عدمي لاخترته غير نادم
هل الموت إلا سالك وحياتنا / إليه سبيل مُستبين المعالم
وما زال هذا الدهر غضبان آخذاً / على الناس من سيف المنون بقائم
تبصّرْ تجد هذي البسيطة منزلاً / كثير اليتامى عامراً بالمآتم
وليس الذي آسى له فقد هالك / ولكن ضياع المفجعات الكرائم
أرامل تستذري الدموع وحولها / يتامى كأفراخ القطا والحمائم
وكائنْ ترى مخدومة في جلالها / سعت حيث أبكاها الردى سعي خادم
فليت المنايا حين قوّضن بيتها / بدأنَ بها من قبل هدم الدعائم
أرى الخير في الأحياء ومض سحابة / بدا خلّياً والشر ضربة لازم
إذا ما رأينا واحداً قام بانياً / هناك رأينا خلفه ألف هادم
وما جاء فيهم عادل يستعيلهم / إلى الحق إلا صدّه ألف ظالم
جهلتُ كجهل الناس حكمة خالق / على الخلق طرّاً بالتعاسة حاكم
وغاية جهدي أنني قد علمته / حكيماً تعالى عن ركوب المظالم
رأيت لنفسي في الحياة كأنني / من العيش مُلقىً في شدوق الضراغم
يخاصمني منها على غير طائل / أناس فابدي الصفح غير مخاصم
وأقنع بالقوت الزهيد لطيبه / حذارَ وقوعي في خبيث المطاعم
وأترك ما قد تشتهي النفس نَيْله / لما تشتهيه قلة في دراهمي
وكم لي في بغداد من ذي عداوة / وما أنا في شيء عليه بجارم
إذا جئت بالقلب السليم يجيئني / بقلب له من كَثرة الحقدوارم
متى تطلق الأيامُ حرية الفكر
متى تطلق الأيامُ حرية الفكر / فينشط فيها العقل من عقلة الأسر
ويصدع كلّ بالحقيقة ناطقاً / ويترك ما لم يدر منها لمن يدري
أرانا إذا رمنا بيان حقيقة / عُزينا معاذ الله فيها إلى الكفر
جهلنا أشدّ الجهل آخر عمرنا / كما قد جهلنا قبله أوّل العمر
هما ساحلا بحر من العيش مائج / ففي أيّ أمر نحن بينهما نجري
ومن أين جئنا أم إلى أين قصدُنا / وفي أيّ ليل من تشككنا نسري
كأنّأ أتينا والمعيشة لجّة / لنعبُرَ والأعمار جسر إلى القبر
وماذا وراء القبر مما نريده / وهل من مَدىً بعد العبور على الجسر
تسائلني نفسي وللموت صولة / ألا هل لكسر الموت ويحك من جبر
لعلّ حياة المرء ليلٌ ستنجلي / غياهبه من سكرة الموت بالفجر
فإن كان ذا حقاً فإن حياتنا / كما قيل ستر والردى كاشف الستر
وقد قيل إن الروح تبقى فهل لها / عروج إلى الأعلى إلى الأنجم الزهر
وهل تعرف الجثمان بعد عروجها / فتمكثَ منه في السماء على ذُكر
إذا أرضنا كانت سماءً لغيرها / فما من عروج بل نزول إلى القعر
وهل عرجت أرواح من في عطاردٍ / إلى الأرض أم هذا الكلام من الهذر
خيال به رحنا نعلّل أنفساً / هز أن به لما رجعن إلى الحجر
وشبّه بالنهر الحياةَ معاشرٌ / فمنبعه في رأيهم قدم الدهر
ولكنّهم أعيا عليهم مصبه / وإن رجموا بالظن في منبع النهر
فيا ليت شعري أين ينصبّ جارياً / أعوداً لبدء أم إلى غاية يجري
لعمرك ما هذي الحياة وما الذي / يُراد بنا فيها من الخير والشر
نحلول علماً بالحياة وإنّ ذا / منَوط إلى ما ليس يدرَك بالفكر
ونسلُك منها في مجاهل قفرة / فنخرج من قفر وندخل في قفر
على أننا نَمضي إلى أمر ربنا / كما أننا آتون من ذلك الأمر
أرى عيشنا تأبى المنون امتداده
أرى عيشنا تأبى المنون امتداده / كأنّا على كيس المنون نعيش
وما زال وجه الأرض يُوسعه الردى / لطاماً وهاتيك القبور خُدوش
كأنّ انقلاب الأرض ماء كأننا / على الماء من ريح الحياة نقوش
لحا الله ديناً كل يوم بأهلها / تهدّ حصون أو تثلّ عروش
تروح سهام العيش فيها طوائشاً / وللموت سهم لا يكاد يطيش
نمدّ إلى قطب المنى وهي / جمّة من العمر كفاً لا تكاد تنوش
ونرجو ومن سيف الردى في رجائنا / جِراحات يأس ما لهنّ أروش
وأجمل بوجه العيش لو لم يكن به / حنانيك من ظفُر الخطوب خموش
دهانا لرامي الموت سهم مقرطس / نَجيفٌ بأدواء الحياة مريش
لعمرك أن الدهر تغلي خطوبه / وإنّ عويل الصارخين نشيش
وما الدهر إلاّ للخلائق منضج / له مِرجَل بالحادثات يجيش
كأنّ جيوش الموت رافقة بنا / فتزحف منا للحروب جيوش
ومن نظر الدنيا بعين اعتباره / تساوت مُهود عنده ونعوش
حياة الورى جسر مديد وإنما
حياة الورى جسر مديد وإنما / عليه الورى يمشون مشية عابر
وللموت كسر ليس يمكن جبره / بلفّ ضمادِ أو بشدّ الجبائر
وقتل الردى قتل جبار فلم تكن / لتدُرك فيه ثأرها نفس ثائر
فإنّ منايانا سهام عوائر / وكيف اثئار في السهام العوائر
أرى الناس طّراً في الردى غير أنهم / ثَووا بين مقبورٍ هناك وقابر
وما الموت إلاّ هوّةٌ أدلج الورى / إليها بمسودّ الدُّجنُة كافر
فهم أبداً يسّاقطون لقمرها / تساقط عميٍ في عماق الحفائر
أرى كل حيّ في الحياة ممُثلاً / رواية رؤيا من كتاب المقادر
رواية رؤيا قد جرت في ديارنا / فجائعها حتى انتهت في المقابر
لقد قدّم الموت الحياة أمامه / نذيراً ومن يُنذر فليس بغادر
فلا عجبْ أنا نرى كل ساعةٍ / أكفّ المنايا داميات الأظافر
لقد بتّ مطروف النواظر بالسُّهد
لقد بتّ مطروف النواظر بالسُّهد / تقلّبني فوق الفراش يد الوجْد
تساورني رقشاء من لاعج الجوى / ويَقدَح في قلبي الأسى واري الزند
فأرقب تغوير النجوم بمقلةٍ / ترقرق فيها الدمع منفرط العِقد
أقول وفرع الليل أسحم والأسى / يذِبّ دبيب السمّ في العظم والجلدٍ
متى يسفر الصبح الذي أنا راقب / أليس قميص الليل عنه بمنقدّ
إلى أن رأيت الفجر قد لاح خيطه / كما أصلت السيف الجزار من الغمد
فما أنا إلا غفوة فخيالة / لدى العالم العلويّ في ربوة الخلد
رأيت كأني قمت حول سرادق / من النور مرفوع الدعائم ممتدّ
أقاموا لواء الحمد فوق عماده / وخطّوا على حافاته سورة الرعد
وقد أشرقت ملء السموات حوله / قناديل خضر تستنير بلا وقد
وقد لاح لي محمود شوكت جالساً / به فوق كرسي الجلالة والمجد
وفي يد ه سيف أُجيد صقاله / على أنه من صّنعة الله لا الهند
وفي الرأس تاج بالثناء مرصّع / فويق جبين مشرق بسنى الحمد
وقد جلّلته بردة سندسيّة / ومن تحتها دِرعِ إلهية السرد
وبين يديه زهرة من ملائك / مجنّحِة الأيدي غرانقةٍ مُرد
تُهنّئه بالفوز طوراً وتارة / تُحييّه بالغضّ الطريّ من الورد
وقد قام من حول السرادق موكب / عظيم به اصطفّت أُلوف من الجند
فلما رآني واقفاً بحياله / وقد كنت بين الجند معتزلاً وحدي
أشار أن أقرب يا رصافي مالنَا / نراك وحيداً قد وقفت على بعد
فجئت وجسمي قد تغشتّه رجفة / كما يرجف المقرور من شدة البرد
فقمت لديه وانحنيت أمامه / فقبلت بالتعظيم حاشية البرد
فقال لقد آنستَ إذ جئت أننا / عهدناك في زُوّارنا مخلص الود
ولا ترتجف هوّن عليك فإنما / نزلت قرين الأمن في منزل السعد
فأبلغ تحياتي إلى الوطن الذي / سعيتُ إلى اعلائه باذلاً جُهدي
وقل لبنيه إنني لست حاقداً / عليهم فمثلي لا يميل إلى الحقد
وإني لما أن تمثلت قائماً / بديوان ذي العرش الذي جلّ عن ند
طلبت لهم عفواً من الله سابغاً / وقلت له يا رب لا تُخزهم بعدي
ويا رب إني قد قصدت نجاحهم / فحقق لهم يا ربّ ما كان من قصدي
وإني لأرجو منك مرحمة لهم / وإن قتلوني ظالمين على عمد
فإني أرى موتي بخدمة أمتي / حياةً به طعم الشهادة كالشهد
ألا فاهدهم يا ربّ للمجد والعلا / فما من مضلٍ في الأنام لمن تهدي
وقال أتدري من هم الجند إنّهم / من استشهدوا في حرب أعدائنا اللد
ألم ترهم دامين حتى كأنما / تسربل كلٌ لبدة الأسَد الورد
فسوف بحول الله أرأب صدعهم / وأغزو العدى فيهم على الضمّر الجرد
وإذنّ في الحيّ المؤذَن غدوةً / فأيقظني التكبير من سنةٍ الرقد
فقمت وبي من خشية الله رعدة / وأحسست من رؤياي بَرداً على كبدي
وأصبحت لم أملك بوارد عبرةٍ / تخُطّ سطور الدمع في صفحة الخد
سأبكي وأستبكي الجيوش على فتىً / فقدناه فقد الغيث في الزمن الصلد
فتىً كان في أفق الوزارة كوكباً / به في دحبى الخطب الخلافة تستهدي
وقد كان في وجه الخطوب تبسماً / إذا عبّست يوماً بأوجهها الرُّبد
وما مات محمود الخصال وإنما / تنقّل من هذا الفناء إلى الخلد
لئن غَيبت عنا مرائية في الثرى / فما غُيّبت عنا معاليه في اللحد
وما هو إلا السيف قد كان مصلتاً / على الدهر وهو اليوم قد قرّ في الغمد
سيبقى له الذِكر الجميل مؤّبداً / تَمُرّ به الأيام حالية الأيدي
تفكّرت في كنه الحياة فلم أكن
تفكّرت في كنه الحياة فلم أكن / لأزداد إلاّ حيرةً في تفكري
وكم بتّ فيها أخبط الليل رامياً / إليها بلحظ الطارق المتنوّر
فلا أهتدي من أمرها لمقدّم / ولا أنتهى من أمرها لمؤخّر
على أنني مهما تقدّمت نحوها / رجعت رجوع الناكص المتقهقر
وهبها كما قد قيل أحلام نائم / أما في بني الدنيا لها من معبّر
تأمّلت آثار الحياة فلم يلح / لعينيّ منها وجه ذاك المؤثّر
سوى أنني آنست شعلة قابس / توقّد في مستن هو جاء صرصر
فبينا سناها يبهج العين لامعاً / أتته كقطع الليل هبوة معصر
فما هي إلا خبوةٌ ترتمي بها / إلى ظلمات صبحها غير مسفر
كذلك محيي الدين إذ غاله الردى / فأطفأ منه نيًرا أيّ نيّر
عليك العفا بيروت هل لك بعدما / قضى فيك محيي الدين من متصبّر
فتىً كان ركناً فيك للعلم والحجا / وغرّ القوافي والكلام المحبّر
فقدنا به صلت الجبين مهذّباً / كريم سجايا النفس عفّ المؤزّز
لقد عاش شيخاً في العلوم مقدّماً / فما ضرّه أن مات غير معمّر
وما مات من أبقى له طيّب الثنا / لدى الناس من بادٍ ومن متحضر
نعاه لي الناعي فكان كأنه / لدى نعيه أهوى إليّ بخنجر
ولو لم يكن شدّي الحيازيم دونه / خررت كما خرّ الصريع لمنخر
خليليّ عوجا بي على قبر ماجد / بيروت يحوي كل فضل ومفخر
قفا نحتقر دمع العيون تجلّةً / لمن فيه من ذاك الجليل الموقّر
ونتدب في ملحوده المجد والعلا / ونسقيه غيث الدمع من كل محجر
عسانا بذا نقضي له بعض حقّه / وإن جلّ أن يقضى بدمع محقر
لعمرك لو كانت حديداً جسومنا
لعمرك لو كانت حديداً جسومنا / لأبلته من كرّ الليالي مبارد
فكيف ولسنا بالحديد وإنما / جوارحنا هذي الدماء الجواسد
إذا ما افتكرنا في الحياة واصلها / وغايتها هانت علينا الشدائد
وماذا عسى يجدي التوّجع والأسى / من الموت إذ كلْ على الموت وارد
نعين منايانا علينا بحزننا / فيقرب من آجالنا المتباعد
وليس برزءٍ أن نرى المرء هالكاً / إذا حييت بالذكر منه المحامد
بل الرزء كلّ الرزء أن يذهب الفتى / وليس له من بعده الدهر حامد
ويدفن في التراب اسمه دفن جسمه / فلم يتفقّده من الناس فاقد
ومن تفن بعد الموت آثار مجده / فآثار روحي الخالديّ خوالد
فتى غمدت منه المنون مهنّداً / وأيّ حسام ماله الدهر غامد
يعدّ بألف من رجال زمانه / على أنه في الألمعّية واحد
لقد بقيت للخالديين بعده / مناقب غرّ دونهنّ الفراقد
وكم حبّرت أقلامه من صحائف / بجيد العلا من درّهن قلائد
نماه إلى المجد الصراع متمماً / به فخره السيف الآلهيّ خالد
دعانا ابن جبر أن نلّم بذكره / لدى محفل قد ضّمنا وهو حاشد
فقمنا لذكرى مجده بعد موته / نباهي به أحياءنا ونماجد
ونستشهد الدنيا على حسناته / وقد كثرت فيها عليها الشواهد
وإني وإن لم أحظ منه برؤية / ليشهد لي من عادل فيه شاهد
ألا يا ابن جبر أنت أيقظت للعلا / عواطف كانت وهي فينا رواقد
فقلت اذكروا يا قوم فضل رجالكم / ففي ذكر فضل الغابرين فوائد
وسيروا على آثارهم واهتفوا بها / لينشط كسلان وينهض قاعد
ففي الغرب أموات أقيمت لذكرهم / تماثيل في كل البلاد أوابد
أعادل قد أنهضت للعلم جثّماً / فأنت لنا في نهضة العلم قائد
أقمت لذكرى الخالديّ مقامةً / بها حسنت للقوم منك المقاصد
وجاهدت في إنهاض حيّ بميّت / فجهدك في إنهاض قومك جاهد
ذكر ت مزاياه وذكرتنا به / وهل يذكر الأمجاد إلاّ الأماجد
فسعيك مشكور ورأيك صائب / وفعلك محمود وسيرك راشد
مضى عبد وّهاب الهبات لربّه
مضى عبد وّهاب الهبات لربّه / فللهّ من ماض إلى ربّه حرّ
مضى وهو محمود الخصال مخلّفاً / له عندنا آثار أخلاقه الغرّ
مضى وله في كل قلب مكانةٌ / تديم له ذكراه بالحمد والشكر
كذلك كّنا معه قبل وفاته / نبجّله في السرّ منّا وفي الجهر
وما زادنا إلاّ أسىَ بفراقه / فأمسى الأسى فينا له مالئ الصدر
إذا ما ذكرناه تفوح خلاله / فننشق من تذكاره أطيب النشر
ونلجأ عند الأدّكار إلى البِكا / ونفزع من بعد البكاء إلى الصبر
أخا سالم ما زلت عندي سالماً / وإن كان منك الشخص غيّب في القبر
تمثّلك الذكرى لعينَّى جالساً / تحدثّنا عّما أهمّ من الأمر
وتمزح طوراً ثم تنصاع ذاهباً / إلى الجدّ تغري بالحقيقة من تغري
فنغضب أحياناً ونطرب تارة / وأنت على الحالين مبتسم الثغر
وأنشدك الشعر الحقيقي تارة / فتطرب من ذكر الحقيقة في شعري
طواك الردى عنّي وشخصك لم يزل / بذكراك بعد الطيّ متصل النشر
فما أنت ميتاً إذ خيالك سانح / مدى العمر نصب العين في سانح الفكر
ولا عجب إن الحياة خيالة / فلا فرق عندي بين شخصك والذكر
سأنثر دمعي فيك نثر لآلىءٍ / وأنظم شعري في رثائك من درّ
لعلّي بذا أقضي إخاءك حقّه / وإن كان لاُ يقضى بنظم ولا نثر
إذا ما الفتى في دهره أحسن الظنّا
إذا ما الفتى في دهره أحسن الظنّا / فما أدرك المغزى ولا فهم المعنى
وما الحزم إلا أن نرى الدهر هاجماً / فنبنيَ من تدبيرنا دونه حصنا
وما الدهر إلا مبهرِ في طباعه / يغرّر بالأقوام يفتنهم فَتنا
يروع بنيه صائلاً بنباته / فقد ضلّ مَن من دهره يطلب الأمنا
يذفّ عليهم بالظبي من خطوبه / فكم جدعت أنفاً وكم صلمت أذنا
وما شهبه إلا مخالب كيده / تمدّ بجوف الليل دامية حجنا
إذا ما تشممت الزمان وطبعه / تشمّمت من أعماق طينته نتنا
إليك فتى السعدون جئت مهنّئاً / بما نلته عند الإله من الحسنى
إذا ما دممنا الدهر يوماً وأهله / فإنك من تلك المذمّات مستثنى
أتى يومك الدامي بذكراك حافلا / فجدّد في كل البلاد لنا حزنا
ففي مثل هذا اليوم بتّ مضرّجاً / وبتنا نحاكي في مداعمنا المزنا
وفي مثل هذا اليوم في حفرة البلى / جعلنا بك الآمال مدفونة هنّا
عشيّةً أطلقت المسدّس ناره / على قلبك الخفّاق من يدك اليمنى
فللّه نار قد بردت بحرّها / وإن سال منها دمعنا بالجوي سخنا
لئن أفقدت بالموت قلبك نبضه / فكم أنبضت بالحزن أفئدةً منّا
وكم أنطقت دمع المحاجر بالأسى / على أنها بالهول أخرست اللسنا
فيا طلقةً ريع العراق بصوتها / فبانت به الآفاق عابسةً دكنا
وردّد مجرى الرافدين لصوتها / صدى الحزن من أقصى العراق إلى الأدنى
لقد جمع الأموال باسمك معشر / لتخليدهم ذكراك في معهد يبنى
وما علموا أن المباني كلّها / وإن قويت تفنى وذكرك لا يفنى
وأعظم تخليداً لذكراك منهم / فعائلك الغرّاء والخلق الأسنى
سعيت إلى استقلال قومك مخلطصاً / وما كنت في يوم على القوم ممتنّا
وقعت بأعباء السياسة ناهضاً / يهمّة لاوانٍ ولا ناكصٍ جبنا
وأبديت في تلك المواقف كلّها / أصالة رأيٍ قط لم يعرف الأفنا
فإن كنت لم تنجح فليس لعلّةٍ / سوى أن خصم القوم في كيده افتنّا
زكت لك نفس بين جنبيك حرّة / فلا أظهرت كبراً ولا أضمرت ضغنا
لنا المثل الأعلى بحلمك والنّدى / فكم بهما أثنى عليك الذي أثنى
فأحنف ربّ الحلم بالحلم فقته / وفي الجود قد فقت ابن زائدة معنا
ألست الذي قدم رام قتلك قاتل / فأطلقته عفواً وأوسعته مَنّا
سيبقى على الأيام ذكرك خالداً / به صحف التأريخ قاطبةً تعنى
فيا بطلاً بالنفس ضحّى وإنما / بذلك لاستقلالنا سنّةً سنّا
فعلّمنا أنّ التفادي واجب / على كل قوم حاولوا شرف المغنى
سنسعى إلى ما قد سعيت من العلا / بصادق عزم ينكر الضعف والوهنا
وإنا لقوم مستقلّون فطرةً / إذا أنكر استقلالنا منكر ثرنا
فلو جعلت تبراً سبيكاً بيوتنا / ولسنا بحكام أبينا بها السكنى
يهون علينا في السياسة أننا / نصلّب في الأعواد أو ندخل السجنا
ولسنا نبالي دون أحياء مجدنا / أعشنا على وجه البسيطة أم مُتنا
إذا أدرك المجد المؤثّل معشر / أُحاد فأنّا نحن ندركه مثنى
نفوساً ورثناها كباراً أبيةً / أبت في الدنى أن تحمل الضيم والغبنا
بكى الفضل لما أن قضى نحبه جبر
بكى الفضل لما أن قضى نحبه جبر / وليس لكسر الموت في طبّنا جبر
طوى الموت من جبر بن ضومط فاضلا / لغرّ المساعي كان في عيشه نشر
مضى بعدما أمضى حياةً سعيدة / تبسم فيها العلم والفضل والفخر
وخَلف آثاراً خوالد بعده / يطيب له مدّ الزمان بها ذكر
على اللغة الفصحى أياديه جمّةٌ / وآثاره في نشر آدابها غر
وما كان يبدي الرأي فيها مقِلّداً / ولكن له الإبداع والفكرة البكر
وما كان في استقرائه العلم جامداً / ولكنه في العلم كان له فكر
يشقّ حجاب المشكلات برأيه / كما شقّ بردّ الليل مذ طلع الفجر
ومن شك فلينظر بكلّ مدينة / تلاميذه من بعده فهم كثر
ليبصر منهم من حجاه مثقّفٌ / ومن لفظه درّ ومن علمه بحر
رزئناه في كلّية العلم هادياً / يضيء به للعلم في أفقها بدر
سيبكيه في كلية العلم منبر / ويرثيه من أبنائها النظم والنثر
فواجعنا في ذي الحياة كثيرةٌ / وأفجعها أن يفقد العالم الحبر
ألا إنما هذي الحياة رواية / يمثلها في كل يوم لنا الدهر
ولو لم تكن للفاجعات فصولها / ممثّلةً ما كان آخرَها القبر
نعى البرق من باريس ساسون فاغتدت
نعى البرق من باريس ساسون فاغتدت / ببغداد أم المجد تبكي وتندب
ولا غروَ أن تبكيه إذ فقدت به / نواطق أعمال عن المجد تعرب
لقد كان ميمون النقيبة كلما / تذوّقته في النفس يحلو ويعذب
تشير إليه المكرمات بكفّها / إذا سئلت أي الرجال المهذّب
ألا لا تقل قد مات ساسون بل فقل / تغوّر من أفق المكارم كوكب
فلا عجب أن راح في الغرب ثاوياً / فإن النجوم الزهر في الغرب تغرب
فقدنا به شيخ البرلمان ينجلي / به ليلة الداجي إذا قام يخطب
وكان إذا ما قال أوجز قوله / ولكنّه في فعله الخير مسهب
وكانت له في الترك قبلاً مكانة / بها كل ذي فضل من الترك معجب
وزين النهى لا يستخفّ حصاته / مع الغيد ملهى أو مع الصيد ملعب
تضجّ الملاهي وهو كالطود شامخ / فلم تلقه إلا من المجد يطرب
وما سرّه من دولة العجم رتبة / ولا غره من دولة العُرب منصب
لقد كان في الأوطان يرأب صدعها / فيسعى إلى الإصلاح فيها ويدأب
فأصغى لشكواها وزيراً ونائباً / وعالجها منه الطبيب المجرّب
وأبعد مرمى حبّها في شبابه / وجاهد في إسعادها وهوأشيب
لئن كنت يا ساسون غيبك الردى / لذكراك في العلياء لا تتغيب
رزئناك مِفضالاً ففقدك محزن / ومسعاك محمود وذكرك طيّب
على قاسم شيخ الطريقة قد بكت
على قاسم شيخ الطريقة قد بكت / جواهر فضل مالها الدهر قاسم
بكاه التقى والعلم والحلم والنهى / وحسن السجايا والعلا والمكارم
فقدنا الذي قد كان في العلم عيلما / فماجت لمنعاه البحار العيالم
لئن قد طواه الموت عنّا فذكره / من العلم منشور على الدهر دائم
رزئناه حبراً في الطريقة مرشداً / به اتضحت للساكين المعالم
عفت أربع الإرشاد بعد ارتحاله / وكانت به منها تقوم الدعائم
حليف التُقى مادنّس الدهر ثوبه / باثم ولا مرت عليه المحارم
ترحل للأخرى وأبقى مناقباً / تضيء من الدنيا بهنّ المواسم
يصوم نهار الصيف لله طائعاً / ويحيي الليالي وهو لله قائم
إذا ما بدا للقوم لاحت بوجهه / دلائل من نور الهدى وعلائم
ولما مضى للخلد قلت مؤرخاً / لقد بات على أعلى الفراديس قاسم
كتبت لنفسي عهد تحريرها شعرا
كتبت لنفسي عهد تحريرها شعرا / وأشهدت فيما قد كتبت الدهرا
ومن بعد اتمامي كتابة عهدها / جعلت الثريا فوق عنوانه طُغرى
وعلّقته كي لا تَناوّلَه يدٌ / بمنبَعَث الأنوار من ذروة الشعرى
لذاك جعلت الحق نصب مقاصدي / وصيّرت سرّ الرأي في أمره جهرا
وجرّدت شعري من ثياب ريائه / فلم أكْسُه إلا معانَيه الغُرّا
وأرسلته نظماً يروق انسجامه / فيحسبه المصغي لانشاده نثرا
فجاء مضيئاً ليله كنهاره / وإن كان بعض القوم يزعُمُه كفرا
اضّمنه معنى الحقيقة عارياً / فيحسّبه جُهالها منطقاً هُجرا
ويحمله الغاوي على غير وجهه / فيُوسعني شتماً وينظرني شزرا
رويدك أن الكفر ما أنت قائل / وأن صريح العُرف ما خِلتًه نُكرا
هل الكفر إلا أن ترى الحق ظاهراً / فتضرب للإنظار من دونه سترا
وأن تُبصر الأشياء بيضاً نواصعاً / فتُظهرها للناس قانية حمرا
إذا كان في عُري الجسوم قباحةٍ / فأحسن شئ في الحقيقة ان تَعرى
فيُبصرها من مارست عينه عمىً / ويسمعها من كابدت أذنه وَقرا
أحبّ الفتى أن يَستقلّ بنفسه / فيُصبِحِ في أفكاره مطلقاً حرّا
وأكره منه أن يكون مُقلِّداً / فيُحشَرَ في الدنيا اسيراً مع الأسرى
وما هذه الأوطان إلاّ حدائق / بها تُنبت الأفكار من أهلها زهرا
وما حُبّها إلا لأجل تحرّر / يكون إلى العَلياء بالناس مُنْجَرّا
وما حسنها إلاّ بأنّ سماءها / تضاحك من أحرارها أنجماً زُهرا
إذا كان في الأوطان للناس غاية / فحّرية الأفكار غايتها الكبرى
فأوطانكم لن تستقلّ سياسة / إذا أنتم لم تستقلّوا بها فكرا
إذا السيف لم يَعضُده رأيٌ محرَّر / فلا تأملنْ من حدّه ضربة بكرا
سواء على الإنسان بعد جموده / أحلّ بقفر الأرض أم سكن المصرا
إذا لم يَعش حرّاً بموطنه الفتى / فسمّ الفتى ميْتاً وموطنه قبرا
أحرّيتي إني اتخذتكِ قِبلةً / أوجّه وجهي كل يوم لها عشرا
وأمسك منها الرُكَنَ مستلماَ لهُ / وفي ركنها استبدلت بالحَجَر الحِجْرا
إذا كنت في قفر تخذتك مؤنساً / وإن كنت في ليل جعلتك لي بدرا
وإن نابني خطب ضممتك لاثماً / فقبّلت منك الصدر والنَحرَ والثغرا
وإن لامني قوم عليك فإنني / لملتمس للقوم من جهلهم عذرا
يقولون في الإسلام ظلماً بأنه
يقولون في الإسلام ظلماً بأنه / يَصُدّ ذويه عن طريق التقدم
فإن كان ذا حقّاً فكيف تقدّمت / أوائله في عهدها المتقدم
وإن كان ذنب المسلم اليوم جهله / فماذا على الإسلام من جهل مسلم
هل العلم في الإسلام إلاّ فريضة / وهل أمة سادت بغير التعلُّم
لقد أيقظ الإسلام للمجد والعلا / بصائر أقوام عن المجد نُوَّم
وحلّت له الأيام عند قيامه / حُباها وأبدت منظر المتبسّم
فأشرق نور العلم من حَجَراته / على وجه عصر بالجهالة مظلم
ودّك حصون الجاهلية بالهدى / وقَوّض أطناب الضلال المخيّم
وأنشط بالعلم العزائم وابتنى / لأهليه مجداً ليس بالمتهدّم
وأطلق أذهان الورى من قيودها / فطارت بأفكار على المجد حُوَّم
وفَكّ أسار القوم حتى تحفّزوا / نهوضاً إلى العلياء من كل مَجْثَم
فخلَّوا طريقاَ للبداوة مَجهَلاً / وساروا بنهج للحضارة مُعلَم
فدَوَّت بمُستَنّ العلا نهضَاتهم / كزعزع ريح أو كتيّار عَيْلَم
وعمّا قليل طبّق الأرض حكمهم / بأسرع من رفع اليدَيْن إلى الفم
وقد حاكت الأفكار عند اصطدامها / تلألؤ برق العارض المُتَهّزِم
ولاحت تباشير الحقائق فانجلت / بها عن بني الدنيا شكوك التوهُم
وما ترك الإسلام للمرء ميزة / على مثله ممَّن لآدم ينَتمي
فليس لمُثْرٍ نقصُه حقَ مُعدِم / ولا عربيٍ بخسه فضل أعجم
ولا فخرَ للإنسان إلاّ بسعيه / ولا فضلَ إلا بالتُقى والتكرُّم
وليس التقى في الدين مقصورةً على / صلاة مُصلَّ أو على صوم صُيَّم
ولكنها ترك القبيح وفعل ما / يؤدي من الحُسنى إلى نيل مَغْنَم
فتَقوى الفتى مَسعاه في طلب العلا / وما خُصَّت التقوى بترك المحرّم
فهل مثل هذا الأمر يا لأولي النُهى / يكون عثاراً في طريق التقدّم
وإن لم يكن هذا إلى المجد سُلَّماً / فأيّ ارتقاءٍ بعدُ أم أيّ سلّم
ألا قل لمن جاروا علينا بحكمهم / رُوَيداً فقد قارفتم كل مأثمَ
فلا تنكروا شمس الحقيقة أنها / لأظهَرُ من هذا الحديث المُرَجَّم
عَلَوْنا وكنتم سافلين فلم نكن / لنُبدي إليكم جَفوة المتهكِّم
ولم نترك الحُسنى أوان جدالكم / وتلك لعمري شِيمة المتحلِّم
فلما استدار الدهرُ بالأمر نحوكم / كشفتم لنا عن منظر متجَهِّم
فلا تأمنوا الأيام أن صُرُوفها / كما هي إذ أودت بعاد وجُرْهُم
رمت مسمعي ليلاً بأنّه مؤلَم
رمت مسمعي ليلاً بأنّه مؤلَم / فألقت فؤادي بين أنياب ضيغم
وباتت توالي في الظلام أنينها / وبتّ لها مُرمىً بنهشة أرقم
فيهفو بقلبي صوتها مثلما هفت / بقلب فقير القوم رنّةُ درهم
إذا بعثت لي أنّةّ عن تَوَجُّع / بعثت إليها أنّةً عن ترحُّم
تقطع في الليل الأنين كأنّها / تقطّع أحشائي بسيف مُثَلَّم
يهُزّ نياطَ القلب بالحزن صوتُها / إذا اهتزّ في جوف الظلام المخيّم
تردّده والصمت في الليل سائد / بلحن ضئيل في الدُجُنَّة مُبهَم
كأنّ نجوم الليل عند ارتجافها / تُصيخ غلى ذاك الأنين المُجَمْجَم
فما خفقان النجمِ إلاّ لأجلها / وما الشهب إلاّ أدمع النجم ترتمي
لقد تركتني مُوجَعَ القلب ساهراً / أخا مَدمَع جار ورأس مهوَم
أرى فحمة الظلماء عند أنينها / فأعجب منها كيف لم تتضرّم
فأصبحتُ ظمآن الجفون إلى الكرى / وإن كنت ريّان الحشا من تألُّمي
وأصبح قلبي وهو كالشعر لم تدع / له شعراء القوم من مُتَرَدَّم
وبيت بكت فيه الحياة نحوسةً / ولاحت بوجه العابس المُتَجَهِّم
به ألقت الأيامُ أثقالَ بؤسها / فهاجت به الأحزان فاغِرة الفم
كأنّي أرى البنيان فيه مهدَّماً / وما هو بالخاوي ولا المتهدّم
ولكنّ زلزال الخطوب هوى به / إلى قعر مهواة الشقاء المجسَّم
دخلتُ به عند الصباح على التي / سقاني بكاها في الجدى كأس علقم
فألقيتُ وجهاً خدّد الدمعُ خدَّه / ومحمرَّ جَفن بالبكار مُتَورَمَّ
وجسماً نحيفاً أنهكته همومُه / فكادت تراه العينُ بعضَ تَوَهُّم
لقد جَشَمتْ فوق الترابِ وحولها / صغرٌ لها يرنو بعينيْ مُيَتَّم
تراه وما أن جاوز الخمسَ عمرُهُ / يُدير لحاظ اليافع المتفّهِم
بكى حولها جوعاً فغذّته بالبكا / وليس البكا إلاّ تَعِلَّةَ مُعدِم
وأكبر ما يدعو القلوبَ إلى الأسى / بكاءُ يتيم جائع حول أيِّم
وقفتُ وقد شاهدت ذلك منهما / لمريم أبكى رحمةً وابن مريم
وقفت لديها والأسى في عيونها / يكلمني عنها ولم تتكلّم
وساءلتها عنها وعنه فأجهَشَتْ / بكاءً وقالت أيها الدمع ترجِم
ولما تناهتْ في البكاء تضاحكت / من اليأس ضحك الهازئ المتهكّم
ولكن دموع العين أثناء ضحكها / هواطل مهما يسجم الضحك تسجم
فقد جمعتْ ثغراً من الضحك مُفعَماً / إلى مَحْجِر باك من الدمع مفعم
فتُذرىِ دموعاً كالجمان تناثرت / وتضحك عن مثل الجمان المنظَّم
فلم أرَ عيناً قبلها سال دمعها / بكاءً وفيها نظرة المتبسّم
فقلت وفي قلبي من الوجد رعشةٌ / أمجنونة يا ربّ فارحم وسلّم
ومذ عرضت للإبن منها الْتِفاتةٌ / أشارت إليه بامدامع أن قْم
فقام إليها خائر الجسم فانثنت / عليه فضمّته بكفّ ومِعصم
وظلّت له ترنو بعينِ تجوده / بفَذّ من الدمع الغزير وتَوْءَم
فقال لها لما رآنيَ واقفاً / اردِّد فيه نظرةٍ المتوسِّم
سلى ذا الفتى يا أم أين مضى أبي / وهل هو يأتينا مساءً بمَطْعَم
فقالت له والعين تجري غروبها / وأنفاسها يَقذِفنَ شعلة مُضرَم
أبوك ترامت فيه سفرة راحل / إلى الموت لا يرجى له يومُ مَقْدَم
مشى أرمنيّاً في المعاهد فارتمتْ / به في مهاوى الموت ضربةُ مسلم
على حينَ ثارت للنوائب ثورةٌ / أتت عن حزازات إلى الدين تنتمي
فقامت بها بين الديار مذابح / تخوَّض منها الأرمنيّون بالدم
ولولاك لاخترت الحِمام تخلّصاً / بنفسيَ من أتعاب عيش مذمَّم
فأنت الذي أخّرت أمك مريماً / عن الموت أن يودي بامك مريم
أمريم مهلاً بعضَ ما تذكرينه / فإنك ترمين الفؤاد بأسهم
أمريم أن اللّه لا شك ناقمٌ / من القوم في قتل النفوس المحرَّم
أمريم فيما تحكمين تبصَّري / فإن أنت أدركتِ الحقيقة فاحكمي
فليس بدين كلُّ ما يفعلونه / ولكنّه جهل وسوء تفهُّم
لئن ملؤوا الأرض الفضاء جرائماً / فهم أجرموا والدين ليس بمجرم
ولكنهم في جِنح ليل من العمى / تمشّوا بمطموس العلائم مبهَم
وقد سلكوا تَيْهاء من أمر دينهم / فكم مُنجِدٍ في المخزيات ومُتْهِم
ولما رأيت اللَوم لؤماً تجاهها / سكتُّ فلم أنبِسْ ولم أتبرَّم
وأطرقتُ نحو الأرض أطلب عفوها / وما أنا بالجاني ولا بالمتيَّم
وظلتُ لها أبكي بعين قريحة / جرت من أماقيها عصارةُ عندم
بكيت وما أدري أأبكي تضَجُّراً / من القوم أم أبكي لشِقوة مريم
سكنّا ولم يسكن حَراكُ التبدّد
سكنّا ولم يسكن حَراكُ التبدّد / مواطنَ فيها اليوم أيمن من غد
عفا رسم مَغنَى العز منها كما عفت / لخولة أطلال ببرقة ثهمد
بلاد أناخ الذُلُّ فيها بكلكل / على كل مفتول السِبالَيْن أصيد
معاهد عنها ضلٌ سابق عزّها / فهل هو من بعد الضلالة مهتد
أحاطت بها الأرزاء من كل جانب / إلى أن محتها معهداً بعد معهد
وخَلَّق في آفاقها الجور بازياً / مُطِلاًّ عليها صائتاً بالتَهَدُّد
ويَنقضُّ أحياناً عليها فتارةً / يروح وفي بعض الأحايين يغتدى
فيخطَف أشلاءً من القوم حيَّةً / ولم يُقِدِ المقتول منها ولم يَدِ
ويرمي بها في قعر أظلم موحشٍ / به أين تسقطْ جذوة الروح تَخمَد
هو السجن ما أدراك ما السجن أنه / جلاد البلايا في مضيق التَجَلُّد
بناء محيط بالتعاسة والشقا / لظلم برئٍ أو عقوبة مُعتد
زُر السجن في بغداد زورة راحم
زُر السجن في بغداد زورة راحم / لتَشهَد للأنكاد أفجع مشهد
محلّ به تهفو القلوب من الأسى / فإن زرتَه فاربط على القلب باليد
مربَّع سور قد أحاط بمثله / محيط بأعلى منه شِيدَ بقرمد
وقد وصلوا ما بين ثان وثالث / بمعقود سقف بالصخور مُشيَّد
وفي ثالث الأسوار تشجيك ساحةٌ / تمور بتيّار من الخسف مُزبِد
ومن وسط السور الشَماليّ تنتهي / إليها بمسدود الرتاجين مُوصَد
هي الساحة النكراء فيها تلاعبَتْ / مخاريق ضيم تخلِط الجِدّ بالدَد
ثلاثون متراً في جدار يحيطها / بسمكٍ زهاءِ العشر في الجو مُصعِد
تواصلت الأحزان في جنباتها / بحيث متى يبَلَ الأسى يَتَجدَّد
تَصَعَّدَ من جوف المراحيض فوقها / بخار إذا تَمرُرْ به الريح تَفْسُد
هناك يودّ المرء لوقاءَ نفسَه / وأطلقها من أسر عيشٍ مُنكَّد
فقف وسطها وانظر حوالَيْك دائراً / إلى حُجَر قامت على كل مُقْعَد
مقابر بالأحياء غصَّتْ لُحُودُها / بخمس مئين أنفس أو بأزيد
وقد عَمِيَتْ منها النوافذ والكُوى / فلم تكتحل من ضوء شمس بمروَد
تظنّ إذا صدرَ النهار دخلتَها / كأنّك في قِطع من الليل أسود
فلو كان للعُبّاد فيها إقامةٌ / لصلَّوا بها ظهراً صلاة التَهَجُّد
يزور هبوبُ الريح إلاّ فناءها / فلم تَحْظَ من وصل النسيم بمَوْعد
تَضيق بها الأنفاس حتى كأنما / على كل حيزوم صفائح جَلْمَد
وحتى كأن القوم شُدَّتْ رقابهم / بحبل خِناق مُحكَم الفتل مُحصَد
بها كل مخطوم الخشام مذلّلٍ / متى قِيد مجروراً إلى الضيم ينقد
يَبيت بها والهمّ ملءُ إهابه / بليلةِ مَنْبُول الحشا غير مُقصَد
يُميت بمكذوب العزاء نهاره / ويحيي الليالي غيرَ نوم مُشَرَّد
يَنُوءُ بأعباء الهوان مقيَّداً / ويكفيه أن لو كان غير مقيّد
وتَقْذِفهم تلك القبور بضغطها / عليهم لحرّ الساحة المتوقِّد
فيرفع بعض من حصير ظلالةً / ويجلس فيها جلسة المتعبّد
وليس تقيه الحرّ إلا تَعِلّةً / لنفس خلت من صبرها المتبدّد
وبالثوب بعض يستظِلُّ وبعضهم / بنسج لعاب الشمس في القَيْظ يرتدي
فمن كان منهم بالحصير مُظَّللاً / يعدّونه ربّ الطِراف الممدّد
تراهم نهار الصيف سُفْعاً كأنهم / أثافيّ أصلاها الطُهاة بمَوْقِد
وجوه عليها للشُحوب ملامح / تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقد عمّهم قَيد التعاسة مُوثَقاً / فلم يتميّز مُطلَق عن مقيّد
فسيّدهم في عيشه مثل خادم / وخادمهم في ذُلّةِ مثل سيّد
يخوضون في مستنقع من روائح / خبائثَ مهما يَزْدَدِ الحرُّ تَزْدَد
تدور رؤس القوم من شمّ نَتْنها / فمَن يك منهم عادم الشمّ يُحسَد
تراهم سكارى في العذاب وما هم / سكارى ولكن من عذاب مُشدَّد
وتحسبَهم دوداً يعيش بحمأة / وما هو من دود بها متولِّد
ألا رب حرّ شاهد الحكم جائراً / يقود بنا قَوْد الذَلول المعبَّد
فقال ولم يَجهَر ونحن بمنتدىً / به غير مأمون الوشاية ينتدى
على أي حكم أن لأية حكمة / ببغداد ضاع الحقُّ من غير منشد
فأدنيت للنجوى فمي نحو سمعه / وقلت لأن العدل لم يتبغدد
رعى الله حيّاً مستباحاً كأنه / من الذُعر أسراب النَعام المطرَّد
وما صاحب البيت الحقير بناؤها / بأفزع من ربّ البّلاط الممرَّد
وما ذاك إلاّ أنهم قد تخاذلوا / ولم ينهضوا للخصم نهضة مُلِبد
فناموا عن الجُلَّى ونمتُ كنومهم / سوى نَوْحةٍ مني بشعر مغرِّد
وهل أنا إلا من أولئك أن مشوا / مشيت وأن يَقعُد أولئك أقعد
وكمُ رمتُ أيقاظاً فأعيا هُبُوبُهم / وكيف وعزم القوم شارب مُرقِد
نهوضاً نهوضاً أيها القوم للعلا / لتبنوا لكم بنيان مجدٍ مُوَطَّد
تقدمنا قوم فأبْعَدَ شوطُهم / وقد كان عنا شوطهم غيرَ مُبْعِد
وسدّ علينا الاعتشافُ طريقَنا / فأجحف بالغَوْريّ والمتنجِّد
أفي كل يوم يزحف الدهر نحونا / بجندٍ من الخطب الجليل مجنَّد
فيا ربّ نَفِّس من كروب عظيمة / ويا ربّ خفّف من عذاب مشدَّد