القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : علي محمود طه الكل
المجموع : 12
لوجهكَ هذا الكونُ يا حسن كلُّهُ
لوجهكَ هذا الكونُ يا حسن كلُّهُ / وجوهٌ يفيضُ البشرُ من قَسَماتِها
وتستعرضُ الدنيا غريبَ فنونها / وتعرِبُ عن نجواكَ شتَّى لغاتِها
ولولاكَ ما جاشَ الدجى بهمومها / ولا افترَّ ثغرُ الصبحِ عن بسماتِها
ولا سَعِدَتْ بالوهمِ في عالم المُنَى / ولا شَقِيَتْ بالحبِّ بين لِدَاتِها
ولا حَبَتِ الفنَّانَ آياتِ فنِّه / ولا رُزِقَ الإبداع من نفحاتِها
بكَرْتَ إلى الروضِ النضيرِ فزاحمتْ / إليكَ ورودُ الأرض نوْرَ نباتِها
وألقتْ بأنداءِ الصباحِ شفاهُها / على قدميكَ العذبَ من قُبلاتِها
تَشهَّى خُطىً فيها الرَّدَى وكأنها / تصيبُ حياةَ الخلد بعد مماتِها
ومِلْتُ إلى الأدْواحِ فانطلقتْ بها / صوادحُ طار الصمت عن وُكُناتِها
ومَدّ شعاع الفجر رَيِّقَ نورهِ / يحيّيك يا ابن الفجر من شَعفاتِها
فوا أسفا يا حسنُ لِلحظة التي / تطِيشُ لها الأحلامُ من وثباتِها
ووا أسفا يا حسنُ للفرقةِ التي / يعزُّ على الأوهامِ جمع شتاتِها
وما هيَ إلَّا الصمت والبرد والدُّجى / ودنيا يَشِيع الموتُ في جنباتِها
فضاءٌ يروعُ الريحَ فيه نشيجُها / وتفزعُ فيه البومُ من صرَخاتِها
وتنتشر الأزهارُ من عذَباتِها / وتَعْرى الغصونُ النُّضْرُ من ورقاتِها
ويغشى السماءَ الجهمُ من كلِّ ديمةٍ / تخدِّد وجه الأرضِ من عبراتِها
هنالِكَ لا الوادي ولا العالمُ الذي / عَرَفْتَ ولا الأيامُ في ضحكاتِها
ولكنْ ردَى النفسِ التي كنتَ حُبَّها / ونافثَ هذا السحرِ في كلماتِها
مَضَتْ غيرَ شعرٍ خلَّدتْ فيه وحيها / إليكَ فخذْ يا حسنُ وحيَ حياتِها
على الصخرةِ البيضاءِ ظللني الدُّجى
على الصخرةِ البيضاءِ ظللني الدُّجى / أسِرُّ إلى الوادي نجيَّةَ شاعرِ
سمعتُ هديرَ البحر حولي فهاجَ بي / خوالجَ قلبٍ مُزبد اللجِّ هادرِ
وقفتُ أشيعُ الفكرَ فيها كأنما / إلى الشاطئِ المجهولِ يسبحُ خاطري
وقد نشرَ الغربُ الحزينُ ظلالَهُ / على ثَبَجِ الأمواجِ شُعْثَ الغدائرِ
ومن خَلْفها تبدو النخيلُ كأنها / خيالاتُ حِنٍّ أو ظلالُ مساحرِ
ألا ما لهذا البحر غضبانَ مثلما / تنفَّسُ فيه الريحُ عن صدرِ ثائرِ
لقد غمر الأكواخَ فوق صخوره / ولجَّ بها في موجه المتزائرِ
وأنحى على قطَّانها غيرَ مُشفقٍ / بهم أو مجيلٍ فيهمو عينَ باصرِ
وما لي كأني أبصرُ الليلَ فوقه / يرفُّ كطيفٍ في السماواتِ حائرِ
ألا أينَ صيادوهُ فوق ضفافِه / يهيمون في خلجانهِ والجزائرِ
وبحارةُ الوادي تلفَّعُ بالدُجى / وتُنْشِد ألحانَ الربيع المباكرِ
لقد غرقوا في إثر أكواخهم به / وما لمسوا من حكمِه عفوَ قادرِ
وسجَّاهمُ باليمِّ زاخرُ موجهِ / وأنزَلهم منه فسيحَ المقابرِ
أصِخْ أيها الوادي أما منك صرخةٌ / يدوِّي صداها في عميق السرائرِ
أتعلمُ سِرَّ الليل أم أنت جاهلٌ / بلى إنه يا بحرُ ليلُ المقادِرِ
شقيٌّ أجنَّته الدياجي السوادفُ
شقيٌّ أجنَّته الدياجي السوادفُ / سليبَ رقادٍ أرَّقته المخاوفُ
ترامى به ليلٌ كأنَّ سواده / به الأرض غرقى والنجوم كواسفُ
إلى أين تمضي أيها التائه الخطى / يساريك برقٌ أو يباريك عاصفُ
رأيتكَ في بحر الظلام كأنما / إلى الشاطئ المجهول يدعوك هاتفُ
تخوض الدُّجى سهمانَ والنجمُ حائر / يسائل من ذاك الشقيُّ المجازفُ
طريداً يفرُّ الوحشُ من وقع خطوه / ويعزبُ عن الصِّلِّ والصلُّ واجفُ
كأن إله الشرِّ يقتحم الورى / أو أن الردى في برده الرثِّ زاحفُ
فوا عجباً لم تحملِ الأرضُ مثله / ولا طاف منه بالدجنَّة طائفُ
يخاف الثرى مسراهُ وهو يخافه / وبينهما يسري الدجى وهو خائفُ
ترى أيُّ سرٍ في الظلام محجَّبٍ / أليس له من نبأة القلب كاشفُ
أجبْني طريدَ الأرض إني يهزني / إليك هوىً من جانب الغيب شاغفُ
فردَّدَ ذاك الطيفُ صوتاً محبَّباً / إليَّ كلحنٍ ردَّدته المعازفُ
وقال أجل إني الطريدُ وإنه / لسرٌّ تهز القلبَ منه الرواجفُ
أتسألكَ الأفلاك عني أنا الذي / رمته الدياجي والرعودُ القواصفُ
أجلْ إن ذاتي يا نجيَّ تنكرت / لعينك لكنَّ القلوبَ تعارَفُ
وما أنا إلا من بني الأرض ناءَ بي / مقيمُ عذابي والشقاءُ المحالفُ
وما كان هذا النوءُ والموج والدجى / ليرهبَ نفساً حقَّرتْ ما تصادفُ
سواءٌ لديها أشرق الفجرُ أم سجت / غياهبُ في سرِّ الدجى تتكاثفُ
هي الأرض مهدُ الشرِّ من قبل خلقنا / ومن قبل أن دبَّت عليها الزواحفُ
غذتها الضحايا بالجسوم فأخصت / وأترعها سيلٌ من الدمِّ جارفُ
وهيهات تشفي غُلَّةً من دمائنا / ويا ليتَ ترويها الدموعُ الذوارفُ
ولي قصةٌ يُشجي القلوبَ حديثُها / ويعجز عن تصويرها اليوم واصفُ
دعوتُ إلى حرِّية الرأي معشراً / ثقافتهم ضربٌ من العلم زائفُ
يرون بأنَّ العيشَ لذاتُ ماجنٍ / وأن قصاراهُ حُلىً وزخارفُ
إذا لمحوا نور الحقيقة أغمضوا / وقالوا ألا أين الضياءُ المشارفُ
عجبتُ لهذا العقل حُراً فما له / من الوهم يُمسي وهو في القيد راسفُ
هو الحقُّ في الكوخ الحقير فحيِّه / وليس بما تُزهي هناك المقاصفُ
هنا تصدقُ الإنسانَ عاطفةُ الهوى / إذا كذبت ربَّ القصورِ العواطفُ
لقد سئمت نفسي الحياةَ وما أرى / بديلاً عن الكأس التي أنا راشفُ
أيُجحد في الشرق النبوغُ ويُزدرى / ويشقى بمصر النابهونَ الغطارفُ
يجوبون آفاقَ الحياة كأنهم / رواحلُ بيدٍ شردتها العواصفُ
طرائدَ في صحراءَ لا نبعَ واحةٍ / يرقُّ ولا دانٍ من الظلِّ وارفُ
ألا إنَّ لي قلباً طعيناً تحوطه / عصائبُ تنزو من دمي ولفائفُ
أقلتهُ أحنائي ذماءً ولم أزَلْ / به في غمار الحادثات أجازفُ
كما رفَّ نسرٌ راشه السهم فارتقى / خفوقَ جناحٍ وهو بالدمِّ نازفُ
أتيتُ إلى هذا المكان تهزني / إليه عهودٌ للشباب سوالفُ
أردِّدُ فيها للطفولة والصِّبا / أحاديثَ شتَّى كلهن طرائفُ
أودِّعها قبل الفراقِ وإنني / أفارقها والقلب لهفانُ كاسفُ
إلى حيث ينمو الرأيُ حُراً تذيعه / من الحقِّ فيها ألسنٌ وصحائفُ
لعلّ بلاداً ما علتني سماؤها / ولا نبهتْ فيها لذكري عوارفُ
أعيش بها حُرَّ العقيدة هاتفاً / برأييَ إمَّا أسعدتني المواقفُ
دعوتَ خيالي فاستجابتْ خواطري
دعوتَ خيالي فاستجابتْ خواطري / وحدَّثني قلبي بأنكَ زائرِي
عشيَّةَ أغرى بي الدُّجى كلَّ صائحٍ / وكلَّ صدىً في هَدأةِ الليلِ عابرِ
أقولُ مَنِ السَّاري وأنت مُقاربي / وأهتفُ بالنجوى وأنتَ مُجاورِي
أحسُّكَ مِلءَ الكون رُوحاً وخاطراً / كأنَّك مبعوثُ الليالي الغوابرِ
ومثَّل لي سمعي خُطاكَ فخِلتُها / صَدَى نبأٍ من عالم الغيبِ صادرِ
سوى خطراتٍ من بنانٍ رفيقةٍ / طَرَقْتَ بها بابي فهبَّتْ سرائرِي
عرفتُكَ لم أسمعْ لصوتِكَ نبأةً / وشمْتُكَ لم يَلمحْ محيَّاكَ ناظرِي
أرى طَيْفَ معشوقٍ أرى روحَ عاشقٍ / أرى حُلمَ أجيالٍ أرى وجهَ شاعرِ
إليْكَ ضِفافَ النيل يا روحَ حافظ / فجدِّد بها عهدَ الأنيسِ المُسامرِ
وساقِط جَنَاها من قوافيكَ سلسلاً / رخيماً كأرهامِ الندى المتناثرِ
سرَت فيه أرواحُ النَّدامى وصفَّقتْ / كؤوسٌ على ذكرِ الغريب المسافرِ
نَجيَّ الليالي القاهريَّات طُفْ بها / خيالةَ ذكرى أو عُلالة ذاكرِ
وجُزْ عَالمَ الأشباح فالليل شاخصٌ / إليكَ وأضواءُ النجومِ الزَّواهرِ
وطالِعْ سماءً في مَعَارجِ أُفقها / مَرحت بوجدانٍ من الشِّعر طاهرِ
وسَلسَلتْ من أندائها وشُعاعِها / جَنى كرْمةٍ لم تحوِها كفُّ عاصرِ
تدفقَ بالخمر الإلهيِّ كأسها / فغرَّدَ بالإلهام كلُّ مُعاقرِ
على النيل روحانيةٌ من صفائها / ولألاءُ فجر عن سنا الخُلد سافرِ
فصافحْ بعينيك الديار فطالما / مددتَ على آفاقِها عين طائرِ
وخذ في ضفافِ النهر مسراك واتَّبعْ / خطى الوحي في تلك الحقول النواضرِ
حدائقُ فرعونَ بدفاقِ نهرها / وجنَّتهُ ذاتُ الجنى والأزاهرِ
وفي شُعَبِ الوادي وفوقَ رماله / عصِيُّ نبيٍّ أو تهاويلُ ساحرِ
صوامِعُ رُهبان محاريبُ سُجَّدٍ / هياكِلُ أربابٍ عروشُ قياصرِ
سَرى الشعرُ في باحاتها روحَ ناسكٍ / وترديد أنفاس ونجوى ضمائرِ
وهمسَ شِفاهٍ تثمَلُ الروح عندهُ / وتسبحُ في تيهٍ من السِّحر غامرِ
هو الشعر إيقاع الحياة وشدوُها / وحُلْمُ صِباها في الرَّبيع المباكِرِ
وصوتٌ بأسرارِ الطبيعةِ ناطقٌ / ولكنه روحٌ وإبداعُ خاطرِ
ووثبةُ ذِهنٍ يَقنصُ البرقَ طائراً / ويغزو بروجَ النَّجْمِ غيرَ مُحاذِرِ
فيا دُرَّةً لم يحوِها تاجُ قيصر / ولا انتظمتْ إلَّا مفارقَ شاعرِ
تألَّه فيكِ القلبُ واستكبرَ الحِجى / على دَعَةٍ من تحْتها روحُ ثائرِ
إذا اعترضَ الجبَّارُ ضوءَكِ شامخاً / تلقَّيتهِ كبْراً ببَسْمَةِ ساخرِ
لمستِ حديدَ القَيْدِ فانحلَّ نظمهُ / وأطلقتِ أسرَى من براثِن آسِرِ
وما زِدْتِ في الأحداثِ إلَّا صلابةً / إذا النَّارُ نالتْ من كِرام الجواهرِ
يزينُ بكِ الرّاعي سقيفةَ كُوخِه / فتخشَعُ حَيرَى نيِّراتُ المقاصرِ
أضاعوكِ في أرضِ الكنوز وما دَروْا / بأنكِ كنزٌ ضمَّ أغلى الذَّخائرِ
وهُنتِ على مهدِ الفنونِ وطالما / سموتِ بسلطان من الفنِّ قاهرِ
إذا افتقدَ التاريخُ آثار أمَّةٍ / أشرْتِ بما خلَّدتِه من مآثرِ
سلاماً سلاماً شاعرَ النيلِ لم يزلْ / خيالُكَ يَغشَى كلَّ نادٍ وسامرِ
وشعرك في الأفواهِ إنشادُ أمةٍ / تغنَّتْ بماضٍ واستعزَّتْ بحاضِرِ
هتفتَ بها حيَّا فلا تألُ خالداً / هُتافكَ وانفضْ عنكَ صمْتَ المقابرِ
صدَاكَ وإن لم تُرسلِ الصوتَ مالئٌ / سماعَ البَوادي والقُرى والحواضرِ
وذِكراكَ نجْوى البائسين إذا هَفتْ / قلوبٌ وحارت أدمُعٌ في المَحَاجرِ
يَدُلُّ عليكَ القلبَ أنَّاتُ بائسٍ / ونظرةُ محزونٍ وإطراقُ سادِرِ
وما أنتَ إلَّا رائدٌ من جماعةٍ / توالوا تِباعاً بالنفوسِ الحرائرِ
صَحَتْ بادياتُ الشرقِ تحتَ غُبارِهم / على شدْوِ أقلام ولمعِ بواترِ
وفي القِمَمِ الشَّماءِ مِنْ صَرَخاتهم / صدَى الرعدِ في عَصفِ الرياح الثَّوائرِ
يُضيئونَ في أفقِ الحياةِ كأنَّهم / على شطِّها النَّائي منارةُ حائرِ
فيا شاعراً غنَّى فرَقَّ لشجوِهِ / جَفاءُ اللَّيالي واعتسافُ المقادرِ
لكَ الدهرُ لا بل عالمُ الحسِّ والنُّهَى / خميلةُ شادٍ آخذٍ بالمشاعرِ
فنمْ في ظلال الشَّرقِ واهنأ بمضجَعٍ / نديٍّ بأنفاسِ النَّبيِّينَ عاطرِ
ووسِّدْ ثراهُ الطُّهرَ جَنبَكَ وانتظِم / لِداتكَ فيه فهوَ مهْدُ العَبَاقرِ
بيانُكَ من نبعِ الجمالِ المخلّدِ
بيانُكَ من نبعِ الجمالِ المخلّدِ / صدَى الوحي في أسلوبهِ المتجدِّدِ
سَرَى لحنهُ في كلِّ قلبٍ كأنما / شدا الحبُّ في نايِ الربيعِ المغرِّدِ
غريباً من الأسماعِ وهو كعهدهِ / قديمٌ على ثغرِ الزمان المردِّدِ
إلى جبلِ النورِ انتهى سرُّ وحيهِ / وما هو إلا ملهِمُ اليومِ والغدِ
فغنِّ به الأجيالَ واهتف بآيهِ / ترانيمَ شادَ أو تراتيلَ مُنشدِ
وأرسلهُ سمحاً من قريحةِ شاعرٍ / يعيشُ بروحِ الصَّيْدحيِّ المجدِّدِ
عوالمُ شتَّى من جلالٍ وروعة / حواها فؤادُ الكاتبِ المتَعَبِّدِ
ذكرتُ وللذكرى حديثٌ محبَّب / وقد زرتُه ليلاً على غيرِ موعدِ
ولليلِ إصغاءٌ وللريح حولَه / رفيفٌ كهمسِ الروحِ في ظل معبدِ
وقد هدأ المصباحُ إلَّا مجاجةً / من النورِ في عيني أديبٍ مُسهّدِ
ترامَى وراء الأفق حيناً وتنثني / ببارقةٍ من ذهنه المتوقِّدِ
فحيّيتُه همساً فحيّا وصافحتْ / يداهُ يدي في رقّة وتودُّدِ
وشاعَ جلالُ الصمتِ بيني وبينَهُ / فأمعَنَ إمعانَ الخيالِ المشرّدِ
وأمسيتُ أرعاهُ فلاحتْ لخاطري / ملائكُ بالنجوى تروحُ وتغتَدي
تُسِرُّ إليه القولَ في غير منطقٍ / بأجنحةٍ تهفو على غير مَشهَدِ
على صُحفٍ غُرِّ الحواشي كريمةٍ / جرى قلمٌ عفُّ السريرةِ واليدِ
نبيل مرامي القولِ في كفِّ كاتبٍ / دعاهُ فلبّاهُ لأنبلِ مَقصدِ
يخطُّ لروحانيَّة الشرقِ سيرةً / هي الحقُّ في دنيا الجمال المجرَّدِ
تمثَّلها في صورة قرشيّة / يشيعُ الرضا في طيفِها المتجسِّدِ
يبثُّ سناها الأرض حبّاً ورحمةً / ويطوي هداها سطوةَ المتمرِّدِ
حياةٌ نمتْ مجدَ الحياةِ وغيَّرتْ / وجوهَ الليالي من وضيءٍ وأربَدِ
تنَادى بها الراؤون فأعجب لما رأوا / جلالُ نبيٍّ في تواضعِ مُرشدِ
تسامى عن الدنيا وفيها لواؤهُ / يطوفُ بسلطانِ العزيزِ المؤيِّدِ
فما ضفَّر الإكليلَ يوماً بمفرِق / ولا حلَّ منه التاجُ يوماً بمعقِدِ
أحبُّ إليه حين يفترشُ الثرى / ويأوي لجذعِ النخلةِ المتأوِّدِ
ويخصِفُ نعليهِ وطوعُ يمينهِ / مصايرُ هذا العالمِ المترغِّدِ
ويمضي إلى الهيجاءِ غرثانَ صادياً / فلِلَّهِ دنيا ذلكَ الساغبِ الصَّدي
ولكنَّه دينٌ أفاءَ ظِلالهُ / على ملأٍ من شيعة اللّه سُجَّدِ
عفاةٍ كأن لم يملكوا قوتَ يومهم / وهم جبهةُ الملكِ العريضِ الموطَّدِ
محَوْا لفظةَ الأربابِ من كلماتِهمْ / فما عرفوا معنى مَسودٍ وسيِّدِ
هو المثلُ الأعلى ومبعوثُ أمةٍ / بناها بناءَ المعجزِ المتفرِّدِ
محمّدٌ ما شعري إليكَ وما يدي / وما الشعر من إبداعك المتعدِّدِ
ولكنَّهُ حوضُ الشفاعة ضمَّنا / على خير ميعادٍ وأعذبِ مورِدِ
نَمانيَ إقليمٌ نماكَ وأطلعتْ / سماءَكَ شمسٌ أطلعتْ فجرَ مولدي
فإن أشدُ بالمجدِ الذي شِدْتَ ركنَهُ / فما هو إلَّا ركن قومي وسودَدي
محمدُ ما أُرضيك بالشعرِ مِدْحةً / فحسبُكَ مرضاةُ النبيِّ محمَّدِ
سرى القمرُ الوضَّاحُ بين الكواكبِ
سرى القمرُ الوضَّاحُ بين الكواكبِ / يُفكِّرُ فيما تحتهُ من غياهبِ
فناداهُ من وادي الخلِّيينَ هاتفٌ / بصوتِ محبٍّ في الحياةِ مُقاربِ
يقول له يا روعةَ الحسنِ والصِّبا / وأجملَ أحلامِ الليالي الكواعبِ
أنا العاشقُ الوافي إذا جنَّني الدَّجى / وراعيكَ بين النيِّراتِ الثواقبِ
ألا ليتني حُرٌّ كضوئِكَ أرتقي / عوالمَكَ الملأى بشتى العجائبِ
ويا ليتَ لي كنزَ ابتساماتِكَ التي / تُبعثرها في الكونِ من غير حاسِبِ
فأصغى إليهِ الضوءَ في صفوِ جذلانِ / وأضفى على الوادي شعاعَ حنانِ
وجاسَ خلال السُّحْبِ والماءِ والثرى / فلم يرَ في أنحائها وجهَ إنسانِ
فصاحَ بهِ يا صاحبي ضلَّ ناظري / فأين تُرى ألقاك أمْ كيف تلقاني
فأوما له إني هنا تحت شُرفتي / وراءَ زجاجيها أخذتُ مكاني
أبى البردُ أن أستقبلَ الليلَ قائماً / وأن أنزل الوادي بحيث تراني
وحسبُ الهوى من عاشقٍ لك وامقٍ / تَزَوُّدُ عيني من سنا ضوئكَ الحاني
فألقى عليه الضوءُ نظرةَ حائر / وأعرضَ عنهُ بابتسامةِ ساخرِ
وقال له يا صاحبي قد جهلتني / ويا رُبَّ شعرٍ ساقهُ غيرُ شاعرِ
أنا الموثَقُ المكدودُ طالتْ طريقهُ / طريقُ أسيرٍ في رعايةِ آسرِ
تجاذبني طاحونةُ الشمس كلما / وقفتُ وتمضي بي سِياط المقادِرِ
وما بسمتي إلا دموعٌ من اللظى / قد التمعتْ في وجهِ سهمانَ حاسِرِ
فدعْ عنكَ يا أعجوبةَ الحبِّ عالمي / فقبلكَ لم يَلقَ الأعاجيبَ ناظري
وأمعنَ في تفكيرهِ القمرُ الزاهي / فمرَّ بأرضٍ ذاتِ عشْبٍ وأمواهِ
يناجيهِ منها عاشقٌ ذو ضراعةٍ / مناجاةَ صُوفيٍّ لِطَيْفِ إلهِ
يقول له يا مُشهدي كلَّ ليلةٍ / جمالَ مُحيَّا رائعِ الحسنِ تيَّاهِ
شبيهٌ بهذا الضوءِ نورُ جبينهِ / على أنَّهُ في الناسِ من غير أشباهِ
وترسمُ لي الأشباحُ طيفَ خيالهِ / فأدنو لضمٍّ أو للثمِ شفاهِ
تمنَّيْتُ لو وَسَّدْتَ خدّك راحتي / وصدرُكَ خفَّاقٌ وجفنُك ساهي
فرفَّ على الوادي الشاعُ طروبا / وناداهُ من بين الظلالِ مُجيبا
أزحْ هذه الأغصانَ عنكَ لعلّني / أصافحُ وجهاً من هواك حبيبا
فجاوَبهُ يا قرّةَ العين إنني / قد اخترتُ من شطِّ الغدير كثيبا
إذا أتعَبَتْ عيني السماءُ تطلُّعا / وخالستُ لحظاً للنجومِ مُريبا
ففي صفَحات الماءِ نهزة عاشقٍ / يراكَ على بُعْدِ المزار قريبا
خلوتُ به أرعاك أوْفى قسامةً / وأوفرَ من سحرِ الجمالِ نصيبا
فغاضَ ابتسام الضوءِ من فرط حيرةٍ / وصاحَ نجيِّي أنتَ حقَّرتَ سيرتي
هو الكونُ مرآتي ومجلى مفاتني / وما لغديرٍ أن يُمثِّلَ صورتي
وما نظرَ العشَّاقُ إلَّا لعالمٍ / يُعَظِّمُ في المعشوقِ كلَّ صغيرةِ
أعيذُ الذي شبَّهتَني بجماله / أديمَ مُحيَّا مثل صمَّاء صخرَتي
أنا الفحمةُ البيضاءُ إن جنَّني الدُّجى / أنا الحمة السوداءُ رأدَ الظهيرةِ
فدَعْ عالم الأفلاك واقنعْ بلجَّةٍ / وغازلْ من الأسماك كلَّ غزيرةِ
وبينا يهيمُ الضوءُ في سُبُحاتهِ / وقد غطّ هذا الكونُ في سُخرياتِهِ
رأى شبحاً في قربِ نارٍ كأنما / يودِّعُ طيفاً غابَ عن نظراتِهِ
يمدُّ ذراعيه ويُرسلُ صوتَه / بلوعةِ قلبٍ ذابَ في نبراتِهِ
إلى القمر الساري مُحيَّاهُ شاخصٌ / كصاحبِ نُسْكٍ غارقٍ في صلاتِهِ
فحامَ عليه الضوءُ واستمهلَ الخُطى / وأجرى سناهُ الطلْقَ في قسَماتِهِ
وصاحَ به يا شيخُ ما أنت قائلٌ / تكلَّمْ فإنَّ الليلَ في أخرياتِهِ
فقالَ له يا باعثَ الحبِّ والمنى / سلِمْتَ وحيّتك العوالمُ والدُّنى
شفيتَ جوى شيخٍ أحبَّك يافعاً / وعاش بهذا الحبِّ جذلانَ مؤمنا
وأفنيتُ عمري أرتقي عالي الذُّرى / إلى أنْ بلغتُ اليومَ مثوايَ ههنا
وأوقدُ ناري كي تراني وأنثني / لأطلقَ ألحاني وأدعوكَ مَوهِنا
وقيلَ ضنينٌ لا يجودُ بوصله / فهأنذا ألقاك يا ضوءُ محسنا
تساوتْ كلابٌ تنبح البدرَ سارياً / ونُوَّامُ ليلٍ أنكروا آيةَ السنا
فحدَّقَ فيه الضوءُ وارتدَّ مُغضَبا
فحدَّقَ فيه الضوءُ وارتدَّ مُغضَبا /
وقال له أفنيتَ في سُخفِك الصِّبا /
ولمَّا تُرِحْ جفناً من السهدِ مُتْعبا /
وسُخريةٌ بالنار أن تتقرَّبا /
كأنَّ شعاعي في جفونك قد خبا /
ومن عَبَثِ مثواكَ في هذه الرُّبى /
على حين لم تبلغ من النور مَرْقبا /
وما كنتَ إلَّا الواهمَ المترقِّبا /
وثالثَ عشَّاقٍ بهمْ ضِقتُ مذهبا /
وكانوا لأمثال الخلّيين مضربا /
فوا أسفا ما كنتُ في الدهر مذنِبا /
فأُجزى بنجوى من تعشَّق أو صبا /
وساق على حبي الدليلَ المكذَّبا /
سَلِ العاصيَ الهاوي من الخلدِ هل نبا /
به الليل لمّا آثر الأرض واجتبى /
أأبصرَ قبلي في الدُّجنَّة كوكبا /
أضاءَ له الدرْبَ السحيقَ المشعَّبا /
وهلْ في سنا غيري تملّى وشبَّبا /
بحواءَ واهتاجَ اليراعَ المثقَّبا /
حويتُهما روحاً طريداً مُعذَّبا /
فذاب حيائي منهما وتصبّبا /
وأورثني هذا الشحوبَ وأعقبا /
رأيتُ فماً يدنو ووجهاً تخضَّبا /
وصدراً خفوقاً فوق صدرٍ توثَّبا /
غرائزُ فيها الغيُّ والنقصُ ركِّبا /
تَلمَّسُ في ضوئي الأثامَ المحبّبا /
فيا شيخُ دَعْ هذا الوشاحَ المذهبا /
تَرَ الحمأَ المسنون في الكأسِ ذُوِّبا /
طفا الراحُ فيه والترابُ ترسَّبا /
وإنّ كلابَ الأرضِ أشرفُ مأربا /
ينيرُ لها ضوئي الظلامَ لتجنبا /
خُطى اللصِّ يستارُ الطريقَ المحجَّبا /
فإن نبحَتْ ضوئي تسمَّعتُ معجبا /
بأرخمِ لحنٍ رنّ في الليل مطربا /
تحيّةَ مُثنٍ بي أهَلَّ مُرحِّبا /
بني آدمٍ إنْ لم يكن آدمُ الأبا /
رجوت لكم من عالم الرجس مهربا /
وآثرتكم بالكلبِ جَدّاً مهذَّبا /
وأجملُ بالإنسان أن يتكلبا /
ومالَ عن الأرض الشعاعُ وغرَّبا /
ووسوسَ في صدرِ الدُّجى فتأَلَّبا /
ألا ما لهذا الليلِ تَدجى جوانبُهُ
ألا ما لهذا الليلِ تَدجى جوانبُهُ / على شَفَقٍ دامٍ تلظَّى ذوائبُهْ
وما ذلك الظلُّ المَخوفُ بأُفْقِهِ / يُطِلُّ فترتدُّ ارتياعاً كواكبُهْ
أأيتها الأرضُ انظري ويكِ واسمعي / توثَّبَ فيكِ الشرُّ حمْراً مخالبُهْ
أرى فِتنةً حمْراءَ يَلْفُظُها الثرى / دُخاناً تُغَشِّي الكائناتِ سحائبُهْ
وأشتمُّ من أنفاسها حَرَّ هَبْوَةٍ / كأنَّ هجيرَ الصيف يلفحُ حاصبُهْ
أرى قبضةَ الشيطان تستلُّ خنجراً / توهَّجُ شوقاً للدماءِ مَضارِبُهْ
تسلَّلَ يبغي مقتلاً مِن محمدٍ / لقد خُيّبَ الباغي وخابَتْ مآرِبُهْ
تقدَّمْ سليلَ النَّارِ ما الباب موصدٌ / فماذا توقَّاهُ وماذا تُجانبُهْ
تأمَّلْ فهَلْ إلَّا فتىً في فراشه / إلى النورِ تَهفو في الظَّلامِ ترائبُهْ
يُسائِلُكَ الأشياعُ زاغَتْ عيونُهم / وأنتَ حَسيرٌ ضائعُ اللُّبِّ ذاهبُهْ
تُرانا غفوْنا أم تُرى عَبرتْ بنا / نُفاثةُ سِحْرٍ خدَّرَتْنا غرائبُهْ
وما زال منا كلَّ أشوسَ قابضاً / على سيفهِ لم تخْلُ منه رواجبُهْ
تُرى كيف لم تُبصِرْ غريمك سارياً / وأين تُرى يمضي وتمضي ركائبُهْ
تقدَّمْ وجُس في الدار وهْناً فما ترى / لقد هَجَر الدارَ النبيُّ وصاحبُهْ
يحثَّان في البيداء راحلتَيْهما / إلى جبلٍ يُؤوي الحقيقةَ جانبُهْ
فقفْ وتنظَّرْ حائراً نَصْبَ غارهِ / تحدَّاكَ فيه ورْقُهُ وعناكبُهْ
لتعلمَ أن الحق رُوحٌ وفكرةٌ / يذلُّ لها الطاغي وتعْنو قواضبُهْ
فطِرْ أيها الشيطان ناراً أو انطلق / دُخاناً فأخْسِرْ بالذي أنت كاسبُهْ
خَسِئتَ ولو لم يَعصِمِ الحقَّ ربُّه / طوى الأرض ليل ما تزول غياهبُهْ
فلسطينُ لا راعتكِ صيحةُ مُغتالِ
فلسطينُ لا راعتكِ صيحةُ مُغتالِ / سلمْتِ لأجيالٍ وعشتِ لأبطالِ
ولا عزّكِ الجيلُ المُفدّى ولا خبتْ / لقومكِ نارٌ في ذوائبِ أجبالِ
صَحَتْ بادياتُ الشرق تحت غبارهم / على خلجات الرّوح من تُربِكِ الغالي
فوارسُ يَسْتهدي أعِنَّةَ خيلهم / دمُ العرب الفادين والسؤددُ العالي
بكلِّ طريقٍ منه صخرٌ مُنضَّرٌ / وكلِّ سماءٍ جمرةٌ ذاتُ إِشعالِ
هو الشرقُ لم يهدأ بصبحٍ ولم يَطِبْ / رقاداً على ليلٍ رماكِ بزلزالِ
غداةَ أذاعوا أنَّكِ اليوم قسْمةٌ / لكلِّ غريبٍ دائم التِّيهِ جوَّالِ
قضى عمره جمَّ المواطن واسمُهُ / مواطنُها ما بين حلٍّ وترحالِ
وما حلَّ داراً فيكِ يوماً ولا هفتْ / على قلبه ذكراكِ من عهد إِسرَالِ
محا اللّه وعداً خطَّهُ الظلمُ لم يكنْ / سوى حُلُم من عالم الوهم ختَّالِ
حمَتْهُ القنا كيما يكون حقيقةً / فكان نذيراً من خطوبٍ وأهوالِ
وفتَّحَ بين القوم أبوابَ فتنةٍ / تُطِلُّ بأحداث وتُومِي بأوجالِ
أراد ليمحو آيةِ اللّه مثلما / أراد ليمحو الليلُ نُورَ الضحى العالي
فيا شمسُ كُفِّي عن مداركِ واخمدي / ويا شهب غُوري في دياجير آجالِ
ويا أرضُ شُقِّي من أديمكِ وارجعي / كما كنتِ قبل الرُّسْل في ليلكِ الخالي
ضلالاً رأوا أن يسلوَ الشرقُ مجده / وما هو بالغافي وما هو بالسَّالي
ألا يا ابنةَ الفتح الذي نوَّرَ الثرى / وطهَّرَ دنيا من طُغاةٍ وضُلَّالِ
وأكرمَ قوماً فيكِ كانوا أذِلَّةً / فحرَّرهم من بعد رِقٍّ وإِذلالِ
لكِ الشرقُ يا مهد القداسة والهُدى / قلوباً تُلبِّي في خشوعٍ وإِجلالِ
لكِ الشرقُ يا أرضَ العروبة والعلى / شعوباً تُفدِّي فيك ميراثَ أجيالِ
وما هو من مستعمرٍ جاءَ بالهوى / ولا هُوَ من مستثمرٍ جاءَ بالمالِ
هو الشرقُ أَلقى عن يديهِ قيودَه / فلا تحسبيهِ في قيودٍ وأغلالِ
سَلِيهِ تَهِجْ ما بين عينيكِ أرضُهُ / مخالبَ نسرٍ أو براثنَ رئبالِ
سَلِيهِ يمُجْ ما بين سمعيكِ أُفقُهُ / زئيرَ أسودٍ أو زماجرَ أشبالِ
سَلِيهِ الدمَ المهراقَ يَبذُلهُ غالياً / ويضربْ به في الحقِّ أروعَ أمثالِ
ألا أيُّها الشادي الذي أطربَ الورى / بحلو حديثٍ عن حقوقٍ وآمالِ
وقال لنا في عالمِ الغدِ جَنَّةٌ / غزيرةُ أنهارٍ وريفةُ أظلالِ
سمعْنا خُدِعْنا وانتبهنا فحسبُنا / لقد مَلَّتِ الأسماعُ قيثارك البالي
ويا أيُّها الغربُ المواعدُ لا تزِدْ / كفى الشرقَ زاداً من وعودٍ وأقوالِ
شبعا وجعنا من خيال مُنَمّقٍ / ومنه اكتسينا ثم عُدْنا بأسمالِ
فلا تندبِ الضَّعفى وتغصبْ حقوقهم / فتلكَ إذاً كانت شريعة أدغال
أَخي إن وردتَ النِّيلَ قبل ورودي
أَخي إن وردتَ النِّيلَ قبل ورودي / فحيِّ ذمامي عندَهُ وعُهُودي
وقبِّلْ ثرىً فيه امتزجنا أُبوَّةً / ونُسلِمُهُ لابنٍ لنا وحفيدِ
أخي إنْ أذانُ الفجر لبَّيتَ صوته / سمِعْتَ لتكبيري ووقعِ سجودي
وما صُغْتَ قولاً أو هتفتَ بآيةٍ / خَلا مَنطقي من لفظها وقصيدي
أخي إنْ حواكَ الصبحُ ريَّانَ مشرقاً / أفقْتُ على يومٍ أغرَّ سعيدِ
أخي إن طواكَ الليلُ سهمانَ سادراً / نبا فيه جنبي واستحالَ رقودي
أخي إنْ شربتَ الماءَ صفواً فقد زكتْ / خمائلُ جنَّاتي وطاب حصيدي
أخي إنْ جفاكَ النهرُ أو جفَّ نبعُهُ / مشى الموتُ في زهري وقصَّفَ عودي
فكيف تُلاحيني وألحاكَ إنني / شهيدكَ في هذا وأنتَ شهيدي
حياتُكَ في الوادي حياتي فإِنما / وُجُودك في هذي الحياة وجودي
أخي إنْ نزلتَ الشاطِئيْن فسَلهما / متى فصلا ما بيننا بحدودِ
رَماني نذيرُ السُّوءِ فيكَ بنبأةٍ / فجَلَّلَ بالأحزان ليلة عيدي
وغامتْ سمائي بعد صفوٍ وأُخرِستْ / مَزاهرُ أحلامي وماتَ نشيدي
غداةَ تمنَّى المستبدُّ فِراقنا / على أرضِ آباءٍ لنا وجدودِ
وزفَّ لنا زيْفَ الأماني عُلالةً / لعلَّ بنا حُبَّ السيادة يُودي
أُخُوَّتُنا فوق الذي مان وادَّعى / وما بيننا من سيِّدٍ ومسودِ
إذا قال الاستقلالُ فاحذره ناصباً / فِخاخَ احتلال كالدهورِ أبيدِ
وكم قبْلُ منَّاني على وفرِ ما جَنَى / بحربين من زرعي وضَرْع وليدي
فلما أتاهُ النصرُ هاجَتهُ شِرَّةٌ / فهمَّ بنكراني ورامَ جُحُودي
ألا سَلهُ ماذا بعد سبعين حِجةً / أأنجز من وعدٍ أفكَّ قيودي
يُبَدِّلُني قيداً بقيدٍ كأنه / مدى الدهر فيها مُبدِئِي ومُعيدي
أخي وكلانا في الأسار مكبَّلٌ / نجُرُّ على الأشواكِ ثُقْلَ حديدِ
إذا لم تُحرِّرنا من الضيم وحدَةٌ / ذَهَبْنا بشملٍ في الحياة بديدِ
وما مصرُ والسودانُ إلَّا قضيَّةٌ / مُوحَّدَةٌ في غايةٍ وجهودِ
سَئمنا هُتافَ الخادعين بعَالمٍ / جديدٍ ولمَّا يأتِنا بجديدِ
وجفَّتْ حشاشاتٌ وُعِدْنَ بمائِهِ / فلما دَنَا أَلفَتْ سرابَ وعودِ
وطال ارتقابُ الساغبين لنارِهِ / على عاصفٍ يرمي الدُّجى بجليدِ
إِذا يَدُنا لم تُذْكِ نارَ حياتنا / فلا تَرْجُ دِفئاً من وميضِ رعودِ
إذا يَدُنا لم تَحْمِ نَبْعَ حياتنا / سرى رِيُّهُ سمّاً بكلِّ وريدِ
سيُجْريهِ ما شاءَتْ مطامعُ قومِهِ / ويحبسُهُ ما شاءَ خَلْفَ سدودِ
وكيف ينام المضعفون وحوْلهم / ظِماءُ نسورٍ أو جياعُ أسودِ
أخي هل شَهِدْتَ النيلَ غضبان ثائراً / يَرُجُّ من الشطآن كلّ مشيدِ
جرى من مَصَبَّيْهِ شُواظاً لنبعِهِ / على نفثاتٍ من دمٍ وصديدِ
وجنَّاتِ نَخْلٍ واجماتٍ كواسفٍ / وأسرابِ طير في الفلاةِ شريدِ
لدى نبأٍ قد رِيعَ من حمله الصَّدى / وضجَّ لهُ الموتى وراءَ لُحودِ
جنوبُكَ فيه والشمال تفزّعا / لتشتيتِ أهلٍ وانقسامِ صعيدِ
أحال ضياءَ الصبح حوليَ ظُلمةً / بها الحزنُ إلْفِي والهناءُ فقيدي
وسَعَّرَ أنفاسي فأطلقتُ نارَها / على الظالِمِ الجبَّار صَوْتَ وعيدِ
أرادكَ مفصومَ العُرى وأرادني / بهدْمِ إِخاءٍ كالجبال مشيدِ
ليأكلَنا من بَعْدُ شِلواً ممزَّقاً / كَطَيرٍ جريحٍ في الشِّباك جهيدِ
تَحايُلُ شيطانِ الأساليب لم يَدَعْ / مجالاً لشيطانٍ بهنَّ مَريدِ
على النيل يا ابن النيل أطلِقْ شراعَنا / وقُلْ لِلياليهِ الهنيّةِ عودي
وأرسلْ على الوادي حمائمَ أيكه / برنّة ولْهى أو شكاة عميدِ
وقل يا عروسَ النبع هاتي من الجنى / ودوري عَلَيْنا بالرحيق وجودي
وَهُبِّي عذارى النخل فرعاءَ وارقصي / بخُضْرِ أكاليلٍ وحُمْرِ عقودِ
ألا يا أخي واملأ كؤوسَ محبَّةٍ / مُقدّسَةٍ موعودةٍ بخلودِ
إذا هي هانتْ فانْعَ للشمس نورَها / وللقمر الساري بروجَ سعودِ
وقُلْ يا سماءَ النيل ويحكِ اقلعي / ويا أرضُ بالشُّمِّ الرواسخ مِيدي
وغيضي عيونَ الماءِ أو فتفجَّري / لَظىً وإِنِ اسطعتِ المزيدَ فزيدي
لقاؤكما قد كان حُلمَ زماني
لقاؤكما قد كان حُلمَ زماني / وعهدُكما للشرق فجرُ أماني
ولا عهدَ إلَّا للعروبة والعُلى / لقلبَينِ في كفَّين يعتنقانِ
تُحدِّثني عيني وقد سِرتُما معاً / حبيبانِ سارا أم هما أخوانِ
ويسألني قلبي وقد لاح موكبٌ / من الأحمر اللجيِّ أشرقَ داني
على ملكيٍّ من شراعٍ ولُجَّةٍ / تطامنُ في صفوٍ له وأمانِ
تناسمه بين العشيَّات والضُّحَى / سرائرُ منْ أرضِ الحجازِ حواني
وأفئدةٌ من أرضِ مصرَ مشُوقةٌ / شواخصُ في الثغر المشوق رواني
إلى أُفُقٍ فيه من الروحِ هزَّةٌ / وفيه مِنَ الوحي القديمِ مَعاني
أتسألُ يا قلبي وأنت بجانبي / وكيْفَ ألم تعلم من الخفقانِ
وأنت الذي تُصغي وأنت الذي ترى / وتُنطِقُ مني خاطري ولساني
ومنك الذي أوحى إليَّ فهزَّني / وفجَّر شعري مِن سماءِ بياني
أنالَ جلالُ اليوم منك فخِلتَهُ / رُؤى يقظةٍ بل ذاك رأيُ عيانِ
هو الملكُ الفاروقُ في موقف الهدى / تسير إليه الفلكُ دون عنانِ
يؤمُّ بها ربُّ الجزيرة مصره / وما هيَ إلَّا فرحةٌ وأغاني
هما عاهلا الشرق العريق وركنُهُ / هما حِصنُهُ الواقي من الحدثانِ
هما الحبُّ والإِيمانُ والمجدُ والنّدى / تمثّلَ في آياتها ملكانِ
سلاماً طويلَ العمر مصرُ تبُثُّهُ / بأعذبِ ما رفَّتْ به شَفَتَانِ
وللنِّيل أمواجٌ يثبنَ صبابةً / بأفراح دورٍ فوقهُ ومغاني
تجلّى طرازاً في لقائكَ مُفرداً / رفارفَ خُضراً في ظلالِ جنانِ
يُحيّي بكَ الشعبَ الحجازيَّ شعبُهُ / وفيكَ يُحيِّي القِبلةَ الهَرَمانِ
تساءَل فيها الصاحبان وقد بَدَتْ / مخاضرها من لُؤلؤٍ وجمانِ
وآفاقُها مكيّة النور والشّذى / يُضئْنَ بأقمارٍ بهنَّ حِسانِ
جلاها المساءُ القاهريُّ صباحةً / تغايرَ في لألائها القمرانِ
سعوديةَ الإِشراق تُزهَى بنورها / مطالع فاروقيةُ اللّمعانِ
أَفي مصرَ أَم بطحاء مكة يومُنا / هُنَا وطنٌ أَم هَهُنَا وطنانِ
وتلكَ قطوفُ النِّيل دانيةَ الجَنَى / أَم أن قطوفاً للرياضِ دواني
هوىً لكَ يا عبد العزيز أصارها / وما اختلفتْ في صورةٍ ومكانِ
وأنت أخو الفاروق دارك دارُه / على الرَّحبِ والدّاران تلتقيانِ
فإِن تذكر الأوطانَ والأهلَ عندها / فما مصرُ إلَّا موطنٌ لكَ ثاني
وما هي إلَّا أمَّةٌ عربيَّةٌ / مُوحَّدَةٌ في فكرةٍ ولسانِ
أَيُنْصِتُ لي الضيفُ العظيمُ هنيهةً / ويسمع لي الفاروقُ صوتَ جناني
يقولون نارُ الحرب في الغرب أُخمِدتْ / فما لي أرى في الشرق سُحْبَ دخانِ
مَشَتْ بالشتاءِ الجهم فوق تخومه / برعْدِ حسامٍ والتماعِ سنانِ
بإِيرانَ صيحاتٌ وفي الشام ضجة / وفي القدس جمرٌ مُوشكُ الثَّورانِ
وفي الساحل الغربيِّ من آل طارقٍ / جريحا إِباءٍ في دمٍ غرِقانِ
طماعيةٌ فيه أزالتْ قناعها / وما سترتْ وجهاً لها ببنانِ
رمتْ عن يدٍ قفَّازَها وتحفَّزَتْ / مخالبَ ضارٍ أو براثنَ جاني
فإِن قيل هذا مجلسُ الأمنِ فاسألوا / علام تضجُّ الأرض بالشّنآنِ
وفيمَ دعاة السَّلْمِ طال حديثهمْ / على غير معنىً من رِضىً وأمانِ
وأُبْهِمَ حتى بانَ كالظلِّ طامساً / ودَاوَر حتى راغَ في الدَّوَرَانِ
أرى اليوم مثل الأمس صورةَ غاصبٍ / وإِن حُوِّرَتْ في صبغةٍ ودهانِ
إليكم ملوكَ الشرق كم عن مقالةٍ / ثناني حيائي والوفاءُ دَعاني
أشَدتُ بما شِدتم فرادى وكلكم / يُفاخر جيلٌ بالذي هُو باني
أناشدكُمْ والشرقُ بينَ مطامعٍ / تُهددهُ في حوزةٍ وكيانِ
فهلَّا جمعتم أمره واستعنتمو / بكلِّ فتىً بالطّيبات مُعانِ
أرى حُلفاء الأمْس لم يَحْفِلوا به / وما زال من خُلْفِ الوعودِ يعاني
وما قرَّ في ظلِّ السلام بحقِّهِ / ولا فازَ من حريَّةٍ بِضمانِ
وتلْكَ أمانيهِ على عَتباتهم / مطرَّحةٌ في ذِلَّةٍ وهوانِ
أنقنع من حقٍّ وجامعةٍ له / بجمعٍ يديرُ الرأيَ حولَ خوانِ
وليس لها من قُوَّةٍ غير ألْسنٍ / وأقلام كُتّابٍ وسحرِ بَيانِ
وماذا يفيد الرأيُ لا سيفَ عنده / وماذا يُصيب القولُ يوم طعانِ
على البأس فابنوا رُكْنَها وتأهَّبوا / بمستقتلٍ مِنْ حولها مُتفاني
تلاقى به راياتُ كلِّ شُعوبهِ / وأسيافُهم من صُلْبةٍ وِلدان
كأمواج بحرٍ زاخرٍ متلاطمٍ / ينابيعُهُ شتَّى ذُرىً ورِعانِ
ضَمِنْتُ بكمْ مَجْدَ العروبةِ خالداً / على كرِّ دهرٍ واختلافِ زَمانِ
سحائبُ حمرٌ أم سماءٌ تضرَّمُ
سحائبُ حمرٌ أم سماءٌ تضرَّمُ / أم الشمسُ يجري فوق صفحتها الدمُ
على مَشْرِقِ الإِصباح من أندونيسيا / سيوفٌ تُغَنِّي أو حُتوفٌ تُرنِّمُ
وفوق رُباها يزحفُ الموتُ ضاحكاً / على جُثَثٍ منهن يروي ويَطعمُ
فراديس شرقٍ ذِيدَ عنهن أهلُهُ / وهن لأهل الغرب نهبٌ مُقَسَّمُ
يُدارُ بها ماءُ الجماجِمِ مِثلما / يُدارُ على الشّربِ الرحيقُ ويُسْجَمُ
وفي أرضها أَو أفقها صوتُ مُحْنَقٍ / كأنَّ صداهُ الغيبُ لو يتكلّمُ
تميد الصحارَى والجبالُ لوقعه / وتُشفِقُ أنواءٌ ويَفْرَقُ عَيْلَمُ
وترتدّ حتى الشهبُ عن سَبَحاتها / فلا ثَمَّ آفاقٌ ولا ثَمَّ أنجمُ
وفيم تُضيءُ الشمسُ أو يشرق السَّنى / إذا الأرضُ غشَّاها ضَلالٌ ومأثمُ
وأصبح فيها المضعفون وحظُّهم / من العيش ما يَقْضي القويُّ ويُبرِمُ
أذلَّاءُ إنْ ناموا أرقاءُ إنْ صحوا / يُباعُ ويُشرَى فيهمو ويُسوّمُ
يُسَمَّوْنَ ثُوّاراً إذا ما تجهَّموا / لمغتصبٍ أو من عَذاب تألموا
لأيةِ إِنسانيةٍ ذلك الوغى / وفيم أحلُّوهُ لقوم وحَرّموا
رويداً بُناةَ الكونِ ما تلك ثورةٌ / على الحقِّ بل روحٌ على الجور يَنقِمُ
وما هي إلَّا منكمو رَجْعُ صيحةٍ / على الأمس كانت كالمزامير تُنْغَمُ
هو الشرقُ ثارت روحُهُ فهو لُجّةٌ / من النّارِ تُذكيها رياحٌ تَهزَّمُ
يُنادي بِعهدٍ بين يوم وليلةٍ / أُضِيع وحقٍّ يُستباح ويُهضَمُ
وحريّةٍ موؤودةٍ طال شوقُها / إِلى النور يطويها ظلامٌ مُخَيِّمُ
مُكبَّلةِ الكفّين مغلولةِ الخطَى / تُداسُ ويُؤْبَى أن يبوحَ لها فمُ
سلاماً سلاماً سيّد السّلم والوغى / جلالُك موفورٌ وعَهْدُكَ مُكرَمُ
ويعنو إليك الجنُّ والإِنسُ طاعةً / كأنكَ فيهم عن سليمان تَحْكُمُ
وبين يديكَ الأرضُ تُلْقي زمامَها / وفي راحتيكَ السّبعةُ الخُضرُ تُسْلِمُ
ولم تَبْقَ في الكونِ السحيقِ رحابةٌ / لغيركَ أو يَبْعَدْ به عنك مغنمُ
فما لك بالأُسطول والجيشِ واثباً / على أمّةٍ عزلاءَ بالسلم تَحْلُمُ
وتَنْقَضُّ مثل النسر فوق سمائها / بأجنحةٍ تغزو النجومَ وتَزْحُمُ
ألاقَيْتَ في أجوائها غيرَ طيرها / على نَسَماتٍ في الغصون تُهَيْنِمُ
وأُبْصرتَ إلَّا أمَّةً من محمد / تَنازَعَها الميكادُ غصباً ووَلهمُ
ملايينُ مِمن كرَّمَ اللّه خَلْقَهُمْ / يُرادُ بهم أن يُمسَخوا أو يُحَطَّموا
أَنِلْ هذه الدنيا رِضاكَ وحسبنا / من الدهر هذا البارقُ المتبسّمُ
سَرابٌ منَ الأوهام نُسْقَى بلمعه / وطيفٌ برؤياه نُسَرُّ ونَنْعمُ
ودَعنا بمعسول المُنَى ووعودها / نَذُقْ من نعيم العيشِ ما نتوهّمُ
ونُبدعْ لهذا الكون في الوهم صورةً / تُمثِّلُ منه بَعْضَ ما كنت تزعُمُ
فإنّا شعوبٌ من سُلالة آدم / لنا في مراقي العلم والفن سُلّمُ
لنا خطرةٌ تهوَى الخيالَ ونظرةٌ / طموحٌ وقلبٌ بالمحاسنِ مُغرَمُ
على أننا نبني على الحقِّ والهدى / مآثرَ لا تبْلى ولا تتهدّمُ
ونرْعى مواثيقَ الوفاءِ كما رَعَتْ / أوائِلُنا لسنا على البذلِ نندَمُ
من الصين حتى ساحل الغربِ عالمٌ / به المسلمون الأولونَ تقدموا
بَنَوْهُ حضاراتٍ ضِخاماً ولم يَزَلْ / له أثرٌ في الكون أسمى وأضخمُ
نظامٌ من الشُّورى وعهدٌ من الرضى / أياديهِ شتَّى حُسْنياتٌ وأنعُمُ
سَل العامَ إِن أوْفَى عليك هلالهُ / ففي ضوئِهِ للحقِّ هَدْيٌ ومعلَمُ
لعلَّك إِن يمْسَسْكَ من نوره سنىً / يَلنْ منك قلبٌ بالحديد مُلثَّمُ
ويُنبِئك أنَّا لا نطيق على الأذى / مُقَاماً وأنَّا أمةٌ ليس تُظلمُ
على الحقِّ نجزِي من جَزانا بحقّنا / فإنْ لم يَكُنْ فالشرُّ بالشرِّ يُحسمُ

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025