المجموع : 27
أَقامَت لَدى مَرآتِها تَتَأَمَّلُ
أَقامَت لَدى مَرآتِها تَتَأَمَّلُ / عَلى غَفلَةٍ مِمَّن يَلومُ وَيَعذِلُ
وَبَينَ يَدَيها كُلَّما يَنبَغي لِمَن / يُصَوِّرُ أَشباحَ الوَرى وَيُمَثِّلُ
مِنَ الغيدِ تَقلي كُلَّ ذاتِ مَلاحَةٍ / كَما باتَ يَقلي صاحِبَ المنالِ مُرمِلُ
تَغارُ إِذا ما قيلَ تِلكَ مَليحَةٌ / يَطيبُ بِها لِلعاشِقينَ التَغَزُّلُ
فَتَحمَرُّ غَيظاً ثُمَّ تَحمَرِّ غَيرَةً / كَأَنَّ بِها حُمّى تَجيءُ وَتُقفِلُ
وَتُضمِرُ حِقداً لِلمُحَدِّثِ لَو دَرى / بِهِ ذَلِكَ المِسكينُ ما كادَ يَهزُلُ
أَثارَ عَلَيهِ حِقدَها غَيرَ عامِدٍ / وَحِقدُ الغَواني صارِمٌ لا يَفلُلُ
فَلَو وَجَدَتيَوماً عَلى الدَهرِ غادَةً / لَأَوشَكَ مِن غَلَوائِهِ يَتَحَوَّلُ
فَتاةٌ هِيَ الطاوُوُسُ عُجباً وَذَيلُها / وَلَم يَكُ ذَيلاً شَعرُها المُتَهَدِّلُ
سَعَت لِاِحتِكارِ الحُسنِ الحُسنِ فيها بِأَسرِهِ / وَكَم حاوَلَت حَسناءُ ما لا يُؤَمَّلُ
وَتَجهَلُ أَنَّ الحُسنَ لَيسَ بِدائِمٍ / وَإِن هُوَ إِلّا زَهرَةٌ سَوفَ تَذبُلُ
وَأَنَّ حَكيمَ القَومِ يَأنَفُ أَن يَرى / أَسيرَ طِلاءٍ بَعدَ حينٍ سَيَنصُلُ
وَكُلُّ فَتىً يَرضى بِوَجهِ مُنَمِّقٍ / مِنَ الناعِماتِ البيضِ فَهوَ مُغَفَّلُ
إِذا كانَ حُسنُ الوَجهِ يُدعى فَضيلَةً / فَإِنَّ جَمالَ النَفسِ أَسمى وَأَفضَلُ
وَلَكِنَّما أَسماءُ بِالغيدِ تَقتَدي / وَكُلُّ الغَواني فِعلُ أَسماءَ تَفعَلُ
فَلَو أَمِنَت سُخطَ الرِجالِ وَأَيقَنَت / بِسُخطِ الغَواني أَوشَكَت تَتَرَجَّلُ
قَدِ اِتَّخَذَت مَرآتَها مُرشِداً لَها / إِذا عَنَّ أَمرٌ أَو تَعَرَّضَ مُشكِلُ
وَما ثَمَّ مِن أَمرٍ عَويصٍ وَإِنَّما / ضَعيفُ النُهى في وَهمِهِ السَهلِ مُعضِلُ
تُكَتِّمُ عَمَّن يَعقِلُ الأَمرَ سِرَّها / وَلَكِنَّها تَفشيهِ ما لَيسَ يَعقِلُ
فَلَو كانَتِ المِرآةُ تَحفَظُ ظِلَّها / رَأَيتَ بِعَينَيكَ الَّذي كُنتَ تَجهَلُ
وَزادَ بِها حُبُّ التَبَرُّجِ أَنَّهُ / حَبيبٌ إِلى فِتيانِ ذا العَصرِ أَوَّلُ
أَلَمّوا بِهِ حَتّى لَقَد أَشبَهوا الدُمى / فَما فاتَهُم وَاللَهِ إِلّا التَكَحُّلُ
فَتى العَصرِ أَضحى في تَطَّريهِ حُجَّةً / تُقاتِلُنا فيها النِساءُ فَتَقتُلُ
إِذا اِبتَذَلَت حَسناءُ ثُمَّ عَذَلَتها / تَوَلَّت وَقالَت كُلُّكُم مُتَبَذِّلُ
هَجَرتُ القَوافي ما بِنَفسي مَلالَةٌ
هَجَرتُ القَوافي ما بِنَفسي مَلالَةٌ / سِوايَ إِذا اِشَتَّدَ الزَمانُ مَلولُ
وَلَكِن عَدَتني أَن أَقولَ حَوادِثٌ / إِذا نَزَلَت بِالطَودِ كادَ يَزولُ
وَبَغَّضَني الأَشعارَ أَنَّ دُعاتَها / كَثيرٌ وَأَنَّ الصادِقينَ قَليلُ
وَأَنَّ الفَتى في ذي الرُبوعِ عَقارُهُ / وَأَموالَهُ وَالباقِياتُ فُضولُ
سَكَتُّ سُكوتَ الطَيرِ في الرَوضِ بَعدَما / ذَوى الرَوضُ وَاِجتاحَ النَباتَ ذُبولُ
فَما هَزَّني إِلّا حَديثٌ سَمِعتُهُ / عَنِ الغيدِ كَالغيدِ الحِسانِ جَميلُ
فَما أَنا في هَذي الحِكايَةِ شاعِرٌ / وَلَكِن كَما قالَ الرُواةُ أَقولُ
فَتىً مِن سَراةِ اناسِ كُلُّ جُدودِهِ / سَرِيٌّ كَريمُ النَبعَتَينِ نَبيلُ
قَضى في اِبتِناءِ المَكرُماتِ زَمانَهُ / يَنالُ وَيَرجوهُ السِوى فَيُنيلُ
فَدَكَّ مَباني عِزِّهِ الدَهرُ بَغتَةً / وَقَلَّمَ مِنهُ الظُفرُ فَهوَ كَليلُ
هَوى مِثلَما يَهوي إِلى الأَرضِ كَوكَبٌ / كَذاكَ اللَيالي بِالأَنامِ تَدولُ
وَكانَ لَهُ في الدَهرِ بَطشٌ وَصَولَةٌ / فَأَمسَت عَلَيهِ الحادِثاتُ تَصولُ
وَكانَ لَهُ أَلفا خَليلٍ وَصاحِبٍ / فَأَعوَزَهُ عِندَ البَلاءِ خَليلُ
تَفَرَّقَ عَنهُ صَحبُهُ فَكَأَنَّما / بِهِ مَرَضٌ أَعيا الأُساةَ وَبيلٌ
وَأَنكَرَهُ مَن كانَ يَحلِفُ بِاِسمِهِ / كَما يُنكِرُ الدينَ القَديمَ عَميلُ
فَأَصبَحَ مِثلَ الفُلكِ في البَحرِ ضائِعاً / يَميلُ مَعَ الأَمواجِ حَيثُ تَميلُ
يَكادُ يَمُدُّ الكَفَّ لَولا بَقِيَّةٌ / مِنَ الصَبرِ في ذاكَ الرِداءِ تَجولُ
زَوى نَفسَهُ كَي لا يَرى الناسُ ضُرَّهُ / فَيَشمَتَ قالٍ أَو يُسَرَّ عَذولُ
بِدارٍ أَناخَ البُؤسُ فيها رِكابَهُ / وَجُرَّت عَلَيها لِلخَرابِ ذُيولُ
مُهَدَّمَةِ الجُدرانِ مِثلَ ضُلوعِهِ / بِها اليَأسُ صَمتٌ وَالسَقامُ مَجولُ
تَمُرُّ عَلَيها الريحُ وَلهى حَزينَةً / وَيَرنو إِلَيها النَجمُ وَهوَ ضَئيلُ
إِذا ما تَجَلَّى البَدرُ في الأُفقِ طالِعاً / رَعاهُ إِلى أَن يَعتَريهِ أُفولُ
حِبالُ الأَماني عِندَ قَومٍ شُعاعِهِ / وَلَكِنَّهُ في مُقلَتَيهِ نُصولُ
فَيا عَجَباً حَتّى النُجومُ توضِلُّهُ / وَفي نورِها لِلمُدَلجينَ دَليلُ
وَهَل تَهتَدي بِالبَدرِ عَينٌ قَريحَةٌ / عَلَيها مِنَ الدَمعِ السَخينِ سُدولُ
غَفا الناسُ وَاِستَولَت عَلَيهِم سَكينَةٌ / فَما بالُهُ اِستَولى عَلَيهِ ذُهولُ
تَأَمَّلَ في أَحزانِهِ وَشَقائِهِ / فَهانَ عَلَيهِ العَيشُ وَهوَ جَميلُ
فَمَدَّ إِلى السِكّينِ كَفّاً نَقِيَّةً / أَبَت أَن يَراها تَستَغيثُ بَخيلُ
وَقَرَّبَها مِن صَدرِهِ ثُمَّ هَزَّها / وَكادَ بِها نَحوَ الفُؤادِ يَميلُ
وَإِذا شَبَحٌ يَستَعجِلُ الخَطوَ نَحَُهُ / وَصَوتٌ لَطيفٌ في الظَلامِ يَقولُ
رُوَيدَكَ فَالضَنكُ الَّذي أَنتَ حامِلُ / مَتى زالَ هَذا اللَيلُ سَوفَ يَزولُ
نَعَم هِيَ إِحدى مُحسِناتِ نِسائِنا / أَلا إِنَّ أَجرَ المُحسِناتِ جَزيلُ
أَبَت نَفسُها أَن يَكحَلَ النَومُ جَفنَها / وَجَفنُ المُعَنّى بِالسُهادِ كَحيلُ
وَأَن تَتَوَلّى الاِبتِساماتُ ثَغرَها / وَفي الحَيِّ مَكلومُ الفُؤادِ عَليلُ
فَأَلقَت إِلَيهِ صُرَّةً وَتَراجَعَت / وَفي وَجهِها نورُ السُرورِ يَجولُ
فَلَم تَتَناقَل صُنعَها أَلسُنُ الوَرى / وَلا قُرِعَت في الخافِقينَ طُبولُ
لا أَحسَنَت كَي تُعلِنَ الصُحُفُ إِسمَها / فَتَعلَمَ جاراتٌ لَها وَقَبيلُ
كَذا فَليُواسِ البائِسينَ ذَوُ الغِنى / وَإِنّي لَهُم بِالصالِحاتِ كَفيلُ
فَإَِنَّ القُصورَ الشاهِقاتِ إِذا خَلَت / مِنَ البِرِّ وَالإِحسانِ فَهيَ طُلولُ
وَخَيرُ دُموعِ الباكِياتِ هِيَ الَّتي / مَتى سَلَ دَمعُ البائِسينَ تَسيلُ
أَلا إِنَّ شَعباً لا تَعِزُّ نِسائَهُ / وَإِن طارَ فَوقَ الفَرقَدَينِ ذَليلُ
وَكُلُّ نَهارٍ لا يَكُنَّ شُموسَهُ / فَذَلِكَ لَيلٌ حالِكٌ وَطَويلُ
وَكُلُّ سُرورٍ غَيرَهُنَّ كَآبَةٌ / وَكُلُّ نَشاطٍ غَيرَهُنَّ خُمولُ
جَلَستُ أُناجي روحَ أَحمَدَ في الدُجى
جَلَستُ أُناجي روحَ أَحمَدَ في الدُجى / وَلِلهَمِّ حَولي كَالظَلامِ سُدولُ
أُفَكِّرُ في الدُنيا وَأَبحَثُ في الوَرى / وَعَينِيَ ما بَينَ النُجومِ تَجولُ
طَويلاً إِلى أَن نالَ مِن خاطِري الوَنى / وَرانَ عَلى طَرفي الكَليلِ ذُبولُ
فَأَطرَقتُ أَمشي في سُطورِ كِتابِهِ / بِطَرفي فَأَلفَيتُ السُطورَ تَقولُ
سِوى وَجَعِ الحُسّادِ داوِ فَإِنَّهُ / إِذا حَلَّ في قَلبٍ فَلَيسَ يَحولُ
فَلا تَطمَعنَ مِن حاسِدٍ في مَوَدَّةٍ / وَإِن كُنتَ تُبديها لَهُ وَتُنيلُ
أَبا الشَعبِ إِطلَع مِن حِجابِكَ يَلتَقي
أَبا الشَعبِ إِطلَع مِن حِجابِكَ يَلتَقي / بِطَرفِكَ مِثلُ العارِضِ المُتَدَفِّقِ
جَماهيرُ لا يُحصي اليَراعُ عَديدَها / هِيَ الرَملُ إِلّا أَنَّهُ لَم يُنَسَّقِ
هُوَ الشَعبُ قَد وافاكَ كَالبَحرِ زاخِراً / وَكَالجَيشِ يَقفو فَيلَقٌ إِثرَ فَيلَقِ
تَطَلَّع تَجِدهُ حَولَ قَصرِكَ واقِفاً / يُحَدِّقُ تَحديقَ المُحِبِّ لِمُوَفَّقِ
لَقَد لَبِسَتهُ الأَرضُ حِلياً كَأَنَّهُما / أَياديكَ فيهِ لَم تَزَل ذاتُ رَونَقِ
وَأَلقَت عَلَيهِ الشَمسُ نَظرَةَ عاشِقٍ / غَيورٍ تَلَقّاها بِنَظرَةِ مُشفِقِ
يَهَشُّ لِمَرآكَ الوَسيمِ وَإِنَّما / يَهَشُّ لِمَرأى الكَوكَبِ المُتَأَلِّقِ
وَيَعشَقُ مِنكَ البَأسَ وَالحِلمَ وَالنَدى / كَذَلِكَ مَن يَنظُرُ إِلى الحُسنِ يَعشَقِ
يَكادُ بِهِ يَرقى إِلَيكَ اِشتِياقُهُ / فَيا عَجَباً بَحرٌ إِلى البَدرِ يَرتَقي
تَفَرَّقَ عَنكَ المُفسِدونَ وَطالَما / رَموا الشَعبَ بَِلتَفريقِ مُقلِقٌ أَيُّ مُقلِقِ
وَكَم أَقلَقوا في الأَرضِ ثُمَّ تَراجَعوا / يَقولونَ شَعبٌ مُقلِقٌ أَيُّ مُقلِقِ
وَكَم زَوَّروا عَنهُ الأَراجيفَ وَاِدَّعوا / وَأَيّدَهُم ذَيّاكُمُ الزاهِدِ التَقي
لِمَن يَرفَعُ الشَكوى وَقَد وَقَفوا لَهُ / عَلى البابِ بِالمِرصادِ فَاِسأَلهُ يَنطُقُ
وَأَما وَلا واشٍ وَلا مُتَجَسِّسٌ / فَقَد جاءَ يَسعى سَعيَ جَذلانَ شَيِّقِ
يُطارِحُكَ الحُبَّ الَّذي أَنتَ أَهلُهُ / وَحَسبُكَ مِنهُ الحُبَّ غَيرَ مُزَوَّقِ
وَها جَيشُكَ الطامي يَضُجُّ مُكَبِّراً / بِما نالَ مِن عَهدٍ لَدَيكَ وَمَوثِقِ
يُطَأطِئُ إِجلالاً لِشَخصِكَ أَرأُساً / يُطَأطِئُ إِجلالاً لَها كُلُّ مَفرِقِ
لِهامٍ مَتى تَنذِر بِهِ الدَهرَ يَصعَقُ / وَإِن يَتَعَرَّض لِلحَوادِثِ تَفَرَّقِ
يُفاخِرُ بِالسِلمِ الجُيوشَ وَإِنَّهُ / لِأَضرِبَها بِالسَيفِ في كُلِّ مَأزَقِ
وَأَشجَعَها قَلباً وَأَكرَمَها يَداً / إِذا قالَ لَم يَترُك مَجالاً لِأَحمَقِ
أَلا أَيُّها الجَيشُ العَظيمُ تَرَفُّقاً / مَلَكتُ قُلوبَ الناسِ بِالعِرفِ فَاِعتِقِ
وَيا أَيُّها المَلِكُ المُقيمُ بِيَلدِزٍ / أَرى كُلَّ قَلبٍ سِدَّةً لَكَ فَاِرتِقِ
أَلا حَبَّذا الأَجنادُ غَوثاً لِخائِفٍ / وَيا حَبَّذا الأَحرارُ وَرداً لِمُستَقِ
وَيا حَبَّذا عيدُ الجُلوسِ فَإِنَّهُ / أَجَلُّ الَّذي وَلّى وَأَجمَلُ ما بَقي
أَلا أَيُّها الإِبريقُ ما لَكَ وَالصَلف
أَلا أَيُّها الإِبريقُ ما لَكَ وَالصَلف / فَما أَنتَ بَلّورٌ وَلا أَنتَ مِن صَدَف
وَما أَنتَ إِلّا كَالأَباريقِ كُلِّها / تُرابٌ مَهينٌ قَد تَرَقّى إِلى خَزَف
أَرى لَكَ أَنفاً شامِخاً غَيرَ أَنَّهُ / تَلَفَّعَ أَثوابَ الغُبارِ وَما أَنِف
وَمَسَّتهُ أَيدي الأَدنِياءِ فَما شَكا / وَمَصَّتهُ أَفواهُ الطَغامِ فَما وَجَف
وَفيكَ اِعتِزازٌ لَيسَ لِلديكِ مِثلَهُ / وَلَستَ بِذي ريشٍ تَضاعَفَ كَالزَغَف
وَلا لَكَ صَوتٌ مِثلَهُ يَصدَعُ الدُجى / وَتَهتِفُ فيهِ الذِكرَياتُ إِذا هَتَف
وَأَنصَتُّ أَستَوحيهِ شَيئاً يَقولُهُ / كَما يَسكُتُ الزُوّارُ في مَعرِضِ التُحَف
وَبَعدَ ثَوانٍ خِلتُ أَنّي سَمِعتُهُ / يُثَرثِرُ مِثلَ الشَيخِ أَدرَكَهُ الخَزَف
فَقالَ سَقَيتُ الناسَ قُلتُ لَهُ أَجَل / سَقَيتَهُم ماءَ السَحابِ الَّذي يَكَف
وَدَمعَ السَواقي وَالعُيونِ الَّذي جَرى / وَماءَ اليَنابيعِ الَّذي قَس صَفا وَشَف
فَقالَ لِيَذكُر فَضلِيَ الماءُ وَليُشِد / بِمَدحي أَلَم أَحمِلُهُ قُلتَ لَكَ الشَرَف
فَقالَ أَلَم أَحفَظهُهُ قُلتُ ظَلَمتَهُ / فَلَولاهُ لَم تُنقَل وَلَولاكَ ما وَقَف
أَقُصُّ عَلَيكُم ما جَرى لِيَ بِالأَمسِ
أَقُصُّ عَلَيكُم ما جَرى لِيَ بِالأَمسِ / فَلي قَصَصٌ تَجلو الهُمومَ عَنِ النَفسِ
إِذا قُلتُ قالَ الدَهرُ أَحسَنتَ يا فَتىً / وَلَو كانَ ذا حِسٍّ لَغابَ عَنِ الحِسِّ
فَدونَكُمُ هَذا الحَديثُ فَإِنَّهُ / أَلَذُّ وَأَشهى مِن مُعاقَرَةِ الكَأسِ
جَلَستُ إِلى طِرسي وَقَد عَسعَسَ الدُجى / أُسَطِّرُ ما توحِهِ نَفسِيَ في طِرسي
وَلَيسَ سِوى نورٍ ضَئيلٍ بِجانِبي / يَلوحُ وَيَخفى كَالرَجاءِ لَدَى اليَأسِ
وَكَالنَقعِ في جَوفِ الدَواةِ أَوِ الدُجى / وَكَالهِندِواني بَينَ أَنمُليَّ الخَمسِ
فَصاحَةِ قِسٍّ أودِعَت في لِسانِهِ / وَحُكمَةُ لُقمانَ وَيُحسَبَ في الخُرسِ
ضَعيفُ الخُطى بادي النُحولِ كَأَنَّما / يُشَدُّ إِلى قَيدٍ يُشَدُّ إِلى حَبسِ
أُقَلِّبُهُ فَوقَ الطُروسِ وَإِنَّما / أُقَلِّبُ فَوقَ الطِرسِ سَعدِيَ أَو نَحسي
فَنَبَّهَني طَرقٌ عَلى بابِ غُرفَتي / وَصَوتٌ ضَعيفٌ وَهوَ أَقرَبُ لِلهَمسِ
نَهَضتُ وَلَكِن مِثلَما يَنهَضُ الَّذي / بِهِ نَشوَةٌ أَو مَن يَفيقُ مِنَ المَسِّ
وَلَمّا فَتَحتُ البابَ أَبصَرتُ راهِباً / وَلَو كُنتُ طِفلاً قُلتُ غولٌ مِنَ الإِنسِ
فَأَزعَجَني مَرآهُ حَتّى كَأَنَّما / رَسولُ الرَدى قَد جاءَ يَنعى لِيَ نَفسي
فَقُلتُ وَقاني اللَهُ شَرَّكَ ما الَّذي / أَتى بِكَ يا مَشؤومُ في ساعَةِ الأُنسِ
أَجابَ كُفيتَ السوءَ جِئتُكَ طالِب / مَديحَكَ لِيَ بَينَ الآعارِبِ وَالفُرسِ
فَقُلتُ وَحَقِّ الشِعرِ مَدحُكَ واجِبٌ / وَمِثلِيَ يَقضيهِ عَلى العَينِ وَالرَأسِ
خَبَرتُ بَني الدُنيا وَفَتَّشتُ فيهِمُ / فَلَم تَرَ عَينِيَ قَطُّ أَثقَلَ مِن قِسِّ
مِنَ المَرمَرِ المَسنونِ صاغوا مِثالَهُ
مِنَ المَرمَرِ المَسنونِ صاغوا مِثالَهُ / وَطافوا بِهِ مِن كُلِّ ناحِيَةٍ زُمَر
وَقالوا صَنَعناهُ لِتَخليدِ رَسمِهِ / فَقُلتُ أَلا يَفنى كَما فَنِيَ الأَثَر
وَقالوا نَصَبناهُ اِعتِرافاً بِفَضلِهِ / فَقُلتُ إِذَن مَن يَعرِفِ الفَضلَ لِلحَجَر
وَقالوا غَنِيٌّ كانَ يَسخو بِمالِهِ / فَقُلتُ لَهُم هَل كانَ أَسخى مِنَ المَطَر
وَقالوا قَوِيٌّ عاشَ يَحمي ذِمارَنا / فَقُلتُ لَهُم هَل كانَ أَقوى مِنَ القَدَر
أَكانَ غَنِيّاً أَم قَوِيّاً فَإِنَّهُ / بِمالِكُم اِستَغنى وَقُوَّتِكُم ظَفَر
فَلَم يَتَعَشَّقُكُم وَلا هِمتُم بِهِ / كَما خِلتُمُ لَكِنَّهُ النَفعُ وَالضَرَر
وَلَم تَرفَعوا التِمثالَ لِلبَأسِ وَالنَدى / وَلَكِن لِضَعفٍ في نُفوسِكُم اِستَتَر
فَلَستُم تُحِبّونَ الغَنِيَّ إِذا اِفتَقَر / وَلَستُم تُحِبّونَ القَوِيَّ إِذا اِندَحَر
رَأَيتُكُم لا تَعرِجونَ بِرَوضَةٍ / إِذا لَم يَكُن في الرَوضِ فَيءٌ وَلا ثَمَر
وَلا تَعلِفونَ الشاةَ إِلّا لِتَسمَنوا / وَلا تَقتَنونَ الخَيلَ إِلّا عَلى سَفَر
إِذا كانَ حُبُّ الفَضلِ لِلفَضلِ شَأنُكُم / وَلَم تُخطِؤوا في الحِسِّ وَالسَمعِ وَالبَصَر
فَما بالُكُم لَم تُكرِموا اللَيلَ وَالضُحى / وَلَم تَنصُبوا التِمثالَ لِلشَمسِ وَالقَمَر
كَأَنِّيَ في رَوضٍ أَرى الماءَ جارِياً
كَأَنِّيَ في رَوضٍ أَرى الماءَ جارِياً / أَمامي وَفَوقي الغَيمُ يَجهَدُ بِالنَشرِ
تَوَهَّمتُهُ هَمّاً فَقُلتُ لَهُ اِنجَلي / فَإِنَّ هُمومي ضاقَ عَن وِسعِها صَدري
بِرَبِّكَ سِر حَيثُ الخَليُ فَإِنَّني / فَتىً لا أَرى غَيرَ المَصائِبِ في دَهري
فَأَقشَعَ حَتّى لَم أَشُكَّ بِأَنَّهُ / أَصاخَ إِلى قَولي وَما شَكَّ في أَمري
رَعى اللَهُ ذَيّاكَ الغَمامَ الَّذي رَعى / عُهودي وَأَولاني الجَميل وَلَم يَدرِ
تَظَلَّلتُ بِالأَشجارِ عِندَ اِختِفائِهِ / وَيا رُبَّ طَلٍّ كانَ أَجمَلَ مِن قَطرِ
جَلَستُ أَبُثُّ الزَهرَ سِرّاً كَتَمتُهُ / عَنِ الناسِ حَتّى صِرتُ أَخفى مِنَ السِرِّ
وَلَمّا شَكَوتُ الوَجدَ وَجدي تَمايَلَت / كَأَنَّ الَّذي أَشكوهُ ضَربٌ مِنَ الخَمرِ
وَأَدهَشَها صَبري فَأَدهَشَني الهَوى / دَهِشتُ لِأَنَّ الزَهرَ أَدهَشَها صَبري
وَلَمّا دَرَت أَنّي مُحِبٌّ مُتَيَّمٌ / بَكَت وَبَكاني كُلُّ ضاحِكٍ مُفتَرِ
عَجِبتُ لَها تَبكي لِما بي وَلَم يَكُن / عَجيباً عَلى مِثلي البُكاءُ مِنَ الصَخرِ
كَأَنِّيَ بَدر وَالزُهورُ كَواكِبٌ / وَذا الرَوضِ أُفقٌ ضاءَ بِالبَدر وَالزَهرِ
كَأَنّي وَقَد أَطلَقتُ نَفسي مِنَ العَنا / مَليكٌ لِيَ الأَغصانُ كَالعَسكَرِ المَجرِ
فَما أَسعَدَ الإِنسانَ في ساعَةِ المُنى / وَما أَجمَلَ الأَحلامَ في أَوَّلِ العُمرِ
وَهاتِفَةٍ قَد أَقلَقَتني بِنَوحِها / فَكُنتُ كَمَخمورٍ أَفاقَ مِنَ السُكرِ
تُرى رُوِّعَت مِثلي مِنَ الدَهرِ بِالفِرا / قِ أَم بَدَّلَت مِثلي مِنَ اليُسرِ بِالعُسرِ
بَكَيت وَلَو لَم أَبكِ مِمّا بَكَت لَهُ / بَكَيتُ لِما بي مِن سَقام وَمِن ضَرِّ
وَنَهرٍ إِذا والى التَجَعُّدَ مائُهُ / ذَكَرتُ الأَفاعي إِذ تَلوي عَلى الجَمرِ
تُحيطُ بِهِ الأَشجارُ مِن كُلِّ جانِبٍ / كَما دارَ حَولَ الجيدِ عَقدٌ مِنَ الدُرِّ
وَقَد رَقَمَت أَغضانَها في أَديمَةٍ / كِتاباً مِنَ الأَوراقِ سَطراً عَلى سَطرِ
كَأَنَّ دَنانيراً تَسّاقَطُ فَوقَهُ / وَلَيسَ دَنانيرٌ سِوى الوَرَقِ النَضرِ
كَأَنّي بِهِ المِرآةُ عِندَ صَفائِها / تُمَثِّلُ ما يَدنو إِلَيها وَلا تَدري
فَما كانَ أَدرى الغُصنَ بِالنَظم وَالنَثرِ / وَما كانَ أَدرى الماءَ بِالطَي وَالنَشرِ
ذَرِ المَدح وَالتَشبيبَ بَِلخَمر وَالمَهى / فَإِنّي رَأَيتُ الوَصفَ أَليَقُ بِالشِعرِ
وَما كانَ نَظمُ الشِعرِ دَأبي وَإِنَّما / دَعاني إِلَيهِ الحُب وَالحُبُّ ذو أَمرِ
وَلي قَلَمٌ كَالرُمحِ يَهتَزُّ في يَدي / إِلى الخَيرِ يَسعى وَالرِماحُ إِلى الشَرِّ
وَتَفتَكُ اتيكَ الأَسِنَّةُ في الحَشى / وَيُحيِ الحَشى إِن راحَ يَفتُكُ بِالحِبرِ
إِذا ما شَدا بِالطِرسِ أَذهَبَ شَدوُهُ / هُمومَ ذَوي الشَكوى وَوَقرَ ذَوي الوَقرِ
تَبَختَرَ فَوقَ الطِرسِ يَسحَبُ ذَيلَهُ / فَقالوا بِهِ كِبَرٌ فَقُلتُ عَنِ الكِبَرِ
لِكُلٍّ مِنَ الدُنيا حَبيب وَذا الَّذي / أَشُدُّ بِهِ أَزري وَيَعلو بِهِ قَدري
وَيَبقى بِهِ ذِكرى إِذا غالَني الرَدى / حَسبُ الفَتى ذِكرٌ يَدومُ إِلى الحَشرِ
سَلامٌ عَلَيها طِفلَة وَفَتِيَّةً
سَلامٌ عَلَيها طِفلَة وَفَتِيَّةً / كَزَهرِ الرُبى البَسّامِ باكَرَهُ القَطرُ
كَعابٌ تَلاقى الحُسن وَالفَضلُ عِندَها / كَما يَلتَقي في الصَفحَةِ السَطر وَالسَطرُ
لَها صَولَةُ الأَبطالِ إِن حَمَسَ الوَغى / وَفيها حَياءُ البِكرِ عَمّا بِهِ وَزَرُ
وَفيها مِنَ الشَيخِ الحَكيمِ وَقارُهُ / وَفيها مِنَ الخودِ المَلاحَة وَالطُهرُ
أَلا إِنَّ حُسناً لا يُرافِقُهُ النُهى / وَإِن دامَ يَوماً لا يَدومُ لَهُ قَدَرُ
هِيَ الرَوضُ فيهِ النَبت وَالنَد وَالنَدى / وَفيهِ الشَوادي المُطرِباتُك وَالزَهرُ
هِيَ الشَمسُ تَبدو كُلُّ يَومٍ جَديدَةٍ / يَروحُ بِها لَيل وَيَأتي بِها فَجرٌ
لِكُلِّ فَتاةٍ خِدرُها وَسِوارُها / وَلَكِنَّ هَذي كُلُّ قَلبٍ لَها خِدرُ
يُريدُ سَناها الطَي وَالنَشرَ رَونَقاً / وَيُخلِقُ المُصحَفَ الطَي وَالنَشرُ
أَنيسُ الفَتى إِن غابَ عَنهُ أَنيسُهُ / وَأَنجُمُهُ إِن غابَتِ الأَنجُمُ الزُهرُ
وَسِفرٌ تَلَذُّ المَرءَ مُحتَوَياتُهُ / إِذا لَم يَكُن في البَيتِ ناس وَلا سَفَرُ
إِذا رَضِيَت فَالنورُ في كَلِماتِها / وَإِن غَضِبَت فَهيَ الأَسِنَّة وَالجَمرُ
وَفي كُلِّ حَربٍ يَعقِدُ الحَقُّ فَوقَها / أَكاليلَ نَصرٍ يَشتَهي مِثلَها البَدرُ
وَلا غَرَوَ إِن عَزَّت وَهانَ خُصومُها / فَلِلحَقِّ مَهما جَعجَعَ الباطِلُ النَصرُ
فَكَم مُرجِفٍ أَغراهُ فيها سُكوتُها / فَلَمّا أَهابَت كادَ يَقتُلُهُ الذُعرُ
وَكَم كاشِحٍ غاوٍ أَرادَ بِها الأَذى / ثَنى طَرفَهُ عَنها وَفي نَفسِهِ الضُرُّ
لَها في رُبوعِ الشَرقِ جَيشٌ عَرَمرَمٌ / وَأَعوانُها في الغَربِ لَيسَ لَهُم حَصرُ
وَلَو كانَ في المَرِّخِ أَرض وَأُمَّةٌ / لَكانَ لَها في أَرضِهِ عَسكَرٌ مَجرُ
لِتَسحَبَ ذُيولَ الفَخرِ تيهاً فَوَحدَها / يَحُقُّ لَها مِن بَينِ أَترابِها الفَخرُ
وَلا غَرَوَ إِن أَهدى لَها الشِعرُ وَحيَهُ / فَيا طالَما سارَت وَسارَ بِها الشِعرُ
وَلا غَرَوَ إِن صُغنا لَها النَثرَ حِلَيَةً / فَفي عُنُقُ الحَسناءِ يُستَحسَنُ الدُرُّ
وَإِن يَكُنِ الأَحرارِ مِن نُصَرائِها / فَكَم نَصَرَ الأَحرارَ صاحِبُها الحُرُّ
أَديبٌ عَفيفٌ قَلبُه وَيَراعُهُ / بَغيضٌ إِلَيهِ الطَيش وَالفيش وَالهَجرُ
ثَمان وَعَشر وَهُوَ يَخدُمُ قَومَهُ / أَلا حَبَّذا تِلكَ الثَمانِي وَالعَشرُ
فَفي العُسرِ لَم يَجهَر بِشَكوى لِسانُهُ / وَفي اليُسرِ لَم يَلعَب بِأَعطافِهِ الكِبَرُ
وَشَرُّ المَزايا أَن يُصيبَكَ حادِثٌ / وَتَجهَرَ بِالشَكوى وَفي وُسعِكَ الصَبرُ
أَهَذا كَمَن يُمسي وَيُضحي مُعَربِداً / وَقُدّامُهُ طَبل وَمِن خَلفِهِ زَمرُ
أَهَذا كَمُغتابٍ يَروح وَيَغتَدي / وَفي نُطقِهِ شَر وَفي صَمتِهِ شَرُّ
أَهَذا كَمَفطورٍ عَلى الشَر وَالأَذى / أَحاديثُهُ نُكر وَأَعمالُهُ نُكرُ
أَهَذا كَأَفعى هَمُّها نَفثُ سُمِّها / وَنَهشُ الَّذي تَلقى وَلَو أَنَّهُ صَخرُ
كَمَن يَمشي إِلى الوِزرِ عامِداً / وَيَضحَكُ مُختالاً إِذا مَسَّهُ الوِزرُ
أَهَذا الَّذي قَد حارَبَ المَكرَ جَهدَهُ / كَمَن شابَ فَوداه وَدَيدَنَهُ المَكرُ
إِذا الدَهرُ لَم يَعرِف لِكُلِّ مَكانَهُ / إِذَن قُل لِأَهلِ الدَهرِ قَد فَسَدَ الدَهرُ
وَقَفتُ ضُحىً في شاطِئِ النيلِ وَقفَةً
وَقَفتُ ضُحىً في شاطِئِ النيلِ وَقفَةً / يَضُنُّ بِها إِلّا عَلى النيلِ شاعِرُه
تَهَلَّلَ حَتّى كادَ يَبدو ضَميرُهُ / وَعَبَّسَ حَتّى كادَ يُشَكِّلُ ظاهِرُه
فَثَمَّ جَلالٌ يَملَءُ النَفسَ هَيبَةً / وَثَمَّ جَلالٌ يَملَءُ العَينَ باهِرُه
فَطَوراً أُجيلُ الطَرفَ في صَفَحاتِهِ / وَطَوراً أُجيلُ الطَرفَ فيما يُجاوِرُه
وَأَلحَظُ شَمسَ الأُفق وَهيَ مُطِلَّةٌ / تُسايِرُ فيها ظِلَّها إِذ تُسايِرُه
فَأَحسَبُها فيهِ تُساهِمُني الهَوى / وَتَحسَبُني فيها الغَرامُ أُشاطِرُه
إِذا هِيَ أَلقَت في حَواشيهِ نورَها / رَأى التِبرَ يَجري في حَواشيهِ ناظِرُه
أَطالَت بِهِ التَحديق حَتّى كَأَنَّما / تُحاوِلُ مِنهُ أَن تَبينَ سَرائِرُه
فَيا لَهُما إِلفَينِ باتا بِمَعزِلٍ / يُخامِرُها مِن حُبِّهِ ما يُخامِرُه
يَروحُ النَسيمُ الرَطبُ في جَنَباتِهِ / يُداعِبُهُ طَورا وَطَوراً يُحاوِرُه
وَتَقبُضُ مِن مَبسوطِهِ نَفَحاتُهُ / كَما قَبَضَ الثَوبَ المُطَرَّزَ ناشِرُه
فَيَصدُفُ عَنه وَهوَ داجٍ مُقَطَّبٌ / كَأَنَّ عَدُوّاً بِالنَسيمِ يُحاذِرُه
كَأَنّي بِهِ سِفرٌ تَدانَت سُطورُهُ / أَوائِلُهُ قَد شُكِّلَت وَأَواخِرُه
إِذا ما جَلا لِلناظِرينَ رُموزَهُ / تَجَلّى لَهُم ماضي الزَمان وَحاضِرُه
أَيا نيلُ نَبِّئني أَحاديثَ مَن مَضَوا / لَعَلَّ شِفاءَ النَفسِ ما أَنتَ ذاكِرُه
حَيالَكَ صَبٌّ بِالخُطوبِ مُهَدَّدٌ / جَوانِحُهُ رَهنُ الهُموم وَخاطِرُه
أَطاعَ شُجوناً لَو أَطاعَ فُؤادَهُ / عَلَيها لَفاضَت بِالنَجيعِ مَحاجِرُه
يَحُثُّ إِلَيَّ الدَهرُ كُلَّ رَزيأَةٍ / عَلى عَجَلٍ حَتّى كَأَنِّيَ واتِرُه
وَما أَنا بِالعَبدِ الَّذي يَرهَبُ العَصا / وَلَكِنَّني حُرٌّ تَروعُ بَوادِرُه
أَيا نيلُ فَاِمنَحني عَلى الحَقِّ قُوَّةً / فَما سَوَّدَ الضِرغامُ إِلّا أَظافِرُه
وَهَبنِيَ بَأساً يَسكُنُ الدَهرُ عِندَهُ / فَقَد طالَما جاشَت عَلَيَّ مَناخِرُه
إِذا لَم تَكُن عَونَ الشَجِيِّ عَلى الأَسى / فَخاذِلُهُ فيهِ سَواء وَناصِرُه
قِني البَأس وَاِمنَع شَعبَكَ الضَعفَ يَتَّقي / وَيُنصِفُهُ مِن حُسّادِهِ مَن يُناكِرُه
هُوَ الدَهرُ مِن ضِدَّينِ ذَل وَعِزَّةً / فَمَن ذَلَّ شاكيه وَمَن عَزَّ شاكِرُه
وَلِلقادِرِ الماضي العَزيمَةِ حُلوُهُ / وَلِلعاجِزِ الواهي الشَكيمَةِ حازِرُه
وَما الناسُ إِلّا القادِرونَ عَلى العُلى / وَلَيسَت صُنوفُ الطَيرِ إِلّا كَواسِرُه
أَلَ تَرَ مُنذُ اِستُلينَت قَناتُهُ / تَمَشَّت إِلَيهِ الحادِثاتُ تُساوِرُه
فَأُرهِقَ حَتّى ما يَبينُ كَلامُهُ / وَقُيِّدَ حَتّى لَيسَ تَسري خَواطِرُه
وَلَو مَلَكوا الأَقدارَ اِستَغفَرَ الَّذي / لَهُ المُلكُ يُؤتيهِ الَّذي هُوَ آثِرُه
لَما تَرَكوا شَمسَ النَهارِ يَزورُهُ / سَناها وَلا زَهرُ النُجومِ تُسامِرُه
يُريدونَ أَن يَبقى وَيَذهَبُ مَجدُهُ / وَكَيفَ بَقاءُ الشَعبِ بادَت مَآثِرُهُ
فَغورِسَت في مِصرَ يُسَدِّدُ سَهمَهُ / إِلَيه وَقَنّاصُ الوُحوشِ يُضافِرُه
يَلِجّونَ في إِعناتِهِ فَإِذا شَكا / يَصيحونَ أَنَّ الشَعبَ قَد ثارَ ثائِرُه
لَقَد هَزَأوا لَمّا تَنَبَّهَ بَعضُهُ / فَلِم ذُعِروا لَمّا تَنَبَّهَ سائِرُه
يَقولونَ جانٍ لا يَحُلُّ فِكاكَهُ / وَلَو أَنصَفوهُ حَمَلَ الإِثمَ أَسرُه
عَجِبتُ لِقَومٍ يُنكِرونَ شُعورَهُ / وَهاتا مَجاليه وَتِلكَ مَظاهِرُه
أَلَم يَكُ في يَومِ القَناةِ ثَباتُهُ / دَليلاً عَلى أَن لَيسَ توهى مَرائِرُه
يَعُزُّ عَلى المَصرِيِّ أَن يَحمِلَ الأَذى / وَحاضِرُهُ يَأبى الهَوان وَغابِرُه
لَئِن تَكُ لِلتاريخ وَاللَهِ زينَةٌ / فَما زينَةُ التاريخِ إِلّا مَفاخِرُه
رَعى اللَهُ مِن أَبنائِهِ مَن يَذودُ عَن / حِماه وَمِن أَضيافِهِ مَن يُظاهِرُه
هُم بَعَثوا فِيَّ الحَياةَ جَديدَةً / فَشُدتُ أَواخيه وَعَزَّت أَواصِرُه
وَهُم أَسمَعوا الأَيّامَ صَوتاً كَأَنَّما / هُوَ الرَعدُ تَدوي في السَماءِ زَماجِرُه
وَهُم أَطلَقوا أَقلامَهُم حينَ أَصبَحَت / مُكَبَّلَةً أَقلامُه وَمَحابِرُه
كَذَلِكَ إِن يَعدَم أَخو الظُلمِ ناصِراً / فَلَن يَعدُمَ المَظلومُ حُراً يُناصِرُه
تَبَدَّلَ قَلبي مِن ضَلالَتِهِ رُشدا
تَبَدَّلَ قَلبي مِن ضَلالَتِهِ رُشدا / فَلا أَرَبٌ فيهِ لِهِند وَلا سَعدى
وَلَم تَخبُ نارُ الوَجدِ فيه وَلا اِنطَوَت / وَلَكِن هِيامي صارَ بِالأَنفَعِ الأَجدى
وَما الزُهدُ في شَيءٍ سِوى حُبِّ غَيرِهِ / أَشَدُّ الوَرى نُسكاً أَشَدُّهُم وَجدا
أَحَبَّ سِوايَ العَيشَ لَهوا وَراحَةً / وَأَنكَرتُهُ لَهواً فَأَحبَبتُهُ كَدّا
وَما دامَ في الدُنيا سُمُو وَرِفعَةٌ / فَما أَنا مَن يَرضى وَيَقنَعُ بِالأَردا
هُوَ المَوتُ أَن نَحيا شِياها وَديعَةً / وَقَد صارَ كُلُّ الناسِ مِن حَولِنا أُسدا
وَأَن نَكتَفي بِالأَرضِ نَسرَحُ فَوقَها / وَقَد مَلَكوا مِن فَوقِنا البَرق وَالرَعدا
وَأَن يَنشُروا في كُلِّ أُفقٍ بُنودَهُم / وَأَن لا نَرى فَوقَ السِماكِ لَنا بَندا
تَأَمَّلتُ ماضينا المَجيدَ الَّذي اِنقَضى / فَزَلزَلَ نَفسي أَنَّهُ اِنهار وَاِنهَدّا
وَكَيفَ اِمَّحَت تِلكَ الحَضاراتِ كُلُّها / وَصارَت بِلادٌ أَنبَتَتها لَها لَحدا
وَصُرنا عَلى الدُنيا عِيالا وَطالَما / تَعَلَّمَ مِنّا أَهلُها البَذل وَالرَفدا
وَنَحنُ الأُلى كانَ الحَريرُ بُرودَهُم / عَلى حينِ كانَ الناسُ مَلبَسُهُم جِلدا
إِذا الأَمسُ لَم يَرجِع فَإِنَّ لَنا غَداً / نُضيءُ بِهِ الدُنيا وَنَملَءُها حَمدا
وَتُلبِسُنا في اللَيلِ آفاقُهُ سَناً / وَتَنشُرُنا في الفَجرِ أَنسامُهُ نَدّا
فَإِنَّ نُفوسَ العُربِ كَالشُهبِ تَنطَوي / وَتَخفى وَلَكِن لَيسَ تَبلى وَلا تَصدا
وَمِثلُ اللَآلي لا يَخيسُ جَمالُها / وَإِن هِيَ لَم تُرصَف وَلَم تَنتَظِم عَقدا
إِذا اِختَلَفَت رَأياً فَما اِختَلَفَت هَوىً / أَوِ اِقتَرَفَت سَعياً فَما اِفتَرَقَت قَصدا
مَرِضتُ فَأَرواحُ الصِحابِ كَئيبَةٌ
مَرِضتُ فَأَرواحُ الصِحابِ كَئيبَةٌ / بِها ما بِنَفسي لَيتَ نَفْسي لَها فِدى
تَرُفُّ حِيالي كُلَّما أَغمَضَ الكَرى / جُفوني جَماعات وَمَثنى وَمَوحِدا
تَراءى فَآناً كَالبُدورِ سَوافِراً / وَآوِنَةً مِثلَ الجُمانِ مُنَضَّدا
وَطَوراً أَراها حائِراتٍ كَأَنَّها / فَراقِدُ قَد ضَيَّعنَ في الأَرضِ فَرقَدا
وَطَوراً أَراها جازِعاتٍ كَأَنَّما / تَخافُ مَعَ الظَلماءِ أَن تَتَبَدَّدا
أَهينُّ إِلَيها رائِحات وَعُوَّدا / سَلامٌ عَليها رَإِحات وَعُوَّدا
تَهُشُّ إِلَيها مُقبِلاتٍ جَوارِحي / كَما طَرِبَ الساري رَأى النورَ فَاِهتَدى
وَأُلقي إِلَيها السَمعَ ما طالَ هَمسُها / كَذَلِكَ يَستَرعي الأَذانُ المُوَحَّدا
وَيَغلِبُ نَفسي الحُزنُ عِندَ رَحيلِها / كَما تَحزَنُ الأَزهارُ زايَلَها النَدى
كَرِهتُ زَوالَ اللَيلِ خَوفَ زَوالِها / وَعَوَّدتُ طَرفي النَومَ حَتّى تَعَوَّدا
وَلَو أَنَّها في الصَحوِ تَطرُقُ مَضجَعي / حَميتُ الكَرى جَفني وَعِشتُ مُسَهَّدا
وَلَو لَم تَكُن تَعتادُ مِنِّيَ مِثلَها / خَيالاتِها هَمَّت بِأَن تَتَقَيَّدا
فَيا لَيتَني طَيفٌ أَروح وَأَغتَدي / وَيا لَيتَها تَستَطيعُ أَن تَتَقَيَّدا
نَحِلتُ إِلى أَن كِدتُ أُنكِرُ صورَتي / وَأَخشى لِفَرطِ السُقمِ أَن أَتَنَهَّدا
مَبيتي عَلى مِثلِ الوَثيرِ لَيانَةً / وَأَحسَبُني فَوقَ الأَسِنَّة وَالمَدى
كَأَنَّ خُيوطَ المَهدِ صارَت عَقارِباً / كَأَنَّ وِسادي قَد تَحَوَّلَ جامِدا
لَقَد توشِكُ الحُمّى إِذ جَدَّ جَدُّها / تُقَوِّمُ مِن أَضلاعِيَ المُتَأَوِّدا
تُصَوِّرُ لي طَيفَ الخَيالِ حَقيقَةً / وَأَحسَبُ شَخصاً واحِداً مُتَعَدِّدا
لَقَد ضَعضَعَتني وَهِيَ سِر وَلَم يَكُن / يُضَعضِعُني صرِفُ الزَمانِ إِذا عَدا
إِذا ما أَنا أَسنَدتُ رَأسي إِلى يَدي / رَمتني مِنها بِالَّذي يوهِنُ اليَدا
تَغَلغَلَ في جِسمي النَحيلِ أُوارُها / فَلَو لَم أُقَدَّ الثَوبَ عَنهُ تَوَقَّدا
رَأَيتُ الَّذي لَم يُبصِرِ الناسَ نائِماً / وَطُفتُ الدُنى شَرقا وَغَرباً مُوَسَّدا
يَقولُ النُطاسي لَو تَبَلَّدتَ ساعَةً / تَبَلَّدتُ لَو أَنّي أُطيقُ التَبَلُّدا
تَهامَسَ حَولي العائِدون وَرَجَّموا / وَعَنَّفَ بَعضُ الجاهِلين وَفَنَّدا
فَما ساءَني إِلّا شَماتَةُ مَعشَرٍ / رَجَوتُ بِهِم عِندَ الشَدائِدِ مُسعِدا
أَسَأتُ إِلَيهِم بَل أَساؤوا فَإِنَّني / ظَنَنتُهُم شَراوِيَ خُلقا وَمَحتِدا
أَحَبَّ الضَنى قَومٌ لِأَنّي ذُقتُهُ / وَأَحبَبتُهُ كَيما يُحِب وَيُحسَدا
وَوَدَّ أُناسٌ لَو يُعاجِلُني الرَدى / كَأَنِّيَ أَرجو فيهِم أَن أُخَلَّدا
وَما ضَمِنوا أَن لا يَموتوا وَإِنَّما / يَوَدُّ زَوالَ الشَمسِ مَن كانَ أَرمَدا
إِذا اللَيلَ أَعياهُ مُساجَلَةَ الضُحى / تَمَنَّي لَو أَنَّ الصُبحَ أَصبَحَ أَسوَدا
عَلى أَنَّني وَالداءُ يَأكُلُ مُهجَتي / أَرى العارَ كُلَّ العارِ أَن أَحسُدَ العِدى
فَإِنَّ الَّذي بِالجِسمِ لا بُدَّ زائِلُ / وَلَكِنَّ ما بِالطَبعِ يَنفَكُّ سَرمَدا
لَئِن أَجلَبَ الغَوغاءُ حَولي وَأَفحَشوا / فَكَم شَتَموا موسى وَعيسى وَأَحمَدا
وَلا عَجَبٌ أَن يُبغِضَ الحُرَّ جاهِلٌ / مَتى عَشِقَ البومُ الهَزارَ المُغَرِّدا
وَإِنِّيَ في كَبتِ العُداة وَكَيدِهِم / كَمَن يَسلُكُ الدَربَ القَصيرَ المُعَبَّدا
وَلَكِنَّني أَعفو وَلِلغَيظِ سَورَةٌ / أُعَلِّمُ أَعدائي المُروأَة وَالنَدى
أَلا رُبَّ غِرٍّ خامَرَ الشَكُّ نَفسَهُ / فَلَمّا رَآني أَبصَرَ البَحرَ مُزبَدا
فَأَصبَحَ يَخشاني وَقَد بِتُّ ساكِتاً / كَما كانَ يَخشاني وَقَد كُنتُ مُنشِدا
وَيَرهَبُ إِسمي أَن يَطيفَ بِسَمعِهِ / كَما تَتَّقي الدَرداءَ حَرفاً مُشَدَّدا
وَمَن نالَ مِنهُ السَيف وَهوَ مُجَرَّدٌ / تَهَيَّبَ أَن يَرنو إِلى السَيفِ مُغمَدا
أُحِبُّ الأَبِيَّ الحُرَّ لا وُدَّ عِندَهُ / وَأَقلى الذَليلَ النَفسِ مَهما تَوَدَّدا
وَبَينَ ضُلوعي قُلَّبٌ ما تَمَرَّدَت / عَلَيهِ بَناتُ الدَهرِ إِلّا تَمَرَّدا
وَلَو أَنَّ مَن أَهوى أَطالَ دَلالَهُ / مَنَعتُ هَواهُ أَن يَجوزَ بِيَ المَدى
لِتَرمِ العَوادي بِيَ العَوادي فَإِنَّني / تَرَكتُ لِمَن يَهواهُما اللَهو وَالدَدا
فَدَيناكَ لَوَ اِنَّ الرَدى قَبِلَ الفِدا
فَدَيناكَ لَوَ اِنَّ الرَدى قَبِلَ الفِدا / بِكُلِّ نَفيسٍ بِالنَفائِسُ يُفتَدى
أَبى المَوتُ إِلّا أَن يَنالَكَ سَهمُهُ / وَأَلّا يَرى شَملَ السَخاءِ مُبَدَّدا
فَأَقدَمَ لا يَبغي سِواك وَكُلَّما / دَرى أَنَّهُ يَبغي عَظيماً تَشَدَّدا
دَهاكَ الرَدى لَكِن عَلى حينِ فَجأَةٍ / فَتَبَّت يَداهُ غادِرٌ صَرَعَ النَدى
دَهاك وَلَم يُشفِق عَلى الصِبيَةِ الأُلى / تَرَكتُهُم يَبكونَ مَثنى وَمَوحَدا
فَقَدت وَأَوجَدتَ الأَسى في قُلوبِنا / أَسىً كادَ لَولا لدَمعِ أَن يَتَوَقَّدا
بَكَيناكَ حَتّى كادَ يَبكي لَنا الصَفا / وَحَتّى بَكَت مِمّا بَكَينا لَهُ العِدى
وَما كادَ يَرقى الدَمعُ حَتّى جَرى بِهِ / غَدٌ عِندَما يا لَيتَنا لَم نَرَ غَدا
وَقَضَت طِفلَةٌ تَحكي المَلاكَ طَهارَةً / وَأَلحَقَها المَوتُ الزُؤامُ بِمَن عَدا
لَقَد ظَعِنَت تَبغي لُقاكَ كَأَنَّما / ضَربتَ لَها قَبلَ التَفَرُّقِ مَوعِدا
كَأَنَّ لَها نَذراً أَرادَت قَضائَهُ / كَأَنَّكَ أَنتَ الصَوتُ جاوَبَهُ الصَدى
مَشَت في طَريقٍ قَد مَشى فيهِ بَعدَها / فَتاكَ الَّذي أَعدَدتَ مِنهُ المُهَنَّدا
فَتىً طابَ أَخلاقا وَطابَ مَحامِداً / وَطابَ فُؤاداً مِثلَما طابَ مَحتَدا
فَتىً كانَ مِثلَ الغُصنِ في عُنفُوانِهِ / فَلِلَّهِ ذاكَ الغُصنُ كَيفَ تَأَوَّدا
تَعَوَّدَ أَن يَلقاكَ في كُلِّ بُكرَةٍ / فَكانَ قَبيحَ تُركٍ ما قَد تَعَوَّدا
فُجِعنا بِهِ كَالبَدرِ عِندَ تَمامِهِ / وَلَم نَرَ بَدراً قَبلَهُ الأَرضَ وُسِّدا
فَلَم يَبقَ طَرفٌ لَم يَسِل دَمعُهُ دَماً / وَلَم يَبقَ قَلبٌ في المَلا ما تَصَعَّدا
كَوارِثٌ لَو نابَت جِبالاً شَواهِقاً / لَخَرَّت لَها تِلكَ الشَواهِقُ سُجَّدا
وَلَو اِنَّها في جامِدٍ صارَ سائِلاً / وَلَو اِنَّها في سائِلٍ صارَ جامِدا
أَفَهمي إِنَّ الصَبرَ أَليَقُ بَِلفَتى / وَلا سِيَّما مَن كانَ مِثلَكَ سَيِّدا
فَكُن قُدوَةً لِلصابِرينَ فَإِنَّما / بِمِثلِكَ في دَفعِ المُلِمّاتِ يُقتَدى
لَعَمرُكَ ما الأَحزانُ تَنفَعُ رَبَّها / فَيَجمُلُ بِالمَحزونِ أَن يَتَجَلَّدا
فَما وُجِدَ الإِنسانُ إِلّا لِيُفقَدا / وَما فُقِدَ الإِنسانُ إِلّا لِيوجَدا
وَما أَحَدٌ تَنجو مِنَ المَوتِ نَفسُهُ / وَلَو اِنَّهُ فَوقَ السَماكينِ أُصعِدا
فَلا يَحزَنِ الباكي وَلا تَشمَتِ العِدا / فَكُلُّ اِمرِئٍ ياصاحِ غايَتُهُ الرَدى
وَرَبَّتَ أَمريكِيَّةٍ خِلتُ وِدَّها
وَرَبَّتَ أَمريكِيَّةٍ خِلتُ وِدَّها / يَدوم وَلَكِن ما لِغانِيَةٍ وُدُّ
صَبَوتُ إِلى هِندٍ فَلَمّا رَأَيتُها / سَلَوتُ بِها هِندا وَما صَنَعَت هِندُ
وَأَوحَت لَها عَينايَ أَنَّ صَبابَةً / تُلَجلِجُ في صَدري وَأَحذَرُ أَن تَبدو
فَأَلقَت في تُرابِها وَتَبَسَّمَت / أَعيٌ سُكوتُ الصَبِّ أَم صَمتُهُ عَمدُ
فَقُلتُ سَلامُ اللَهِ قالَت وَبِرُّهُ / فَقُلتُ أَهَزلٌ ذَلِكَ القَولُ أَم جَدُّ
وَأَمسَكتُ أَنفاسي وَأَرهَفتُ بِسَمعي / فَفي نَفسي جَزر وَفي مِسمَعي مَدُّ
فَقالَت وَدِدنا لَو عَرِفنا مِنَ الفَتى / وَما يَبتَغيهِ قُلتُ ما يَبتَغي العَبدُ
لَهُ كَبِدٌ حَرّى وَقَلبٌ مُكلَمٌ / غَلِطتُ فَما لِلصَبِّ قَلب وَلا كَبِدُ
قَتيل وَلَكِن ثَوبُهُ كَفَنٌ لَهُ / وَكُلُّ مَكانٍ يَستَريحُ بِهِ لَحدُ
فَإِن لَم يَكُن مِن نَظرَةٍ تَرأَبُ الحَشا / فَرُدّي عَلَيهِ قَلبُه وَبِهِ زُهدُ
فَضَرَّجَ خَدَّيها اِحمِرارٌ كَأَنَّما / تَصاعَدَ مِن قَلبي إِلى خَدِّها الوَجدُ
وَقَرَّبَها مِنّي وَقَرَّبَني الهَوى / إِلى أَن ظَنَنّا أَنَّنا واحِدٌ فَردُ
وَكَهرَبَ روحَينا فَلَمّا تَنَهَّدَت / تَنَهَّدتُ حَتّى كادَ صَدري يَنهَدُّ
وَكانَ حَديثٌ خِلتُ أَنّي حَفِظتُهُ / فَأَذهَلَني عَنهُ الَّذي كانَ مِن بَعدُ
أَمَرتُ فُؤادي أَن يُطيعَ فُؤادَها / فَيَبكي كَما تَبكي وَتَشدو كَما تَشدو
وَقُلتُ لِنَفسي هَذِهِ مُنتَهى المُنى / وَهَذا مَجالَ الشُكرِ إِن فاتَكَ الحَمدُ
فَإِن تَرغَبي عَنها وَفيكِ بَقِيَّةٌ / فَما أَنتِ نَفسي إِنَّما أَنتِ لِيَ ضِدُّ
وَمَرَّت لَيال وَالمُنى تَجذِبُ المُنى / وَقَلبي كَما شاءَت يَلين وَيَشتَدُّ
تَروح وَتَغدو وَاللَيالي كَأَنَّها / وُقوفٌ لِأَمرٍ لا تَروحُ وَلا تَغدو
وَما زُلتُ تَستَخفي عَلَيَّ عُيوبُها / إِلى أَن تَوَلّى الغَي وَاِتَّضَحَ الرُشدُ
رَأى الدَهرُ سَدّاً حَولَ قَلبي وَقَلبَها / فَما زالَ حَتّى صارَ بَينَهُما السَدُّ
خُدِعتُ بِها وَالحُرُّ سَهلٌ خِداعُهُ / فَلا طالِعي يُمن وَلا كَوكَبي سَعدُ
وَكُنّا تَعاهَدنا عَلى المَوتِ في الهَوى / فَما لَبِثَت إِلّا كَما يَلبَثُ الوَردُ
كَأَنّي ما أَلصَقتُ ثَغري بِثَغرِها / وَلا باتَ زِندي وَهوَ في جيدِها عِقدُ
وَلَم نَشتَمِل بِاللَيل وَالحَيُّ نائِمٌ / وَلَم نَستَتِر بِالرَوض وَاللَيلُ مُمتَدُّ
وَلا هَزَّنا شَدوُ الحَمائِمِ في الضُحى / وَلا ضَمَّنا بَيت وَلَم يَحوِنا بُردُ
أَإِن لاحَ في فودي القَتيرُ نَكَرتِني / أَيَزهَدُ في الصَمصامِ إِن خَلِقَ الغِمدُ
لَئِن كانَ لَونُ الشَعرِ ما تَعشَقينَهُ / فَدُم أَبيَضاً ما دُمتَ يا شَعرِيَ الجَعدُ
فَلا تَشمَتي مِنّي فَلَستُ بِمَأمَنٍ / وَلا تَزهَدي فيهِ فَلَيسَ بِهِ زُهدُ
هُوَ الفاتِحُ الغازي الَّذي لا تَرُدُّهُ / عَنِ الفاتِحِ الغازي قِلاع وَلا جُندُ
فَلَو كانَ غَيرَ الشَيبِ عَنّي صَرفتُهُ / وَلَكِنّنَ حُكمَ اللَهِ لَيسَ لَهُ رَدُّ
وَإِن تُعرِضي عَن مَفرِقي وَهوَ أَبيَضٌ / فَيا طالَما قَبَّلتِه وَهوَ مُسوَدُّ
شَفى اللَهُ نَفسي لا شَفى اللَهُ نَفسَها / وَلا غابَ عَن أَجفانِها الدَمع وَالسُهدُ
فَلا ثَغرُها دُر وَلا أُقحُوانَةٌ / وَلا دَمعُها طَل وَلا ريقُها شُهدُ
وَلا قَدُّها غُصن وَلا خَيرَزانَةٌ / وَلا خَصرُها غَور وَلا رِدفُها نَجدُ
وَلا وَجهُها شَمس وَلا شَعرُها دُجىً / وَلا صَدُّها حَر وَلا وَصلُها بَردُ
أُحَبُّ إِلى نَفسي الرَدى مِن لِقائِها / وَأَجمَلُ في عَينَيَّ مِن وَجهِها القِردُ
فَإِن تَلمَسِ الثَوبَ الَّذي أَنا لابِسٌ / قَدَدتُ بِكَفِّيَ الثَوبَ مِن قَبلُ يَنقَدُّ
وَإِن تَقرُبِ الدارَ الَّتي أَنا ساكِنٌ / هَجَرتُ مَغانيها وَلَو أَنَّها الخُلدُ
فَإِن كانَ غَيري لَم يَزَل دينُهُ الهَوى / فَإِنّي وَلا أَخشى المَلامَة مُرتَدُّ
جَلَستُ إِلَيها وَالتَرامُ بنا يَعدو
جَلَستُ إِلَيها وَالتَرامُ بنا يَعدو / إِلى حَيثُ لا واشٍ هُناك وَلا ضِدُّ
قَدِ اِنتَظَمت هَذي القِطاراتُ في الثَرى / كَأَنَّ الثَرى جيد وَتِلكَ لَها عَقدُ
بَلى هِيَ عَقدٌ بَل عُقودٌ أَلا تَرى / عَلى الأَرضِ أَسلاكاً تَدورُ فَتَمتَدُّ
يَسيرُ فَيَطوي الأَرضَ طَيّاً كَأَنَّما / دَواليبُهُ أَيدي كَأَنَّ الثَرى بُردُ
فَكَالطَودِ إِلّا أَنَّ ذَيّاكَ ثابِتٌ / وَكَالريحِ إِلّا أَنَّ هاتيكَ لا تَبدو
تَوَهَّمتُهُ مِن سُرعَةِ السَيرِ راكِداً / وَأَنَّ الدُنى فيمَن عَلى ظَهرِها تَعدو
تَحومُ عَلَيهِ المَركَباتُ كَأَنَّهُ / مَليك وَتِلكَ المَركَباتُ لَهُ جُندُ
تُقَصِّرُ عَنهُ الريحُ إِمّا تَسابُقاً / فَكَيفَ تُجاريهِ المُطَهَّمَةُ الجُردُ
عَلى أَنَّهُ في كَفِّ عَبدٍ زِمامُهُ / فَيا مَن رَأى مَلِكاً يَصرِفُهُ عَبدُ
كَأَنّي بِهِ يا صاحِ دارَ ضِيافَةٍ / يُغادِرُهُ وَفد وَيَقصِدُهُ وَفدُ
خَلَوتُ بِمَن أَهوى بِهِ رُغمَ عاذِلي / وَلَم يَكُ غَيرُ القُربِ لي وَلَها قَصدُ
فَسارَ بِنا في الأَرضِ وَخداً كَأَنَّما / دَرى أَنَّ ما نَبغيهِ مِنهُ هُوَ الوَخدُ
فَما راعَني وَاللَهِ إِلّا وُقوفُهُ / فَقد كُنتُ أَخشى أَن يُفاجِأُنا وَغدُ
وَلَمّا اِنتَهى مِن سَيرِه وَإِذا بِنا / عَلى شاطِءِ البَحرِ الَّذي ما لَهُ حَدُّ
هُناكَ وَقَفنا وَالشِفاهُ صَوامِتٌ / كَأَنَّ بِنا عِيّا وَليسَ بِنا وَجدُ
سَكَتنا وَلَكِنَّ العُيونَ نَواطِقٌ / أَرَقُّ حَديثٍ ما العُيونُ بِهِ تَشدو
سَكِرنا وَلا خَمر وَلَكِنَّهُ الهَوى / إِذا اِشتَدَّ في قَلبِ اِمرِئٍ ضَعُفَ الرُشدُ
فَقالَت وَفي أَجفانِها الدَمعُ جائِلٌ / وَقَد عادَ مُصفَرّاً عَلى خَدِّها الوَردُ
أَلا حَبَّذا يا صاحِبي المَوتُ هَهُنا / إِذا لَم يَكُن مِن تَذَوُّقِ الرَدى بُدُّ
فَيالَك مِن فِكرٍ مُخيف وَهائِلٍ / وَيا لَكَ مِن مَرأى يُرُقُّ لَهُ الصَلدُ
فَقُلتُ لَها إِنّي مُحِبٌّ لِكُلِّ ما / تُحِبّينَ إِنَّ السُمَّ مِنكِ هُوَ الشُهدُ
فَقالَت أَمِن أَجلي تَحِنُّ إِلى الرَدى / دَعِ الهَزلَ إِنَّ المَرءَ حِليَتُهُ الجَدُّ
فَقُلتُ لَها لَو كُنتُ في الخُلدِ راتِعاً / وَلَستِ مَعي وَاللَهِ ما سَرَّني الخُلدُ
فَإِن لَم يَكُن مَهدٌ طِلَيكِ يَضُمُني / فَيا حَبَّذا يا هِندُ لَو ضَمَّنا لَحدُ
فَقالَت لَعَمرِ الحَقِّ إِنَّكَ صادِقٌ / فَدُمتَ عَلى وُد وَدامَ لَكَ الوُدُّ
فَلَو لَم أَكُن مِن قَبلُ أَعشَقُ حُسنَها / لَهُمتُ بِها وَاللَهِ حَسبِيَ مِن بَعدُ
بَكيت وَلَكِن بِالدُموعِ السَخينَةِ
بَكيت وَلَكِن بِالدُموعِ السَخينَةِ / وَما نَفَذَت حَتّى بَكَيتُ بِمُهجَتي
عَلى الكامِلِ الأَخلاق وَالنَدبِ مُصطَفى / فَقَد كانَ زَينَ العَقلِ الفُتُوَّةِ
نَعاهُ لَنا الناعي فَكادَت بِنا الدُنى / تَميدُ لِهَولِ الخَطبِ خَطبِ المُروأَةِ
وَذابَت قُلوبُ العالَمينَ تَلَهُّفاً / وَسالَت دُموعُ الحُزنِ مِن كُلِّ مُقلَةِ
أَجَل قَد قَضى في مِصرَ أَعظَمُ كاتِبٍ / فَخَلَّفَ في الأَكبادِ أَعظَمَ حَسرَةِ
فَتى وَأَبي لَوَ اَنَّ في الناسِ مِثلَهُ / لَهانَ عَلَينا وَقعُ هَذي الرَزيأَةِ
وَلَو كانَ يُفدى بِالنُفوسِ مِنَ الرَدى / جَعَلنا فَداهُ كُلَّ نَفسٍ أَبِيَّةِ
فَتىً ماتَ غَضَّ العُمرِ لَم يَعرِفِ الخَنا / وَلَم يَنطَوي في نَفسِهِ حُبُّ رَيبَةِ
وَقَد كانَ مِقداماً جَريئا وَلَم يَكُن / لِيَبغي الرَدى غَيرَ النُفوسِ الجَريأَةِ
وَكانَ جَواداً لا يَضُنُّ بِحاجَةٍ / لِذَلِكَ أَعطى روحَهُ لِلمَنِيَّةِ
سَلامٌ عَلى مِصرَ الأَسيفَةَ بَعدَهُ / فَقَد أَودَعَت آمالَهُ جَوفَ حُفرَةِ
خَطيبُ بِلادِ النيلِ مالَك ساكِناً / وَقَد كُنتَ تُلقي خُطبَةً إِثرَ خُطبَةِ
تَطاوَلَتِ الأَعناقُ حَتّى اِشرَأَبَّتِ / فَهَل أَنتَ مُسديها وَلَو بَعضَ لَفظَةِ
نَعَم كُنتَ لَولا المَوتِ فارِجَ كَربِها / فَيا لِلرَدى مِن غاشِمٍ مُتَعَنِّتِ
تَفَطَّرَتِ الأَكبادُ حُزناً كَأَنَّما / مَماتَكَ سَهمٌ حَلَّ في كُلِّ مُهجَةِ
وَما حَزِنَت أُمٌّ لِفَقدِ وَحيدِها / بِأَعظَمَ مِن حُزني عَلَيك وَلَوعَتي
تُناديكَ مِصرُ الآنَ يا خَيرَ راحِلٍ / وَيا خَيرَ مَن يُرجى لِدَفعِ المُلِمَّةِ
عَهَدتُكَ تَأبى دَعوَةً غَيرَ دَعوَتي / فَمالَكَ تَأبى مُصطَفى كُلَّ دَعَوَةِ
فَقَد تَكُ رَيّاناً فَيا طولَ لَهفَتي / لَقَد كُنتَ سَيفي في الخُطوب وَجَنَّتي
أَجَل طالَما دافَعتَ عَن مِصرَ مِثلَما / يُدافِعُ عَن مَأواهُ نَحلُ الخَلِيَّةِ
فَأَيقَظَتها مِن رَقدَةٍ بَعدَ رَقدَةٍ / وَأَنهَضَتها مِن كَبوَةٍ تِلوَ كَبوَةِ
وَقَوَّيتَ في أَبنائِها الحُبَّ نَحوَها / وَكُنتَ لَهُم في ذاكَ أَفضَلَ قُدوَةِ
رَفَعتَ لِواءَ الحَقِّ فَوقَ رُبوعِها / فَضَمَّ إِلَيهِ كُلَّ ذي وَطَنِيَّةِ
لَئِن تَكُ أَترَعتَ القُلوبَ مَحبَّةً / فَإِنَّكَ لَم تُخلَق لِغَيرِ المَحَبَّةِ
فَنَم آمِناً وَفَيتَ قَومَكَ قِسطَهُم / فَيا طالَما ناموا وَأَنتَ بِيَقظَةِ
سَيُبقي لَكَ التاريخُ ذِكراً مُخَلَّداً / فَقَد كُنتَ خَيرَ الناسِ في خَيرِ أُمَّةِ
عَلَيكَ مِنَ الرَحَمَنِ أَلفُ تَحِيَّةٍ / وَمِن أَرضِ مِصرَ أَلفُ أَلفِ تَحِيَّةِ
وَقائِلَةٍ ماذا لَقيتَ مِنَ الحُبِّ
وَقائِلَةٍ ماذا لَقيتَ مِنَ الحُبِّ / فَقُلتُ الرَدى وَالخَوفَ في البُعد وَالقُربِ
فَقالَت عَهَدتُ الحُبَّ يَكسَبُ رَبَّهُ / شَمائِلَ غُرّاً لا تُنالُ بِلا حُبِّ
فَقُلتُ لَها قَد كانَ حُبّاً فَزادَهُ / نُفورُ المَهى راءً فَأَمسَيتُ في حَربِ
وَقَد كانَ لي قَلب وَكُنتُ بِلا هَوىً / فَلَمّا عَرَفتُ الحُبَّ صُرتُ بِلا قَلبِ
أَحَبَّ إِلَهٌ في صِباهُ إِلاهَةً
أَحَبَّ إِلَهٌ في صِباهُ إِلاهَةً / جَرى السِحرُ في أَعطافِها وَالتَرائِبِ
تَمَنَّت عَلَيهِ آيَةً لَم يَجِئ بِها / إِلَهٌ سِواهُ في العُصورِ الذَواهِبِ
لِيُمسي عَلى الأَربابِ أَجمَعَ سَيِّداً / وَتُمسي تُباهي كُلَّ ذاتِ ذَوائِبِ
وَكانَ إِلَهاً جامِحاً مُتَضَرِّماً / هَوىً فَأَتى بِالمُعجِزاتِ الغَرائِبِ
كَسا الأَرضَ بِالزَهرِ البَديعِ لِأَجلِها / وَرَصَّعَ آفاقَ السَما بِالكَواكِبِ
وَمازالَ حَتّى عَلَّمَ الطَيرَ ما الهَوى / فَحَنَّت وَغَنَّت في الذُرى وَالمَناكِبِ
وَأَنشَأَ جَنّاتٍ وَأَجرى جَداوِلاً / وَمَدَّ المُروجَ الخُضرَ في كُلِّ جانِبِ
وَشاءَ فَشاعَ العِطرُ في الماءِ وَالضِيا / وَفي كُلِّ صَوتٍ أَو صَدىً مُتَجاوِبِ
وَمَسَّ الضُحى فَاِرفَضَّ تِبراً عَلى الرُبى / وَسالَ عَقيقاً في حَواشي السَباسِبِ
وَقالَ لِأَحلامِ البِحارِ تَجَسَّدي / مَواكِبَ أَلوانٍ وَجَيشَ عَجائِبِ
فَكانَت لَآلٍ في الشُطوطِ وَفي الفَضا / غُيومٌ وَمَوجٌ ضاحِكٌ في الغَوارِبِ
وَلَمّا رَأى الأَشياءَ أَحسَنَ ما تُرى / وَتَمَّت لَهُ دُنيا بِغَيرِ مَعايِبِ
دَعاها إِلَيهِ كَي تُبارِكَ صُنعَهُ / وَلَم يَدرِ أَنَّ الحُبَّ جَمُّ المَطالِبِ
فَقالَت لَهُ أَحسَنتَ أَحسَنتَ مُبدِعاً / فَيا لَكَ رَبّاً عَبقَرِيَّ المَواهِبِ
وَلَكِنَّ لي أُمنِيَةً ما تَحَقَّقَت / إِذا لَم تُنِلنيها فَما أَنتَ صاحِبي
فَدُنياكَ هَذي عَلى حُسنِها / وَسِحرِ مَشاهِدِها وَالصُوَر
تُشارِكُني سائِرُ الآلِهاتِ / لَذاذاتِها وَنِساءُ البَشَر
أُريدُ دُنيا فيها شُعاعٌ / يَبقى إِذا غابَتِ النُجوم
أُريدُ دُنيا تُحِسُّ نَفسي / فيها نُفوساً بِلا جُسوم
أُريدُ خَمراً بِلا كُؤوسٍ / مِن غَيرِ ما تُنبِتُ الكُروم
أُريدُ عِطراً بِلا زُهورٍ / يَسري وَإِن لَم يَكُن نَسيم
وَزادَت فَقالَت أُريدُ أَنيناً / يُشَوِّشُ روحي وَلا مُحتَضَر
وَماءً يَموجُ وَلا جَدوَلٌ / وَناراً بِلا حَطَبٍ تَستَعِر
فَأَطرَقَ ذاكَ الإِلَهُ الفَتِيُّ / وَفي نَفسِهِ أَلَمٌ مُستَتِر
وَقالَ اِمهِليني ثَلاثَ لَيالٍ / أُذَلِّلُ فيها المُرادَ العَسِر
وَراحَ يَجوبُ رِحابَ الفَضاءِ / يَحدوهُ شَوقٌ وَيَدعوهُ سِر
فَسالَ مَعَ الشَمسِ فَوقَ الرُبى / وَغَلغَلَ في الحِندِسِ المُعتَكِر
وَأَصغى إِلى نَسَماتِ المُروجِ / وَأَصغى إِلى نَفَحاتِ الزَهَر
وَبَعدَ ثَلاثِ لَيالٍ أَتاها / فَظَنَّتهُ جاءَ لِكَي يَعتَذِر
فَقالَ وَجَدتُ الَّذي تَطلُبينَ / لَدى شاعِرٍ ساحِرٍ مُبتَكِر
وَأَخرَجَ خَيطاً قَصيرَ المَدى / بِلَونِ التُرابِ وَلينِ الشَعَر
فَلَمّا رَأَتهُ عَراها الأَسى / وَغَوَّرَ إيمانِها وَاِندَثَر
فَصاحَت بِغَيظٍ أَتَسخَرُ مِنّي / إِذَن فَاِحمِلِ العارَ أَو فَاِنتَحِر
أَجابَ رُوَيدَكِ يا رَبَّتي / فَما في التَعَجُّلِ إِلّا الضَرَر
وَشَدَّ إِلى آلَةٍ خَيطَهُ / وَدَغدَغَهُ صامِتاً في حَذَر
فَفاضَت خُمورٌ وَسالَت دُموعٌ / وَشَعَّث بُروقٌ وَلاحَت صُوَر
فَصاحَت بِهِ وَهيَ مَدهوشَةٌ / أَلا إِنَّ ذا عالَمٌ مُختَصَر
فَيا لَيتَ شِعرِيَ ماذا يُسَمّى / فَقالَ لَها إِنَّ هَذا الوَتَر
أَزورُ فَتُقصيني وَأَنأى فَتَعتَبُ
أَزورُ فَتُقصيني وَأَنأى فَتَعتَبُ / وَأَوهَمُ أَنّي مُذنِبٌ حينَ تَغضَبُ
وَأَرجو التَلاقي كُلَّما بَخِلَت بِهِ / كَذَلِكَ يُرجى البَرقُ وَالبَرقُ خُلَّبُ
وَأَعجَبُ مِن لاحٍ يُطيلُ مَلامَتي / وَيَعجَبُ مِنّي عاذِلي حينَ أَعجِبُ
هُوَ البُخلُ طَبعٌ في الرِجالِ مُذَمَّمٌ / وَلَكِنَّهُ في الغيدِ شَيءٌ مُحَبَّبُ
كَلَفتُ بِها بَيضاءَ سَكرى مِنَ الصِبا / وَما شَرِبَت خَمراً وَلا هِيَ تَشرَبُ
لَها الدُرُّ ثَغرٌ وَاللُجَينُ تَرائِبٌ / وَشَمسُ الضُحى أُمٌّ وَبَدرُ الدُجى أَبُ
خَليلِيَ أَمّا خَدُّها فَمُوَرَّدٌ / حَياءً وَأَمّا ثَغرُها فَهوَ أَشنَبُ
لَئِن فَرَّقَت بَينَ الغَواني جَمالَها / لَدامَ لَها ما يَجعَلُ الغيدَ تَغضَبُ
وَلَو أَنَّ رُهبانَ الصَوامِعِ أَبصَروا / مَلاحَتَها وَاللَهِ لَم يَتَرَهَّبوا
تُكَلِّفُني في الحُبِّ ما لا أُطيقُهُ / وَتَضحَكُ إِمّا جِئتُها أَتَعَتَّبُ
أَفاتِنَتي حَسبُ المُتَيَّمِ ما بِهِ / وَحَسبُكِ أَنّي دونَ ذَنبٍ أُعَذَّبُ
أُحِبُّكِ حُبَّ النازِحِ الفَردِ أَهلَهُ / فَهَل مِنكِ حُبُّ الأَهلِ مَن يَتَغَرَّبُ
وَهَبتُكِ قَلبي وَاِستَعَضتُ بِهِ الأَسى / وَهَبتُكِ شَيئاً في الوَرى لَيسَ يوهَبُ
فَإِن يَكُ وَصلٌ فَهوَ ما أَتَطَلَّبُ / وَإِن يَكُ بُعدٌ فَالمَنِيَّةُ أَقرَبُ
لَعَمرُكَ ما حُزني لِمالٍ فَقَدتَهُ
لَعَمرُكَ ما حُزني لِمالٍ فَقَدتَهُ / وَلا خانَ عَهدي في الحَياةِ حَبيبُ
وَلَكِنَّني أَبكي وَأَندُبُ زَهرَةً / جَناها وَلوعٌ بِالزُهورِ لَعوبُ
رَآها يَحُلُّ الفَجرُ عَقدَ جُفونِها / وَيُلقي عَلَيها تِبرَهُ فَيَذوبُ
وَيَنفُضُ عَن أَعطافِها النورَ لُؤلُؤاً / مِنَ الطَلِّ ما ضُمَّت عَلَيهِ جُيوبُ
فَعالَجَها حَتّى اِستَوَت في يَمينِهِ / وَعادَ إِلى مَغناهُ وَهوَ طَروبُ
وَشاءَ فَأَمسَت في الإِناءِ سَجينَةً / لِتَشبَعَ مِنها أَعيُنٌ وَقُلوبُ
ثَوَت بَينَ جُدرانٍ كَقَلبِ مُضيمِها / تَلَمَّسُ فيها مَنفَذاً فَتَخيبُ
فَلَيسَت تُحيي الشَمسَ عِندَ شُروقِها / وَلَيسَت تُحيي الشَمسَ حينَ تَغيبُ
وَمَن عُصِبَت عَيناهُ فَالوَقتُ كُلُّهُ / لَدَيهِ وَإِن لاحَ الصَباحُ غُروبُ
لَها الحُجرَةُ الحَسناءُ في القَصرِ إِنَّما / أَحَبُّ إِلَيها رَوضَةٌ وَكَثيبُ
وَأَجمَلَ مِن نورِ المَصابيحِ عِندَها / حَباحِبُ تَمضي في الدُجى وَتَؤوبُ
وَمِن فَتَياتِ القَصرِ يَرقُصنَ حَولَها / عَلى نَغَماتٍ كُلُّهُنَّ عَجيبُ
تُراقِصُ أَغصانُ الحَديقَةِ بِكرَةً / وَلِلريحِ فيها جَيئَةٌ وَذهوبُ
وَأَجمَلَ مِنهُنَّ الفَراشاتُ في الضُحى / لَها كَالأَماني سِكنَةٌ وَوُثوبُ
وَأَبهى مِنَ الديباجِ وَالخَزِّ عِندَها / فَراشٌ مِنَ العُشبِ الخَضيلِ رَطيبُ
وَأَحلى مِنَ السَقفِ المُزَخرَفِ بِالدُمى / فَضاءٌ تَشِعُّ الشُهبُ فيهِ رَحيبُ
تَحِنُّ إِلى مَرأى الغَديرِ وَصَوتِهِ / وَتَحرُمُ مِنهُ وَالغَديرُ قَريبُ
وَلَيسَ لَها لِلبُؤسِ في نَسَمِ الرُبى / نَصيبٌ وَلَم يَسكُن لَهُنَّ هُبوبُ
إِذا سُقِيَت زادَت ذُبولاً كَأَنَّما / يَرُشُّ عَلَيها في المِياهِ لَهيبُ
وَكانَت قَليلُ الطَلِّ يُنعِشُ روحَها / وَكانَت بِمَيسورِ الشُعاعِ تَطيبُ
بِها مِن أُنوفِ الناشِقينَ تَوَعُّكٌ / وَمِن نَظَراتِ الفاسِقينَ نُدوبُ
تَمَشّى الضَنى فيها وَأَيارُ في الحِمى / وَجَفَّت وَسِربالُ الرَبيعِ قَشيبُ
فَفيها كَمَقطوعِ الوَريدَينِ صُفرَةٌ / وَفيها كَمِصباحِ البَخيلِ شُحوبُ
أَيا زَهرَةَ الوادي الكَئيبَةَ إِنَّني / حَزينٌ لِما صِرتِ إِلَيهِ كَئيبُ
وَأَكثَرَ خَوفي أَن تَظُنّي بَني الوَرى / سَواءً وَهُم مِثلُ النَباتِ ضُروبُ
وَأَعظَمَ حُزني أَنَّ خَطبَكِ بَعدَهُ / مَصائِبُ شَتّى لَم تَقَع وَخُطوبُ
سَيَطرَحُكِ الإِنسانُ خارِجَ دارِهِ / إِذا لَم يَكُن فيكِ العَشِيَّةَ طيبُ
فَتُمسينَ لِلأَقذارِ فيكِ مَلاعِبٌ / وَفي صَفحَتَيكِ لِلنِعالِ ضُروبُ
إِسارُكِ يا أُختَ الرَياحينِ مُفجَعٌ / وَمَوتُكِ يا بِنتَ الرَبيعِ رَهيبُ
وَلَكِنَّها الدُنيا وَلَكِنَّهُ القَضا / وَهَذا لَعَمري مِثلَ تِلكَ غَريبُ
فَكَم شَقِيَت في ذي الحَياةِ فَضائِلٌ / وَكَم نَعِمَت في ذي الحَياةِ عُيوبُ
وَكَم شِيَمٍ حَسناءَ عاشَت كَأَنَّها / مَساوِئٌ يُخشى شَرُّها وَذُنوبُ