المجموع : 15
أليلاي ما أبقى الهوى فيّ من رشد
أليلاي ما أبقى الهوى فيّ من رشد / فَرُدّي على المشتاق مهجَتَهُ رُدّي
أينسى تلاقينا وأنت حزينة / ورأسك كابٍ من عياءٍ ومن سهد
أقول وقد وسدته راحتي كما / توسّد طفل متعب راحة المهد
تعالي إلى صدرٍ رحيبٍ وساعدٍ / حبيب وركن في الهوى غير منهد
بنفسي هذا الشعر والخُصَل التي / تهاوت على نحر من العاج مُنقد
ترامت كما شاءت وشاء لها الهوى / تميل على خدٍ وتصدف عن خد
وتلك الكروم الدانيات لقاطفٍ / بياض الأماني من عناقيدها الرّبد
فيا لك عندي من ظلامٍ محبب / تألق فيه الفرق كالزمن الرغد
ألا كلّ حسن في البرية خادم / لسلطانة العينين والجيد والقد
وكل جمال في الوجود حياله / به ذلة الشاكي ومرحمة العبد
وما راع قلبي منك إلا فراشة / من الدمع حامت فوق عرش من الورد
مجنحة صيغت من النور والندى / ترفُّ على روضٍ وتهفو إلى ورد
بها مثل ما بي يا حبيبي وسيدي / من الشجن القتال والظمأ المُردي
لقد أقفر المحراب من صلواته / فليس به من شاعرٍ ساهر بعدي
وقفنا وقد حان النوى أي موقف / نحاول فيه الصبرَ والصبرُ لا يجدي
كأن طيوف الرعب والبين موشك / ومزدحم الآلام والوجد في حشد
ومضطرم الأنفاس والضيق جاثم / ومشتبك النجوى ومعتنق الأيدي
مواكب خُرس في جحيم مؤبد / بغير رجاءٍ في سلام ولا برد
فيا أيكة مدّ الهوى من ظلالها / ربيعاً على قلبي وروضاً من السعد
تقلصت إلا طيفَ حب محيّر / على درج خابي الجوانب مسودّ
تردّد واستأنى لوعد وموثق / وأدبر مخنوقاً وقد غص بالوعد
وأسلمني لليل كالقبر بارداً / يهب على وجهي به نفس اللحد
وأسلمني للكون كالوحش راقداً / تمزقني أنيابه في الدجى وحدي
كأن على مصر ظلاماً معلقاً / بآخر من خابى المقادير مربد
ركود وإبهام وصمت ووحشة / وقد لفها الغيب المحجب في بُرد
أهذا الربيع الفخم والجنة التي / أكاد بها أستاف رائحة الخلد
تصير إذا جن الظلام ولفها / بجنح من الأحلام والصمت ممتد
مباءة خمارٍ وحانوت بائعٍ / شقيّ الأماني يشتري الرزق بالسهد
وقد وقف المصباح وقفة حارس / رقيب على الأسرارِ داعٍ إلى الجد
كأن تقياً غارقاً في عبادة / يصوم الدجى أو يقطع الليل في الزهد
فيا حارس الأخلاق في الحيّ نائمٌ / قضى يومه في حومة البؤس يستجدي
وسادته الأحجار والمضجع الثرى / ويفترش الافريز في الحر والبرد
وسيارة تمضي لأمر محجب / محجبة الأستار خافية القصد
إلى الهدف المجهول تنتهب الدجى / وتومض ومض البرق يملع عن بُعد
متى ينجلي هذا الضنى عن مسالك / مرنقة بالجوع والصبر والكد
ينقب كلب في الحطام وربما / رعى الليل هرّ ساهر وغفا الجندي
أيا مصر ما فيك العشية سامرٌ / ولا فيك من مصغِ لشاعرك الفرد
أهاجرتي طال النوى فارحمي الذي / تركت بديد الشمل منتثر العقد
فقدتك فقدان الربيع وطيبه / وعدت إلى الإعياء والسقم والوجد
وليس الذي ضيعتُ فيك بهين / ولا أنتِ في الغيّاب هينة الفقد
بعينيك أستهدي فكيف تركتني / بهذا الظلام المطبق الجهم أستهدي
بوردِكِ أستسقي فكيف تركتني / لهذي الفيافي الصم والكثب الجرد
بحبكِ استشفي فكيف تركتني / ولم يبق غير العظم والروح والجلد
وهذي المنايا الحمر ترقص في دمي / وهذي المنايا البيض تختال في فودي
وكنت إذا شاكيت خففت محملي / فهان الذي ألقاه في العيش من جهد
وكنت إذا انهار البناء رفعته / فلم تكن الأيام تقوى على هَدِّي
وكنت إذا ناديت لبَّيت صرختي / فوا أسفا كم بيننا اليوم من سدّ
سلامٌ على عينيك ماذا أجنتا / من اللطف والتحنان والعطف والود
إذا كان في لحظيك سيف ومصرع / فمنكِ الذي يحيى ومنك الذي يردي
إذا جردا لم يفتكا عن تعمد / وإن أغمدا فالفتك أروع في الغمد
هنيئاً لقلبي ما صنعت ومرحبا / وأهلا به إن كان فتكك عن عمد
فإني إذا جن الظلام وعادني / هواك فأبديت الذي لم أكن أبدي
وملتُ برأسي كابياً أو مواسياً / وعندي من الأشجان والشوق ما عندي
أقبل في قلبي مكاناً حللته / وجرحاً أناجيه على القرب والبعد
ويا دار من أهوى عليك تحية / على أكرم الذكرى على أشرف العهد
على الأمسيات الساحرات ومجلس / كريم الهوى عف المآرب والقصد
تنادمنا فيه تباريح معشر / على الدم والأشواك ساروا إلى الخلد
دموعٌ يذوب الصخر منها فإن مضوا / فقد نقشوا الأسماء في الحجر الصلد
وماذا عليهم إن بكوا أو تعذبوا / فإن دموع البؤس من ثمن المجد
منىً نلتها كانت لأنفسنا منى
منىً نلتها كانت لأنفسنا منى / تلفت تجد مصرا بأجمعها هنا
وما بعجيب موطن البدر في العلى / وما بجديد أن يرى الأفق مسكنا
ولكن قلب الحر تعروه نشوة / فيثني على الآلاء وضاحة السنا
إذا أخذ البدر المنير مكانه / وملك آفاق السما وتمكنا
إذا الملك المحبوب قدر سيداً / وعن رأيه في الفضل والنبل أعلنا
فعن ثقة ممن يحب ويحتبي / وإيمان قلب بات بالحق مؤمنا
سلاماً مليك النيل أنت ربيعه / وأنت مغنيه وفي ذاتك الغنى
فذلك تكريم الربيع لروضة / جلاها الأباظيون وارفة الجنى
أجل روضة صارت لكل عظيمة / وللفضل والآداب والعلم موطنا
وميدان سباقين للمجد والعلى / إذا اشتجرت أخرى الميادين بالقنا
من الأدب العالي إذا راح سيد / غدا آخر نحو اللواء فما ونى
عصي القوافي سار نحوك مسرعاً / ولبَّاك من أقصى الفؤاد وأذعنا
وأنت الذي فك القيود جميعها / عن الشعر تأبى أن يهان فيسجنا
إذا المعدن الصافي دعا الشعر مرة / بذلنا له من أجود الشعر معدنا
دسوقي إذا أقللت فاقبل تحيتي / فما أنا شاديهم ولا خيرهم أنا
ولكنني صوت المحبين كلهم / ومن روضك الغالي وبستانهم جنى
فراشٌ على مصباح مجدك حائم / وأي فراش من جلالك ما دنا
وإني صدى الهمس الذي في قلوبهم / فدعني أقم عما يكنّون معلنا
أجل إن ذا يوم لمن يفتدي مصرا
أجل إن ذا يوم لمن يفتدي مصرا / فمصر هي المحراب والجنة الكبرى
حلفنا نولي وجهنا شطر حبها / وننفد فيه الصبر والجهد والعمرا
نبث بها روح الحياة قوية / ونقتل فيها الضنك والذل والفقرا
نحطم أغلالاً ونمحو حوائلا / ونخلق فيها الفكر والعمل الحرا
أجل إن ماء النيل قد مرّ طعمه / تناوشه الفتاك لم يدعوا شبرا
فدالت به الدنيا وريعت حمائم / مغردة تستقبل الخير والبشرى
وحامت على الأفق الحزين كواسر / إذا ظفرت لا ترحم الحسن والزهرا
تحط كما حط العقاب من الذرى / وتلتهم الأفنان والزغب والوكرا
فهلا وقفتم دونها تمنحونها / أكفاً كماء المزن تمطرها خيرا
سلاماً شباب النيل في كل موقف / على الدهر يجني المجد أو يجلب الفخرا
تعالوا نشيّد مصنعاً رب مصنع / يدرُّ على صُناعنا المغنم الوفرا
تعالوا نشيّد ملجأ رب ملجأ / يضم حطام البؤس والأوجه الصفرا
تعالوا لنمحوا الجهل والعلل التي / أحاطت بنا كالسيل تغمرنا غمرا
تعالوا فقد حانت أمور عظيمة / فلا كان منا غافل يصم العصرا
تعالوا نقل للصعب أهلا فإننا / شبابٌ ألفنا الصعب والمطلب الوعرا
شباب إذا نامت عيون فإننا / بكرنا بكور الطير نستقبل الفجرا
شباب نزلنا حومة المجد كلنا / ومن يغتدي للنصر ينتزع النصرا
دعوت فلبينا ودارك كعبة
دعوت فلبينا ودارك كعبة / بها انعقد الإخلاص والحب طوَّفا
خميلتنا تهفو إليها قلوبنا / وأي فؤاد للخميلة ما هفا
بنوك الألى تحنو عليهم تعطفا / وترعاهم براً بهم متلطفا
إذا خلعوا بعض الوقار فدعهم / فمثلك عن مثل الذي صنعوا عفا
هنا أطرح الأعباء مثقل كاهل / وخفف من وقريه من قد تخففا
فمال على الفضل الأباظي طامعا / وأغرق في الجود الأباظي مسرفا
فيا ندوة السمار هل من مسجل / يدوّن إعجاز القرائح منصفا
ليشهد أن الشعر شيء مشى بنا / مع الطبع جل الطبع أن يتكلفا
وفي دمنا يجري به متواصلا / مع النفس الجاري وينساب مرهفا
فهل ناقل عني الغداة وناشر / مقالة صدق قد أبت أن تحرّفا
حديث غنيم والردنجوت والذي / جرى بيننا ما كنت بالحق مرجفا
بصرت به والصحن بالصحن يلتقي / فلم أر أبهى من غنيم وأظرفا
تراءى له لحم فلم يدر عنده / أديَّكَ من بعد الطوى أم تخرقا
وأومأ لي باللحظ يسألني به / أتعرفه أومأت باللحظ مسعفا
وقدمته للديك وهو كأنما / يطير إليه واثبا متلهفا
غنيم أخونا الديك قدمت ذا لذا / فهذا لهذا بعد لأي تعرفا
وما هي إلا لحظة وتغازلا / وقد رفعا بعد السلام التكلفا
فما على الورك الشهي ممزقا / وما على الصدر النظيف منظفا
جزى الله أسنانا هناك عتيقة / ظللن على الصحن الأباظي عكفا
تعير ناجي بالردنجوت جاءه / معاراً فغامر واستعر أنت معطفا
وأقسم لو أن الردنجوت نلته / وجاد به من جاد كرها وسلفا
لقلّبته ظهراً لبطن محيرا / به تحسبن الوجه من عبط قفا
رأيتك والعدس الأباظي قادم / كما انتفض المحموم بشر بالشفا
وناهيك بالعدس الأباظي منظر / عظيم كما هيأت للعين متحفا
على أنه ما جاء حتى رأيته / توارى كطيف لاح في الحلم واختفى
فلله من لفظ ببطنك راسب / قرير ومعناه برأسك قد طفا
قفا نبك أو نضحك على أي حالة / قفا صاحبي اليوم من عجب قفا
كأن صحاف الدار في عين صاحبي / غوان كستهن المحاسن مطرفا
أشار لإحداهن إذ برزت له / وناجته عن بعد وأبدت تعطفا
تسائلني من أنت وهي عليمة / وهل بفتى مثلي على حاله خفا
سأخبرها من أنت إنك شاعر / قنوع إذا ما الخير جاء تفلسفا
ومن أنت حتى ترفض النعمة التي / أتيحت وتأبى مثلها متقشفا
فتى حاله غلبٌ وآخره الطوى / وخطته عريٌ ومشروعه الحفا
تَشُكِّين في حبي لك الحقُّ إنني
تَشُكِّين في حبي لك الحقُّ إنني / جديرٌ بهذا الظُّلم والريبِ والشكِّ
خليقٌ بأن تَنسَي هواي فتنطوي / سعادةُ أيامي التي ذُقتُها منكِ
إذا أنا لم أذكُركِ في كل لحظةٍ / وقصّرتُ لم أسأل ثوانِيها عنك
إذا أنا لم أبذُل شجايَ وعَبرَتي / على كل وقتٍ ضائعٍ كنتُ لا أبكي
فلا حبَّ عندي أستلذُّ به الجوى / بما فيه من سقمٍ وما فيه من ضنك
أليلايَ حُبِّي فيك حُبُّ مُوَحِّدٍ / تَنَزَّهَ عن ريبٍ وجلَّ عن الشِّرك
تَبَقَّى بقاءَ القلب يَنبِضُ دائماً / وليسَ لسلوانٍ وليس إلى تَرك
ثلاث سنين أم ثلاث ليال
ثلاث سنين أم ثلاث ليال / هي البرق أم مرَّت كلمح خيال
وما كان هذا العمرُ إلا صحائفاً / تلاشت ظلالاً رُحن إثر ظلال
وما كان إلا أمس لقياك إنه / لأثبت ما خطّ الزمانُ ببالي
وما العمر إلا أنت والحب والمنى / وما كان باقي العمر غيرَ ضلال
نقلت حياتي والحياة بنا تجري
نقلت حياتي والحياة بنا تجري / من الحُلم المعسول للواقع المرّ
فيا منتهى فنّى إلى منتهى الهوى / على ذِروَةٍ بيضاء في النور والطهر
عرفتك عرفان السّماء ولم تكن / سوى هَمَسات النجم ما جال في صدري
وغامت خطوط السفح حتى نسيتها / وحتى توارى السفح من عالم الذكر
وفي القمم الشَّماء حلَّقتُ حائماً / وأنبتُّ في أعلى شواهقها وكري
ولم يبق إلا أنت والجنَّةُ التي / زرعنا وكلَّلنا بيانعة الزهر
ولم يبق إلا أنت والنسمةُ التي / تهبُّ من الفردوس مسكيَّةَ النشر
ولم يبق إلا أنت والزورق الذي / ترنّح منساباً على صفحة النهر
فيا منتهى مجدي إلى منتهى الغنى / غنى الروح بعد الضَّنك والذلِّ والفقر
أعيذك أن أغدو على صخرةٍ لَقىً / وكنتِ مِجَنّي في مقارعة الصخر
أعيذك بعد التاج والعرش والذي / تألق من ماسٍ وشعشع من تبر
أعيذك من ردّي إلى سَفَهِ الثرى / وحِطَّتِه بين الأكاذيب والغدر
أعيذك أن تنسي ومن بات ناسياً / هواه فأحرى بالنُّهَى عقم الفكر
إذا ما ذكرتِ العمر يوماً تذكري / هوى وزماناً لا يتاحان في العمر
فيا لك من حلمٍ عجيبٍ ورحلةٍ / تعدَّت نطاق الحُلم للأنجم الزُّهر
ويا لك من يوم غريبٍ وليلةٍ / عَفَت وغفت عن ظلم روحين في أسر
ويا لك من ركنٍ خَفِيٍّ وعالمٍ / خَفِيٍّ غنيٍّ بالمفاتن والسحر
ويا لك من أفقٍ مديد ومولدٍ / جديدٍ لقلبينا ويا لك من فجر
عرفتك عرفان الحياة أحسَّها / وأَبصَرَها من كان يخطو إلى القبر
عرفتك عرفان النهار لمقلةٍ / مخضَّبةِ الأحلام حالكةِ الذعر
رأت بك روح الفجر حين تبيّنت / بياض الأماني في أشعَّته الحُمر
بيَ الجرحُ جرحُ الكون من قبل آدم / تغلغل في الأرواحِ يَدمى ويستشري
تولَّته بالإحسان كفٌّ كريمةٌ / مقدّسةُ الحسنى مباركةُ السرّ
فإن عدتُ وحدي بعد رحلتنا معاً / شريداً على الدنيا ذليلاً على الدهر
رجعت بجرحى فاغرَ الفم دامياً / أداريه في صمتٍ وما أحدٌ يدري
هو العيش فيه الصبر كاليأس تارةً / إذا انهارت الآمال واليأسُ كالصبر
عرفتكِ كالمحراب قدساً وروعةً / وكنتِ صَلاة القلب في السرّ والجهر
وقد كان قيدي قيدَ حبّك وحدَه / أنا المرء لم أخضع لنهيٍ ولا أمر
وأعجبُ شيء في الهوى قيدُك الذي / رضيتُ به صِنواً لإيمانيَ الحرّ
بَرمتُ بأوضاع الورى كلُّ أمرهم / وسيلةُ محتاج ومسعاةُ مضطرّ
برمت بأوضاع الورى ليس بينهم / وشائج لم تُوصَل لغايٍ ولا أمر
إذا كان ما استنُّوا وما شرعوا القِلَى / فذلك شرعُ الطين والحمَأِ المُزري
تمرّدتُ لا أُلوِي على ما تعوَّدوا / ونفسي بهذا الشرع عارمةُ الكفر
وَهَب مَلَكي الغالي الكريم وحارسي / تخلّى فما عذر الوفاء وما عذري
عشقتك لا أدري لحبّيَ مبدأً / ولا منتهى حسبي بحبّك أن أدري
إذا شئتِ هجراناً فما أتعس المدى / من النور للّيل المخيّم للحشر
ولما التقينا بعد نأي وغربة
ولما التقينا بعد نأي وغربة / شجيين فاضا من أسىً وحنينِ
تسائلني عيناك عن سالف الهوى / بقلبي وتستقضي قديم ديونِ
فقمت وقد ضجَّ الهوى في جوانحي / وأنَّ من الكتمان أيّ أنينِ
يبث فمي سرّ لهوى لمقبّل / أجود له بالروح غير ضنين
إذا كنت في شك سلي القبلة التي / أذاعت من الأسرار كل دفين
مناجاة أشواق وتجديد موثق / وتبديد أوهامٍ وفض ظنون
وشكوى جوى قاس وسقمٍ مبرحٍ / وتسهيد أجفانٍ وصبر سنين
دع النفس تمرح في خيالٍ وأوهام
دع النفس تمرح في خيالٍ وأوهام / وخلِّ لأجفاني كواذبَ أحلامي
وقل يا حبيب القلب إنك عائد / على جهلِ حساد وغفلة لوّامِ
وإنك دانٍ كالربيع وزائرٌ / بضاحك نوار ومخضلّ أكمامِ
تعال اسقني خمرَ المواعيد والرضا / وخلّ الأماني البيض تغمر أسقامي
أيحرم حتى وهم حبك من رمى / بمهجته في ناره دون إحجامِ
وأنفق فيه قلبه وشبابه / فلم يَبقَ إلا الجرح والشفق الدامي
ومن عجب أحنو على السهم غائراً / ويسألني قلبي متى يرجع الرامي
فيا لهفه لو كنت أدري بموعدٍ / وراء الليالي أو رجاءً بإلمام
ولو كان عندي غير زفرة آسف / وحسرة أشعارٍ ودمعة أقلامِ
ولو كنت أدري كيف يصفو مغاضبٌ / كأن رضاه في ذرى الكوكب السامي
كأن ائتلاق النجم والنجم مُشرقٌ / ثناياه تبدو في عبوسة أيامي
كأنَّ نسيم الليل يحمل طيبه / كأنَّ اصطدام الموج معبود أقدامِ
فيا أملي النائي إذا كنتُ مذنباً / فقد تبت عن ذنبي إليك بآلامي
حببتك لا أدري الهوى ما وراءه / وما بعد سقمي فيك عاماً على عامِ
جمالك نبراسي وروحك كعبتي / وعيناك وحيي في الحياة وإلهامي
أرَبّاه أنقذني فأنت رميتني
أرَبّاه أنقذني فأنت رميتني / بقلب على الأشواك والدم مشاءِ
أمينة هذا ما أتاني كتبته / وعندك أخباري وعندك أنبائي
متى نلتَها كانت لأنفسنا منَى
متى نلتَها كانت لأنفسنا منَى / تلفت تجد مصراً بأجمعها هنا
وما بعجيب موطن البدر في العلى / وما بجديد أن يرى الأفق مسكنا
ولكنَّ قلب الحر تعروه نشوة / فيثني على الآلاء وضاحة السنا
إذ أخذ البدرُ المنير مكانه / ومُلِّك آفاق السما وتمكنا
فذلك تكريم الربيع لروضة / جلاها الأباظيون وارفة الجنى
أجل روضة صارت لكل عظيمة / وللفضل والآداب والعلم موطنا
وميدان سباقين للمجد والعلى / إذا اشتجرت أخرى الميادين بالقنا
من الأدب العالي إذا راح سيد / غدا آخر نحو اللواء فما ونى
عصيُّ القوافي سار نحوك مسرعاً / ولبَّاك من أقصى الفؤاد وأذعنا
وأنت الذي فك القيود جميعها / عن الشعر تأبى أن يهان فيسجنا
إذا المعدن الصافي دعا الشعر مرة / بذلنا له من أجود الشعر معدنا
دسوقي إذا أقللتُ فاقبل تحيتي / فما أنا شاديهم ولا خيرهم أنا
ولكنني صوت المحبين كلهم / ومن روضك الغالي وبستانهم جَنَى
فراش على مصباح مجدك حائم / وأي فراش من جلالك ما دنا
وإني صدى الهمس الذي في قلوبهم / فدعني أقم عما يكنون معلنا
عجبت لهذا الدهرِ فرَّقَ بيننَا
عجبت لهذا الدهرِ فرَّقَ بيننَا / ومزَّقَ قلبي طولُ صدِّكِ تمزيقَا
أحاول أن أنسى وهيهاتَ إنه / لَحُبّ يظَل العمر يزدادُ توثيقَا
عدت عادياتُ الدهر يعصفنَ بالمنى / وأشبعَتِ الأيامُ بَيناً وتفريقَا
وما زال ذاك الوجهُ أعذبَ مشتهى / لعيني وذاك الاسمُ أعذبَ موسيقى
وفي الكأسِ من ماء الخدودِ عصارة
وفي الكأسِ من ماء الخدودِ عصارة / أحلَّ الهوى للعاشقينَ شرابَهَا
وما كنتُ أدري قبلَها أنَّ وَجنةً / تَنَفَّسَ فيها عاشقٌ فأذابَهَا
عرفتُ الذي تخفينَ عرفانَ ملهَم
عرفتُ الذي تخفينَ عرفانَ ملهَم / إذا الدمعةُ الخرساءُ لم تتكلمِ
وأنتِ سماءٌ يعشقُ المرءُ نورَهَا / ويعشقُ ما في أفقِها مِن تجهُّمِ
وإني إذا عيناكِ بالدمعِ غامَتَا / جديرٌ بأن يمشي على هدبِهَا فمي
دعيني أحلِّقُ في سمائِكِ طائراً / ويَسبَح خيالي في سناكِ المعظَّمِ
ألا إنَّ ضوءَ البدرِ إحسانُ محسنٍ / له أينَما يسرِي تفضُّلُ مُنعِمِ
يطوفُ به في الناضرِ المتَبسِّمِ / وينشرُه في الدارِسِ المتهدمِ
ويا ربما يغشَى الخميلةَ ضاحكاً / فتحلمُ في جوٍّ من السحرِ مبهمِ
وينشرُ في الأطلالِ ظِلا كأنَّه / خيالُ الأماني في محاجرِ نُوَّمِ
أليلاىَ ما أبقَى الهوى فيَّ من رُشدِ
أليلاىَ ما أبقَى الهوى فيَّ من رُشدِ / فردِّي على المشتاقِ مهجتَه ردِّي
أيُنسَى تلاقينا وأنتِ حزينةٌ / ورأسُك كابٍ من عياءٍ ومن سهدِ
أقول وقد وسدتُه راحتي كما / تَوسَّدَ طفلٌ متعبٌ راحةَ المهدِ
تعالي إلى صدرٍ رحيبٍ وساعدٍ / حبيبٍ وركنٍ في الهوى غير منهَدّ
بنفسيَ هذا الشّعرُ والخُصَلُ التي / تهاوت على نحر من العاج منقدِّ
ترامت كما شاءت وشاءَ لها الهوى / تميل على خدٍّ وتصدفُ عن خدِّ
وتلك الكرومُ الدانياتُ لقاطفٍ / بياضُ الأماني من عناقيدِهَا الربدِ
فيا لكَ عندي من ظلامٍ محبَّب / تَألَّقَ فيه الفرق كالزمنِ الرغدِ
ألا كلُّ حسنٍ في البريةِ خادمٌ / لسلطانَةِ العينينِ والجيدِ والقدِّ
وكلُّ جمالٍ في الوجودِ حيالَه / به ذلةُ الشاكي ومرحمةُ العبدِ
وما راعَ قلبي منك إلا فراشةٌ / من الدمعِ حامت فوق عرشٍ من الوردِ
مجنحة صيغت من النورِ والندَى / ترف على روضٍ وتغفو إلى وردِ
بها مثل ما بي يا حبيبي وسيّدِي / من الشجنِ القتَّالِ والظمأ المردِي
لقد أقفرَ المحرابُ من صلواته / فليسَ به من شاعرٍ ساهرٍ بعدي
وقفنا وقد حانَ النوى أيَّ موقفٍ / نحاولُ فيه الصبرَ والصبرُ لا يُجدي
كأنَّ طيوفَ الرعبِ والبين موشكٌ / ومزدحم الآلامِ والوجدِ في حَشدِ
ومضطرم الأنفاسِ والضيق جاثمٌ / ومشتبك النجوى ومعتنق الأيدي
مواكب خرس في جحيمٍ مؤبدٍ / بغير رجاءٍ في سلامٍ ولا بَردِ
فيا أيكةً مدَّ الهوى من ظلالها / ربيعاً على قلبي وروضاً من السعد
تقلصتِ إلا طيفَ حبٍّ محيَّرٍ / على دَرَجٍ خابي الجوانبِ مُسوَدِّ
تَردَّدَ واستأنى لوعدٍ وموثقٍ / وأدبرَ مخنوقاً وقد غُصَّ بالوعدِ
وأسلمني لليلِ كالقبرِ بارداً / يهبُّ على وجهي به نَفَسُ اللحدِ
وأسلمني للكونِ كالوحشِ راقداً / تمزقني أنيابُه في الدجى وحدي
كأنَّ على مصرَ ظلامينِ أَعكَرٌ / بآخرَ من خابي المقاديرِ مربَدِّ
ركودٌ وإبهامٌ وصمتٌ ووحشةٌ / وقد ضمها الغيبُ المحجَّبُ في بُردِ
كأن سماءَ النيلِ لم تَلقَ حادثاً / ولا قصفت فيها القواصفُ بالرعدِ
أحقاً تولَّى ذلك الهولُ وامَّحَت / خواطرُ ذاكَ الويل والرعب والحقدِ
فيا للقلوبِ الصابراتِ وقد غفت / على نعمةِ الإِيمانِ والشكرِ والحمدِ
ويا للقلوبِ المؤمناتِ وأمنها / وضجعتها في رحمةِ الصَّمَدِ الفردِ
أهذا الربيعُ الفخمُ والجنةُ التي / أكاد بها أستافُ رائحةَ الخلدِ
تصيرُ إذا جُنَّ الظلامُ ولفّها / بجنحٍ من الأحلامِ والصمتِ ممتَدِّ
مباءةَ خمارٍ وحانوتَ بائعٍ / شقيّ الأماني يشتري الرزق بالسهدِ
وقد وَقَفَ المصباحُ وقفةَ حارسٍ / رقيبٍ على الأسرار داعٍ إلى الجِدِّ
كأنَّ تقيّا غارقاً في عبادةٍ / يصومُ الدجى أو يقطعُ الليلَ في الزهدِ
فيا حارسَ الأخلاقِ في الحيِّ نائم / قضى يومَه في حومةِ البؤسِ يستجدي
وسادَتُه الأحجارُ والمضجعُ الثرى / ويفترشُ الإِفريزَ في الحرِّ والبردِ
وسيارة تمضي لأمرٍ محجَّبٍ / محجبةَ الأستارِ خافيةَ القصدِ
إلى الهدفِ المجهولِ تنتهبُ الدجى / وتومض وَمضَ البرقِ يلمع عن بعدِ
متى ينجلي هذا الضنَى عن مسالكٍ / مرنقةٍ بالجوع والصبرِ والكَّدِ
ينقِّب كلبٌ في الحطامِ وربما / رَعَى الليلَ هِرٌّ ساهرٌ وغفا الجندي
أيا مصرُ ما فيكِ العشيةَ سامرُ / ولا فيكِ من مصغ لشاعرِك الفردِ
أهاجرتي طالَ النوى فارحمي الذي / تركتِ بديدَ الشملِ منتثر العقدِ
فقدتُكِ فقدانَ الربيعِ وطيبه / وعدتُ إلى الإِعياء والسقمِ والوجدِ
وليسَ الذي ضيَّعتُ فيكِ بهيِّن / ولا أنتِ في الغُيَّاب هينةُ الفقدِ
بعينكِ أستهدي فكيفَ تركتنِي / بهذا الظلامِ المطبق الجهمِ أستهدي
أتيتُكِ أستسقي فكيف تركتِني / لهذي الفيافي الصمِّ والكثب الجردِ
أتيتُكِ أستعدي فكيف تركتِني / إِلى هذه الدنيا وأحداثِها اللدِّ
بحبِّكِ أَستشفي فكيفَ تركتِني / ولم يبقَ غيرُ العظمِ والروحِ والجِلدِ
وهَذي المنايا الحمر ترقصُ في دمي / وهذي المنايا البيض تختالُ في فَودِي
وكنتِ إذا شاكيتُ خففتِ محملي / فهان الذي ألقاه في العيشِ من جهد
وكنتِ إذا انهارَ البناءُ رفعتِهِ / فلم تكنِ الأيامُ تقوىَ على هَدِّي
وكنتِ إذا ناديتُ لَبَّيتِ صرختي / فواحَرَباً كَم بينَنا اليومَ من سدِّ
وقد كانَ لي للعطفِ والحبِّ مسلكٌ / فأغلَقتِه دوني فبتُّ بلا ردِّ
سلامٌ على عينيكِ ماذا أجنَّتا / من اللطفِ والتحنان والعطفِ والودِّ
إذا كانَ في لحظيكِ سيفٌ ومصرعٌ / فمنكِ الذي يُحيي ومنك الذي يُردي
إِذا جُرِّدَا لم يفتكا عَن تعمدٍ / وإن أُغمدَا فالفَتكُ أروع في الغمدِ
هنيئاً لقلبي ما صنعتِ ومرحباً / وأهلاً به إِن كانَ فتكُكِ عن عَمدِ
فإِني إذا جُنَّ الظلامُ وعادني / هواكِ فأبديتُ الذي لم أكن أبدي
وملتُ برأسي كابياً أو مواسياً / وعندي من الأشجانِ والشوقِ ما عندي
أقَبِّلُ في قلبي مكاناً حللتِهِ / وجرحاً أناجيه على القرب والبعدِ
ويا دارَ من أهوىَ عليكِ تحيةٌ / على أكرمِ الذكرى على أشرفِ العهدِ
على الأمسياتِ الساحراتِ ومجلسٍ / كريم الهوى عفِّ المآربِ والقصدِ
تنادِمُنَا فيه تباريحُ شاعرٍ / على الدمِ والأشواكِ يمشي إلى الخلدِ
فبودليرُ محزونٌ وفرلين بائسٌ / وميسيه مجروحُ الهوى عاثرُ الجَدِّ
وللمتنبي غضبةٌ مُضَرِيَّةٌ / وثورةُ مظلومٍ وصيحةُ مستعدي
دموعٌ يذوبُ الصخرُ منها فإِن مضوا / فقد نقشوا الأسماءَ في الحَجَر الصلدِ
وماذا عليهم إِن بكوا أو تعذبوا / فإنَّ دموعَ البؤسِ من ثَمَنِ المجدِ