المجموع : 111
كتبتُ عهوداً من دمي وودادي
كتبتُ عهوداً من دمي وودادي / لكل كريم يستحق ودادي
وما كان رسمي حاجباً لحقيقتي / وفي نظراتي من خفوق فؤادي
علَيك سلامُ الحبّ يا أيُّها الوادي
علَيك سلامُ الحبّ يا أيُّها الوادي / فمن نَهرِكَ الفياضِ تَبريدُ أكبادِ
ألا حبّذا نومي على جَوهَرِ الحَصى / لأغفي على الألحانِ من طَيركَ الشادي
وقد خيّم الصّفصافُ للماءِ عاشقاً / على ضفّةٍ خضراءَ في ظلّ أطواد
فما كان أحلى ذلَّه وخشوعَهُ / لدى حوَرٍ ريّانَ أَهيفَ ميّاد
ترنَّحَ مُختالاً فكانَ خفيفُهُ / صدَى زفراتِ الصبّ أو نغَمَ الحادي
فكَم فيكَ أياماً تولّت سريعةً / وكم فيكَ أصواتاً ورنات أعواد
وكم فيكَ من حلمٍ ولهوٍ ونُزهة / وسلمى لتسليمٍ وسعدى لإسعاد
رَعى اللهُ أيامي عليكَ منعّماً / بعشرةِ خلّانٍ على خيرِ مِيعاد
وقد مرّتِ اللذاتُ سرباً فصدتها / بأشراكِ حظّ للأمانيّ منقاد
فأجمل بيومٍ فيهِ طالَ خُمارُنا / بإطلاقِ بنتِ الحانِ من دَيرِ زهاد
ويومَ تغَنَّينا على جسّ مزهرٍ / يُهَيِّجُ تذكارَ الهوى والورى هادي
هلِ الضّفةُ الغناءُ بعدَ تفرُّقٍ / ترانا جميعاً من نيامٍ وورّاد
نحنُّ إلى نعماكَ يا واديَ الهوى / ولَسنا على ظني إليكَ بعوّاد
حبيبٌ إِلينا من مغارَتِكَ التي / غدَت منتدَى أنسٍ وكَعبةَ قصّاد
نميرٌ وظلٌّ من صخورٍ وجدولٌ / ونارُ شواءٍ أُوقِدَت أيَّ إيقاد
أواديَ نهرِ الكلبِ لا زلتَ حافلاً / بمبيَضّ أمواه ومُخضَرّ أعواد
فأسمعُ في ليلِ الشتاءِ وقد صفا / دويَّ هديرٍ بعدَ تَجليلِ رعّاد
إِلامَ تُناجيني النُّجومُ الزَّواهرُ
إِلامَ تُناجيني النُّجومُ الزَّواهرُ / وقَلبي إليها في السَّكينةِ طائرُ
كأنَّ رسولَ الحبِّ بَيني وبَينَها / ضياءٌ على قَلبي وعَينَيَّ باهر
فأرنو إليها ساهياً متأمّلاً / فيهبِطُ منها الوَحيُ وهو الخَواطر
عَجيبٌ من الزَّهراءِ كُتمانُ سِرّها / بأنوارِها حَيثُ المُنجّمُ حائر
فَمِن رعيِها أنسٌ وعِلمٌ وحِكمةٌ / وما هَيّجت إِلا اللّطيفَ المناظر
فكم أسهرُ اللّيلَ الطويلَ لأجلِها / وبُردي بَلِيلٌ في الخَميلةِ عاطر
وتَحتي مِنَ العشبِ النّديّ وسادةٌ / وفَوقي من الدّوحِ العَليّ سَتائر
وما شاقَني إِلا تَذَكُّر لَيلةٍ / وقَلبي على عهدِ الصبوَّةِ ناضر
ولُبنى إِلى جَنبي فتاةٌ صَغيرةٌ / كَنوّارةٍ فيها نَدَى الصّبحِ طاهِر
فَقَالَت ورأسانا كسُنبُلَتَينِ قد / تَلامَسَتا في المَرجِ والمَرجُ مائر
أتسهَرُ حتّى تَشهَدَ الزَّهرَ والدُّجى / يُنَوُّرُ مثلَ الزُّهر واللَيلُ سائر
فَقُلتُ نَعَم والرّيحُ تنشُرُ شَعرَها / عَليَّ وذاك الشَعرُ للطّيبِ ناشر
ملاكينِ بِتنا ساهِرَينِ وهَكَذا / تَفتَّحَتِ الأزهارُ والنَّجمُ ساهر
ألا هَل قُلُوبٌ لِلهَوى بَعدَ قَلبِها / وهل بعدَ عَينَيها عُيونٌ نَواظِر
فأَطلِعْهما نَجمَينِ في فَلَكِ الحَشَى / فلا تَتَصَبّاكَ النجومُ السّوافِر
تَثاقلَ لَيلي والظَّلامُ ثقيلُ
تَثاقلَ لَيلي والظَّلامُ ثقيلُ / وأقصَرُ ليلٍ في الهُمُومِ طَويلُ
كأنّ على قلبي رصاصاً مِنَ الأسى / وليسَ إلى الصبرِ الجميل سبيل
فكيفَ وحولي ظلمةٌ فوقَ ظلمةٍ / ولا ضوءَ فيها والسراجُ ضئيل
فما الجوُّ إِلا قبرُ نجم مغوّرٍ / إليه يحنُّ الطَّرفُ وهو كليل
هو الليلُ للأرواحِ مجرى ومَلعَبٌ / وللريحِ فيه زفرةٌ وعويل
وتحتَ دَياجِيهِ النّفوسُ تناوَحت / فلم يَشفَ من تِلكَ النُّفُوسِ غليل
لقد راعَني ليلٌ يخافُ سُكُونَه / عَليلٌ ويخفى في دُجاه قتيل
ويُرخي على شرّ الجّرائمِ سِترَهُ / وييأسُ فيه آرِقٌ وخَلِيل
هو اللّيلُ يخفي الويلَ والنّاسُ نُوَّمٌ / وسيفُ الرّدَى فوقَ النيامِ صقيل
وكم أرَقٍ يأتي على قَلقٍ بهِ / فأوقِدُ قلبي شمعَةً ويَسيل
وقد أَتأسَّى بامرئ القيسِ قائلاً / سَيطلعُ صُبحٌ كالرّجاءِ جَميل
ويَقشَعُ نورُ الشمسِ غَيماً مُلبَّداً / ويَسري نسيمٌ والغُصُونُ تميل
فلا ذقتُ إِلا في الصّباحِ مَنيّتي / ولا مات إِلا في الضّياء عليل
إذا البَدرُ زار الأفقَ وهُو بَهيجُ
إذا البَدرُ زار الأفقَ وهُو بَهيجُ / إِلى الشّعرِ أصبُو والشجُونُ تُهِيجُ
وقد أَهجرُ الشِعرَ اللّطيفَ مَلالةً / وعلماً بأنّ الصّنفَ ليسَ يَرُوج
ولكنّما الشوقُ القديمُ يهزُّني / فألقي القَوافي في البُحورِ تَموج
فما الشعرُ في صَدرى سِوى السّيلِ جارفاً / أو النارِ تذكو والشّعورُ أجيج
فقل للذي يَلقى المحاسنَ هادئاً / لحى اللهُ علجاً ما رأتهُ عُلوجُ
على اللّيلةِ القمراءِ طالَ تَسهُّدي / وحلَّ سُكوتٌ حيثُ كان ضَجيج
فبتُّ وقد هاجَت غَرامي سَكِينةٌ / ونشّطني تحتَ الغُصونِ أَريج
أرى البدرَ لي من جانِبِ السّهلِ طالعاً / وكم أطلَعتهُ لي ذُرىً وثلوج
كما أشرَقت من قَصرِها ذات عفّةٍ / على رَوضةٍ فيها الربيعُ نَسيج
فخلتُ فؤادي طائراً من صَبابَتي / ولَيسَ لما بينَ الضّلوعِ خروج
أَحَبَّ التي أحبَبتُها ولأجلِها / أطلَّ فضاءَت من سناهُ مروج
فأوشكَ أن يَهوي إلى الأرضِ قائلاً / إِلى الحبِّ في أعلى السّماءِ أحوج
إذا الليلُ زاح السترَ عن شَفقٍ وردِ
إذا الليلُ زاح السترَ عن شَفقٍ وردِ / فأسفَرَتِ الزرقاءُ مَصقولةَ الخدّ
تَطلّعتُ مشتاقاً الى الأُفقِ الذي / تَعصفَر والدنيا مُزَعفَرةُ البُرد
وبتُّ لأنفاسِ الصبا مُتَنشّقاً / فأطهرُها ما خبّ صُبحاً على برد
ونظّمت في الباقات زهراً أشمّهُ / فذكّرني ثَغراً لهُ عبقُ النّد
وكم شاقَني قرنُ مِنَ الشمسِ قد بَدا / إلى أن غدا في الجوّ قرصاً من الشّهد
فبشّت لهُ الدنيا وهشّت كطفلةٍ / رأت أُمّها تحنو وتكشفُ عن نهد
وكم لَذَّ لي في الحقلِ والغابِ مَسرحٌ / لأشهدَ حسنَ الكون في القرب والبعد
وأسمَع تَغريداً وألمسَ خضرةً / وأنشُقَ طيبا حيثُ أرغَبُ في الزّهد
وتحتَ ظلال ورّفت في صنوبرٍ / من الوَرقِ المَنثورِ نمتُ على مهد
نعم إنني أعرَضتُ عن لذّة الكرى / لأستَعرِضَ الدنيا وأَرقبها وَحدي
فمن يعتدِ النوم الطويلَ يمُت به / ومَن يَغتَد افترّت له جَنّةُ الخُلد
فَيَسكرُ مِن خَمر الجمالِ بنَظرةٍ / وَيحلمُ أحلامَ السعادةِ والمَجد
أيا نجمة في قربها القلبُ طامعُ
أيا نجمة في قربها القلبُ طامعُ / ضِياؤك وَعدٌ للمحبين جامعُ
أطالعَةٌ بين الغيومِ كأنها / مُخَدَّرةٌ تنجابُ عنها البراقع
أرى ليلتي في الروضِ مثلي حزينةً / تنوحُ وتبكي والعيونُ هواجع
إليّ انظري إني إليكِ لناظرٌ / فيا حبذا منك السنى والمَرابع
ففي القبَّةِ الزرقاءِ نورُكِ مُشرِقٌ / ونوري على وَجهِ البَسيطَة لامع
إليكِ يحنُّ القلب في ظلمة الأسى / وتشتاقُ مرآكِ الجفونُ الدوامع
فكم آنسَ العشاقَ في سمراتهم / ضياءٌ على كلّ البريّةِ ساطِعُ
أطلّي على أطلالهم وقبورِهم / وولّي عليها كي تصانَ الودائع
فيا ليت نفسي في سناك مقيمة / فقد راعَها لونٌ من الأرضِ سافِع
وما هي إلا ذاتُ نورٍ تدَهورت / إلى ظلمةٍ فاستعبدتها المطامِع
ولكنها عند التَّذكُّرِ تنتمي / إلى الملإ الأعلى فتقوى المنازِع
أَطالعةٌ زهراءُ من ليلِ أحزانِ
أَطالعةٌ زهراءُ من ليلِ أحزانِ / كحبَّةِ درٍّ في قِلادةِ عُقيانِ
إليّ انظري إن كنت ساهرة معي / ليملأ مِنك النّور صَدري وأجفاني
كلانا له نورٌ وحوليهِ ظُلمةٌ / فَنَحنُ على بُعدِ المزارِ رَفيقان
ضياء الهُدى يبدو لحيران في الدُّجى / شِراعَ نجاةٍ لاحَ للغارقِ العاني
على الأُفقِ الدّاجي لمعتِ كدمعةٍ / على خدّ صبٍّ والِهٍ بَينَ أشجان
أفيكِ دموعُ الصّالحينَ تجمّعت / فأشبهتِ منها كنزَ درٍّ ومُرجان
أم امتزجَت يوماً فصارت أشعّةً / على ظُلمةٍ أو رَحمةً عند طُغيان
فكوني لنفسي في الضّلالِ دليلةً / وإن لم يكن هديٌ رضيتُ بسلوان
وبوحي على النّجوى بسرِّك لي كما / أبوحُ بسرّي في حرارةِ إيماني
أنا شاعر يشكو الهوى لا مُنجِّمٌ / ولا أُنسَ لي بين الهمومِ بإنسان
تنزَّهتُ في روضٍ خضيلٍ مطلَّلِ
تنزَّهتُ في روضٍ خضيلٍ مطلَّلِ / كوجهٍ جميلٍ تحتَ شعرٍ مُسَدَّلِ
وفوقَ الهضابِ الشّمسُ تحكي مليكةً / أطلّت على العُشّاق من سجفِ مخمل
فمالَ جناني ذاكراً مُتشوّقاً / كما مالتِ الأزهارُ من لمس أنمُل
على العشبِ أبصرتُ الحبيبةَ صدفةً / وفي يدِها البيضاء زهرُ القرُنفُل
فقالت وقد مالت إليَّ ببسمَةٍ / هو الزهرُ فانشُق وانتعِش وتعلّل
فقلتُ لها إن القرُنفُلَ زهرَةٌ / تلوحُ على رأسِ الملاك المُكلَّل
وحواءُ في الجنّاتِ كانت تشُمُّها / وتحفظُها حفظَ الجوَاهِرِ والحلي
شذا الحبِّ والسّلوى يُعطّر قلبها / ففي شمَّةٍ منه الكآبةُ تنجلي
أيحظى بِشَمِّ الزَّهرِ خداً وباقةً / مُحِبٌّ يُعاني مطمعاً بعد مأمل
بإضمامةِ جاء القُرنفلُ خاضعاً / وفي راحة بيضاءَ راحةُ مُثقَل
دعيها لِشاكٍ أو ضعيها لِناحلٍ / فخَصرُكِ مهما ينضر الزّهرُ يذبُل
أفي دارِ قومي يَسكنُ الغرباءُ
أفي دارِ قومي يَسكنُ الغرباءُ / وليسَ لهم بعدَ الثواءِ جلاءُ
فأهلا وسهلاً إن يكونوا ضُيوفنا / وحَرباً وضرباً إن بغى النزلاء
فإمّا يروموا الحربَ فهي انتِصافُنا / وإمّا يشاؤوا السلم فهو هناء
ستظهرُ منا نخوةٌ وبَسالةٌ / إذا اربدَّ غيمٌ أو ترنّق ماء
أبى اللهُ والإسلامُ والأصلُ أن يُرى / فتىً عربيٌ ليسَ فيهِ إباء
جديرٌ بنا أن نَستعدَّ لهم وأن / نُعِدَّ الذي تشفَى بهِ البرحاء
فإمّا انتصارٌ وانتصافٌ وعزَّةٌ / وإما اقتحامُ الموتِ وهو شفاء
أمانيُّ قومي في المنايا وما لهم / خلاصٌ إذا لم يجهلِ العقلاء
أليس يموتُ الناسُ دون خلودِهم / ودونَ ملذّاتِ تُراقُ دماء
لئن كانَ دفعُ الشرِّ بالشرِّ واجباً / تأبَّطَ شرّاً من إليهِ يُساء
إلى الحقِّ مالَ الناسُ في حالِ ضعفِهم / وقد أعرضوا عنهُ وهم قدراء
فلا هَيبةٌ للحق إِلا بقوَّةٍ / تردُّ التعدّي والسلاحُ سواء
ألستَ ترى المُستحوذينَ على الورى / يَقُولونَ منّا رحمةٌ وسخاء
وإنصافُ مظلومٍ وإطلاقُ موثقٍ / وتحريرُ أَرضٍ أهلُها ضُعفاء
ومن جَورِهم تبكي شعوبٌ كثيرةٌ / بنوها عبيدٌ عندَهم وإماء
لعمركَ هذي خدعةٌ ثعلبيَّةٌ / وهذا على خَوفِ الزئيرِ مواء
فلا تَكُ يوماً واثقاً أو مصدّقاً / فكلُّ ضعيفٍ ما لهُ نُصراء
عجبتُ لباغٍ يدّعي العدلَ والتُّقى / ومنهُ على بعضِ العقولِ غشاء
مظالمهُ عمّت وجمّت ذنوبُهُ / فأنكرَها إذ ليسَ فيهِ حياء
فَقُل أيها الكذّابُ إن كنتَ صادقاً / إِلى اللهِ تُب قد طالَ منكَ رياء
وأفرج عن الأرضِ التي ضُمتَ أهلها / لكَ الويلُ ما هامُ الشعوبِ وطاء
كفاكَ الذي من مالها ودمائها / أخَذتَ وفيها مِنكَ مُلّ ثواء
أجزّاً لشاءٍ ثم ذبحاً لغيرها / وهذي لها صرعٌ وتلكَ ثِغاء
وتَغسُلُ كفاً بالدماءِ تَلطّخَت / كأن لم ترَ السكّينَ عندَك شاء
رُوَيدَكَ لا تكذِب على الله والورى / فبعدَ التباكي قد يكون بُكاء
تَذَلَّلَ قومي بعدَ عزٍّ وأقفَرَت / رُبوعٌ عليها في العفاءِ بَهاء
وَقَفتُ بها مُستَجلياً متأملاً / وقد شاقَني مِنها ثرىً وسماء
فَفاضَت دموعي بعدَ طولِ انحباسِها / ومنها لنفسي راحةٌ وعزاء
لقد هانَ دَمعي في ديارِ أحبّتي / وفي غيرِها قد عزَّ وهو رماء
سلامٌ عليها من فتًى هائمٍ بها / لهُ من بقاياها سنًى وسناء
يُحبِّبها حبُّ الذين تحمّلوا / ومنهم عليها ذمّةٌ ووفاء
فمن لا يُحبُّ العرْبَ وهو ربيبُهم / فإنَّ جميعَ العربِ منه براء
ألا هل كقومي أو كمثلِ كبارِهم / إذا عُدَّتِ الأقوامُ والكبراء
ففي العالمِ العُلويِّ سادَ محمدٌ / وما وَلدَت مثلَ النبيِّ نساء
وكيفَ أوفّي خيرَ مَن وطأ الثرى / مِن المدحِ حقاً والثناء عياء
إلهيةٌ أقوالهُ وفِعالهُ / يُقَصِّرُ عن إدراكِها الحكماء
دعا قومَه والناسَ طرّاً إِلى الهُدى / وللأرضِ منهُ في الظلامِ ضياء
وأعطى الورى دينا وشرعاً بناهُما / على لُغةٍ منها البيانُ غناء
فصلّوا بها لِله وهي لسانُهُ / وفي غيرِها لا يُستجابُ دعاء
وأوصى بحجِّ البيتِ صوناً لحرمةٍ / من اللهِ والإسلامِ حيثُ يفاء
فَجَمَّع أهلَ الشرقِ والغربِ حَوله / وصارَ بهِ كالإخوة الغرباء
وبعدَ طوافٍ واستلامٍ مثبّتٍ / لإيمانهم عادوا وهم خلفاء
يُنادونَ باسمِ الله واسمِ محمدٍ / أذاناً فَهزَّ العالمينَ نداء
شريعتُه فَوقَ الشرائعِ كُلّها / فما هي إِلا حكمةٌ ودهاء
فلا فقه إلا ما ارتأى فقهاؤها / وعنهم وعنها يأخذُ الفقهاء
وكم من شُعوبٍ تَستنيرُ بدينهِ / وكم دولٍ منها عليه بناء
وكم جامعٍ فيه نعيمٌ ونعمةٌ / ومأذنةٍ فيها عُلاً وعلاء
بظلّهما قد صارت الأرضُ جنّةً / لها العدلُ خَصبٌ والإخاءُ نماء
وأكملُ دينٍ دينه فهو للورى / علاجُ طبيبٍ صحّ منه إساء
على مقتضى أحوالهم وطباعِهم / وحاجاتِهم قد جاء منه كفاء
فسلوى على حقٍّ ملوكاً وسُوقةً / تآخوا على الاسلامِ وهو إخاء
صحابتُهُ الأبرارُ خيرُ صحابةٍ / وأنصارُه الأبطالُ والشرفاء
وللخلفاءِ الرّاشدين فضيلةٌ / وفضلٌ هما للقانطينَ رجاء
فمن كأبي بكرٍ عفافاً وحكمةً / وتقوى إذا ما عُدَّت الرؤساء
ومن يشبهُ الفاروقَ تحتَ عباءةٍ / هِرَقلُ اشتهاها والحريرُ كساء
فأزرَت بعزِّ الأرجوانِ وظلُّها / على العربِ منه رايةٌ ورواء
لقد كانَ جباراً فصارَ بعدلهِ / أباً للرعايا فاغتنى البؤساء
ومن مثل عثمانٍ تُقىً وتعبّداً / إذا عُرِضَ القرآن والشهداء
ومن كعليٍٍّ نجدةً وبلاغةً / تمناهما القوادُ والخطباء
به ثبتَ الإسلامُ واعتزَّ أهلُهُ / فَدانت لهُ الفرسانُ والأمراء
سيائدُ نالوا عِزّةً عن تَواضعٍ / وأعداؤهم في عزِّهم وُضعاء
فأينَ عظامُ الأرضِ حينَ أعدّهمّ / قبالتَهم لا يَظهرُ العظماء
وعن نَجدةِ القوَّادِ في غَزواتهم / يقصِّرُ وَصفٌ أو يقلُّ ثناء
لنصرةِ دينِ الله جرَّدَ خالدٌ / حساماً عليهِ أسلَمَ البُسلاء
وما عادَ إِلا ظافراً أو مظفّراً / وقدّامَه كلُّ الجيوشِ هباء
لقد كان سيفَ اللهِ وهو كَسَيفِهِ / مضاءً وفتكاً إن بلاهُ بلاء
وقد أكثر الجرّاحُ جَرحى عُداتِه / وأشلاءَهم حتى استقرَّ لواء
فوفّقَ بين البأسِ والحلمِ مُقسِطاً / وما العدلُ إِلا أن يَصحَّ جزاء
وإنَّ معاداةَ الكريمِ صداقةٌ / وإنَّ موالاةَ اللئيمِ عداء
وعمروٌ أتى مصراً فحيّاهُ أهلُها / وقالوا لأهلِ المكرماتِ رفاء
فأخرجَهم عن رِقّهم وضلالِهم / وإيمانُهم أمنٌ لهُم وصفاء
وسار ابنُ سعدٍ يفتحُ الغربَ للهُدى / وفي راحَتَيهِ نِعمةٌ وشقاء
ولما استتبّ الأمرُ تحتَ حسامهِ / على الأرضِ حلّت رحمةٌ ورخاء
أظلّت شعوبَ الخافقينِ خِلافَةٌ / وللعربي الملكُ حيث يشاء
ولما تناءى عن حِماها حُماتُها / تَناولها الغلمانُ والدُّخلاء
وناهضَها الأعداءُ من كلِّ مَعشَرٍ / وليسَ لقومي في الونى زُعماء
فيا ويل من ولَّى الأجانبَ أمرَهُ / وقوَّادهم حَوليه والوزراء
هو الملكُ لا يحميهِ إِلا بُناتُهُ / وهم أبداً حرَّاسُهُ الأُمناء
فلو كان للعبّاسِ مثلُ أميّةٍ / لما ضاعَ ملكٌ ساسَهُ الخلطاء
غدا أمراءُ المؤمنينَ عبيدَهم / وهانَ رسولُ اللهِ والخلفاء
تخاذلَ قومي واختلافُ ملوكهم / بلاءٌ عليهِ لا يُقاسُ بلاء
رُوَيدَكِ بنتَ الرومِ لا تتكبّري / ولا تظلمينا إننا تعساء
لنا الأمسُ والتاريخُ نملكُ نصفَهُ / ولكن غدٌ يُرخى عليهِ غَطاء
حَكَمنا وقد كنّا لحقٍّ وقوّةٍ / ونحنُ على بأسائنا شُرفاء
أرى كلّ عالٍ بالسّقوطِ مُهدَّداً / وكلَّ صباحٍ قد تلاهُ مساء
فلا تضحكي يا أجنبيّةُ في الأسى / وقومُكِ مِنهم سلطةٌ وقضاء
سنحيا بذكرِ المجدِ بعدَ انقضائهِ / وما زال في السّيفِ القديمِ مضاء
ونَطلُبُ حقَّ اللهِ والملكِ والعُلى / ليشفي نفوسَ التائهينَ لِقاء
وَنضرِبُ ضَربَ اليائسين بثأرِنا / لترحبَ أرضٌ أو يضيقَ فضاء
فلا بدَّ من تكبيرةٍ عربيةٍ / وتهلِيلةٍ حيثُ الجهادُ فداء
فإما انتصارٌ فيه مجدٌ مخلَّدٌ / وإما انكسارٌ فيه طابَ فَناء
بذلك نُرضِي رَبَّنا ونبيَّنا / وأجدادَنا والموتُ فيه رِضاء
هَلِ العربيُّ الحرُّ يهنأ عَيشُهُ / وراحتُهُ وهو الذليلُ عناء
فلا حمَلت حكمَ الأجانبِ أُمتي / ومنهم عليها سادةٌ رُقباء
إذا لم تكن أرضي لقومي هجرتُها / فللحرِّ في حكمِ الغريبِ جفاء
وبين ضلوعي همةٌ عربيّةٌ / لها النجمُ دارٌ والسماءُ فِناء
هو الملكُ تَبنيهِ الجيوشُ الخضارمُ
هو الملكُ تَبنيهِ الجيوشُ الخضارمُ / ومنه علىالأعلامِ تَبدو العلائمُ
فلا عزَّ إِلا مِن خَميسٍ وَرايَةٍ / ولا حَقَّ إِلا ما حَمتهُ الصّوارِم
ولا دولةٌ تُرجى وتُخشى سوى التي / على الجيشِ والأسطولِ منها دَعائم
ولا بَطشَ إِلا بالمدافعِ والوَغى / بُروقٌ ورَعدٌ قاصِفٌ وغمائم
بها الكيدُ مَردُودٌ إذا ما تلاحَمت / فيالقُ واستشرى من الحربِ جاحم
تَقاذَفُ بالسّجيلِ وهيَ سَجيلةٌ / قَذائِفُها فيها الرّدى والصّيالم
إذا انتَثرت بين الجنودِ تَناثرت / مضرّجةٌ أعضاؤهم والجماجم
فأعظم جيشٍ ما أقلّ ضخامها / وقد صَغُرت يومَ الكِفاحِ العظائم
بأشداقِ أغوالٍ تَصولُ على العِدى / وفي اللّهواتِ الوبلُ والمتراكم
أما والعُلى لولا صِيانةُ أُمّةٍ / بعَسكَرِها ما قامَ للمُلكِ قائم
فلا بدَّ مِن جيشٍ قويٍّ منظَّمٍ / به تُدفَعُ الجُلَّى وتُفدى المحارِم
يُجَمِّعُ أشتاتَ الرّعايا لواؤُهُ / كتائبَ دفراً صَفُّها مُتلاحِم
غواضبُ يومَ الحربِ للحقِّ والهدُى / وأمّا لأخذِ الثأرِ فهي كواظِم
إذا مَرَست في السّلمِ تَطربُ للضّرى / وتَشتاقُ مَجداً أنتَجتهُ الملاحم
على العربِ الأمجادِ تجميرُ حَجفلٍ / فيالِقُه تَنسابُ مِنها الأراقم
لدى العَرضِ يمشي فيلقاً بعد فيلقٍ / وراياتُهُ أسرابُ طَيرٍ حَوائم
وإن عادَ بَعد الذَّودِ والزّحفِ ظافراً / تُنَثِّرُ أزهاراً عَلَيهِ الفواطم
فمن أبسلِ الأقوامِ تؤملُ نجدةٌ / ومِن أشرَفِ الأعلامِ تُرجى المغانم
لقد كانَ جندُ الله أعظمَ عَسكرٍ / تَسيرُ بهِ الخيلُ العِتاقُ الصلادم
فمن يومِ أجنادينِ والنّصرُ بادئٌ / إِلى وقعَةِ اليرموكِ والفَتحُ خاتِم
تلاقَت على أرضِ الشآم صُفوفُهُ / وقَيصَرُ فيها حائرٌ مُتَشائم
رُوَيدَ القوافي ما القَريضُ بمُسعِدي / وقد خَشَعت عندَ السّيوفِ المراقم
وأنَّى لِمثلي أن يَعُدَّ فُتوحَهُ / ومِنها على كلّ العصورِ مياسِم
فيا لكَ جَيشاً كان في الهِندِ زَحفُهُ / وفي الصِّينِ واليابانِ مِنهُ غَماغِم
لأجلِ الهُدى خاض الحروبَ فأصبَحت / مَغارِمُهُ في الناسِ وهي المكارِم
فما عادَ إِلا ظافراً وكِتابُهُ / صَباحٌ لديجورِ الضّلالةِ هازمِ
وقائعُه في كلِّ أرضٍ وأُمّةٍ / على السّلم أعيادٌ لهُ ومَواسِم
وفي كل أرضِ أهلُها عَرفوا الهُدى / حَوافِرُ أعرابيّةٌ ومَناسِم
فأيامُهُ في الرّومِ والفرسِ لم تَكُن / سِوى مُعجزاتٍ أنزلتها القوائم
وأيّامُه في التُّركِ والهِندِ بَعدَها / وفي الصّينِ قد دلّت عَليها المعالم
وأيامُه في البَربَرِ اتّصلت بها / إِلى القُوطِ والأفرنجِ تلكَ الأداهم
وقوَّادُهُ أشباهُ آلهةٍ لهُم / على النّاسِ فخرٌ ليسَ فيهِ مُزاحم
لقد فضَلوا القوّادَ من كلِّ أمّةٍ / كما فَضَلت كلَّ السِّباعِ الضّياغم
جَبابرةً كانوا وكانت سيوفُهم / إذا صَلصلَت تَرتاعُ مِنها العوالم
وأصغَرُهم إن قال للفَتحِِ كُن يَكُن / وللدَّهرِ سِر طوعي يَسِر وهو خادِم
أطلّت على الدُّنيا طلائعُ خيلِهِ / فَلم يَنجُ إِلا مُسلِمٌ أو مُسالِم
أقامُوا بسيفِ الحقِّ دِينَ محمدٍ / وقد قوَّمُوا ما عَوَّجَتهُ المظالمُ
وعادوا وأزيانُ الشفارِ فُلولُها / وما المجدُ إِلا أن تُفلَّ المخاذِم
بأرواحِهم جادُوا وجادَت سيوفُهم / بفولاذِها حتى بَرَتها العزائم
تَداعت عروشٌ داسَها خلفاؤهم / وتيجانُهم بين الملوكِ العمائم
فما وضَعُوا يوماً تُخوماً لملكِهم / وفي كلِّ فَتحٍ جارفٌ مُتَزاحم
لقد وطئَت وَعرَ البلادِ وسهلها / حَوافرُ تلكَ الخَيلِ وهيَ السّلاجم
فكانت لها أختامُ ملكٍ ونِعمَةٍ / وهَزَّ الدُّنَى تَصهالُها والحماحِم
وقد طلعت راياتُهم فتطلّعت / إليها شُعوبٌ أثقَلَتها المغارِم
نجومُ الهُدى مِنها على الأرضِ أشرفَت / وفِيها لكلِّ المكرمات رواسِم
أطَلّت لخيرٍ رايةٌ عربيِّةٌ / فأحيت طُلولاً فَوقَها الموتُ جاثم
هي الرايةُ الفُضلى التي امتدَّ ظِلُّها / على النّاسِ فافترَّت لدَيها المباسِم
ومنها النَّدى والخصبُ والعدلُ والهُدى / فَعَمَّت جميعَ العالمينَ المراحِم
عَدالتُها ألقَت سَلاماً وَهيبةً / فما خابَ مَظلومٌ ولا فازَ ظالِم
بكاها الوَرى لما تَقَلّصَ ظِلُّها / وما ثارَ مِن أَهلِ الحفيظَةِ ناقِم
ألا أيّها الجيشُ الصّغيرُ أتقتدي / بِذَيّالِكَ الجيشِ الكبيرِ الشراذِم
فَتَغدو معَ الأيامِ جيشاً عَرَمرَماً / وتكثُرُ أشلاءُ العدى والغنائم
لَكَ المجد والتَّمجيدُ في هَزمِ جَحفَل / مَدامِعُهُ قد حَطّمتها اللهاذِم
بسُمرِكَ والبيضِ الرِّقاقِ لقيتَها / وما استَعمَلت غير النّيوبِ الضَّراغِم
مَشَيتَ على هامِ العدى متكاثراً / وأنتَ صغيرٌ أمرُهُ مُتعاظِم
كذا الماءُ نلقاهُ غديراً فَجَدولاً / فَنَهراً فبحراً مَوجُهُ مُتلاطِمُ
فعزِّز مِن الرّاياتِ أكثرها هُدىً / ومَجداً وأنتَ المُستميتُ المُصادِم
إذا عزَّت الأعلامَ في جيشِ أُمّةٍ / تعزُّ الرّعايا تحتها والمحاكِم
فما العَلَمُ الخفّاقُ إِلا عَلامةٌ / وأكبادُ أهلِيهِ عَليهِ تمائم
بروحي وأهلي رايةٌ عربيَّةٌ / لها النّصرُ في سودِ المعارِكِ باسِم
إذا ارتَفَعت فوق الكَتيبةِ رَفرفت / كما رَفرفت فوقَ الغُصونِ الحمائم
لها الهامُ يومَ السّلم والحربِ تنحَني / سَنابِلُ مَرجٍ رَنّحتها النّياسِم
حماها النبيُّ المُصطفى واستَحبَّها / وناسِجُها جبريلُ واللهُ راسِم
أرى أجملَ الألوانِ فيها تجمّعت / لِتَجمعَ أمجاداً بَنَتها الأعاظِم
فكان حِداداً في الرّزايا سَوادُها / وخِضرتُها فيها الرّجاء المفاغِم
وبيضُ الأيادي تُرتجي مِن بياضِها / وحِمرَتُها عزٌّ مِن المُلكِ دائِم
لها مِن صباحِ الفِطرِ أبيضُ ناصِعٌ / ومن ليلةِ الإسراءِ أسودُ قاتم
ومن نضرَةِ الجنّاتِ أخضرُ باهِجٌ / ومِن شهداءِ الطفِّ أحمر ساجم
فداءٌ لها مُت يا أخا العربِ الذي / لهُ مِن عداهُ حاكِمٌ ومُحاكِم
حَرامٌ عليكَ الحبُّ والطِّيبُ والكرى / إذا كُنتَ لا تَلقى العِدى وتُقاوِم
تُراثُكِ مَنهوبٌ وجدُّكَ عاثِرٌ / وسَيفُكَ مَكسورٌ ونَسلُكَ عاقِم
تأمّل وقابل بينَ ماضٍ وحاضرٍ / ومِنكَ على نهي النُّهى لكَ لائم
فإذ كُنتَ جُندياً تحكّمتَ بالورى / تُحارِبُ مِنهم مَن طَغى وتُخاصِم
وإِذ بُتَّ جمّاحاً فقَدتَ كَرامَةً / لها الطّعنُ أُسٌّ والعَوالي سَلالِم
إذا لم يَكُن للشّعبِ جَيشٌ ودولةٌ / وحرّيّةٌ أوهَت قِواهُ القَواصِم
فأمسى ضعيفَ النسلِ والعزمِ قانِطاً / وضاعَت مزايا خرّمَتها الخوارِم
تجنّد وكُن شاكي السِّلاح منجّذاً / فمن شكّةِ الجنديِّ للمُلكِ عاصِم
ومَن لم يُرَوِّضهُ السلاحُ يمُت بهِ / ذَليلاً فأنفُ الأعزلِ الشّهمِ راغِم
فلا شرفٌ إِلا بجُنديّةٍ غَدت / كفرضٍ من الإسلامِ والفرضُ لازِم
فمَن ليسَ منها ليسَ من صُلبِ قومِهِ / وإنَّ جبانَ القومِ خَزيانُ واجِم
فأشرِف بمحمولٍ إلى حفرةٍ على / نِصالٍ فلا تبكي عَليهِ المآتم
ولكنّهُ المَبكيُّ مِن أُمةٍ لها / فِخارٌ بموتٍ فيهِ تحيا الأكارِم
فأحكم سلاحاً ماضياً يُرهِبُ العدى / وكُن طالباً للحقِّ والسّيفُ حاكم
وراقِب لُصوصا غادِرينَ تَرَبّصوا / خَناجِرُهم تَنبثُّ منها الجرائمُ
فحتّامَ تَلقى اللّصَّ يسطو بخنجرٍ / ويأكُلُ زادَ البَرّ والبَرُّ صائِم
إذا قيلَ إنَّ السّلَم أجمَلُ بالفتى / تيقَّظ فإنَّ الذّئبَ يَقظانُ نائم
وإياكَ أن تغترَّ فهيَ خَديعةٌ / ولا سلَم والباغي على الفَتكِ عازم
فوا أسفي والنارُ تهزأُ بالظُّبَى / على عَربّيٍ يزدريه الأعاجِم
مَتى تُنصِفُ الأيامُ شيحانَ باسلاً / فتُطرِبُهُ بعدَ الصّليلِ الدّمادم
وعِدَّتُهُ يومَ الكريهةِ مَدفعٌ / على جُبنهِ للسّيفِ والرّمحِ شاتم
لعمركَ ما نفعُ الشّجاعةِ والنّدى / وقد ضاعَ في الدّهماءِ عمروٌ وحاتم
يمينٌ على أبناءِ يَعربَ كلِّهم / وقد ولدَتُهم مُنجِباتٌ نواعم
يمينُ العلى أن يحفَظوا من جُدودِهم / وَدائعَ تفديها النّفُوسُ الكرائِم
فإن غَضِبوا للحقِّ يوماً تلَهّبت / صَوارمُ في أيدي الضّواري ضَوارِم
وإن ركِبوا الجردَ اليعابيبَ سابَقت / خيولَ المنايا والدّواهي دَواهم
كذلك يوفون المعالي حُقُوقَها / وأسيافُهُم تِلك الهوادي الهوادم
هيَ الرّيحُ قد هبّت من الغَربِ صَرصَرا
هيَ الرّيحُ قد هبّت من الغَربِ صَرصَرا / تلبّدُ في جوِّ الشآمِ الكَنَهورا
تربَدُّ حتى احمرَّ واسودَّ فَوقها / فأمطَرها الشؤبوبُ أسودَ أحمرا
فما وقتِ الآطامُ حلساً دلهمَساً / ولا حَمتِ الآجامُ ليثاً غضَنفرا
رَعى اللهُ أرضاً أصبَحت بعدَ نَضرِها / سُجوناً وأرماساً لِشعبٍ تبذَّرا
حلاحِلُها المحشودُ فرَّ وقَبلَهُ / حمارِسُها المقدامُ خرَّ مُقَطّرا
لقد جلَّ رِزءُ المُسلمينَ برزئها / وقد حلَّ ما شقَّ الصّدُورَ وأوغرا
يرونَ مُرادي الخيلَ تدعَقُ تُربةً / عليها أميرُ المؤمنينَ تخفّرا
ولو حَدَست أجفانُهم وقُلوبُهم / لكانَ وربِّ الكعبةِ الحدسُ أيسرا
وهانَ عَليهم أن يموتوا فلا يَرَوا / أُفولَ الهُدى حَيثُ الحِجابُ تسرّرا
فيا ذلّةَ الإسلامِ والمُلكِ والتُّقى / وقد وطِئ الأعلاجُ خزّاً ومرمرا
وكيفَ يطيبُ العَيشُ للمُسلمِ الذي / يَرَى الدينَ عن أرضِ الشآم مُقَهقرا
فمِن نهرِ هُندوسٍ إلى النّيلِ نَعيُها / ومن بحرِ قزوينٍ إلى بحرِ مرمرا
له جَفَّتِ الجنَاتُ إذ بضَّ ماؤها / فما الحُورُ والولدان يُسقَونَ كوثرا
وزَحزَحَتِ القَبرَ الشّريفَ خُطُوبُها / وزَعزَعتِ البَيتَ العَتيقَ المُستَّرا
فأيُّ عِظامٍ في الثّرى ما تَقلقَلت / وأيُّ حسامٍ فوقَهُ ما تَكسَّرا
تباغَى عُلوجُ الرّومِ يَبغونَ قِسمَةً / لأرضٍ عروبٍ أنكَرتهم تَبرُّرا
وما بكَّةُ العُطمى تَبكُّ رِقابهم / ولا مُضَرٌ تدعو إلى الشام حِميرا
فتعساً لشَعبٍ خاملٍ مُتَملّقٍ / يؤلّه عِلجاً ظالماً مُتَجبِّرا
وسَحقاً لأرضِ عَفَّرَت هامَ أهلِها / إذا حلَّ فيها ثعلبٌ صار داغرا
فما شَعبُها شعبٌ ولا هيَ موطنٌ / وقد قيلَ للعاوي هُنالِكَ زمجرا
إِلامَ يُضامُ النّابهونَ بأمةٍ / تُطبِّلُ إن جاءَ الغَريبُ مُزَمِّرا
جنازَتُها عرسٌ وتَعذيبها دَدٌ / فقُل أُمَّةٌ هَذي تُباعُ وتُشترى
وأحرارُها أعداؤها وهيَ عَبدَةٌ / لئن أبقَت من سَيِّدٍ تَلقَ آخرا
لقد جَرَّمت أتقى بَنيها وغَرَّمَت / كِراماً بهم حِفظُ الأمانةِ غرّرا
ألستَ تراها تشتمُ الفَضلَ والنُّهى / وتسخرُ ممَّن لا يَعيشُ مسَخّرا
ولكن لها بالطَّيبينَ شَفَاعةٌ / فَهُم خيرُ أبدالٍ لخيرٍ تأخرا
تأنّثَ في أرضِ الشآمِ رِجالُها / وفي غَيرها الأُنثى تَسلُّ المُذكّرا
وأسيادُها زربيَّةٌ خَلفَ دائصٍ / وطاغيةُ الإفرنجِ صارَ المؤمَّرا
مَشى مَرِحاً فيها يُصعّرُ خَدَّهُ / فأنكرَ تحليلاً وحَلّلَ مُنكرا
وما انفكّ بينَ الرّفقِ والعنفِ مُدغِلاً / يُعبِّئُ للأحرارِ زنجاً وبربرا
وخافَ مِنَ القومِ اتحاداً وقوّةً / فَغرَّ وأغرى واستَجاشَ وسوّرا
ولمّا رآهم في التَّقاطعِ حَضَّهم / ولمّا رآهم في التّقاعُسِ شمّرا
لهُ شهوةٌ وحشيَّةٌ وضريبةٌ / صليبيّةٌ لكِنَّهُ قد تَستَّرا
فما كان أبغاهُ عُتِلَّاً مشرّزاً / بلحظٍ فرنديٍّ وقلبٍ تحجَّرا
لقد شهدَت مرّاكِشُ الفتَكةَ التي / لها ضَجَّتِ الأملاكُ والنَّجم غوَّرا
فحَرَّقَ مُجتاحاً وغرَّمَ ناهِباً / وقتَّلَ سفّاحاً وعاثَ ودمّرا
ففي المغربِ الأقصى وفي الشّام صَيحَة / يُردِّدُها ما في القُبورِ تَبَعثرا
كأنّ حُظوظَ المُسلمينَ لِتعسِهم / أعدَّتهُ جلّاداً لهم ومُسَيطرا
توالت على أرضِ الشآمِ وُلاتُها / فما حَمَلت أدهى وأقسى وأخترا
بَدَت منهُ فيها قسوةٌ همَجيةٌ / فنَفّر ذُهلولاً وسيداً وقَسوَرا
بأفتكِ جُندٍ راعَ أضعفَ أُمّةٍ / فما كان إِلا أزرَقَ العينِ أبترا
ومن قومهِ الصُّهبِ العَثانينِ زُمرَةٌ / حواليهِ كانت منهُ أطغى وأفجرا
مَلاحِدُ سِكّيرونَ للمالِ سَعيُهم / لهم قَرَمٌ بالبطنِ والفَرجِ حيّرا
فصبراً على استِبدادِهم واختيالِهم / لنأخُذَ عنهم ثم نُصبح أقدَرا
ألا رُبَّ شّرٍ كان للخَيرِ واقعاً / فأحسَنَ عُقبى مَن وعى وتفكّرا
تجرَّأَ طاغُوتٌ على غَزوٍ أُمّةٍ / وإرهاقِها حتى تذِلَّ وتَصغُرا
رأت منهُ تَقتيلَ العواطِفِ والمنى / فهانَ عَليها أن تموتَ ولا ترى
برجلِ دِفاعٍ راعَها واستَذلَّها / فصَيَّرَ أرضَ الشامِ طرّاً مُعسكَرا
وحَشَّدَ لِلأحرارِ زحفاً مُضرِّساً / مُضرَّىً قد اعتادَ الفَواتِكَ والضّرى
وما حَمدَ الإفرنجُ قلباً وساعداً / ولكنَّهم قد يجمدونَ السنوَّرا
عَليهِ إذا اشتَدّ القِتالُ اتِّكالهم / ولولاهُ لا نلقى أذَلَّ وأخسَرا
ملأنا فؤاد العِلجِ رُعباً وهيبةً / فأحكمَ آلاتِ الدَّمارِ وأكثرا
معدّاتُهُ كُثرٌ وجمٌّ عَديدُهُ / وإعدادُنا من عَدِّنا كان أنزرا
وماذا يُرجَّى من سِلاحٍ مُصَرَّد / وجُندٍ حَماسيٍّ تَطوّعَ أشهرا
كبيرٌ على الجيشِ الصّغيرِ مُقدَّمٌ / أطاعَ الهوى حتى رآهُ مُكَبَّرا
هو الأعظمُ ابنُ العَظمةِ البَطلُ الذي / أبى العارَ فاختارَ الوقيعةَ مَخطرا
إليهِ تناهى الضّرسُ من كلِّ مَعشرٍ / فكان بتأثيلِ الكتائبِ أخبرا
ولكنَّ مُلكاً حادثاً قلَّ مالهُ / وأعوانُه قد صادَفَ الأمرَ أعسرا
فأقدمَ حتى قيلَ ليسَ مُدَرَّباً / وخاطَرَ حتى قيلَ ليسَ مدبِّرا
وإذ تستخِفُّ الأريحيّةُ رَبَّها / يَرى الموتَ سكراً والمرارةَ سُكّرا
لقد طوّحتهُ نخوَةٌ عربيَّةٌ / تهوَّسَ من هَزاتِها فتَهوّرا
وَمن ذا يردُّ البحرَ في هَيَجانهِ / إذا اصطخَبت أمواجُهُ فتزّخرا
ترَبّص إحدى الحُسنَيينِ تبسُّلاً / فما عابَهُ ألا يكونَ المُظفَّرا
وأيقَنَ أن النصرَ في جنب خصمِهِ / ولكن رأى حظَّ الشَّهيدينَ أفخرا
على أشرَفِ الميتاتِ وطَّنَ نفسهُ / فشدّ لِكي يلقى الرّدى لا لِيُنصَرا
ونادى بأعلى الصّوت يدعو إِلى الوفى / وحاوَلَ أن يهدي الخليطَ المُبعثرا
وما ذاكَ إِلا من إباءٍ ونخوةٍ / يزيدانِ نفسَ المُستميتِ تكبُّرا
إذا الحرُّ ألفى بالحياةِ مَذلَّةً / يَكرُّ إِلى حيثُ المنيّةُ تُزدَرى
خميسُ العدى أربى عديداً وعدَّةً / فما هابَهُ بَل كان لِلحَربِ مُسعِرا
ولو عادلَ الأعداءَ جُنداً وأهبةً / لنثَّرَ إِكليلَ السّماءِ وضَفَّرا
فقادَ بريماً من رِجالٍ أعِزَّةٍ / ليلقى خميساً قارِحاً مُتجَمِّرا
تواصوا على حربِ العِدى وتحاشدوا / مَذاويد يلقونَ المدافعَ حُسَّرا
عروبَتُهم قد أعربت عن نُفوسهم / فكانت من الإبريزِ أصفى وأبهرا
لقد حقرت في ضُعِفها كلَّ باذخٍ / كما استصغرت في البأس كِسرى وقيصرا
فلم تحمِلِ الغَبراءُ أصدقَ همَّةً / وأثبَتَ إقداماً وأطيبَ عُنصُرا
لهم جهّزَ الجبّارُ جيشاً عرَمرماً / فلم يشهدِ الألمانُ أقوى وأكثرا
ولكنَّ أبناءَ القُرومِ تبذّلوا / لِموتِ شريفٍ كان بالحرِّ أجدَرا
فكان لهم بالقائدِ الشّهمِ إسوةً / وكان المُرجَّى للشؤونِ المصدّرا
على الهضبةِ الشّماءِ كان وقوفُهُ / يُباصِرُ أجنادَ العِدى مُتبصِّرا
فعرَّضَ للأخطارِ نفساً عزيزةً / ومُرتبةً من أن يخاطِرَ أخطرا
وعانقَ بنتَ المجدِ واستقبلَ الرَّدى / أمامَ السَّرايا صابراً ومُصبِّرا
أطلَّ على أعدائهِ مُتهلِّلاً / فهلَّلَ جيشُ المؤمنينَ وكبَّرا
وأكبرَ جيشُ المعتدينَ اقتحامَهُ / فقالَ أهذا السّيلُ يصدعُ أنهرا
ترادوا بآلاتِ الرّدى وتراشقوا / ونارُ الوغى منها جحيمٌ تسعَّرا
فطَبَّقت الآفاقَ لمّا تبَهنَست / وأنفاسُها كانت دُخاناً وعِثيرا
تداعت جبالُ الشّامِ من صعقاتِها / وهزَّ صداها أرضَ بصرى ودُمّرا
لِصوقعةِ الجلّى صواعِقٌ جَلّلت / لها الفلك الأعلى دَجا وتقوَّرا
فكانت جحيماً من أبالِسةٍ أتوا / يبيعونَ وسطَ النّارِ فحشاً ومُسكرا
فكم ثمَّ مِن دبّابةٍ دكَّتِ الرُّبى / وطيّارَةٍ شعلولها دكدَكَ البرى
فلم يرهبِ الأبطالُ تحتَ لِوائهم / براقيلَ بالسّجيلِ ترمي مُدَردرا
جلاميدَ كانوا بالجلاميدِ أُلصِقت / فما زَحزَحتهم مطرةُ النّارِ مشبرا
سواعِدُهم صفريَّةٌ وصدورُهم / حديديَّةٌ تزري الحدِيدَ المُزَبَّرا
لقد ثبتوا حُمساً وكلُّ مُجاهِدٍ / لِعشرةِ أعلاجٍ فأبلى وأعذَرا
فقالَ أعاديهم لحُسنِ بلائهم / أذلِكَ جُندُ اللهِ أم أُسُدُ الشّرى
كذا لبسوا في النّقعِ ثوباً مُضرَّجاً / لِكي يلبسوا العلياءَ بُرداً مُحبَّرا
ولكن لجدٍّ عاثِرٍ خانت الوغى / فأردت أميرَ الجيشِ حرّاً تهجَّرا
تصعصعَ صفُّ الجندِ وانصاعَ حائراً / لمصرعِ ندبٍ كانَ قُطباً ومحورا
تقوَّضَ رُكنُ الدّينِ عندَ سُقوطِه / ومالَ عمادُ المُلكِ والحقُّ أدبرا
له خُسِفت أرضُ الشآمِ وزَلزلت / وأوشكتِ الأجرامُ أن تَتدَهورا
هوى القائدُ الأعلى فتى العربِ الذي / حكى أنجدَ القوّادِ بل كان أمهرا
فهل بعدهُ حُرّيةٌ وسعادةٌ / لشعبٍ يرى جيشاً من الرّومِ أخزَرا
أصابتهُ في حرِّ النِّضالِ شظيَّةٌ / أصابت قلوب العُربِ فاصِمَةُ العُرى
فخرّ صريعاً وهو أبسلُ قائدٍ / ومَجّ نجيعاً أخلجَ الجرحِ أتغرا
وجادَ بنفسٍ حُرَّةٍ مُشمئزَّةٍ / تودُّ ولو بالموتِ أن تتحرَّرا
أرادَت ِإلى دارِ الخلودِ تخلُّصاً / فما وجدَت إلا الشَّهادَةَ معبرا
فأطهرُ أنفاسٍ إليها تصاعدَت / وأزكى دمٍ يومَ الجهادِ تَفجَّرا
سرى نفسٌ منه الرِّياحُ تعطّرَت / وسالَ دمٌ منهُ التّرابُ تطهّرا
فأجنِحةُ الأملاكِ فيهِ تخضَّبت / وقد مَسحتهُ كي يُصانَ ويُذكرا
على شرفٍ أودى فشرّفَ أُمَّةً / وقدَّسَ أرضاً حجَّبت منهُ محسرا
رأتهُ ثَقيلاً فاستخفّتهُ ميِّتاً / وضمَّتهُ مشبوحَ الذِّراعينِ مُسقرا
طويلاً ستبكيهِ الفواطمُ في الحِمى / فقد كان دون الخِدرِ والحصنِ حيدرا
وينثرنَ أزهاراً ومسكاً ولؤلؤا / ودمعاً على أحبى الخدودِ تحدّرا
علينا يمينٌ أن نحُجَّ ضريحهُ / لنأخُذَ منهُ قُوَّةً وتصبُّرا
فأطيبنا ريحاً وخلقاً وسمعةً / قضى في هوانا أشعَثَ الرأسِ أغبرا
أيوسُفَ يا ابن العظمةِ استعظمَ الورى / شهادَتَكَ المُثلى ومثلكَ لم يرا
تردَّيتَ فارتدَّت أمانيُّ أُمّةٍ / مُشرَّدةٍ تشتاقُ عَرشاً ومنبرا
يَعِزُّ علينا أن نراكَ مُشَحَّطاً / وتأبى الثُّريَّا أن نواريكَ في الثَّرى
ألا يا شهيدَ الحقِّ والمُلكِ والهُدى / بموتِكَ بجّلتَ الضَّعيفَ المُحسَّرا
وأحييتَ شعباً صارَ في نكباتهِ / يرى القبرَ مهداً والنّذيرَ مُبشِّرا
فسوريَّةُ الثّكلى عليكَ تفجَّعت / وقد ذهبت فيها النّفوسُ تحسُّرا
فنم في ثراها مُطمئنّاً مُكرَّماً / فذاكَ الثّرى قد صارَ مِسكاً وعنبرا
عليكَ صلاةُ المُصطفى وسلامُهُ / فأنت كبيرٌ صار بالموت أكبرا
صحابُكَ فِتيانٌ كِرامٌ تساقطوا / وكانوا على الهيجاءِ والموتِ أصبرا
لقد أرخَصوا أرواحهم ومتاعهُم / وغالوا بأعراضٍ هي النّجمُ أزهرا
فماتوا أُباةً مُسلمينَ تشَهَّدوا / فلم تشهدِ الجنّاتُ أتقى وأنصرا
بهم قدَّمت أرضُ الشآمِ ضحيَّةً / تقبّلها ربُّ السماءِ وبرَّرا
وكلٌّ شهيدٍ سوفَ يشخُبُ جرحهُ / دماً طاهراً يومَ القيامةِ أذفرا
يُرشُّ على الجنّاتِ مِنه تبرُّكاً / فينبتُ فيها زعفراناً وعُصفرا
سلامٌ على الأبطالِ إنّ دماءَهم / ستُحيي شُعوراً لن يموتَ ويُقبرا
لعمرُ العُلى الأحياءُ هم فمماتُهم / خُلودٌ وهذا حظّ من عاشَ مؤثرا
سقاكِ الحيا يا ميسلونَ كما سقوا / ثراكِ دماً من صيِّبِ المُزن أطهرا
شهدتُ الأُلى يوم الشّهادةِ أشهدوا / على الحقّ والحريّةِ الله والورى
فأضحى يقيناً كلُّ ما كان شُبهة / وأمسى قويماً كلُّ ما كان أزورا
عل كلِّ رشٍّ من دمٍ رشُّ مدمعٍ / ففي الوجدِ صار الدّمعُ والدَّمُ جوهرا
فما كان أغلاهُ وأثمنَهُ دماً / على ذوبِ أرواحٍ وأدمِغةٍ جرى
لقد ذهبت بطلاً دماءٌ عزيزةٌ / بتهريقها ذو البطلِ أصبح أبطرا
ولكِنَّها سالت لخيرٍ ونعمةٍ / كما سالَ يُنبوعٌ فأروى وأنضرا
سَقت زَرعَ أحرارٍ وأغراسَ أُمةٍ / كذلكَ حانَ الزّرعُ والغرسُ أثمرا
وما بَسقت حرّيةٌ وتأصّلت / بغيرِ الذي يجري مِنَ القلبِ مُهدرا
هَوى عَلمٌ قد ظلَّلَ المُلكَ مُدَّةً / فباتَ على كلِّ العُيونِ مُصوَّرا
ولكنَّهُ لم يهوِ عَن قَلبٍ أمةٍ / تراهُ على البأساءِ أبيضَ أخضرا
لقد رَفعتهُ ثم فدَّتهُ حُرَّةٌ / وشامَت بهِ برقاً تألَّقَ مُمطرا
فألوانُهُ في كلِّ قلبٍ ومُقلةٍ / ونجمتُهُ تهدي الضَّليلَ المحيَّرا
بنجمتِهِ الزهراءِ في اليأسِ نهتَدي / وقد زيّنت ما بالدِّماء تحمّرا
وما هي إِلا رَمزُ أُمنيَّةٍ بدَت / لنا في المنايا فازدَرَينا المُحذفَرا
سَلامٌ على ذيّالِكَ العَلمِ الذي / بَدا في دياجينا مَناراً ونيِّرا
فقدَّسهُ يومَ الشَّهادةِ والفِدَى / دَمُ الشُّهداءِ المُرتقينَ إِلى الذُّرى
كراتُ الأعادي مزَّقتهُ فلم يكُن / بتمزيقهِ إِلا أَجلَّ وأوقرا
تحيَّتُها زادَتهُ عزّاً ورِفعةً / وحبّاً وإكراماً وحُسناً مُؤثِّرا
جَوانحُنا آفاقُهُ وقُلوبُنا / مَطالِعُهُ ما بلّلَ الدّمعُ محجرا
فلن يحجبوا ألوانَ مجدٍ ونجمَةً / تذُرُّ علينا مِن دُجى الخطبِ أظهرا
سَنحيا كما مُتنا كِراماً لأجلهِ / وعن نيلهِ باعُ العِدى كان أقصَرا
ونذكر يوماً أثبت الحقَّ بالرَّدى / ونحفَظُ تبلاً صَيّرَ القلبَ مُجمرا
ونكظمُ غيظاً مُظهرينَ تجلُّداً / وننهضُ شعباً حائراً مُتَعثَّرا
ونثأرُ بَطّاشينَ بعد سُكوتِنا / وقد حرَّكَ التّذكارُ حِقداً مُدثَّرا
ونضربُهُم ضرباً بما ضرَبوا بهِ / ونرشُقُهم رشقاً دَراكاً مُشرشرا
ولا رَحمةٌ يومَ التّفاني فطالما / غدا معشرٌ يُفني من الضّغنِ مَعشرا
عن الثّأرِ والشّحناءِ ضاقت صُدورُنا / وهذا انتِقامٌ كان مِنّا مُقدَّرا
فقل أيُّها المُستذئبونَ ترقَّبوا / من العربِ الأقتالَ يوماً مُشهَّرا
صَبرنا على المكروهِ منا نُفوسنا / وقد بَلغت عِذراً بأمر تعذَّرا
كتبنا على رقِّ القلوبِ عُهودَنا / فصينت ولن تمحو الأسِنّةُ أسطُرا
لقد شهدَت أمٌّ وأختٌ وزوجةٌ / وبنتٌ وجُوهاً شوّهتها الحبوكرى
لنا فَخرُها الأسمى وللخصم نصرُها / ورُبَّ انتِصارٍ كان في البطل مُعوَرا
فيالكِ من ذكرى هُناكَ أليمةٍ / لنا كلفٌ منها بأن نتذَكَّرا
فقلت لِعيني حانَ أن تتقطَّري / وقلتُ لقلبي هانَ أن تتفَطَّرا
تمنيَّتُ مع فتيانِ قومي شهادَتي / ولكنّني أهوى الحياةَ لأثأرا
تغنّيتُ بالأشعارِ عند المخاوِفِ
تغنّيتُ بالأشعارِ عند المخاوِفِ / كما غرَّدَ العُصفورُ بين العواصِفِ
هو الشّعرُ فيهِ كلُّ فنٍّ وحِكمةٍ / وأطرافُهُ مَوصولةٌ بالطَّرائف
فما جلَّ من كلِّ الأمورِ عَرفتُهُ / وما دقَّ منها لم يفُت رأيَ عارف
وما المرءُ إِلا بالذي هو عاملٌ / وما العَيشُ إِلا بالهوى والعَواطِف
لعمرُكَ هذا الشّعرُ كان نتيجةً / لخبرٍ وحسٍّ مِن حكيمٍ مشارِف
نطَقتُ بأفواهِ الكيانِ لأنَّني / توغَّلتُ في لجّاتهِ والتَّنائف
فروحي لها من كلّ روحٍ صبابةٌ / ترجِّعُ في قلبي رنينَ المعازِف
رفعتُ بشعري كلَّ حبٍّ ومنيةٍ / لأرفعَ راسي يوم نشرِ الصّحائف
أرى هذه الأبياتَ أرماقَ مُهجتي / وفي كلِّ بيتٍ دَمعُ آسٍ وآسف
فهذا شُعوري مُطلقاً ومُقيَّداً / فشِعري طليقٌ في القوافي الرّواسِف
تصبَّتهُ ريحا شمألٍ وجنُوبِ
تصبَّتهُ ريحا شمألٍ وجنُوبِ / فقالَ العِدى ما حظُّهُ بقَريبِ
وشاقتهُ أمواجٌ هناكَ يَزورُها / فيبكي على صخرٍ لها وكثيب
ونثَّرَ آمالاً على كلِّ شاطئٍ / وسارَ كسيرَ القلبِ بينَ شُعوب
فما شعرَت نفسٌ بأحزان عابر / ولا مَسحَت كفٌّ دموعَ كئيب
فَضاعت كما ضاعت جواهرُ شِعرهُ / وأفلاذُ قلبٍ في الأياسِ جَديب
إذا غرَّد العُصفورُ يَدعُو أليفه / وفي النّفسِ والوادي سكونُ غروب
وميَّلتِ الأنسامُ أزهارَ جنّةٍ / كأفئدةٍ خفّاقةٍ لرقيب
وأرخَت عليهِ ليلةُ الصّيفِ سدلَها / مُوشّىً بلوني لامعٍ ورَطيب
تذكّرَ عيشاً بينَ أهليه وانحنى / يُفكِّرُ من أيامِه بريوب
وضاقت عليهِ الأرضُ حيناً وطالما / وَعاها بصدرٍ كالسماءِ رحيب
وقالَ وقد أعَيتهُ كثرةُ سَعيهِ / أهذا ابتِلاءٌ أم جزاءُ ذنوب
أُحِبُّ قريباً إن دعاني أجبتهُ / وليسَ إذا ناديتُه بمُجيب
جَفاني لأنَّ الحرصَ جمّدَ قلبَهُ / وما زلتُ في البلوى أُحبُّ قريبي
تعالَ أخي نمزُج دموعاً أبيَّةً / فكلُّ غريبٍ آنسٌ بغريب
بُلينا فراعَ النّاسَ حُسنُ بلائنا / وربَّ اغترابٍ للشّقاءِ جلوب
كذلكَ تُشقي المرءَ نفسٌ أبيةٌ / وقلبٌ يَرى لذاتهِ بندوب
على الحرِّ أن يلقى الخطوبَ بحزمِه / ففي الخَطبِ تجريبٌ لكلِّ لبيب
أُقابلُ أعدائي وأهوالَ غربتي / بقلبٍ منيرٍ في ظلامِ خطوب
ونفسٍ لنيلِ المجدِ تستعذِبُ الرّدى / كَنسرٍ لأصواتِ الرّعود طروب
فما راعني سيري على الأرضِ تائهاً / ونومي وحيداً مُثقلاً بكروب
وتعريضُ جسمي للمَهالكِ طالباً / دواءً لداءٍ حارَ فيه طبيبي
ولي همّةٌ بينَ الجوانحِ دونها / تحدّرُ سيرٍ واندلاعُ لهيب
على كلِّ حرٍّ دَمعةٌ وتحيّةٌ / إذا كانَ هذا في الجهادِ نصِيبي
وما أنستِ الأسفارُ لا أنس وقفةً / على بحرِنا والشّمسُ عِند مغيب
أُودِّع سوريّا وأُودِعُها الهوَى / وكفّي بكفَّيْ صاحبٍ ونسيب
وأرنو مَشوقاً من خِلالِ مَدامعي / إلى جبلٍ بادي الصخورِ مهيب
ويومَ بَكت أمي الحنونُ وراعَها / دنوٌّ وداعٍ كالحِمامِ رهيب
وقالت بصوتٍ خافتِ متهدّجٍ / ومنها زفيرٌ لاحقٌ بنحيب
بُنيَّ يمين الله هل لك عودةٌ / وداعك هذا يا بنيَّ مذيبي
ألا أنتَ باقٍ آمناً في ربوعنا / فمِثلكَ لم يولد لِصعبِ ركوب
فقلتُ لها والجفنُ يكتمُ عبرةً / سأرجعُ يوماً فاصبري وثقي بي
كطيرٍ تصبّاها ربيعُ بلادِنا / فأطربنا منها حنينُ سروب
أليس التّلاقي بعد نأيٍ ألذّ من / تخلّفِ حبٍّ بالملالِ مَشوب
دعيني أوفِّ المجدَ يا أمِّ حقّهُ / وأقضي شريفاً مثلَ جارِ عَسيب
يلذُّ لفرخِ النسرِ بسطُ جناحهِ / إذا الريحُ حيّت وكرهُ بهبوب
نعم كانَ لي عقدٌ من الحبِّ والمُنى / فضاعَ ولم أظفر ببعضِ حبوب
كما ضاعتِ القبلاتُ في نحرِ غادةٍ / غرورٍ كأمواجِ البحارِ كذوب
فقلتُ لنفسي بعد ذلٍّ وحسرةٍ / كفاكِ ازدراءُ الجاهلينَ فتوبي
أحنُّ إِلى الحمراءِ حناتِ بُلبُلٍ / يُروِّعُه ليلاً دويُّ نعيب
تناثرَ قلبي مثلَ ريشاتهِ على / مُلِمّاتِ دهرٍ بالكرامِ لعوب
فكيف أحبائي الذين تركتُهم / وقد باتَ يُشقيهم ألجّ طلوب
تبعَّثَ من قلبي ضياءُ وجوهِهم / تبعُّثَ نورٍ من خِلالِ ثُقوب
يُطلّونَ منهُ باسماً تِلوَ باسمٍ / فينقى جَبيني بعدَ طولِ قطوب
وتجلو هُمومي بسمةٌ من صبيَّةٍ / تجيءُ الصبا من بُردِها بطيوب
أحبّت غريباً تستفزُّ فؤادَه / بلثغتها في لفظِها لحبيبي
على صدرِها أهوى البنفسجَ ذابلاً / كعينِ لألبابِ الرجالِ خلوب
وأعبدُ منها بينَ دلٍّ وعفةٍ / جمالَ شبابٍ في جلالِ مشيب
وأرعى جبيناً من زنابقِ غيضةٍ / ونحراً عليه من بياضِ حليب
وقد زانهُ عقدٌ من الدرِّ تلتقي / على صَدرِها حبّاتُه بصليب
أقولُ إذا رقّت لحالي وأقبلت / تُسائِلني عن صفرتي وشحوبي
كذاكَ تقاسمنا النحولَ على الهوى / فليسَ تدانينا إذاً بعجيب
أتائهةٌ عجباً بفتيانِ قومها / وراميةٌ فتياننا بعجيب
وُقِيتِ النّوى لا تضحكي من رجالنا / أيأمنُ سَلباً شامتٌ بسليب
صروفُ الليالي فرّقتهم وبدّلت / حياةَ خمولٍ من حياةِ حروب
إذا لبسوا الأطمارَ إنّ صدورهم / لتحمِلُ في البلوى أشدَّ قلوب
وكلُّ جمالِ الشّرقِ في فتياتنا / فإن تُبصري أجفانهنَّ تذوبي
لهنّ عيونٌ حاملاتٌ لِشَمسنا / فأحداقهنَّ السّودُ حَبُّ زبيب
بَعثنَ الهوى موجاً وناراً فلم نكن / لِننجو وقد حاربننا بضروب
فدى العربيّاتِ الحرائر مُهجتي / فهنَّ كروض في الربيعِ خصيب
على الشاطىءِ المصريّ ضلّ فتى الشامِ
على الشاطىءِ المصريّ ضلّ فتى الشامِ / يُقلّبُ كفَّيهِ على قلبهِ الدامي
تصبّاهُ حُسنُ الشامِ بعد فراقِها / فحنَّ إِلى ذيّالكَ الحسنِ في الشامِ
لقد بعدت عنهُ فظلّت قريبة / من القلبِ إن القلبَ عشّاقُ أوهام
فما هو إِلا واحدٌ في غَرامها / ولكنّه في النأي عشرةُ أقسام
أحِبَّتنا في سَفحِ لبنانَ إنكم / حضرتم بأرواحٍ وغبتم بأجسام
وما زالَ قلبي دامياً لوداعنا / عشيةَ لاقى دمعُكم دمعيَ الهامي
تقاذفتِ الأمواجُ بي وتلاطمت / وألقى عليها الليلُ بردةَ أظلام
فلم أك مثلَ الرّكبِ يوماً صريعَها / ولكنّني ثبَّتُ عَزمي بإقدامي
وقلتُ لها لا بدَّ أن تحملي فَتى / يضمُّ بقايا المجدِ في صدرِ همّام
فإما وراءَ البحرِ مجدٌ مؤثَّلٌ / وإما لدَى العلياءِ خرّةٌ ضرغام
فما شِئتُ من نوحٍ ومن زبدٍ ومن / هديرٍ فلن ترضى المروءةُ إحجامي
جُمانة لا تبكي فعيناكِ منهما / حياةُ فَتى ناءٍ فرفقاً بمسقام
تغنّي بشعري عندَ زهرٍ غرستُهُ / وحلّي عليهِ شعرَك الأشقرَ النامي
فشعرُك من زَهري بأطيبِ نفحةِ / وروحُك من شعري بأعذب أحلام
تهونُ على مثلي المصائبُ والرّدى / إذا عاشَ أهلوه بعزٍّ وإنعام
رضيت بترويضِ الأسودِ وإنني / لآبى إباءَ الحرِّ ترويعَ آرام
وها أنا بينَ المجدِ والحبِّ حائرٌ / فهذا دَعا خلفي وذلك قدّامي
يحدّثُني قلبي الألوفُ بعودةٍ / ويردعني صبري الجميلُ وأشمامي
أيا من بهم ما بي تعالوا نعِش معاً / فنَعقُدَ في الأحزانِ شركة آلام
على الشوكِ نمشي صابرينَ وغيرُنا / نيامٌ على الأزهارِ في ظلِّ مِنعام
فباتوا يعاطون القيانَ مُدامةً / وبتنا نُراعي أنجماً فوقَ آكام
بأمثالِنا الدّنيا تضيقُ وصدرُها / رحيبٌ لأشرارِ وأصحابِ آثام
فنحن كدودِ القزِّ نبني قُبورنا / لنُحيي الألى ماتوا عبيداً لظُلّام
ونرضى بطيبِ الذكرِ في ظلمةِ الثرى / وأنّى يُرجَّى الذِكرُ من شعبِ نوّام
بُلينا بقلبٍ شاعرٍ متألمٍ / قنوعٍ بأوهامٍ طروبٍ لأنغام
وما السّعدُ في إنشادِ شعرٍ ونظمِه / ولكنَّهُ في جمعِ مالٍ وأرقام
إذا ما رمى القنّاصُ نسراً مُدوِّماً / أودُّ لقلبي نبلةً من يد الرامي
على مُهجتي أمشى أنا السّائحُ الذي / له في بقايا الدّهرِ آثارُ إلمام
فأنفاسُه حرّى عليها ونفسُهُ / تعوّدتِ التّحليقَ في جوّ إلهام
وعبرتُه بين الجفونِ عزيزةٌ / يضنُّ بها إلا على موقفٍ سام
قَضى واجباً في بعلبكَّ وتدمرٍ / وجاء ليبكي المجدَ في ظلِّ أهرام
عليكَ سلامُ الله يا نيلُ فانتعش / بأطيبِ أزهارٍ وألطفِ أنسامِ
من الشامِ في طيّاتِ بُردي حملتُها / إليكَ وفي قلبٍ على الحسنِ حوّام
كأن على ضفّاتكَ الخضرِ هاتفاً / يقولُ بنو الأبطالِ ذلّوا كأيتام
أما حان أن يصحو السكارى وقد غدوا / أسارى حَيارى جامدينَ كأصنام
بني مصرَ ما هذا التّقاطعُ بينكم / بُليتم بداءٍ للمفاصلِ قصّام
تراضوا وصيروا أمةً ذات قدرةٍ / وجدّوا بأعمالٍ وعزّوا بأعلام
على العربِ تنصيبُ التماثيلِ والدّمى / لأصحابِ أسيافٍ وأصحابِ أقلام
وتسميةُ الأسواقِ في كلّ بلدةٍ / بأسماء أبطالٍ وأسماءِ علّام
فيبقوا مثالاً للبنينَ وقدوةً / ويحيوا عِظاماً هنّ أهلٌ لإعظام
عظامُ رجالٍ يملأ الأرضَ مجدُهم / وذلك مجدٌ قد بنوهُ على الهام
أمريمُ بالحبّ المسيحيِّ عانقي / خديجةَ كي ننسى عداوةَ أعوام
وقولي لها والخدُّ بالخدِّ لاصقٌ / تخاصمَ إخواني وأبناءُ أعمامي
تعالي أمامَ الناسِ نذرفُ دمعنا / مدامعَ صدقٍ لا مدامعَ إيهام
عسى دمعنا الصافي يُلينُ قلوبَهم / ويطفئُ ناراً أُضرِمت أيَّ إِضرام
فتنبتُ أزهارٌ تغطي قبورَهم / وأحقادَهم في ظلّ أعدلِ أحكام
تذكّرت في الحمراءِ عهد الصبوَّةِ
تذكّرت في الحمراءِ عهد الصبوَّةِ / وما كان فيه من نعيمٍ وبهجةِ
فقلتُ وقد شقَّ الغمامةَ كوكبٌ / سلامٌ على عشرين عاماً تولّت
تولّت ولم أشعر بها كضميمةٍ / على خصرِ ليلى عطّرت خيرَ ليلة
فلم يبقَ إِلا عطرُها وذبولها / ولم يبقَ لي إلا شعوري وصفرتي
سأذكرُ من ليلى لياليَّ والهوى / يمزِّقُ من أثوابِ صبري وعفتي
وما زالَ هذا القلبُ في الحبّ ذائباً / ولكنّه جلدٌ على كلّ شدَّة
أرى الحبَّ قتالاً وأقتل كتمُه / فداوِ بوصلٍ داءَه أو بسلوة
وإلا فقدّم للغرام ضحيةً / وعينُ التي تهوى تضنُّ بدمعة
جميلٌ لئن تعشق بثينةَ تُشِقها / وتَشقَ لأن الحبّ قبرُ الشبيبة
فليسَ لأهلِ العشقِ أمنٌ وراحةٌ / وأمنيّةُ العشّاقِ عندَ المنيّة
نصحتُك فاسمع يا أُخَيَّ فإنني / أرى الدّهرَ نبّاشاً قبورَ الأحِبَّة
يُذَبّلُ أزهارَ الشبابِ بنفحةٍ / ويطفئُ أنوارَ الغرامِ بنفخة
سَلِ الطيرَ هل تبقى لها وُكناتُها / سَلِ الوَرَقَ المنثورَ في كلّ روضة
تُجبكَ ليالي الطيّباتِ قصيرةٌ / كأحلامِها تمضي على حين غفلة
ولكنَّ ليلاتِ الشّقاءِ طويلةٌ / وفيهنَّ تهوي نجمةٌ بعد نجمة
أرى السعدَ وهماً والشقاءَ حقيقةً / فما كان أشقانا بحكم الحقيقة
فكم بسمةٍ تبدو سريعاً وتمّحي / وكم دمعةٍ تكوي الفؤادَ كجمرة
إذا شكرت نفسي حلاوةَ ساعةٍ / شكت بعدها لهفى مرارةَ حجة
هو الحبُّ فيهِ كلُّ ذكرى أليمةٍ / على فقدِ أعلاقِ وأحزانِ وحشة
فنلهبُ أذيالَ الظلامِ بزفرةٍ / ونخرقُ طيّاتِ السكونِ بأنّة
لكِ العزُّ يا دار الحبيبةِ هل لنا / هدوءٌ إذ لم تُسعدينا بزَورة
نذوبُ على الوجه الذي تحجُبينه / ونقنعُ إن عزَّ اللقاءُ بنظرة
ونشتاقُ وصلاً والحياءُ يردّنا / فنرجعُ عن بردِ المياهِ بحرقة
لئن كان في قفر نرىَ الفقرَ جنّةً / فجنَّتنا من بسمةٍ فوقَ وجنة
إذا ما مرَرنا حيثُ مرَّت حبيبةٌ / وحيثُ رأيناها وحيثُ استقرّت
تُنازع هذي النفسُ حتى نخالها / مفارقةَ للجسمِ في كلّ صبوة
ويضعفُ هذا القلبُ حتى نظنَّهُ / تساقطَ منا فلذةً إثر فلذة
ونسمعُ همسَ الطّيفِ في كلّ خلوةٍ / وننشقُ عطرَ الثَّوبِ في كلّ هبّة
كذلكَ حبّي ذقتهُ فأذابني / وسالت على حبر القصائدِ مُهجتي
أنا الكوكبُ السيارُ في ليلةِ النّوى / تُنيرُ سبيلَ التائهين أشعَّتي
أنا البلبلُ الصفّارُ في روضةِ الهوى / تطير قلوبُ العاشقين لصفرتي
أنا العنبرُ الفوَّاحُ في كل مجلسٍ / تُعطِّرُ أثوابَ الحرائرِ نفحتي
أنا العاشق العفّافُ في كلّ خلوةٍ / تركتُ العذارى معجباتٍ بعفتي
أنا المزهرُ الرنّانُ في كفّ مُطربٍ / ملائكةُ الجنّاتِ تشتاقُ رنتي
أنا ما أنا إِلا فؤادٌ معذَّبٌ / ونفسٌ ترى في الموتِ أكبرَ لذَّة
فما للعدى يستقبحونَ محاسني / ولا ذنبَ لي إلا علائي وقدرتي
هجرتُ بلادي في السياحةِ راغباً / وكم فوق بحرِ الرومِ من دمعِ غربة
ولما بدت تلك السواحلُ فجأةً / تفجّرَ شعري من حُبوري ودَهشتي
فحييتُها مع طلعةِ الصّبحِ والهوى / يفيضُ على قلبي وثغري ومُقلتي
فكم شاعرٍ فيها تبسّمَ أو بكى / وقد جاءَها في نزهة أو عبادة
وكم ثم قلباً طارَ حباً وصبوةً / ورأساً غدا يحنى لمجدٍ وعزّة
على بحرِها العمرانُ والنضرُ والغِنى / وقد كملت فيها صنوفُ الحضارة
وما بحرُنا إلا مرائي طلولِنا / كذا الدهرُ يمحو كلَّ حسنٍ بلمسة
فقلتُ ولم أنفكّ للحسنِ عابداً / أُروّي حِماه من دموعي الصفيّة
ألا يا بلادَ العِلم والفنّ والهوى / إِلى شاعر أوحى أرقّ قصيدة
بألطفِ ترنيمٍ وأبهى طبيعةٍ / وأجملِ تمثالٍ وأكملِ صورة
سلامٌ على أهلِ التمدّنِ إنّ لي / بمنظرهم تجديد عزمٍ وقوة
لقد كانتِ الأرواحُ من شعرائهم / لتَمزيقِ أكفانٍ وتنوير ظلمة
لضَربهم انفكّت قيودٌ ثقيلةٌ / وهدَّم سورَ الظلمِ ترديدُ صيحة
وأوطانهم من نارِ شعرهم التَظت / وقد ضَربت بالسيفِ حتى استقلّت
فعادَ إليها مجدُها ونعيمُها / وإنّ المعالي بينَ سيفٍ وراية
ولما رأيتُ الناسَ يبنونُ مجدهم / بكيتُ على آثارنا العربيّة
نما زَهرهم في روضِهم متجدداً / وقد يبست أزهارُنا بعد نضرة
لهم كلَّ يومٍ غزوةٌ وغنيمةٌ / ونحنُ حَيارى بين ذكرى وعبرة
لئن كان في الحريةِ الحلوة الرَّدى / فيا حبذا موتي لتحرير أمتي
بني أمِّ هل من نهضةٍ عربيةٍ / لصيحاتها يهتزُّ ركنُ البرية
فواللهِ لا حريةٌ مُستطابةٌ / إذا لم تكن من قوةٍ أدبية
تصبّاك ما في النجمِ من لمعاتِ
تصبّاك ما في النجمِ من لمعاتِ / وحيّاكَ ما في البَحرِ من هَدَراتِ
فسرتَ تُمنّي النفسَ بالمالِ والعُلى / ولم تدرِ أنّ الدّهرَ ذو غَدَرات
بماذا تُعزّيها إذا عدتَ خائباً / وأنتَ كثيرُ الذّكرِ والسَّفرَات
لئن فاتني ما فاتَ مِثلي مِن المُنى / رَجعتُ ضَحُوكاً منهُ بعد فَوات
وقلتُ لنفسي خفِّفي عَنكِ إنّني / أرى بعدَ طولِ السَّهدِ طولَ سُبات
ليهنئكِ إنَّ الموتَ يُبقيكِ حرةً / ويطرحُ هذا الجسمَ للحَشرات
تكاليفُهُ وهو الحقيرُ كثيرةٌ / فصبراً على مُستوَدعِ الشَّهواتِ
فما هو إلا جيفةٌ لنتانةٍ / وما أنتِ إِلا درةٌ لحياة
ولا بدَّ يوماً من طلاقٍ وعودةٍ / إِلى عالمِ الأرواحِ والنجمات
ألا أيها العصرُ الحديديُّ دع لنا / قليلاً من الأفلاذِ والدمعات
بمعدنِكَ القاسي تدوسُ قُلوبَنا / فكم من قلوبٍ فيكَ مُنسَحِقات
وما من شريفِ صادقٍ بوعودهِ / ولا من كريمٍ جابرِ العَثرات
لقد حقَّرَ المالُ الحقيرُ شعورَنا / وقوَّى رجالَ الظلمِ والفتكات
فلا حقَّ إِلا للقويِّ بمالهِ / فمن للضَّعيف الدائم الحَسرات
كذلكَ ذاتُ الخِدرِ تحسدُ قينةً / ويخضعُ ذو رفق لمن هو عات
فيا لكَ عصراً فيهِ أكرهُ مولدي / وأصبو الى الأجداثِ والظُّلمات
دعي الناسَ يا نفسي ولا ترهبي الرّدى / فمثلُكِ للأخطارِ والغَمَرات
تعالي نَذُق بعدَ المعاركِ راحةً / ونذكرُ ما نهواه في الخلوات
بأندلس الحسناء عجتُ مُسلّماً / إِلى أربُع الأجدادِ ذا صَبوات
وهل عربيٌّ صادقٌ لا يزورُها / ويَبكي على آثارها البَهجات
مَررت بها والقلبُ ولهانُ شيّقٌ / يطيرُ على أنفاسها العطِرات
نعم قد عرتني هزّةٌ عِندما بدَت / شواطئُها الملأى من البركات
ومرَّ أمامي طيفُ مُوسى مجاهداً / يُحرّضُ أبطالاً على صَهوات
ورنّ صَدى في الجوّ من صوتِ طارقِ / يقولُ لنصر نحنُ أو للمات
وبالثَّغرِ والكأسِ ابنُ زيدونَ شِعره / تفجَّر لي دَمعاً على ضحكات
ولاح الفتى الرنديُّ في البوقِ نافخاً / يُزَعزعُ ركنَ الأرضِ بالصَّعقات
سلامٌ على روحينِ روحي تصبَّتا / وقد شاركت كلتيهما بهبات
تنشَّقتُ ريّا من صباها مُقبِّلاً / ثراها الذي يحوي عِظام غزاة
لقد نظموا عقداً ثميناً فأصبحت / لآلئُ ذاكَ العقدِ مُنتَثرات
سلامٌ على الحمراءِ والقَصر من فتىً / شَجَتهُ بقايا المجدِ مُغتزِلات
هنالك مجد تمَّ لا مجد فوقه / وقد شيد بالأقلام والشفرات
فكانت جنودُ الحقّ تحتَ لوائها / تهدّدُ أهلَ البطلِ بالزحفات
أيا حبذا أرضٌ على كسرِ أُمّتي / تُريني جيوشَ العربِ مُنتَصرات
وفي أربُعِ الأمواتِ أذكرُ موقفي / على تُرَبٍ مَحجوجةٍ ورفات
تباركَ تربٌ طاهرٌ ضمّ أعظُماً / تُساوي عِظامَ الخلقِ مُجتمِعات
بدَت نجمةٌ زَهراءُ من كلِّ تربةٍ / فكم شِعَلٍ تبدو وكم سطَعات
فناجيتُ حيناً كلَّ روحٍ جناحها / جناح عقابٍ ظلّلَ الوُكُنات
بأندلسٍ هامَ الفؤاد وإنّهُ / فؤادُ محبٍّ صادقِ الخَفَقات
تعشّقتُها طفلاً وشاهَدتُها فتىً / وحيَّيتُها بالشّعرِ والبَسمات
وودّعتُها يوماً وِداعي لموطِني / وجدتُ لها بالدَّمعِ والزَّفَرات
نأى شَبَحي عنها فعزَّت زيارتي / ولكنّ شِعري خالدُ النَّغمات
فلا كانَ هذا آخرَ العَهدِ بَيننا / ولي عبراتٌ سِلنَ من نظرات
وما زلتُ حنّاناً إِلى برجِ بَلدة / مُطلٍّ على الأمواجِ والهضَبات
حفرتُ عليهِ اسمي بخطِّ ابن مُقلةٍ / ليقرأهُ بَعدي الذي هوَ آت
لقد زرتُ فيها جامعاً صارَ بيعة / جَثت أُمهَّاتٌ فيهِ مع أخوات
فذكَّرنني أُماً وأُختاً تشاكتا / مُرَجّعَتَينِ النَّوحَ والصلوات
على طولِ عَهدي بالدّيارِ تَشوقُني / مَحاسِنُ فيها قارَنت حَسنات
تزوَّدتُ بالتَّطوافِ بعضَ جمالِها / وكم لي على آثارِها وَقَفات
لدَى قلعةٍ فيها وقصرٍ ومعبد / رأيتُ جباهَ الناسِ مُنحنيات
ألا هل عزاءٌ للمُحِبّ الذي يرى / مَنازِلَ أحبابٍ على وحشات
إذا سارَ فيها يَرفعُ الرأسَ عِزَّةً / تراءت لهُ الأبراجُ مُنهدِمات
فَقُرطُبَةٌ تبكي على خُلفائِها / وزَهراؤها تَبكي على الملكات
وكم عَرَبيّاتٍ بَكينَ بُكاءَها / وكنَّ معَ النعماءِ مُبتسمات
وغرناطةُ الخضراءُ ترثي ملوكَها / على جانبي وادٍ كثيرِ نبات
نسيمُ الصَّبا يُلقي النَّدى في رياضِها / وَيحمِلُ مِنها أطيَبَ النَّفحات
سَقى الله جَنَّاتِ العَريفِ من الحيا / ودَمعي مَزيجاً طاهرَ القَطرات
بحَمرائها يوماً وقفتُ مُسلّماً / وأنشَدتُ شِعراً جاشَ مع عَبراتي
فجاوَبَني فيها نواحٌ كأنما / تشاكت بناتُ العربِ مُنتحِبات
وبعدَ طوافي في مَقاصيرَ رَحبةٍ / مُزَيَّنةٍ بالخَطّ والنّقَشات
وقد مَلأتها الجنُّ حُسناً وزَخرَفت / حنايا مُطِلاّتٍ على العَرَصات
خَرَجتُ وقلبي فيهِ آلامُ أُمةٍ / توالت عَليها أعظمُ النّكبات
وقلت لقومي والدّيارُ بعيدةٌ / بني العُربِ ولّت أعصرُ الغزوات
فقَدتُم كثيراً فاعتَنوا ببقيَّةٍ / ومأثرُكم فيهِ أَجَلُّ عِظات
هوَ الحبُّ فَليشقَ المحبّونَ بالذّكِرْ
هوَ الحبُّ فَليشقَ المحبّونَ بالذّكِرْ / ورُبَّ شفاءٍ مِن بكاءٍ على الأثَرْ
فكم في بقاياهُ شؤُوناً وكم لها / شجوناً وفي نورِ الهوى بانَ ما استتَرْ
هَدتني إليها نفحَةٌ قد ألِفتُها / فأثبَتَها قلبي وأنكَرها البَصَر
فيا لكَ قلباً لا يَملُّ مِنَ الهوى / ويا لكِ عيناً لا تَملُّ من النَّظر
لآثارِ ذاكَ العهدِ بتُّ مُقَبِّلاً / فلم أَكُ إِلا راهِباً قبَّلَ الصُّوَر
فيا حبّذا تَقبيلُها من قتيلها / أنا العاشقُ العاني الذي دَمَهُ هَدَر
بَكى آدمُ الجنّاتِ قَبلي وإنما / نَظرتُ إِلى رَسم الدّيارِ وما نَظر
فلم يكُ في بَلواهُ مِثلي وهكذا / بما شَهيَت حوّاؤهُ شقي البَشر
وبينَ حنايا الصَّدرِ صوتُ حَبيبتي / رنيمُ هزارٍ في ليالي الهوى صَفَر
لقد مَحَتِ الأيامُ آثارَ حبِّنا / فيا حبّذا لو جَمّدَ الزمنُ العِبر
لأنظمَها عقداً يَليقُ بجيدِها / ولكنَّ ما في القلبِ أغلى من الدُّرَر
أحبّت مِنَ الأزهارِ زَهرَ بَنفسجٍ / لها عطرُهُ واللونُ في عينها استَقر
فكم باقةٍ منهُ جَنَيتُ لِصدرِها / وكانت كغُصنٍ مُزهرٍ في يَدي انهصر
وإني لأهواها وأهوى بَنَفسَجاً / ذوى بينَ نهدَيها وفي مُهجتي نضر
وما زالَ عِندي باقةٌ هي بَعدَها / كَجِسمي وقلبي الذابلينِ من الكدَر
أَلا رُبَّ ليلٍ خِلتُها تحتَ بَدرهِ / ضَميمةَ أزهارٍ جَناها الذي صَبر
فَقبَّلتُ جيداً فيهِ نفحَةُ زَنبقٍ / مساءَ وَعَينا سقمها يَبعَثُ الخَدر
كأني وقد أغمَضتُ بالفمِ جَفنها / بنورٍ سماويٍّ على مُهجَتي انحدَر
كذلكَ في حرِّ الضُّحى نفَسُ الصَّبا / يُذبِّلُ أجفانَ الأزاهِرِ والخضر
لعمرُكَ ما في جنَّةِ الوَردِ نفحَةٌ / كنَفحةِ شعرٍ في يَدي انحلَّ وانتشر
فقلتُ لها واللّيلُ قد رَقَّ ثوبُهُ / فأصبَحَ خفّاقاً على نفَسِ السّحر
وقد ذبُلَت كالياسمينِ جُفونُها / وإن تَفترِ العينانِ فالقلبُ ما فَتر
مللتُ نعيماً لم أكن لأَملّهُ / فيا حبّذا لو هكذا عيشُنا عَبر
يمينَ الهوى لو دامَ أو طالَ ليلُنا / لكُنتُ على رغمِ العدى أسعَد البَشر
أغابةَ بالرْمَ الكثيفةَ ردّدي / حديثاً عن العُشّاقِ في ليلةِ السّمر
عَشيَّةَ بتنا بينَ ماءٍ وخضرَةِ / نرى الموتَ في الإغفاءِ والعَيشَ في السَهر
وقارِبُنا يَسري على مائِكِ الذي / عَليهِ فؤادي ذابَ والمدمَعُ انتَثر
فعانَقتُها حَيثُ الغُصونُ تَعانقَت / وقَبَّلتُها حيثُ النَّسيمُ لنا زَفر
فيا لكِ قُبلاتٍ لها انهزَمَ الدُّجى / ويا لكِ ضمّات لها ارتجَفَ الشَّجَر
لشِدَّةِ ما عانَقتُها انحلَّ عقدُها / فخُلتُ ظلامَ اللّيلِ من نورِه نفَر
وإذ جَمعَت حبّاتِه خِلتُ كفَّها / مُنوَّرَةً رَيّا عَليها النَّدى قَطَر
فقالت كذا نثَّرتَ عقدي مُخاطِراً / فقلتُ لها في الحبّ ما أهون الخَطر
أليسَ لقَلبي في هواكِ شَفاعةٌ / وأكبرُ ذنبٍ في المحبّةِ يُغتفَر
فَتَحتَ يدِ الجنّانِ يَنتثرُ النَّدى / وتحتَ يدِ النبّالِ يَنقطعُ الوَتر
وأنشَدتُها شِعرَ الصَّبابةِ فانحنَت / وقالت ألا تُبقي عليّ ولا تَذر
لِشِعرِكَ سالت مُهجتي في مَدامِعي / فإنشَادُكَ الشّاجي يذُوب له الحَجر
فقلتُ جُروحي في البلاءِ كثيرةٌ / فيا حبّذا جرحٌ بهِ الباسلُ افتخر
بَكيتُ على قلبي ليشفيهِ مَدمعي / وبعدَ ذُبولِ الغصن لا ينفعُ المَطر
لقد مَلكت قلبي عِراقيَّةٌ لها / محاسنُ بَغدادَ التي ظرفُها اشتهر
أقولُ لها أن شاقني مجدُ أُمةٍ / مناقِبُها غرٌّ وأبناؤها غُرَر
أيا بنتَ عميّ حبُّ أرضِكِ واصلٌ / بقلبك قَلبي هكذا شرفي أَمَر
يلوحُ على هذا المحيَّا جَلالها / فأهزأُ بالدَّهرِ اللئيمِ إذا غدَر
لأجلكِ أهواها وأهوى لأجلها / مُحيَّاكِ إنَّ الحبَّ بَينَهُما انشَطر
لنا أمة نأسَى عَليها وسَيفُها / على طولِ ما أبلى بأعدائها انكسر
ولكنَّهُ قد عادَ أبيَضَ مُرهَفاً / وكوكبُها بَينَ الكواكبِ قد زَهر
سَتُرجعُ من تجريده العزَّ والعُلى / وتجمَعُ تحتَ الرَّايةِ البدوَ والحضر
لعينَينِ مثل الفرقدينِ تفتّحت / سماءُ فؤادٍ للهُدى نورُهُ ظهر
لكِ النّظَرُ الهاوي إليهِ كما هوى / الى البَحر ذيّاكَ الشّهابُ الذي استَعر
وكان وداعُ بعدهُ ضاعَتِ المُنى / كما ضاع دمعٌ من محاجرنا انهمر
بكيتُ غريباً من بكاء غريبة / وقلتُ لها لا تغلبُ القدَرةُ القَدر
فباتت تُريني نفسها في دُموعها / وبتُّ على وجهي أذكّرُها العِبر
فحيّا الحيا والنورُ والطَّيرُ والشَّذا / محيّاً عَليهِ الروضُ من زَهرهِ نثر
لها الخيرُ إنّي حافظٌ لجميلِها / كفاني بها أنسٌ على وَحشةِ السَفر
ألم ترَ كيفَ النورُ يَبسمُ للدُّجى / وكيفَ حِجابُ الغَيمِ يَرفعُهُ القَمر
لقد فاحَ من شِعري هواها وذكرُها / كما فاحَ عطرُ الوَردِ من ألطَفِ الصرر
ألا أيّها الطَّيفُ المذوّبُ للفَتى / كذلكَ تُشقي من أَحبُّ ومن ذكر
أراكَ رفيقاً في نديٍّ وخلوةٍ / تريني خراباً من نَعيمي الذي دَثر
أغرَّكَ مني أنَّني اليومَ شاعِرٌ / على وَتري أبكي وقد ذهبَ الوَطر
وأنّ لقَلبي الذلُّ يَحلوُ فَلم يَزَل / لهُ في الهَوى ذلٌّ وفي غيرهِ ظفَر
فما الحبُّ إِلا أن يعفّ إذا خَلا / وما الحلمُ إِلا أن يكفَّ إذا انتَصر
ويا أيُّهذا المدّعي الشّعرَ والهوى / أعندك ما عِندي من الخِبرِ والخَبَر
أتعروكَ حُمّى الشِّعرِ والزُّهرُ قد رَنَت / من القُبَّةِ الزَّرقاءِ والموجُ قد هَدر
وقلبُكَ خفّاقٌ ورأَسُكَ مُثقَلٌ / فتَضطِربُ الدُّنيا لما منهما انفَجَر
هوالصوتُ فاسمَعهُ وأعرض عن الصَّدى / وعِش خالياً واطرَب لأنغامِ من شَعَر
فرُبَّ ليالٍ كالحدادِ همُومُها / طوالٍ وعُمرُ الأكرمينَ على قِصَر
تتابَعَتِ الأشباحُ فيها وأقبلت / هواجسُ شتّى تُثقِلُ الرأس بالفكر
إذا انفَتَحت عَيني على ظُلُماتِها / تَطايَرَ مِن جَفنيَّ ما هوَ كالشَّرر
أَحنُّ إِلى طيبِ الغَدائرِ والفمِ
أَحنُّ إِلى طيبِ الغَدائرِ والفمِ / إذا فاحَ زَهرُ الياسمين المخيِّمِ
وما زَهراتُ الياسمين نديةً / بأطَيبَ مِن ذيّالكَ المتبسِّم
وما زفراتُ الرِّيحِ في وَرَقاتهِ / بأعذَبَ من همسِ الكلامِ المرخَّم
هُنالكَ لي ما بَين ماءٍ وخِضرةٍ / وزَهرٍ وظِلٍّ وارفٍ وترنّم
مُواقِفُ حُبٍّ كلما عنَّ ذكرُها / سمعتُ مناجاةَ الخيالِ المسلِّم
فأنشَدتُ من فِردوسِ مِلتُنَ قِطعةً / بها انبثقَت حواءُ من حلم آدم
تذكّرتُ أيامَ الهوى فبكيتُها / وقلتُ لِقَلبي وَيكَ لا تتقسَّم
فقال أَلِفتُ الحزنَ حتى التذذتُهُ / فدَعهُ لِهذا الخافقِ المتألِّم
أبى وأبَت عَينايَ إِلا تَشفّياً / بدمعٍ وذكرٍ فيهما عطرُ مَنشم
إذاً فاشقَ يا قلبي بحبٍّ ومَطمَعٍ / فمن يَشقَ يرحَم من يئنُّ ويُرحَم
ومن أبطرَتهُ نعمةٌ ظلَّ لاهياً / عن الكَمدِ المُدمي لقلبٍ مكلَّم
أرى مِحنَتي لي مِنحَةً ودُجُنَّتي / ضياءً يريني واضحاً كلَّ مُبهَم
كما فتَحَت زَهراً وأنمت خَميلةً / أشِعَّةُ شمسٍ كابتِساماتِ مُنعِم
وإني لأرثي بَهجَتي وشَبيبتي / وأبكي بكاءَ اللاهفِ المترحِّم
وأرنو إِلى الآثارِ في وحشَةِ النَّوى / فتَطلعُ من ليلِ الهُمومِ كأنجُم
نعم لعيونِ العاشقينَ أشِعَّةٌ / تُنوِّرُ من أفكارهم كلَّ مُظلِم
فيَنفَتحُ القَلبانِ تحتَ يدِ الهوى / كَتَفتيحِ بدريٍّ لزَهرٍ مُكمَّم
فلولا ضياءٌ من عيونٍ مَليحةٍ / ولولا صفاءٌ من جبينٍ ومبسم
لما خلّد الإحسانَ والحسنَ شاعرٌ / بأبياتِ شعر كالجمان المُنظّم
أُحبُّ جمالَ الفنّ في كلّ صورة / وقلبي طروبُ للجمالِ المتمّم
لأنغامِ تلحينٍ وشعرِ قصيدةٍ / وتجسيمِ منحات وتلوينِ مِرقم
حبيبتي هَلّا تذكرينَ عبادَتي / لحُسنك ساعاتٍ ولم أتكلّم
وعينك في عيني وشعركِ في يدي / وقلبي خفوقٌ كالسّوار بمعصم
وأنتِ كمعزاف جميلٍ أجسُّهُ / فأسمعُ منهُ كلّ لحنٍ مُنعَّم
تلوحينَ في همّي فأبسمُ للهوى / وأرفعُ رأسَ الآملِ المتوسّم
كزهراءَ لاحت من ثَنايا غمامةٍ / فقرَّت بها في الليلِ عينُ المنجِّم
أناشدُكَ الحبّ الذي هو بَيننا / وما فيهِ لي من لذَّة وتألُّم
أمرّي على قلبي يَديكِ لعلّه / يعودُ إلى عهدِ الهوى المتصرّم
إذا الثلجُ غطّى يا مليحةُ أرضَنا / وأوحَشها لونُ السَحابِ المركّم
تجودُ عليها بالأشِعَّةِ شمسُنا / فتبرزُ في بُردِ الرَّبيعِ المُنَمنَم
لئن حدّثَتكِ النفسُ يوماً عن الذي / قصائدُه فيها صليلُ المخذَّم
وصَيحاتُ آلامٍ وحبٍّ وخَيبةٍ / تُمثّلُ دَنتي سائحاً في جَهنَّم
وبين يَدَيهِ خصمُهُ متململٌ / كفرخٍ ضعيف في مخالبِ قَشعَم
خُذي لكِ من شِعري مثالاً لصورتي / فما النطقُ إِلا صورةُ المتكلِّم
وما الشَهدُ إِلا الزَّهرُ تجنيه نحلةٌ / وما الحبُّ إِلا من جمالٍ مُكرَّم
وما النُّورُ إِلا من صباحٍ وكوكبٍ / وما الأنسُ إِلا من فمٍ متبسّم
وما العطرُ إِلا من أزاهر جنّةٍ / وما السّعدُ إِلا بالمُنى والتَّوَهُّم
جمعتُ الشَّذا والنُّورَ والمجدَ والهوى / ففاضت من العينينِ والقلبِ والفَم
غنائي لأصوات الطبيعةِ جامعٌ / فمن صَفَراتِ البُلبُلِ المترنِّم
ومن هَدراتِ الموج في ليلة النوى / ومن رنماتِ العودِ في كفّ مُغرم
ومن قَصفاتِ الرّعدِ والبرقُ لامعٌ / ومن بَردِ أنفاس النّسيم المهينم
ومن قصبِ الرّاعي المرنّ نواحُهُ / على ضفتي واد مُنيرٍ ومُظلِم
وحفّاتُ أغصان وحنّاتُ نازح / وخرَّاتُ يُنبوعٍ وأناتُ مُسقَم
هبيني لها في الشعرِ غيرَ مرجّعٍ / أليس فؤادي من هَواكِ بمُفعَم
أليسَ له من نورِ عينيك شُعلةٌ / تريه خَفايا كلّ سرّ مُكتَّم
وفي الحب أسرارُ الطبيعة كلُّها / فمن يهوها يهوَ الجمال ويُلهَم
وما هزّني إلا هوى عربيّةٍ / سَليلةِ مجدٍ مُشمخِرٍ مُعَظَّم
قد اتّخذَت لبنانَ في الشامِ عرشَها / وعَزَّ بها في مِصرَ سفحُ المقطَّم
أفاطمةَ الحسناءَ يا بنتَ عمّنا / هَبينا حياةً من محيَّاً مُلثَّم
ففي عينكِ السوداء أنوارُ ليلةٍ / وفي ثغرك الوضاء تنويرُ بُرعُم
جمالُكِ فيهِ سلوةٌ وتعلّةٌ / وتَشجيعُ صُعلوكٍ على البَطلِ الكمي
دَعينا بمرآهُ نُحلِّي حياتَنا / فما عَيشُنا إلا مرارةُ عَلقَم
فربَّ إناء فيهِ أجملُ زَهرةٍ / إذا نحنُ لم نلمسهُ لم يَتَحطَّم
لعَمرُكِ ليسَ الطّهرُ في بُرقُعٍ وفي / حِجابٍ بأسيافٍ محاطٍ وأسهُم
ولكنَّهُ في كلِّ نفس شريفة / لها لطفُ عُصفورٍ وهيبةُ ضيغم
إلهُكِ لم يخلُق جمالاً مُحَجَّباً / وحواءُ في الجنَّاتِ لم تتَلثَّم
فَطيري إلى روض الحياة فراشةً / فمُقلتُنا إن تُبصر الحُسنَ تَنعَم
وَحيّي ضياءً ساطعاً وتنشَّقي / نَسيماً عَليلاً وابسمي للمتَيَّم
فمثلك ريّا الوجَنتينِ حييّةٌ / أُسامِرُها تحتَ الظَّلامِ المنَجَّم
فأحرمُ ثَغري ماءَ وجهٍ مُنَعّمٍ / وأمنعُ كفِّي من حريرٍ مُسهّم
أسيرُ إليها خاشعاً مترجِّلاً / وأرجعُ في الظَّلماءِ فوقَ مطهّم
أفاطِم إن شاقتكِ صَيحاتُ شاعرٍ / يَنوحُ على أطلالِ مجدٍ مهدَّم
فأصبحت في ذاك الحجاب حمامة / تُعالجُ أشراكَ الرّياء المحكَّم
أميطي نِقاباً عن محيّاكِ واخرُجي / سفوراً الى تَقبيلِ أُختكِ مَريم
وقولي لها قد زالَ ما كانَ بيننا / وقد رَضي الإخوانُ فلنتبَسم
قِفي نتعانق والملائكُ حَولنا / تُنظِّمُ عقدَ المدمَعِ المتسجِّم
لنا أمةٌ غرقى دماءٍ وأدمعٍ / أحَلَّت لأجلِ الدينِ كلَّ محرَّم
إذا ما أسالت مُهجةً من جروحِها / أسلنا لها ماءَ الجفونِ كمرَهم
فَرفقاً بأرضٍ جاءَ فيها محمدٌ / رَسولاً وفيها رنَّ صوت المعلم
هما ظهرا مِنا وفينا وإنَّنا / خُلِقنا لنحيا بالعَواطفِ والدّم
بني أمِّ إنَّ السَّعدَ يخدمُ أمةً / يعيشُ بنوها مثلَ زَيتٍ وبلسم
فما نحنُ إِلا إخوةٌ فتشارَكوا / بأفراحِ أعراسٍ وأحزانِ مأتم
تعالوا نَصِل حَبلَ الأخوّةِ بيننا / وإلا ندمنا لاتَ ساعةَ مَندَم
دَعيني أمُت حُرّاً يُخلِّدُهُ الذِّكرُ
دَعيني أمُت حُرّاً يُخلِّدُهُ الذِّكرُ / فعِندي سواءٌ طالَ أو قصُرَ العمرُ
رأيتُ حياةَ الماجدينَ قصيرةً / ولسنا نُبالي طولها ولنا الدَّهر
ألا رُبَّ نفسٍ فارقت جسمَ فاضلٍ / فشرَّفتِ المثوى وشرَّفها القَبر
تمنَّيتُ أن ألقى الشَّهادةَ باسلاً / لأن شهيدَ الحبّ ليسَ له أجر
يموتُ الذي يَسعى إِلى المجدِ مرَّةً / وأمّا الذي يهوى فميتاتُه كُثر
أَأرضى لِنفسي أن تكونَ ذليلةً / وقد حَسدتها في سماءِ العُلى الزُّهر
وأشرقَ نورُ الحقِّ بينَ جوانحي / كأني إذا أَسريتُ يَصحَبني الفَجر
تطلّبتُ من روحِ الطبيعةِ قوَّتي / ففي نظري سرٌّ وفي مَنطِقي سِحر
وما أنا إِلا عابدٌ لجمالِها / وما هيَ إِلا هذه اللّهجةُ البكر
سَلي البحرَ والغاباتِ والرَّوضةَ التي / يُقبِّلها ثَغرُ الرَّبيعِ فتَخضَرُّ
سَلي الطيرَ والأرواح والبركةَ التي / لها قطراتٌ مثلما انتثرَ الدرُّ
سلي النجم والآفاق والجبل الذي / جثمتُ عليه مثلما جثم النسر
تُجبكِ فشا في ذلكَ الشِّعر سرُّنا / فلم يبقَ سرٌّ للجمالِ ولا ستر
وما الشِّعرُ إِلا أن ترنَّ قصائدي / ونثري هوُ النَّثرُ الذي دونَه الشَّعر
فكم لي من الشِّعرِ الرّقيقِ قصيدةٌ / لها طَرِب الجلمودُ واضطربَ البحر
معانيَّ فيها من خِلاقِ فتوّتي / ومصدرُها العينانِ والقلبُ لا الفِكر
أبيتُ أُذيبُ الشعرَ وهو يُذيبُني / كذلك في الوادي التقى النَّحلُ والزَّهر
كثيرونَ قالوا الشَعرَ بل نَظموا بلا / شُعورٍ لأنَّ القلبَ أعوزَهُ الحرُّ
فما كلُّ عصفورٍ يُغنّي كمُسهرٍ / سَمِعناه صفّاراً وليلاتُنا قُمر
عَلوتُ بأشعاري إِلى قِمَّةِ العُلى / وحلَّقتُ حتى لا لِحاقُ ولا نكر
بَني أمّ قلبي في هواكم ضحيَّةٌ / فَمِنهُ لكم نفعٌ ومنكم لهُ ضرُّ
كما فجّرَ الينبوعَ موسى بضربةٍ / فأنكرهُ شعبٌ يلذُّ له الكفر
ويا ليلُ لولا الشّعرُ ما بَقيَ الهوى / ولا الحسنُ في الدُّنيا ولا المجدُ والفخر
بُثينةُ أعطاها جميلٌ جمالَها / وفي شِعرِ قيسٍ حُسنُ ليلى له نضر
بيَتريسُ مع دَنتي أتانا حَديثُها / ولورةُ مع بترَركَ طابَ لها ذكر
وإني عن البيضِ الغواني لفي غِنَىً / لأن الهوى فيهِ الخيانةُ والمكر
لهنَّ قلوبٌ كالمرائي تناوَبت / وجُوهاً وأما العهدُ فالمدُّ والجزر
فلم أرَ قلباً واسِعاً لِفضيلتي / وحبّي وقلبي ليسَ يُقنِعهُ النّزر
ولي من عروسِ الشعرِ خيرُ زيارةٍ / فيُطربني لحنٌ ويُنعشني عطر
فَأُشرِفُ من سجنٍ أَلِفتُ ظلامَه / على جنّةٍ أغصانها أبداً خُضر
وأُطلِعُ نورَ الشعرِ من عمقِ ظلمةٍ / وأجملُ أبياتٍ يولّدُها العسر
وإني على البَلوى صبورٌ لأنني / سَلوتُ بقولي الخطبُ يحمِلهُ الحرُّ
ضرَبتُ بسيفِ العزمِ ضربَ مجاهدٍ / له انقدَّ قلبُ اليأسِ وابتسم الصّبر
فجاءَت بناتُ المجدِ تضفرُ غارَها / أكاليلَ للنّدبِ الذي همُّهُ ندر
نعيمي شقاءٌ في الحياةِ وهكذا / شقائي نعيمٌ مِنهُ حَيَّرني السرُّ
تردَّيتُ ثوبَي خِبرةٍ وسياحةٍ / وسرتُ كَنسرٍ لا يطيبُ له وكر
وغامرتُ بحراً بعد بحرٍ مُصمِّماً / على نيلِ آرابٍ لها المسلِكُ الوعر
فما راعني الموجُ الذي عجَّ مُزبداً / وأعظمُ منه ما يجيشُ بهِ الصَّدر
ومثلَ شَتبريانَ في سَفَراتِه / شَقيتُ ومن أسفارِنا بقي السَفر
فشِعري لهُ في كلّ أرضٍ تردُّدٌ / وجسمي لهُ ظِلٌّ ورِجلي لها أثر
أُعلّلُ نفسي بالمواعيدِ والمُنى / وذلكَ أمرٌ دونَه القتلُ والأسر
فما رَضيَت يوماً بعيشِ سكينةٍ / وهل تشتفي نفسٌ يُرغِّبُها الزَّجر
وذابلةِ الخدّينِ مثلي نحيلةٍ / قد ابيضَّ منها الفعلُ والذَيلُ والشعر
رَأَتني فقالت أنتَ يا سيّدي هُنا / أَأَنتَ إِلى الأسفار أحوَجَك الأمر
وما كان أبناءُ النَّعيمِ لغربة / تجمَّع فيها البؤسُ والذلُّ والقهر
فدَيتُ أباكَ الشهم لا كان مَوقِفٌ / أرانيكَ بالأحلام والوهم تَغترُّ
فقلتُ لها إنّ القضاءَ يَقودُني / إِلى حَيثُ لا أدري ولا ينفَعُ الجّهر
فلا تَفتحي جرحي القديمَ لأنّهُ / عميقٌ فيَستَولي على قلبكِ الذُّعر
بَكيتِ لمن يشقى وأنتِ شقيَّةٌ / لكِ الشكرُ يا ذات الوفاء لك الشكر
فما أبردَ الدّمعَ الصفيَّ على الحَشى / فللنَفسِ منهُ في مَصائبها ذخر
لقد عَرَفتني في البلاءِ كريمةٌ / وأنكرني قومٌ لهم نظرٌ شزر
لعمرُكَ كم تحتَ العباءَةِ من فتى / كريمٍ تَساوى عندَه العسرُ واليسر
وتحت هشيم الكوخِ كم من فضيلةٍ / أواها على ضيقٍ ولم يأوها القَصر
إلى وَطني أصبو وأذكرُ في النّوى / حلاوةَ عيشٍ فيهِ تذكارُها مرُّ
وما الحسنُ إِلا ما تَعشَّقهُ الفتى / وللقلبِ بعدَ العينِ في حُبّهِ عذر
قباحةُ أرضي في هيامي ملاحةٌ / وكلُّ جمالٍ بعدَها ما له قدر
فيا حبّذا الحمراءُ مَهدُ صبوَّتي / ويا حبَّذا الوادي ويا حبَّذا النَهر
ألا عَلمت أمي هنالِكَ أنّني / أعيشُ بلا أُمٍ وهذا هو الفَقر
إذا قَبَّلت أُمٌ جبينَ وليدِها / وفي عينهِ خمرٌ وفي قلبها سكر
وإِن عانقت أختٌ أخاها فضمَّها / وضمّته حيناً وهي ترنو وتفتر
شرَقتُ بريقي غيرةً وتحسُّراً / وقلتُ أهذا الكِسرُ ليسَ له جَبر
لقد ظَمِئَت نفسي إِلى بَردِ قبلةٍ / هي الماءُ للنّفسِ التي عَيشُها قَفر
أحنّ إِلى قبلاتِ أمٍّ ثمينةٍ / وقبلاتِ أختٍ فوقَها رَفرفَ الطُّهر
وأصبو إِلى نارٍ تجمَّعَ حولها / أحبّاؤنا في ليلةٍ ريحُها صرُّ
أيا قُبَلَ الأحبابِ أنتِ عَزاؤنا / فكلُّ فؤادٍ لم تحلّي بهِ صفر
أمفديةٌ بالروح أنتِ صبيّةً / من الصبحِ والنُعمَى وشِعري لها ثَغر
أترمُقُني عَينانِ ملؤُهما هوىً / وأحنو على رأسٍ غدائرهُ شُقر
أبيتُ على ظَهرَي جوادٍ ومركبٍ / وتمشينَ مِكسالاً يُحجِّبُكِ الخِدر
وإني لأستَجلي مُحيّاكِ كلَّما / بدا الشَّفَقُ الوَرديُّ أو نوَّرَ الزُّهر
فيا حبّذا الوردُ المنوّرُ في الحمى / وعندكَ منهُ اللونُ والنضرُ والنشر
عجبتُ لهذا الدهر كم أحوجَ الفتى / إلى تجرُباتٍ عندها يَنحني الكبر
سَقاني بكأسِ الفقرِ طوراً وتارةً / بكأسِ الغِنى حتى استوى الخيرُ والشر
أيا ابنةَ سوريّا أيا ابنةَ يعربٍ / أيا بنةَ أجدادٍ مناقِبُهُم غُرُّ
لقد ذبلت أغصانُنا في رَبيعها / ولكنْ أُرَجِّي أن يُعاودَها النضر
إذا جاعتِ الأشبالُ بعدَ رَخائها / تعزَّت بأن يبقى لها النابُ والظفر
سَيرجع ذياكَ الزمانُ الذي مضى / وفيهِ لنا السلطانُ والعزُّ والنصر
فنَمشي إِلى نَيلِ العُلى تحتَ رايةٍ / تُظِلُّ بلاداً صانها جيشُها المَجر
وإن لم يَنَل أهلُ المكارمِ مأرباً / كفاهم من الدُّنيا الفَضيلةُ والذكر
وما العيشُ إِلا بالشعورِ فساعتي / كعامٍ وعامي بالشُّعورِ هو الدَّهر