القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : جَميل صِدقي الزَّهاوي الكل
المجموع : 152
لَقَد هاجَ لَيلُ البين شجوي وَلا غَروا
لَقَد هاجَ لَيلُ البين شجوي وَلا غَروا / إذا هاجَ لَيلُ البين من مغرمٍ شجوا
مَتى أَيُّها الأثْل الَّذي ظلّ ساكِناً / تهبُّ الصَّبا إن الصبا وفدُ من أَهوى
إذا طلعت من خدرها الشمس في غد / أَطلت إليها من دجى لَيلَتي الشكوى
يَرى الناس ما بي من جوىً وَصبابةً / فَيَرجون لي السَلوى وأَنّى لي السَلوى
وَلا يَعلَم الصب المصارع للهَوى / أَيَقوى عليه أَم عَلَيه الهَوى يَقوى
ومن كان فيه غلّة من صبابة / فَقَد يَشرب الماء القراح وَلا يَروى
وددت لَو اَنَّ الحب يَقسم منصفاً / فَيسلبني عضواً وَيترك لي عضوا
نظرت إِلَيها وَهيَ بَيضاء تبهجُ
نظرت إِلَيها وَهيَ بَيضاء تبهجُ / بخدٍّ به ماء الصِّبا يَتموَّجُ
وفرع غُدافيّ يزين سواده / جبين وقاه اللَه كالحق أبلج
نظرت اليها وَهيَ تعطو كأَنَّها / غَزال بمخضلٍّ من الروض يمرج
عَلى صدرها نهدان قاما أَمامها / وَمن خلفها أَردافها تترجرج
وَتحسب ماسَ القرط نار حباحب / عَلى متلع من جيدها تَتَوَهَّج
ولا صبر حتى يمسك القرط رجفة / بآذانها أو قلبي المتهيج
وَقَد خرجت من دارها للبانة / فأَحسست منها أَن روحي تخرج
مشت وَمَشى قَلبي المُتَيم خلفها / يقبِّل آثار الخطى حيث تنهج
لها وهي أدرى العالمين بحالتي / هوى في فؤادي ناره تتأجَّج
أريد إذا قابَلتها لأبثها / غَرامي بها لكنني أَتلجلج
تمنيت يا لَيلى وَهَل تنفَع المنى / لَو اَنَّ حياتي في حَياتك تمزج
فنحيا جميعاً في بُلهنيةٍ ولا / رقيبٌ علينا يستفزُّ ويزعج
إِلى الناس تَشكو البين فهو يروعُها
إِلى الناس تَشكو البين فهو يروعُها / وَتسكت أَحياناً فَتَشكو دموعُها
لئن رجعت أَيام لَيلى كعهدها
لئن رجعت أَيام لَيلى كعهدها / شكوت إليها بعض ما فعل الهجرُ
وإن فاتَني عصر الشباب الَّذي خلا / فَما فاتَني يوماً لأفراحه الذكر
غَدير أَقام البدر في اللَيل طالِعاً / يطل عليه ثم ينعكس البدر
لَقَد كانَ من لَمياء لي الحسن وحده / وَمنّي للمياء الصبابة وَالشعرُ
كلفت بِلَيلى وَهيَ ذات جَمالِ
كلفت بِلَيلى وَهيَ ذات جَمالِ / فَلازمتُها عمراً لغير وِصالِ
وَزايلتها لا حامِداً لزيالي /
نأت بيَ عَن لَيلى نوىً لا أُريدها / فَما لي إلى لَيلى سِوى اللفتات
يَقول أُناس إن عفراء تغضبُ / إذا أَبصرت عيناً إليها تُصوِّبُ
فَقلت لَهم إني فَلا تتكذّبوا /
نظرتُ إِلى عَفراء عشرينَ مَرَّةً / فَما غضبت عَفراء من نَظَراتي
نعمتُ زَماناً قبل هَذا التَشتتِ / بعَفراء إذ جادَت وَعَفراءُ سلوَتي
فَلَمّا مَضَت عني إلى غير عودة /
ظللت رِدائي فوق رأَسي قاعِداً / أَعُدُّ الحَصى لا تنقضي عبراتي
لَقَد فاتَني أن أمنع الركب باذِلا / من الجهد ما يَنهاهُ عَن أن يزايلا
وَلَكِنَّني تاللَه قد كنت جاهِلا /
تساقطُ نَفسي كلَّ يومٍ وَلَيلةٍ / عَلى إثر ما قد فاتها حسراتِ
لَقَد طلبت أن لا أَبوح بحبها
لَقَد طلبت أن لا أَبوح بحبها / وَلكنني قد بحت حتّى فشا أَمري
فَواللَه ما أَدري إذا ما لقيتها / وَقَد سأَلتني ما يَكون لَها عذري
ذممت سماء ما لها أنجمٌ زهرُ
ذممت سماء ما لها أنجمٌ زهرُ / وأرضاً خلاء ما بها أوجهٌ غرُّ
وَما زلت أعتاد الطواف ببقعة / بها قد تمشى الحسن يخفره الطهر
وقفت حيال الجسر أَقتَحِم الهَوى / وانظر من يدنيه للساحل الجسر
عَلى الجانِب الغَربي من حوض دجلة / بنات خَفاها ثم أبرزها الخدر
فشمت ابتسامات هناك وأدمعاً / يهزان أعصابي كأَنَّهما الشعر
وجوه عليهنَّ الكآبة والأَسى / وأخرى عليهنَّ البشاشة وَالبشر
وَمُضطَرِب يَشكو الحَريق كأَنَّما / بأَثوابه مِمّا يَلي جلدَه جمر
بدا طالِعَا جيدٍ ونحرٍ لزينب / فَما عيب منها ذلك الجيد وَالنحر
تَرى البدر يَبدو مشرقاً فوق دجلة / يطل عليها ثم ينعكس البدر
ذكرتك يا لَيلى بغناء غضة / فَهاجَ غَرامي كله ذلك الذكر
سواء عَلى من باتَ يَرجو حِمامَه / وَقَد حُمَّ يا لَيلى وِصالُك وَالهجر
علمت وَقَد ذقت الهَوى منك وَالنَوى / بأَنَّ الهَوى حلوٌ وأن النوى مر
تَعالي نصب من لذة العمر حظنا / فَقَد يَتَوَلّى ثم لا يَرجع العمر
لَقَد طالَ يا لَيلى إليك نزوعي
لَقَد طالَ يا لَيلى إليك نزوعي / فأَرسلت عَن بعد إليك دموعي
ثقي بدموعي في كتابي فإنني / بِنَفسيَ قد أَودعتهنَّ ولوعي
رَسائِل مشتاق الى من أَحبَّهُ / تخبر عَن وجد به وَنزوع
لَقَد صدعتني النائبات بوقعها / وَلَم تَلتَئم للَيوم بعدُ صدوعي
وَقَد سائَني أن النوى أَخذت بنا / تشطّ وأن الشمل غير جَميع
تعشقتها سمراء يحلو حَديثها / وَما فيه من لحن لكل سَميع
رَمَتني بسهم رائش هُوَ نظرة / فأَصمت فؤادي وهو بين ضُلوعي
لَقَد هاجَت الوَرقاء شجوي بشدوها / عَلى دوحة الليمون بين فروع
إذا سجعت هبت تجيب حمائم / وَتكثر من أسجاعها لسجوع
وَلَو كانَت الوَرقاء خلواً من الهَوى / لما هتفت في اللَيل بعد هزيع
وَما للهزار اليوم في الروض ساكتاً / كأَنَّ رَبيع الشعر غير رَبيع
وَبي قد يلم الموت في أَرض غربة / هنالك في قبر يَطول هجوعي
فتفرح أَعداء وَتأسى أَحِبَّة / وَتنهَمِر اللعنات فوق دموع
وَما أَنا من أَحزانهم ذو اِستفادة / وَلا أَنا من لعناتهم بجزوع
إذا كنت بعد المَوت للحس فاقِداً / فَما ضر أَن القبر غير وَسيع
وَكَم فلّ هَذا الموت في غشيانه / جموعاً من الأقوام إِثر جموع
وَعاث بشعب مطمئن بأرضه / كَما عاث ذئب جائِعٌ بِقَطيع
سَريت تَخوض اللَيل وَاللَيل أَسوَدُ
سَريت تَخوض اللَيل وَاللَيل أَسوَدُ / فَيا أَيُّها الساري الى أَينَ تقصدُ
أَراكَ من الإدلاج تَهبط وادياً / وَبعد قَليل من هبوطك تصعد
لعلك لا تَدري بأنك جائِب / شعاباً إليهنَّ السعالى تردد
لعلك لا تَدري بأنك والج / مخاوف فيهن الردى يتهدَّد
لعلك لا تدري بأنك منته / إلى غابة فيها الضواري ترصد
تثبَّط مقيماً في مكانك وانتظر / إلى الصبح إن الصبح قد لَيس يبعد
وإِلا فعد من قبل أن تشهد الرَدى / إلى حيث قد غادَرت فالعود أَحمد
أَراكَ شقياً في حياة حييتها / مَتى أَيُّها الإنسان قل لي تسعد
قسوت عَلى الإنسان لما ملكته / فَهَل أَيُّها الإنسان قَلبك جلمد
وَكَم مشهد في الأرض يبتعث الأسى / وَما كَضَحايا العلم في الأَرض مشهد
ذممت من الأيام يا نفس إنها / تشابه منها الأمس وَاليَوم وَالغَد
أقول لباكٍ صن من الدمع بعضه / لآتي الرَزايا إنها تتجدد
وَما بي عَلى عينيك خوف من العمى / إذا بكتا لكن دموعك تنفد
علمت من الأحداث أن الهدى عمى
علمت من الأحداث أن الهدى عمى / وأن ابتسامات الزَّمان خدوعُ
ورب عيون وَهيَ دعجاء أَغمضَت / وَجيد لواه الكرب وهو تَليع
لموت الفَتى خير له من معيشة
لموت الفَتى خير له من معيشة / يَكون بها عبئاً ثَقيلا عَلى الناس
وأنكد من قد صاحب الناس عالم / يرى جاهلاً في العز وهو حقير
يَعيشُ رخيَّ العيش عِشرٌ من الوَرى / وَتسعة أَعشار الأنام مناكيد
أَما في بَني الأرض العَريضة قادرٌ / يخفف وَيلات الحَياة قَليلا
إذا ما رجال الشرق لم ينهضوا معاً / فأضيع شيء في الرجال حقوقها
إذا نات أوطاناً نشأت بأرضها / خراب ولم تحزن فأنت جماد
بربك قلبي أنت لا نترك الهوى / سواءٌ سلا يا قلب غيرك أم هاما
اتصلح في الشرق الحكومات شأنها / لعل الغنى والعلم يجتمعنان
أَفي الحق أَنَّ البعض يشبع بطنه / وأَن بطون الأكثرين تجوع
تقدم أهل الغرب حتى تحرروا / فما منع الشرقيَّ أن يتحرّرا
أسائلتي عَن غاية الخالق اسكتي / فَما لي عَلى هَذا السؤال جواب
إذا حيي الإنسان صادف منكراً / وإن ماتَ لاقى منكراً وَنَكيرا
ترقب سقوطاً يا ابن آدم قاتلا / فإنك لو تدري على جرف هار
لقد قال كل في الحياة برأيه / تعددت الآراء والحق واحد
إذا قلت حقاً خفت لوم مخاطبي / وإن لَم أَقل حقاً أخاف ضَميري
أَرى الناس إلا من توفر عقله / من الناس أعداءً لكل جَديد
خذ العلم إن الفضل للعلم وحدَه / وإن رجال العلم وحدهمُ الناس
إباؤُك والإدعان شرٌّ كلاهما / على أن بعض الشر أهون من بعض
لقد عاش في الدنيا كما يرتضي امرؤ / يميل مع الأيام حيث تميل
رَأَيت جياعاً يفخرون بجوعهم / فأضحكني ما قد رأَيت وأبكاني
وَما الناس إِلّا خادِع في مَقاله / يريد به الدنيا وآخر مخدوع
تأَخرت بعد الأربعين كأنما / أماميَ في سيري إليهِ ورائي
ألا لَيتَ أَعمالي إذا كنت ميتاً / وَقَد نقدوها لا عليَّ ولا ليا
لقد سار آبائي جميعاً إلى الردى / وإني على آثارهم سأَسير
يعود إلى بدءٍ له كل ذاهب / وليس لأيام الشبيبة من عود
أَتَت صور الماضي تباعاً فمثلت / لعيني لهواً مرَّ ثم اِضمحلت
أتينا إلى الدنيا فرادى وهكذا / سنمضي فرادى واحداً بعد واحد
فحصت بطون الكون فحصاً فَلَم أَجِد / سوى حركات فيه لَم أَدرِ ماهيا
ألا أيها الإنسان فيك معايب / وأكبر عيب فيك أنك فاني
إذا خلَت الدنيا من النفر الألى / أَحب فؤادي فالسَلام عَلى الدنيا
تمرُّ الليالي ليلة بعد ليلة / وحزني عَلَى ما فاتني ذلك الحزن
وكنت أرجى أن أفوز ببغيتي / فأدركني بعد الرجاء قنوط
وما أنا إن أخفقت فيما رجوته / بأوَّل سارٍ عن محجَّته ضلا
إذا كان بعض الناس يملك بلغة / ولم يختلط بالناس فهو سعيد
حياتي وإن كانت إليَّ عزيزة / إذا نالني ضيمٌ عليَّ تهون
إلى اليوم لم أحسد على شيء أمرأً / وقد كان عند الناس ما لم يكن عندي
أخو العقل يرجو نيل ما هو ممكن / وأكثر آمال الجهول محال
بنفسيَ أفدي من إذا قال ما هذي / وإن مرَّ بالعوراء مرَّ كريما
أَنا اليوم أَمري في يَدي غير أَنَّني / أُحاذر من أَن يخرج الأمر من يَدي
إذا كانَ في بيت مَريضاً عَزيزُهُ / فَسكان ذاكَ البيت كلهم مَرضى
يرجي الفَتى أَن الثراء يعينه / عَلى نائبات الدهر حين تَنوب
أَسر مَكانَ لي عَلى الارض ربوة / إلى جانبيها روضة وَغَدير
ألا ايها الناس ارحموا الناس واركنوا / إلى السلم إن السلم خير من الحرب
وأَحسن أَوقات الفَتى وقت نومه / إذا كانَ ذاكَ النوم خلواً من الحلم
وَهَل كبر الجثمان ينفع ربه / إذا كانَ فيه العقل غير كَبير
أخي إن أسرار الطبيعة جمة / وما اكتشفت منها العقول قليل
تمنيت لَو أني وَقد غبرت على / وَفاتي أَحقاب رجعت إلى الدنيا
تؤمل نفس المرء طول بقائها / وليس على نفس تؤمل من بأس
رغبت عَن الدنيا كأَني ميت / قَريباً وَفي الدنيا كأَنّي لا أَفنى
يَقولون إن الملح يصلح فاسِداً / فَما حيلة الإنسان إن فسد الملح
أقول لشيخ ينحني عند مشيه / أتنشد في هذا شبابك إذ ضاعا
وكم قد نجا باغ فما صدق الذي / يقول على الباغي تدور الدوائر
أكل امرئ يا أيها الناس إن رأى / من الصدق ما يخشى يفر إلى الكذب
لقد خاب من يخشى مقالة كاشح / وما فاز باللذات غير جسور
من الناس من إن غبت عنه فإنه / عدوّ وإن لاقيته فصديق
كذاكَ اِختلاف الناس في كل حقبة / محاسن قوم عند قوم قبائِح
أعاذلتي لا تعذليني على البكا / فإن الذي قد نابني لشديد
أحس بجسم العدل شبه حرارة / فأحرز ظنا أنه لم يمت بعد
وأحلَمُ من يمشي مع الناس صافحٌ / إذا سبه الجهال قال سلاما
لمن لاذ بالحكام من شر ظالم / كمن فر من حر الهجير إلى النار
إذا كانَ في الدنيا عدوٌّ يضرني / فَذاكَ لساني ثم ذاكَ لِساني
خذ الحق إن الحق يحسن أَخذه
خذ الحق إن الحق يحسن أَخذه / فَلَيسَ به عيب سوى أنه مر
ومن حاد عَن نهج الطَبيعة لَم يعش / وَمن لَم يدار الدهر ناصبه الدهر
إذا باتَ مَكشوفاً إِلى كل باسط / يداً كان مضياعاً لبيضته الخدر
وَما المَرء إلا روحه فهو وحده / لباب وأما الجسم فهو له قشر
لَقَد وسعت أَرض تقل جسومنا / وأَوسع منها في جماجمنا الفكر
وَقَد سترت لَيلى الحَقيقة وَجهها / وَللعين حظ منه لَو رفع الستر
وَكَم حاول الإنسان كشفاً لسرها / بما حازَ من علم فَما انكشف السر
تَناسيت يا إنسان أنك ميت
تَناسيت يا إنسان أنك ميت / وَأَنتَ من الأمواتِ ترفع أَبياتا
وَتَمشي عَلى الأموات في كل خطوة / وَتأَكل أَمواتاً وَتَلبس أَمواتا
تَناسلت من أَمواتها ثم رمت أن / تَعيش بها عيش الخلود وَهَيهاتا
وإنك في أَعماق قبرك لا تَرى / وجوهاً وَلا في القَبر تسمع أَصواتا
وَلست بمسؤول إذا ما سكنته / أَكنت عبدت اللَه قبلاً أَم اللاتا
وَرب أناس كان بالأمس أَمرهم / جَميعاً فَصاروا بعد ذلك أشتاتا
وَيا رَب أَحداث تلم وَتَنقَضي / وَيا رَب أَوقات ستعقب أَوقاتا
إذا كنت لا تَدري البياض الَّذي بدا / بفوديك فامسك بين أيديك مرآةَ
وإن وَراء الشيب حتفاً وإنه / لما قلت إِثبات اذا رمت إِثباتا
لَقَد كانَ عَن تلك الولادة في غنى / فَماذا الَّذي يُشجي ابن آدم إن ماتا
وَلَيسَ مناص من هويّ يميتني / إذا زلقت رجلي وَلاقيت مهواةَ
أرجي انصداع اللَّيل وَالليل أَسفعُ
أرجي انصداع اللَّيل وَالليل أَسفعُ / وأَنتَظِر الشعرى وَقَلبيَ موجعُ
فَلَمّا بدت من جانِب الشرق تلمع /
شكوت إِلى الشعرى العبور حَياتي / فَلَم تَسمَع الشعرى العبور شكاتي
شموس بأجواز الفضاء تدورُ / وأرضٌ تُجافي الشمس ثم تزورُ
وأَكوام أَحياء هناك تمور /
أَرى حَركات في الطَبيعة جمةً / فمن ذا الَّذي قد أَحدث الحَركاتِ
حياة الفَتى نور وَفي النور همَّة / لساع وَقَد تقضي عليه ملمة
وَما المَوت إلا ظلمة مدلهمة /
سينتقل الإنسان قد حانَ حينه / من النور في يوم إِلى الظلمات
سأُفلت من أَرض بها أَنا موثق / وأَحظى بصحبي في السَماء وأَلحق
فقد أَخذت نَفسي من الجسم تزهق /
هناك سماء ما تزال تجدّ لي / منىً وهنا أَرض بها نكباتي
هيَ النفس أهدتها إليَّ ذكاء / تخبرني أن السماء عزاء
وأَن عَلى الأَرض البقاء شقاء /
سماء شَقائي تحتها وَسَعادَتي / وأَرض حَياتي فوقها وَمَماتي
أَحقاً تَرى أَنَّ الهدى غير ما ندري
أَحقاً تَرى أَنَّ الهدى غير ما ندري / وأَنا جَميعاً في ضلال من الأمرِ
كأَنَّك قلبت الهدى من وجوهه / فَظَهراً إلى بطن وَبطناً إلى ظهرِ
فأَيقنت أن لَيسَ الهدى غير ضلة / وألفيت أن الخير ضربٌ من الشرِّ
لساني عَلى الصمت الطَويل مواظب / وَفي الصدر آراء يضيق بها صَدري
وَقَد كنت لا أَدري حَقيقة ما أَرى / زَماناً وَلا أَدري بأني لا أَدري
يَقولون أَبواب السَماء جميعها / ستفتح للإِنسان في لَيلة القدرِ
فَقلت لهم ماذا سينفع فتحها / إذا لَم يَكن فيها الولوج بذي يسرِ
لَقَد تعبوا دون الوصول إلى المنى / كَذَلك من يمشون في مسلك وعرِ
أقول لشيخ يَجمَع المال دائباً / أَتأَخذ ما جمعت منه إِلى القبرِ
من الجهل لا تذكو ببغداد خلة / وَهَل ينبت الريحان في البلد القفرِ
أَبَت نفس حر أَن تذل لضائِمٍ / وأَحرِ بها أَن لا تذل له أَحرِ
سيخفق في الأمر الَّذين تعجّلوا / وَيأَكل أَهل الصبر من ثمر الصبرِ
إِذا جاءَ يدلى بالوَلاء منافق
إِذا جاءَ يدلى بالوَلاء منافق / فَذاكَ بعطف منك غير خَليقِ
وَشر عدوّ من يجيئك لابساً / ليخدع منك العين ثوب صديق
لمن أَنا في تاليك يا لَيل أَسمَعُ
لمن أَنا في تاليك يا لَيل أَسمَعُ / نَشيجاً له صوت يهب وَيَهجَعُ
وَقَد يَتَمادى ساعة ثم يَنتَهي / كأَنَّ الَّذي يرخيه قَلب مفجع
يصعّده من داخِل كله أَسىً / فيبسطه في الليل وَالليل يجمع
وَيَعلو إلى أَن يحسب المرء أنه / مناجٍ لأبواب السموات يقرع
إذا أَنتَ لم تأخذ بضبعيه موصلاً / إلى الملأ الأعلى فَما أَنتَ تنفع
إذا النجم هَذا لَيسَ يسمع من بكى / فقل لي لماذا فيك يا لَيل يطلع
أرى القَلب مني يَرتَضيه كأَنَّما / صديق له هَذا النَشيج المرجع
فأبكي كَما يَبكي لأنيَ مثله / كَئيبٌ لأني مثله متوجع
سأَلتك مَن هَذا الَّذي أَنا سامع / له فيك إِرناناً أَتى يتقطع
فَيا لَيل أنبئني أَتِلك حمامة / تنوح عَلى إلف نأى لَيسَ يرجع
فجاوبني أن الَّذي قد سمعته / لذو نبأ شاجٍ له القلب يهلع
وربك لم تسجع حمامة أيكة / وَلكن فتاة الحيّ أسماء تسجع
لَقَد روّعوها ثم نامَت عيونهم / وَلَيسَ سواءً نائم وَمروع
وَقَد زوجوها وَهي غير مريدة / بشيخ كَبير جاء بالمال يُطمع
وَفي الدار أزواج له غير هذه / ثلاثٌ فَوَدَّ الشيخُ لوْ هُنَّ أربع
ومن بعد أيام تزف لبيته / فتعنو لحكم الشيخ فيه وَتخضع
تضاجعه في اللَيل وهو كأَنه / أبوها فقل في أَمرها كيف تصنع
هناك ستشقى أَو تَموت كئيبة / عَلى أَن مَوت المَرء في الهمِّ أَنفع
هناك سَيَبدو اليأس وَالبؤس والأسى / لها وَتلقّاها المصائب أجمع
أللشيخ تهدى وَهيَ ترغب في فَتى / يُسمَّى نعيماً نور خديه يسطع
فَتى هُوَ يَهواها وَينزع نحوها / كَما هي تَهواه كَما هي تنزع
وَقَد أَخبروه الأمر فهو من الأسى / سَقيمٌ وَما فيه المداواة تنجع
له صرخة في اللَيل إن نام أَهله / تكاد لها صم الجبال تصدَّع
جلوها عروساً بعد سبعٍ فزمروا / وَفي مَرح الأفراح خبوا وأوضعوا
جلوها عروساً ما بها من غميزة / سوى صفرة فوق الأسيلين تلمع
وَذاكَ لحزن بات يلسع قلبها / كما أن أذناب العقارب تلسع
عيون كَما شاء المصوّر فتنة / وَجيد كَما أطرى أخو الشعر أتلع
فزفت إلى الشيخ الَّذي لشقائها / أتى طالِباً كيما بها يتمتع
فَقالَت له لا تدن يا شيخ راغباً / فأنت أبي بل أنت في السن أرفع
تصابيتَ جهلاً بعد ستين حجةً / وَتسعٍ مضتْ هَذا وَربِّك يشنع
فإن كان منك الشيب لَيسَ برادِع / لجهلك يا هَذا فإنيَ أَردع
وَلَكِنَّ ما بالشيخ من شهوة غلت / أبى أَن يعاف الشيخ ما هو مزمع
فقطب منه الوجه ينفخ غاضباً / وَمد يديه جاذِباً وَهي تدفع
يَقول لها أَسماء أَنت حَليلَتي / وَلا بد من أنَّ الحَليلة تخضع
أَحلك لي رب السَموات إنه / حَكيمٌ وإن الحق ما هو يشرع
فَلَمّا رأت أن لا مناص يصونها / من الشيخ لما أَوشك الشيخ يصرع
أحالَت عَلى كأس هناك معدة / من السم واِهتشَّت لها تتجرع
الانَ استرحنا واِستراحَت من السرى / ركابٌ لنا تحت الحمولة تظلع
الان انتهينا من مسافرة لنا / ببيداء قفر لِلَّذي جاب تفزع
الان فرغنا من نزاع دوامه / يضر بحاجات الضَعيف وَيوقع
وَخَرَّت بفعل السم فيها صَريعة / فَيا لَك من سمٍّ هنالك يصرع
وَيا لك من سم هنالك ناقع / تكاد به أَحشاؤُها تتمزع
وَألفت نعيماً وَالخَيال مصور / لَها واقفاً من حيث لا تَتَوقَّع
فمدت يداً منها إليه مشيرة / وَقالَت بصوت راجف يتقطع
أَتى وَحياض المَوت بيني وَبينه / وَجادَ بوصل منه إذ لَيسَ ينفع
نَعيمُ إلى أسماء سارعْ وَضُمَّها / فإن الرَدى يَدعو وأسماء تزمع
لَقَد جئت في وقت به الموت جاءَني / وَقَد كنت أَرجو فيه أنك أَسرَع
وَددت لَو اَنَّ الموت يبطئُ ساعةً / لعليَ من مرأى محياك أَشبع
وَلست بإنسان من الموت جازع / فإن طَريق الموت للناس مهيع
عَلى أَيّ إحسان الحَياة وبرها / أَطيب فؤاداً بالحَياة وأَطمع
كأَنَّ حَياتي حين أَبصر لونها / سراب بِبَيداءٍ بدا يتلعلع
وَلكن قبل الموت حيناً إذا أَتى / تهب عَلى الإنسان نكباء زعزع
أَما قلت خذني حيث شئت فإنني / إليك وَرَبِّي من بنانك أَطوع
حثثتُك مراتٍ عَلى أَن تفرَّ بي / وَلكن لسوء الحظ ما كنت تسمع
يَقولون إن القبر داج فناؤُهُ / يضارع لَيلاً فجره لَيسَ يطلع
أما في دجاه من كواكِب لُمَّعٍ / فإن الدجى فيه الكواكِب تلمع
غَداً يقف الأهلون حول جَنازَتي / فتصعد أَنفاس وَتنزل أَدمع
غداة غدٍ يا لهف نَفسي عَلى غدٍ / يقام على الأكتاف نعشي ويرفع
يسار به كيما يعيث به البلى / إلى حفرة كانَت أُعدَّت وَيوضَع
غداً أَنا تحت الأرض أبلى وفوقها / تَرى الناس وجه الناس منهم وَتسمع
رويدك يا حاثي عليَّ من الثَرى / فإني إلى دنياي بعد لأنزع
تمنين يا أسماء شعباً وَلعلعاً / وأين فموتي منك شعبٌ ولعلع
سَلام عَلى الدينا سَلام عَلى المنى / سلام عَلى العيش الَّذي كان يخدع
سلام عَلى الشمس الَّتي هيَ في غد / عَلى فَتيات الحيِّ دونيَ تطلع
سلام عَلى زهر الرَبيع وَحسنه / سلام عَلى روح به يتضوع
كذلك قد كانَت لدى غمرةِ الردى / تكلِّم شخص الطيف وَالشيخ يخشع
كَذلك قد كانَت تلهَّفُ وَالهَوى / عَجيب إلى أن جاءَها الموت يهرع
فَلَمّا بدا صبح وَشاعَت فجيعة / وَصاحَ بها الناعون وَالناس أَسرَعوا
أتت أمها تجثو إلى جنب رأسها / وَتلطم حر الوجه وَالوجه أَسفع
تَقول لَها وَالعَين تهمى وَقلبها / يكاد بأظفار الأسى يتقطع
أَريحانتي قَد طالَ رقدك فاِيقظي / أريحانتي من أَكثر النوم يصدع
أَريحانتي ما بال خدك ذابِلاً / وَعَهدي به بالأمس ريان ينصع
أَريحانَتي إنا قتلناك ليتَني / هلكت وَما أَبصرت غصنك يهزع
وَعض أَبوها للندامة كفه / وَما إن له هذي الندامة تنفع
به غلة يَبكي لها ملء جفنه / لعل البكا منه لما فيه ينقع
رآها عَلى وجه الفراش كأنها / عروس هوت كسلانة فَهي تهجع
وَجاؤا بأزهار الرَبيع وَنوره / يزينون نعشاً فيه أسماء تهجع
يزينون بالريحان ظاهر هودج / عليه عروس الحي أسماء ترفع
وَطافَت بذاكَ النعش من كل جانب / عيون رجال للرزية تهمع
مشى عالياً ما أوقر النعش إذ مشى / وَقَد رفعته للمقابر أذرع
يَقول نَعيم وَهوَ إذ ذاكَ قابض / مؤخرَ سامي النعش وَالنعش مسرع
لَقَد ظعن اليوم الرفاق وإننا / لنمشي عَلى الآثار منهم نشيع
نشيع ناساً راحلين هم المنى / إلى بلد فيه البلى وَنُودّع
حَبيبة قَلبي كَيفَ أدفن في الثرى / شبابك هَذا وَهو غيدان أفرع
حَبيبة قَلبي إن قَلبي يخاف أن / يعيث الثرى يوماً بمن فيه يودع
فيفسد ماءً في محياك جائلاً / وَيطفىء نوراً في جَبينك يلمع
حَبيبة قَلبي قد رحلت لغير ما / لقاء وإني عَن قَريب سأتبع
فَلَمّا أَحلوها فواروا عروسهم / بملحودة ضاقَت بمن هيَ تجمع
أكبَّ نَعيم باكياً فوق قبرها / وَقالَ فأبكَى كل من كانَ يَسمَع
وَعادوا به ذا رجفة يسندونه / بهم لَيسَ فيه للسَلامة موضع
فَعاشَ سَقيم الجسم خمسة أَشهر / وَماتَ كَذاك الحب بالناس يصنع
فواروه في قبر يجاور قبرها / عَلى ربوة إنا إِلى اللَه نَرجع
نبا الدهر بالإخوان حَتّى تمزَّعوا
نبا الدهر بالإخوان حَتّى تمزَّعوا / وَحَتّى خلت منهم ديار وأربعُ
وَنابهمُ خطبٌ فشتَّت شملَهم / وكان بهم شمل المكارم يجمع
رجال لهم أعلى من النجم همة / وأمضى من السيف الجراز وأقطع
لقد ربطتهم بالوفاء مودة / حبائلها للموت لا تتقطع
أحن إلى عهد اللوى وَهو منقَضٍ / وأَبكي لنأي الدار وَالدار بلقع
وَيممت دار الملك أَحسب أَنَّني / إذا كنت فيها نازِلاً أتمتع
وأني إذا ما قلت قولاً يفيد في / مصالحها ألفيت من هو يسمع
وَلَم أَدرِ أني راحل لمحلة / بها الفضل مجذوم الذراعين أقطع
إلى منزل فيه العَزيز محقَّرٍ / إلى بلد فيه النَجيب مضيَّع
وَلم يتقدم فيه إلا من اِرتَدى / رداءً به أَهل الشنار تلفعوا
هنالك ناسٌ خالفوا سننَ الهُدى / فمُدَّت لهم في البغي بوعٌ وأَذرع
أتوا بشناعات فعيبوا فَحاولوا / عدولاً فَجاؤا بِالَّذي هو أَشنع
تَباهوا بما حازوه من رتبٍ سموا / بها ووساماتٍ عَلى الصدر تلمع
إذا لَم يَكن صنع الفَتى زينة له / فَلَيسَ يحلّيه الوسام المرصَّع
وَلا الرتبُ المعطاةُ ترفع شأنه / إذا لَم يكن في فعله ما يرفِّع
وَلَمّا رأَيت الغدر في القوم شيمة / وأن مجال الظلم فيهم موسع
وأن الكَلام الحق ينبذ جانباً / وأن أَراجيف الوشاية تُسمع
خشيت عَلى نَفسي فأزمعت رجعة / إلى بلدي من قبل أني أصرع
وَهَل راحة في بلدة نصف أَهلها / عَلى نصفه الثاني عيون تطلَّع
وَلكنني لما تهيَّأتُ صدَّني / عَن السير بوليسٌ وَرائيَ يهرع
فَقلت له ماذا تريد من امرئٍ / يعود لأرض جاء منها وَيرجع
بأي كتاب أَم بأية حجة / أُصَدُّ مهاناً عَن طريقي وأُمنع
فَما نبسوا لي بالجَواب وإنما / أَعدوا جواسيساً لخطويَ تتبع
فعقبني في كل يوم وَليلة / إلى الحول من تلك الجواسيس أربع
تراقب أفعالي وكل عشية / إلى يلدزٍ عني التَقارير تُرفع
هممنا بصدع البَغي حرباً لأهله / وَما إن درينا أننا نتصدع
وَلست بناس نكبةً نزلت بنا / عَلى حين ما كنا لها نتوقع
فَقَد قلعتنا رفقة من بيوتنا / كَما تقلع الأشجار نكباءُ زعزع
وَساروا بنا للسجن راجين أننا / نذل لحكم الغادرين وَنخضع
وَما علموا أنا أناس نمتهمُ / إلى العز أنسابٌ لهم لا تُضيَّع
وأنّا إذا ما نابنا الخطب لم نكن / نضيق به صدرا وَلَم نك نجزع
وأنّا من الأحرار مهما تألبت / علينا عوادي الدهر لا نتضعضع
وأنّا إذا شئنا خضوعاً لسيد / فَلَيسَ إِلى شيءٍ سوى الحق نخضع
وأنا بنو قوم كرام أعزة / لهم من معاليهم رواق مرفَّع
إن اشتد أمر فادح بسموا له / كذاك النجوم الزهر في الليل تلمع
أودعهم وَالقَلب ممتلئٌ لهم / حناناً وَجفن العين بالدمع مترع
يشيعهم قَلبي يسير وَراءهم / وَقَلبهم يمشي وَرائي يشيع
هنالك أنفاس تصاعد نارها / يقابلها من أعين الصحب أدمع
يحيط بنا من كل صوب وَجانب / فريق من البوليس يسعى ويسرع
نُبَعَّد منفيين كلّاً لبلدة / وَما ذنبنا إلا نصائح تنفع
لَقَد كانَ في بَغداد للشؤم يأَمرُ
لَقَد كانَ في بَغداد للشؤم يأَمرُ / عَلى فرقة من فيلق الترك جعفرُ
وَكانَ له زوج وكان ركونُه / إليها كَثيراً فهي تنهى وَتأمر
تسمى زليخاً وَهيَ شمطاءُ فظةٌ / من الناس طراً بالقَساوة تذكر
وكانَ له منها فتاة جَميلةٌ / قَد اِشتَهَرَت واسم الجَميلةِ دلبر
وَجارية في بيته شركسيةٌ / تسمى سُليمى وَهيَ عَذراءُ معصر
مهفهفة رود كأن قوامها / قضيب من الليمون غضٌّ منوَّر
لها نظر كالسيف ماض غرارُهُ / وَوجه كمثل الزهر أَو هو أَزهر
تكاد بفرع طال منه غدائرٌ / ثلاثٌ إذا ما أَسبلتهنَّ تعثر
تَفوق عَلى بنت الأمير بحسنها / وأخلاقها فيما يقال وَيخبر
وَقَد جاءَ أن البنت دلبر نابها / عياء من الجدريّ بالمَوت ينذر
فأنشب فيها الداء أَظفار فتكه / وأعجز من قد كان في الطب يمهر
فَماتَت به في ميعة من شبابها / وَسيقت إلى حيث الأكابر تقبر
إلى حيث لا يرجى مآب لراحل / إليه وَهَل من مورد الموت مصدر
وإن الَّذي قاسَت زليخا من الأسى / عَلى دلبرٍ فوق الَّذي يُتصور
بكتها سليمى بالدموع غَزيرة / وَباتَ عليها قلبُها يتفطر
وَلكن بكاها المستمر لحزنها / عَلى دلبرٍ ما كانَ يُجدي وَيثمر
فإن زليخا كلما بصرت بها / أحست بنار في الجوانح تسعر
فتسخط إذ لا شيء يوجب سخطها / وَتشتمها في وجهها وَتحقِّر
وَترفسها من غير ذنب برجلها / وَتوجع ضرباً بالعصا وَهيَ تصبر
لَقَد أَشفق الخدامُ في القصر كلهم / عليها ولكن من عَلى المنع يجسر
أَبت أن تراها كل يوم جميلة / وَدلبر تبلى في التراب وَتدثر
تَموت بريعان الشَبيبة بنتُها / وَتَحيا سليمى في محاسن تكثر
تَقول أَلا لَيتَ المَنايا تجنبت / فَتاتيَ واحتلت بمن تتخير
وَلَيتَ المَنايا ما تخرَّمْنَ دلبراً / وَغلْنَ سليمى فهي بالموت أَجدَر
وَهَل ذنب هَذا الدهر إذ غال دلبراً / وأَبقى سليمى في الحَياة يُكفَّر
حَياة سليمى بعد ميتة دلبرٍ / من الدهر ذنبٌ فادح لَيسَ يغفر
فدى دلبراً بل ساعةً من حَياتها / كمثل سليمى أَلفُ بنتٍ وأكثر
وَظَنيَ أَنَّ الموت قد كانَ قاصِداً / سليمى فَقالَت إنني أنا دلبر
وَتلك سليمى وَهي تومي لدلبرٍ / فخذها ورح يا موت إنك تقهر
سليمى خدعت الموت حتى دللته / عَلى دلبرٍ إن الَّذي جئت منكر
سأجزيك شراً بِالَّذي قد عملته / من الشر إني يا سليمي لأقدر
أشوه وَجهاً طالَما بجماله / فتنت عيوناً نحو وجهك تنظر
فيصبح منك الوجه قد زالَ حسنه / جَميعاً وَمنه الناس أجمع تسخر
وَصاحَت بخدامٍ لديها فجندلوا / سليمى كشاةٍ بالقساوة تجزر
فقصت زليخا فرعها من أصوله / وَكانَ يَزور الأرض ساعة ينشر
وَنتفت الأهداب منها وحلَّقت / حواجبَ زجاً راق منهن منظر
سمعت عويلاً في دجى اللَيل راعني / وَعلَّ به روعَ الملائكِ أَكبر
فَساءلتُ ما هَذا العويل فقيل لي / فؤادٌ بإيقاع الأذى يتكسَّر
وَقَد كانَت الدار الَّتي نزلوا بها / عَلى دجلة حيث المياه تحدَّر
سليمى اِرتقَت في سطحها بعد هجعة / من الناس في الأطراف وَاللَيل مقمر
تفكِّر في اللَيل الَّذي ازدان جوه / بما فيه من نجمٍ يغيب وَيظهر
وإشراق وجه الماء بالبدر لامعاً / عليه من الأنوار ثوبٌ محبَّر
كأَنَّ الصبا ما أَولع النفس بالصبا / عَلى الماء آلافاً من الماس تنثر
رأَت كل شيء في الطَبيعة غيرها / جميلاً به تجلى العيون وَتبهر
وَلكنها دون الخَليقة كلها / من الوجه يُمحَى حسنُها وَيُغيَّر
أَأَهرب من وجه الرَزايا إِلى الفلا / إلى الغاب إن الغاب لا شك أستر
وَلكنني لا أَهتَدي لسَبيله / فهَل من دَليل لي لدى اللَه يؤجر
وَهب أن لي ذاكَ الدَليل وأنني / هربت فهَل يألو عَن البحث جعفر
إذا ظفرت بي عنده يد سيدي / فإن زليخا من عذابيَ تكثر
وأحسن منه اللوذ بالموت إنه / عَلى غيره عند الضَرورة يؤثر
فإن المَنايا لا يرجعنني إلى / زليخا وإن كانَت بذلك تأمر
أموت أَجل إني أَموت فَفي الردى / نَجاتي الَّتي ما زلت فيها أفكِّر
ألا أَيُّها البدر المنور إنني / سأبلى وَبَعدي هَكَذا أَنتَ تسفر
لأنت سَعيدٌ أيُّها البدر فالتمِعْ / كَما شئتَ لا زالَت بك الأَرض تزهر
فَما لزليخا أَيُّها البدر سلطة / عليك وَلا إن رقت يا بدر توتر
وَداعا فإني أَيُّها البدر لا ترع / إلى الموت من هَذا المَكان سأطفر
وَبعدئذٍ جازى الإلهُ بعدله / بيوتاً بإيقاع الجرائر تعمر
رمت نفسها في دجلة فاِختفت بها / كأن لم تكن شيئاً على الأرض يذكر
تفكرت في أَمر الحَياة فَما الَّذي / تعلمت منه أيها المتفكِّر
تَرى زهرة قد أعجب العين لونها / وفاح لها في الروض عَرفٌ معطر
تهب عليها الريح من بعد ساعة / فتسقط من أَوراقها وَتُبعثر
وَتبصر عصفوراً تزين ريشه / يغرد في عالي الغصون وَيصفر
فَيَلقاه صقر ذو مخالب أَجدَلٌ / فيخطفه من قبل ما هو يشعر
وَمِمّا يسلِّي النفس منيَ علمُها / بأن بقاء الشيء لا يتيسر
فيردى الَّذي قد كانَ للغير مردياً / وَيقهر من قد كانَ لِلناس يقهر
وَلَم تكن الأشياء تفنى وإنما / إلى صورة من صورة تتغير
شتاءٌ وَريحٌ في دجى اللَيل زعزعُ
شتاءٌ وَريحٌ في دجى اللَيل زعزعُ / يَكاد بها سقفُ المنازل يقلعُ
وَرعدٌ يصمُّ الأذْنَ صوتُ دويِّهِ / وَبرقُ سحابٍ بالتتابعِ يلمع
لَقَد حاربت بعض الطَبيعة بعضها / فَذال بها الأدنى وَصال المرفع
سماءٌ بداجي اللَيل قد ثار غيظُها / وأرضٌ بما فيها تئنُّ وَتجزع
لَقَد سمعت في ليلة مثل هذه / إلى الباب سُعدى أنه كان يقرع
فَقالَت وَمنها الخوف بادٍ لزوجها / نَديمُ وُقِيتَ الحادثاتِ أتسمع
فَقامَ وَسُعدى خلفه تسرعُ الخطى / إلى الباب يَسعى في الظلام وَيهرع
وَساءل من هَذا الَّذي جاءَ طارِقاً / بحالك ليلٍ كل ما فيه مفزع
أجيب أَن افتح يا نَديمُ فإننا / بأمر من الوالي أتيناك نسرع
وَسر معنا واحضر إليه معجّلاً / خطاك فَما في الوقت فضل يضيع
فَقالَ عَسى أن تمهلونيَ لَيلَتي / إلى صبحها فالليل داج مروع
فَقالوا له لا ريث في الأمر وَالَّذي / تعذرت يا هَذا به لَيسَ ينفع
فَقالَ لسعدى إنني بعد ساعة / إِلَيك فَلا تَخشي عليّ سأَرجع
وَسار عَلى ومض من البرق لامع / يصاحبهم وَالقَلب بالهم موجع
وَفكر طول الدرب في السبب الَّذي / دعاه إِلى الوالي وَلا شيء يقنع
تَرى هَل شَكاني من شرير أَو اِفتَرى / عدوٌّ بضري فارحٌ متمتع
عَلى كل حال فانتزاعي بليلة / تهول كهذي غير ما أتوقع
وأُدخِلَ في دار بها شُرَطٌ لها / رَئيسٌ علي كرسيِّه متربع
فباغته ذاكَ الرَئيس بقوله / لأَنْتَ إِلى فزّان تُنفى وَتُدفع
جزاءَ كلامٍ في الحكومة طاعنٍ / تَفوهُ به بين الأنامِ فيسمع
فجاوبه وَالقَلب للخوف واجفٌ / وَقالَ بصوتٍ راجفٍ يتقطّع
وَربِّك ما هَذا صحيحاً وإنه / لممّا اِفتَراه المرجفون وأبدعوا
وَلَو شئتَ أحضرت الشهود فربما / إذا أبصروا ما بي من الضر أَقلَعوا
ترفق فإني ذو عيال إذا خلا / مَكانيَ ماتوا في المَجاعَة أجمع
فَلي في مقر الدار زوج وأمها / وَطفل صَغير لَم يزل بعد يرضع
ترى أنني يا سيدي لست جازعاً / لِنَفسي وَلا للنفس تاللَه أضرع
فَقالَ له لا تكثرن فإنما / إرادة مَولانا بنفيك تقطع
فَأُركِبَ بعد السجن في الصبح بغلةً / تُساقُ حثيثاً وَهْوَ يَبكي وَيجزع
مَضت ساعةٌ من بعد أخرى مخوفةٌ / وَلكن نديمٌ لَيسَ لِلدار يرجع
فَزادَ الَّذي في قلب سُعدى من الأسى / عَلَيه وأمسى فكرها يتوزع
تَقول بإشفاق وَفي كل ساعة / إلى الباب من شباكها تتطلع
تأَخر يا أُماه بعد ذهابه / نديمٌ وإن الصبح قد كادَ يطلع
وَما طلب الوالي نَديماً وَما له / لعمرك في شأن الحكومة أُصبُع
وإن الَّذي ما زالَ في الكسب شغله / فَلَيسَ لأبواب السياسة يقرع
أَخاف عليه غدر أَعدائه به / ولست بما تسلين يا أم أقنع
وإن فؤادي أوه يا أم فاِعلمي / يكاد عليه بالأسى يتصدع
فَما ذاقَ طعم النوم للصبح عينها / ومن كانَ ينأى إلفه كيف يهجع
فَلما أَضاء الصبح جاء مخبراً / صديق من الجيران وَالعين تدمع
فأخبر سعدى أن قد استيق زوجها / لفزّان منفياً فَما فيه مطمع
فَصاحَت لِنَفسي الويل مِمّا أَصابَني / لَقَد كانَ واحرّاه ما كنت أَفزع
نأوا بنديمي البر عني فلَيتَني / فداء له مِمّا أصابوا وأَوقعوا
فَفي كل عضو لي أَذىً لفراقه / كأن عَلى جِسمي أراقم تلسع
وَلي بين أَحناء الضلوع لفقده / فؤاد بفورات الهموم مروَّع
تضم بتحنانٍ إلى الصدر طفلها / وَتَبكي كَما يَبكي الحزين المفجَّع
وَتسجع من حزن على فقد إلفها / نديمٍ كَما أنَّ الحَمامة تسجع
تصيح وَتدعو يا نديمُ وَقلبُها / يكاد لآلامٍ به يتقطع
أرى كل فتق سوف يرقع وَهيُهُ / وَلَيسَ عَلى الأيام وهيُكَ يرقع
فقدنا بك الأفراحَ وَالجاهَ وَالغنى / جَميعاً فأنف العيش بعدك أَجدع
قد استَسهَلوا نَفي امرئٍ وليسألوا / فؤادي عَن الهم الَّذي أَتجرَّع
فمن ذا وقد أَقصوك عنّا يعولنا / ومن ذا به عنا الطوارئ ندفع
لَقَد كنتَ لي زوجاً وخلاً محامياً / يرد صروف الدهر عني وَيُمنع
سألزم بيتي غير بارزة إلى / فضاءٍ فَلي في الدار مبكىً وَمجزع
تصاحبني في الدار أمي فإن أَبَت / يصاحبني فيها الأنين المرجع
عَلى أنَّني أَهوى الفضاء فإنه / إِذا ضاقَ صَدري بالهموم موسِّع
وأهوى كذاك الشمس فيه لأنها / عليك إذا ما جئت فزانَ تطلع
اذا هَبَّ أرواح النَسيم فإن لي / فؤاداً إلى مرآك يَصبو وَينزع
وَما سكني في الدار بعدك إنها / بِعَيني إذا لم تسكن الدار بلقع
وَلَو كنتُ آهٍ حاضِراً عند سيره / لكنت له بالدمع مني أشيِّع
يعز علينا أَن يَسير لغربة / نَديمٌ وَلا نَمشي إليه نودع
وَهَل نافعي تشييعه في رحيله / إذا كنت فيما بعد ذلك أرجع
وَلكنني أقتص آثار خطوه / وأَمشي وَراء الظاعنين وأتبع
أضم إلى صدري صَغيريَ واجِداً / وأسعى إلى فزان ركضاً وأهرع
نَعيش جميعاً فيه طول حَياتنا / وإن نابنا فقر هنالك مدقع
وَبَعدَ قَليل مرَّ من نفي زوجها / ألمت بها حمَّى تهد وَتصرع
فجنت بها واختل منها شعورها / زماناً إلى ان جاءَها الموت يسرع

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025