المجموع : 103
أتذكر أطلالاً تعفَّتْ وأرسُما
أتذكر أطلالاً تعفَّتْ وأرسُما / بذاتِ الفضا في الجزعِ مِنْ أَيمن الحمى
منازل أحباب بها نزلَ الهوى / فلم يُبقِ إلاَّ مدنف القلب مغرما
عرفنا الهوى من أين يأتي لأهله / بها والغرام العامريّ من الدمى
لئنْ أصبحت تلك المنازل باللوى / قصارى أمانيَّ الهوى فلطالما
وقفتُ عليها والهوى يستفزُّني / فأرسلتُ فيها الدمع فذًّا وتوأما
كأَنِّي على الجرعاء أوقفت عبرة / جرت بربوعِ المالكيَّة عَنْدَما
وما أسأر البين المشتُّ بقيَّةً / من الدمعِ إلاَّ كانَ ممتزجاً دما
فأصبحتُ أستسقي السحاب لأجلها / وما بلّ وبل السحب من مثلها ظما
خليليَّ إنَّ الحبَّ ما تعرفانه / خليليَّ لو شاهدتما لعلمتما
قفا بي على رسم لميَّة دارس / لكي تعلما من لوعَتي ما جهلتما
وإنْ لم تساعدني الجفونُ على البكا / بآثار ميٍّ فاسعداني أنتما
بعيشكما إنْ تبصراني برامة / فلنْ تبصرا إلاَّ فؤاداً متيَّما
وممَّا شجاني في الدجنة بارق / بكيت له من لوعتي فتبسَّما
سرى موهناً والليل كالفرع فاحم / فقلتُ أهذا ثغر سعدى توهما
وأورى حشا الظلماء كالوجد في الحشا / وكالقلب يا ظمياء لمَّا تضرَّما
وشوَّقني ثغراً ظمئتُ لوردِه / وهل أَشتكي إلاَّ إلى ورده الظما
شربتُ الحميَّا واللمى منه مرَّةً / فلم أدرِ ما فرق الحميَّا من اللمى
وعيشاً سلبناه بأسنمة النقا / وما كانَ ذاكَ العيش إلاَّ منمنما
رعى اللهُ أحباباً رعينا عهودهم / وعهداً وصلناه ولكن تصرَّما
وغانية من آل يعرب حكَّمَت / هواها بقلبي ضلَّةً فتحكما
أَحَلَّتْ مهاة الأبرق الفرد في الهوى / دماً كانَ من قبل الغرام مُحرَّما
وفي ذلك الوادي سوالب أنفسٍ / رمينَ بأحداق السوانح أسهما
وكم من فؤادٍ قد جرحن ولم نجد / لما جرحت سود النواظر مرهما
أرى البيض لا يرعين عهداً لعاشقٍ / وإن أوثق الصبُّ العهود وأبرما
وفي الناسِ مَن إنْ تبتليه وَجَدته / وقد كانَ شهداً في المذاقة علقما
وإنِّي نظرتُ الناس نظرة عارفٍ / وأبصرتهم خَلقاً وخُلقاً وميسما
فما أبصرتْ عيني كمحمود ماجداً / ولا كشهاب الدين بالعلم معلما
من السَّادة الغرّ الميامين ينتمي / إلى خيرِ خلق الله فرعاً ومنتمى
ولمَّا تعالى بالفضائل رفعة / تخيلته يبغي العروج إلى السما
هو الصارم الماضي على كلِّ ملحد / من الله لم يفلل ولن يتثلَّما
سل الفضلَ منه واسأل البرَّ تغتدي / بأفضل ما حدثت عن من تقدَّما
لقد ضاق صدر الهوى عن كتم فضله / فأظهره إذ كانَ سرًّا مكتما
بدت معجزات الحقّ حين ظهوره / فأعجز فيها المبطلين وأفحما
إذا المطْعن المقدام شامَ يَراعَه / لما ظنَّه إلاَّ وشيجاً مقوَّما
وينشق من ظلماء ليلِ مداده / صباح هدًى لا يترك الليل مظلما
له الكتب ما أبقت من الغيّ باقياً / ولا تركت أمراً من الدين مبهما
وما هو إلاَّ رحمة الله للورى / به ينقذ الله الأنام من العمى
فلو حققت عين الحقيقة ذاته / لقلنا هو النور الذي قد تجسما
كريمٌ فما أعطى ليُمدح بالندى / ولكنه يعطي الجزيلَ تكرّما
مواطر أيديه المواطر دونها / تهاطل إحساناً وتمطرُ أنعما
وهيهات يحكيك السحاب وإن همى / نوالاً وفيض البحر علماً وإن ظمى
نراك بعين النقد أفضل من نرى / ولم نرَ أندى منك كفًّا وأَكرما
وأقسمت لو أثريتَ أَو نلت ثروةً / لما تركت جدواك في الأرض معدما
علومك ما حِيزتْ لشخصٍ جميعها / فهل كانَ ذاكَ العلم منك تعلما
حويت علوم الدِّين علماً بأسرها / وأصبحت للعلم اللَّدُنيّ ملهما
تُشيِّد دين الله بالعلم والتقى / ولو لم يشيِّده علاك تهدّما
حميت حدود الله عن متجاوزٍ / فلم نخشَ من خرقٍ وأنتَ لها حمَى
وإنَّ الذي أعطاكَ ما أنتَ أهله / أنالَكَ شأناً لا يزال معظَّما
فنلْ أجرَ هذا الصَّوم واهنأ بعيده / ورمْ مجدعاً أنفَ الحسود ومرغما
وإنِّي منى أدعُ لمجدك بالبقا / دعوتُ لنفسي أن أعزَّ وأكرما
فلا زلت فخر المسلمين وعزّها / ألا فليفاخر فيك من كانَ مسلما
بلغتُ بحمد الله ما أنا طالبُ
بلغتُ بحمد الله ما أنا طالبُ / زماناً وهنَّتني لديكَ المطالبُ
فأصبحتُ لا أرجو سوى ما رجوتهُ / مراماً وما لي في سواكَ مآربُ
وقد كنت من غيظي على الدهر عاتباً / فما أنا في شيءٍ على الدهر عاتبُ
لئن كانَ قبلَ اليوم والأمس مُذنباً / فقد جاءَني من ذنبه وهو تائبُ
وجدتُ بك الأيام مولاي طلقةً / وسالمني فيك الزمان المحاربُ
وقد شِمتُ من جدواكَ لي كلَّ بارقٍ / ونوؤك مرجوٌّ وغيثُك ساكبُ
فلا الأملُ الأقصى البعيدُ بنازحٍ / لديَّ ولا وجهُ المطالب شاحبُ
وهل تنجح الآمالُ وهي قصيَّة / وتبلغُ إلاَّ في نداكَ الرغائبُ
لقد حَسُنَتْ فيك الرعيَّة بعدما / أساءَت إليها بالخطوب النوائبُ
وألهمتها فيما تصدَّيتَ رشدَها / ألا إنَّ هذا الرشدَ للخير جالبُ
كففتَ يدَ الأشرار من كلِّ وجهةٍ / فلا ثمَّ منهوبٍ ولا ثمَّ ناهبُ
ومن لوزير قلَّد الأمر ربَّه / نظيرك شيخاً حنكته التجاربُ
بصيرٌ بتدبير الأمور وعارفٌ / بمبدئِها ماذا تكون العواقب
أذلَّ بكَ الأخطارَ وهي عزيزة / فهانتْ عليه في علاك المصاعب
تريه صباح الرأي والأمر مُبهم / فتنجاب من ليلِ الخطوب الغياهبُ
ألَنْتَ له في قسوة البأس جانباً / فلانَ له في قسوة البأس جانبُ
فأصبح لم يعرض عن الناس لطفه / ويحضر فيهم بأسه وهو غائبُ
وبأسكَ لا البيض الصوارم والقنا / وجودك لا ما تستهلُّ السحائبُ
وما زلت حتَّى يدرك المجد ثأرَهُ / وتُشْرِقُ في آفاقهنَّ المناقبُ
بأيديك سحرُ الخطّ لا الخطّ تنثني / فتثني عليها المرهفات القواضبُ
تخرُّ لك الأقلام في الطرسِ سُجَّداً / لما أنتَ تمليه وما أنتَ كاتبُ
إذا شئت كانت في العداة كتايباً / وهيهات منها إذ تصولُ الكتايبُ
تقرّط آذان الرجال بحكمةٍ / حكتها اللئالي رونقاً أو تقاربُ
متى أفرِغتْ في قالب الفكر زيَّنتْ / وزانت من الألباب تلك القوالب
بهنَّ غذاء للعقولِ وشِرْعَةٌ / تسوغ وتصفو عندهنَّ المشاربُ
تصرَّفتَ في حلوِ الكلام ومرِّهِ / فأنتَ مُجِدٌّ كيف شئتَ ولاعبُ
ذَهَبْتَ بكلٍّ منهما كلَّ مذهب / ذهاباً وما ضاقت عليك المذاهبُ
فمن ذكر وجدٍ يسلب المرءَ لبَّه / على مثله دمع المتيَّم ذائبُ
ومن غَزَلٍ عَذب كأنَّ بُيُوته / مسارحُ آرام النقا وملاعبُ
وفي الباقيات الصالحات مثوبة / من الله ما يبدو من الشمس حاجبُ
دَمَغْتَ بها من آل حربٍ عصابةً / تناقشهم في صنعهم وتحاسبُ
تناقَلَها الركبانُ عنك فأَصبحت / تُجابُ بها أرض وتطوى سباسبُ
مغيظاً من القوم الذين تقدَّمت / لهم في المخازي الموبقات مكاسبُ
غضبت بها لله غير مَداهنٍ / وغيركَ يخشى كاشحاً ويراقبُ
مواهب من ربٍّ كريمٍ رُزِقْتَها / وما هذه الأشياء إلاَّ مواهبُ
أروح أجرُّ الذيل أسحب فضله / وإنِّي لأذيال الفخار لساحبُ
بمن لم يقم في الأكرمين مقامه / ولا نابَ عنه في الحقيقة نائبُ
فقد وجدت بغداد والناس راحةً / وقد أَتْعَبَتْها قبل ذاكَ المتاعبُ
قضى عمري طال في العزِّ عمره / أقاربه مسرورة والأجانبُ
وإن قلتُ ما جاء العراق ولا نرى / نظيراً له فينا فما أنا كاذبُ
بنادرة الدُّنيا وفرحةِ أهلها / أضاءَت لنا أقطارها والجوانبُ
أمولاي ما عندي إليك وسيلة / تقرّبني زلفى وإنِّي لراغبُ
محاسنُ شعري ما إذا أنا قستها / بشعرك والإِنصاف فهي مثالبُ
وإنِّي مع الإِطناب فيك مقصِّرٌ / وإن كانَ شعري فيك ممَّا يناسبُ
أهنِّيكَ فيه مَنصِباً أنت فوقَه / بمرتبة لو أنصفتك المراتبُ
فإنَّك شرَّفتَ المناصبَ كلَّها / وما أنتَ ممَّن شرَّفَتْهُ المناصبُ
وَهَنَّيْت نفسي والعراق وأهلَهُ / وكلَّ امرئ أهل لذاك وصاحبُ
وزفَّت إليه كلَّ عذراء باكرٍ / كما زفَّت البيضُ الحسانُ الكواعبُ
قوافٍ بها نشفي الصدورَ وربَّما / تَدبُّ إلى الحسَّاد منها عقاربُ
شكرتُكَ شكر الروض باكره الحيا / وشكرك مفروض ومدحك واجبُ
وليسَ يفي شعري لشكرك حقَّهُ / ولو نُظمتْ للشعر فيك الكواكبُ
وممَّا حباهُ الله من طيِّب الثنا / مشارقها مملوءة والمغاربُ
وكلِّي ثناء في علاك وألسن / إذا كنت ممدوحي وأنت المخاطبُ
وإنِّي لأبدي حاجةً قد حجبتُها / إليك وما بيني وبينك حاجبُ
سواي يروم المالَ مكترثاً به / ويرغبُ في غير الذي أنا راغبُ
وإنَّك أدرى الناس فيما أريده / وأعلمهم فيما له أنا طالبُ
وكيف وهل يخفى وعلمك سابق / بمطلبي الأسنى وفكرك ثاقبُ
فلا زلتَ طلاَّع الثنايا ولم تزلْ / تطالعني منك النجوم الغواربُ
بوادي الغضا للمالكية أرْبُعُ
بوادي الغضا للمالكية أرْبُعُ / سقتها الحيا منَّا جفونٌ وأدْمُعُ
ومرتبع قد كانَ للريم ملعباً / على أنَّه للضيغم الوَردِ مصرع
يقطّع فيها مهجة الصب شوقاً / وما الشَّوق إلاَّ مهجة تتقطَّع
حَبَسْتُ بها صَحْباً كأَنَّ قلوبهم / من الشَّوق في تلك المنازل تُخْلَعُ
على مثل معوج الحنيَّة ضُمَّر / نبوع بها البيد القفار ونذرع
تحنُّ إلى أعلام سلعٍ ولعلع / لقد فتكت بالحبّ سلع ولعلع
كأنْ فُصِدَتْ من أخدعيها وما جرى / لها بدمٍ قان هنالك أخدع
وما هي إلاَّ عبرة دمويَّة / يجودُ بها في ذلك الربع مدمع
فحيَّت رسوم الدَّار وهي دوارس / جفون بما تسقى بها الدَّار تترع
كأَنَّ مطيَّ الركب في الشعب أصبحتْ / لها عند ذاك الشعب قلب مضيَّع
نريك بها من شدَّة الوجد ما بنا / فكلٌّ له منَّا فؤاد مُروَّع
ولما نزلنا ليلة الخيف بالنقا / وفاضت على أطلال رامة أدمع
بحيث الهوى يستنزف العين ماءها / ويستهتر الصبر الذي لا يرقّع
ذكرنا بها أيَّان لهو كأَنَّها / عقيلة مال المرء بل هي أنفع
وبتنا وأسياف من الشهب في الدجى / تُسَلُّ وزنجيّ الظلام يجدع
تحرّك ذات الطوق وجدي وطالما / تبيت على فينانة البان تسجع
تردد والأَشجان ملءُ حديثها / قديم الهوى من أهله وترجع
وما ساءها بالبين ركبٌ مقوَّضٌ / ولا راعها يوماً خليطٌ مودع
فهل أنت مثلي قد أضرَّ بك الهوى / وهل لك قلب لا أبالك موجع
لئن نشرت طيّ الغرام الذي لها / فقد طُوِيَتْ منِّي على الوجدِ أضلع
بنفسي من الجانبين بالطرف جانباً / له شافع من حسنه ومشفع
يجرِّعني ما لم أذقه من النوى / إلاَّ من حميّا الوجد ما أتجرَّع
بذلت له من أدمع كنت صنتها / ذخائرها وهو الحبيب الممتع
ويا ربَّما أدميت طرفي بوامضٍ / من البرق في الظلماء يخفى ويلمعُ
وقلتُ لسعد حين أنكر لوعتي / عداك الهوى إنِّي بظمياء مولعُ
تولَّت لنا أيام جمع وأقلعت / فلم يبقَ في اللَّذَّات يا سعد مطمع
وأصبح بالحيِّ العراقي ناعباً / غرابٌ بصرف البين للبين أبقع
وغابت بدور الظاعنين عشيَّةً / بأنضاء أسفارٍ تخبّ وتوضع
أراني مقيماً بالعراق على ظما / ولا منهل للظامئين ومرتع
وكيف بورد الماء والماء آجن / يُبَلُّ به هذا الغليل وينقع
لعلَّ وما تجدي لعلَّ ورُبَّما / غمائم غمّ أطبقت تتقشع
يعود زمان مرَّ حلوُ مذاقه / وشمل أحبَّائي كما كانَ يجمع
فقد كنتُ لا أعطي الحوادث مقودي / وإنِّي لريب الدهر لا أتوجَّع
كأنِّي صفاةٌ زادها الدهر قسوةً / من الصم لا تبلى ولا تتصدَّعُ
فسالمتُ حرب النائبات فلم تزلْ / تقودُ زمامي حيث شاءت فأتبع
وكنت إذا طاشت سهام قسيّها / وقتني الردى من صنع داوود أدرع
فمن جوده إنِّي رُبِيتُ بجوده / وزير له الإِحسان والجود أجمعُ
وَرَدَّ شموس الفضل بعد غروبها / كما ردَّها من قبل ذلك يوشع
وقام له في كلِّ منبر مدحة / خطيب من الأَقلام بالفضل مصقع
ومستودع علم النبيِّين صدره / ولله سرٌّ في معاليه مودعُ
كأَنَّ ضياء الشمس فوقَ جبينه / على وجهه النور الإِلهي يسطعُ
وزير ومر الحادثات يزيده / ثباتاً وحلماً فهو إذا ذاك أروع
إذا ضعضعَ الخطب الجبال فاًنَّه / هو الجبل الطود الذي لا يضعضعُ
عرانينه قد تشمخر إلى العُلى / أشمُّ إلى الأَعلام في المجد أفرعُ
أمدَّ على قطر العراقين ظلّه / إذا عصفت في الملك نكباء زعزعُ
ويُقْدِمُ حيث الأسد تحجم رهبةً / ويسطو وأطراف المنيَّة شرع
يمدُّ يداً طولى إلى ما يرومه / فتقصر أبواعٌ طوالٌ وأذرعُ
إذا ذَكَرَ الجبَّارُ شدَّةَ بأسِه / يلين لمن يلقاه منه ويخضعُ
لقد سارَ من لا زال ينهل قطره / سحاب عن الزوراء بالجود مقلع
فما سالَ يوماً بعد جدواه أبطحٌ / بسيب ولن تسقى من الغيث أجرعُ
ولا مرَّ فيها غير طيب ثنائه / أريج شذًى من طيِّب المسك أضوعُ
ولا عمرت في غير أنواع مدحه / بيوت على أيدي الفضائل ترفعُ
أبا حسن هل أوبةٌ بعد غيبةٍ / فللبدر في الدُّنيا مغيب ومطلعُ
لئن خَلِيَتْ منك البلاد التي خلت / فلم يخل من ذكرى جميلك موضعُ
ففي كلِّ أرض من أياديك ديمة / وروض إذا ما أجدى الناس ممرعُ
يفيض الندى من راحتيك وإنَّها / حياضٌ بنو الآمال منهنَّ تكرعُ
وإنِّي على خصب الزمان وجدبه / إليك وإن شطَّ المزار لأهرعُ
ولو أنَّني وُفِّقتُ للخير أصبحت / نياقي بأرض الروم تخدي وتسرع
إلى مالكٍ ما عن مكارمه غنًى / وغير ندى كفَّيه لا أتوقَّعُ
فألثم أقدام الوزير التي لها / إلى غاية الغايات ممشًى ومهيع
وأُثني عليه بالَّذي هو أهله / وأُنْشِدُهُ ما قلتُ فيه ويسمعُ
أسيرُ وقد جازت بنا غاية السُّرى
أسيرُ وقد جازت بنا غاية السُّرى / ولاحت خيام للحمى وقبابُ
سوابحُ في بحر السراب كأنها / بغارب أمواج السراب حباب
تحنّ إلى أيام سلعٍ ورامةٍ / وما دونها في السالفات قراب
إذا خوطبت في ذكر أيامها الألى / ثناها إلى الوجد التليد خطاب
كأن حشاها من وراء ضلوعها / تقاطر من أجفانها وتذاب
وعاتبت الأيام فيما قضت به / وهل نافع منك الفؤاد عتاب
إلى الشيخ عبد القادر العيس يمَّمت / فتمَّ لها أجر وحق ثواب
وما لسوى آل النبيّ محمّدٍ / تحثّ المطايا أو يناخ ركاب
كأنَّ شعاع النور من حضراتهم / تشق حشا الظلماء فهي حراب
عليها من الأنوار ما يبهر النهى / وينصل فيها للظلام خضاب
يراها بعيني رأسه كل ناظر / وما دونها للناظرين حجاب
فلله قبر ضمّ أشرفَ راقدٍ / لديه كما ضم الحسام قراب
جناب مريع عظم الله شأنه / فجلَّ له قدر وعز جناب
تصاغر كبَّار الملوك جميعها / بحضرة باز الله فهي ذباب
ويستحقر الجبار إذ ذاك نفسه / فيرجو إذا ما راعه ويهاب
قصدناك والعافون أنت ملاذهم / وما قصدوا يوماً علاك وخابوا
تلين الرزايا في حماك وإن قست / وكم لان منها في حماك صلاب
بك اليوم أشياخ كبار تضرعوا / إلى الله فيما نابهم وأنابوا
على فطرة الإسلام شبت وشيَّبت / مفارقهم سود الخطوب فتابوا
قد استعبرت أجفانهم منك هيبة / ومالت لهم عند الضريح رقاب
يمدون أيدي المستميح من الندى / وما غير إعطاء المرام جواب
تُنال بك الآمال وهي بعيدة / وتقضى بك الآمال وهي صعاب
وأنَّى لنا يا أيها الشيخ جيئة / إلى بابك العالي وليس ذهاب
إلى أن ترينا الخطب منفصم العرى / وللأمن من بعد النزوح إياب
وحتى نرى فيما نرى قد تقشعت / غيوم غموم واضمحل ضباب
إلام نعاني غصةً بعد غصةٍ / ونرمى بأسهام الأذى ونصاب
أبا صالح قد أفسد الدهر أمرنا / وضاقت علينا في الخطوب رحابُ
وتالله ما ننفكّ نستجلب الرضى / علينا من الأيام وهي غضاب
وتعدو كما تعدو الذئاب صروفها / علينا وأحداث الزمان ذئاب
وإنا لفي دهر تسافل بعدما / أقيم مقام الرأس فيه ذناب
فوا عجباً مما نراه بجيله / وأكثر أحوال الزمان عجاب
يذاد عن الماء النمير ابن حرة / وللنذل فيها مورد وشراب
وتعلو على أعلى الرجال أراذل / وتسطو على ليث العرين كلاب
فلا خير في هذي الحياة فإنها / عقاب وما لا تشتهيه عقاب
حياة لأبناء اللئام وجودها / نعيم وللحر الكريم عذاب
إلى الله مما نابنا أيّ مشتكى / ولله ما نُرمى به ونصاب
إذا ما مضى عنا مصاب أهالَنا / دهانا مصاب بعده ومصاب
وأحداثُ أيام تشبُّ ولم تَشِبْ / كأن لم يكن قبل المشيب شباب
تَشُنُّ علينا غارة بعد غارة / فنحن إذاً غُنمٌ لها ونهاب
فيا آل بيت الوحي دعوة ضارع / إلى الله يدعو ربه ويجاب
صلاح ولاة الأمر إن صلاحهم / يعود علينا والفساد خراب
بحيث إذا راموا الإساءة أقلعوا / أو اجتهدوا فيما يَسُرُّ أصابوا
مواردكم للحائمين كأنها / موارد من قطر الغمام عذاب
وهل ينبغي الظمآن من غير فضلكم / وُروداً وماء الباخلين سراب
نعفّر منا أوجهاً في صعيدكم / عليهنّ من صبغ المشيب نقاب
فلا دونكم للقاصدين مقاصد / ولا بعدكم للطالبين طلاب
مفاتيح للجدوى مصابيح للهدى / فأيديكم في العالمين رغاب
بكم يرزق الله العباد وفيكم / تنزَّل من رب السماء كتاب
وأنتم لنا في هذه الدار رحمة / إذا مسَّنا فيها أذىً وعذاب
ومن بعد هذا أنتم شفعاؤنا / إذ كانت الأخرى وقام حساب
لأعتابكم تزجى المطي ضوامراً / وتطوى فلاة قفرة ويباب
إذا كنتم باب الرجاء لطالب / فما سد من دون المطالب باب
رُمينا بأدهى المعضلات النوائب
رُمينا بأدهى المعضلات النوائب / وفقدُ الذي نرجو أجلُّ المصائب
وغائب قوم لا يرجّى إيابه / وما غائب تحت التراب بآيب
نؤمِّل في الدنيا حياةً هنيَّةً / وما نحن إلاَّ عرضة للمصائب
ونَغْتَرُّ في برق المنى وهو خُلَّبُ / وهيهات ما في الآل ماءٌ لشارب
نصدّقُ آمالاً محالاً بلوغها / ومن أعجب الأشياء تصديق كاذب
تسالِمُنا الأيام والقصد حَرْبُنا / وما هي إلاَّ خدعة من محارب
ونطمع أن تبقى ويبقى نعيمُها / فلم يبق منها غير حسرة خائب
فلا تحسبنّ الدهر يوفي بعهده / أبى الله أن يرعى ذماراً لصاحب
وإنَّ الليالي لا تدوم بحالة / وهل تترك الأحداث كسباً لكاسب
يروقك منها ما يسوؤك أمرها / وإنَّ الردى ما راق من حد قاضب
وجود الفتى نفس الحمام لنفسه / فلولاه لم يسلك سبيل المعاطب
وتسعى به أنفاسُه لحمامه / وكم أصبح المطلوب يسعى لطالب
كأنَّا من الآجال وهي كواسر / من الأسد الضرغام بين المخالب
ولا يدفعُ السيفُ المنيَّةَ والقنا / وتمضي سيوف الله من غير ضارب
وكلٌّ لمطلوب الردى وهو لاعب / كأنَّ المنايا لا تجدُّ بلاعب
فمن لفؤاد راعه فقد إلْفِهِ / فأصبح من أشجان نهب ناهب
وجفن يهلُّ الدمع من عبراته / على طيّب الأعراق وابن الأطايب
على عمر الرماضان ذي الفضل والنهى / أحاطت بي الأحزان من كلِّ جانب
أذَبْتُ عليه يوم مات حشاشتي / وأمسيت في قلبٍ من الحزن ذائب
بكيت وما يجدي الحزين بكاؤه / وضاقت علينا الأرض ذات المناكب
فتىً كانَ فينا حاضراً كلَّ نكبة / فغاب ولكن ذكره غير غائب
تذكّرُني آثاره بفعاله / فأبكي عليها بالدموع السواكب
صبور على البلوى غيور إذا انتخى / جميل السجايا الشمِّ جمّ المناقب
وما زال بالآداب والفضل مُفْعَماً / ولكنَّه إذ ذاك صفر المصائب
وقد كانَ مثل الشهد يحلو وتارة / لكالصلِّ نَفَّاثاً سموم العقارب
وكم أخبر التجريبُ عن كنه حاله / ويَظْهَرُ كَنهُ المرء عند التجارب
لسان كحدّ السيف ماضٍ غرارُه / وأمضى كلاماً من شفار القواضب
وكم صاغ من تبر القريض جمانة / وأفرغ معناها بأحسن قالب
وزانت قوافيه من الفضل أفْقه / فكانت كأمثال النجوم الثواقب
وأدرك فضلَ الأوَّلين بما أتى / فقصَّر عن إدراكه كلُّ طالب
معانٍ بنظم الشعر كانَ يرومها / أدقّ إذا فكرت من خصر كاعب
لوى ساعد المجد المنون من الورى / بموت أشمٍّ من لؤي بن غالب
فتىً كانَ يصميني الرَّدى في حياته / ولما توفيّ كانَ أدهى مصائبي
فتىً ظَلت أبكي منه حيًّا وميّتاً / أصبْتُ على الحالين منه بصائب
رَعَيْتُ له من صحبة كلَّ واجب / ولو أن حيًّا ما رعى بعض واجبي
سقى الله قبراً مزنة الحيا / وبُلّغَ في الجنَّات أعلى المراتب
ولا زال ذاك القبر ما ذَرَّ شارق / تجود عليه ذاريات السحائب
ألا يا شهاب الدِّين صبراً على الأسى / وليس يهون الصعب عند الصعائب
نعزيك بالقربى على كل حالة / وفي عزّ ربّ المجد عزّ الأقارب
فإنك أرعى من عليها مودة / وإنك أوفى ذمةً للمصاحب
وإنك ممن يهتدى بعلومه / كما يهتدي الساري بضوء الكواكب
عن البحر عن كفيك نروي عجائباً / ولا حَرَجٌ فالبحر مأوى العجائب
إذا كنتَ موجوداً فكلّي مطامع / ونيل الثريا من أقلِّ مآربي
أهاج الجوى برقاً أغارَ وأنجدا
أهاج الجوى برقاً أغارَ وأنجدا / أرَقْتُ عليه الدمع مثنًى وموحدا
وبتُّ وفي قلبي لهيبٌ كنارِهِ / تضرَّمَ في جنح الدُّجى وتوقَّدا
تذود الكرى عن مقلتي عبراتها / فتشرق فيها العين والقلب في صدى
فكيف وكم لي زفرة بعد زفرة / تثيّر منِّي فضَّة الدمع عسجدا
أحاول من سَلمى زيارة طيفها / وأنَّى يزور الطَّيف جفناً مسهَّدا
وما أطولَ الليلَ الذي لم تصل به / كأنْ جعلت ليل المتيَّم سرمدا
إلامَ أداري لوعتي غير صابر / وتمنعني يا وَجْدُ أن أتجلَّدا
أما آن للنار الَّتي في جوانحي / من الوجد يوماً أن تَقَرَّ وتخمدا
ولو كانَ غير الوجد يقدح زنده / بأحشاي من تذكار ظمياء أصلد
وما هو إلاَّ من سنا بارق بدا / أقام له هذا الفؤاد وأقعدا
يذكرني تبسام سُعدى فلم أجد / على الوجد إلاَّ مدمع العين مسعدا
وأيامنا الَّلاتي مَرَرْنا حوالياً / بعقد اجتماع الشَّمل حتَّى تبدَّدا
ولله هاتيك المواقيت إنَّها / مضتْ طرباً فالعمر من بعدها سدى
ورَدْنا بها ماءَ المودَّة صافياً / وكنَّا رعينا العيشَ إذ ذاك أرغدا
شربنا نمير الماء عن ثغرِ العس / غداة اجتنينا الورد من خدّ أغيدا
وما كانَ عهدُ الخَيف إلى صبايةً / فيا جاده عهد المواطر بالجدا
وصبَّتْ عليه الغاديات ذنوبها / وأبرقَ فيها حيثُ شاءَ وأرعدا
وساقَ إلى تلك المنازل باللّوى / من المُزن ما ليستْ تميلُ إلى الحدا
تجعجع مثل الفحل هاج وكلَّما / أُريعَ بضرب السَّوْط أرغى وأزبدا
فحيّى رسوم الدار وهي دوارسٌ / إلى أن تراها العين مخضلّة النَّدى
على الدار أنْ تستوقف الركب ساعةً / بها وعلى الأَحزان أن تتجدَّدا
وليل كأَنَّ الشُّهب في أخرياته / تمزّق جلباباً من اللَّيل أسودا
كأَنّي أرى الآفاق في حالك الدُّجى / تذرّ به في مقلة النجم إثمدا
هصرت به غصناً من البان يانعاً / وقلتُ لذات الخال روحي لك الفدا
يلين إلى حلو الشمائل جانبي / على أنَّني ما زلتُ في الخطب جلمدا
تقلّد أجياد الكرام قلائدي / وتكسو لئيم القوم خزياً مؤبَّدا
وإنِّي متى ما شئتُ أن أنل الغنى / وأبلغ آمالي مدحت محمَّدا
فتًى من قريش لم تجد ما يسرّه / سوى أنْ تراه باسطاً للندى يدا
تودّد بالحسنى إلى كلِّ آملٍ / وشأن كرمِ النفس أن يتودَّدا
إذا جئته مسترفداً نيل برّه / أنال وأولاك الجميلَ وأرفدا
فلو أنَّني خُيِّرت بالجود مورداً / لما اخترت إلاَّ جود كفَّيْهِ موردا
وما كانَ قطر المُزن يوماً على الظما / بأمرا نميراً من نداه وأبردا
وما زال يسعى سعيَ آبائه الأُلى / مفاتيح للجدوى مصابيح للهدى
فأضحى بحمدِ الله لمَّا اقتدى بهم / لمن شمل الدِّين الحنيفي مقتدى
وما كانَ إلاَّ مثل ما صارَ بعدَها / وما ضرَّ قدرَ العضب إنْ كانَ مُغْمَدا
وهب أنَّ هذا البدر يحكيه بالسنا / فمن أينَ يحكيه نجاراً ومحتِدا
تنقَّل في أوج المعالي منزلاً / وشاهد في كلٍّ من الأمر مشهدا
فما اختار إلاَّ منزل العزِّ منزلاً / ولا اختار إلاَّ مقعد المجد مقعدا
له الله مسعود الجناب مؤيّداً / زجرت إليه طائر اليمن أسعدا
يساعدني فيما أرومُ بلوغه / إذا لم يكن لي ساعد الدهر مسعدا
وجرّدت منه المشرفيَّة ولم يزلْ / على عاتق الأيام عضباً مجرّدا
فتى هاشم قد ساجد بالجود والنَّدى / فيا سيِّداً لا زالَ بالفضلِ سيِّدا
لكَ الهمَّة العلياء في كلِّ مطلبٍ / فلو كنت سيفاً كنت سيفاً مهنَّدا
أبى الله إلاَّ أنْ تُسَرَّ بك العُلى / وتحظى بها حتَّى تغيظ بها العدى
بلغت الأَماني عارفاً بحقوقها / فأرغمت آنافاً وأكبتَّ حُسَّدا
وصيَّرتني بالرقّ فيما أنلتني / وقد تصبح الأَحرار بالفضلِ أعْبُدا
فما راح من والاك إلاَّ منعّماً / ولا عاشَ من عاداك إلاَّ منكدا
وهذا لساني مطلق لك بالثنا / عليك وفي نعماك أمسى مقيَّدا
يصوغ لك المدح الَّذي طاب نشره / يخلّد فيك الذكر فيمن تخلّدا
فمن ثمَّ أقلامي إذا ما ذكرتها / تخرُّ له في صفحة الطرس سجّدا
مناقب إحسانٍ حسانٌ ضوامِنٌ / لعلياك أن تثني عليك وتحمدا
فدتك الأَعادي من كريمٍ مهذَّبٍ / غزارٍ أياديه وقلّ لك الفدا
نُصِرْتُ على خصمي به ولطالما / خذلت به خصمي علاءً وسؤددا
وأرغمتُ أنف الحاسدين بمجده / فلا زالَ في المجد العزيز الممجَّدا
إذا المجدُ شادته القنا والصوارمُ
إذا المجدُ شادته القنا والصوارمُ / وقامت به بالمكرمات دعائمُ
فثمَّ المعالي والرياسة والعلى / نوالٌ وإقدامٌ ورمحٌ وصارم
وليس يسود المرءُ إلاَّ بنفسه / وإن نجبت فيه أُصولٌ أكارم
ولا حرَّ إلاَّ والزَّمان كما أرى / يحاربه طوراً وطوراً يسالم
شديدٌ على الأيام يقسو إذا قستْ / وإنْ عَبست أيَّامهُ فهو باسم
أخو الحزم يقظان البصيرة لم تنم / له أعينٌ والجاهل الغمر نائم
ذرّ اللَّوم إنِّي بالمعالي متيَّمٌ / وإن لامني فيها على الحبِّ لائم
تركت الهوى بعد المشيب لأهله / وراجعني حلم لسَلمى يصارم
وما أنْسَ لا أنسى زماناً قضيته / وعود الصبا ريَّان والعيش ناعم
أشيمُ به برق الثنايا وأصطلي / سنا نار كأس والحبيب ملائم
طروقاً إلى من كنتُ أهوى بليلةٍ / كأَنَّ دجاها عارض متراكم
بحيث المواضي والأَسنَّة شرَّعٌ / وموج المنايا حوله متلاطم
إذا زأرَ الليث الهزبر بحيّة / يجاوبه ريم من السرب باغم
واسمرَّ نفَّاث المنون سنانه / كما نفث السمَّ الزعاف الأَراقم
يسامرني إذ لا سمير اعتقلته / وجنح الدُّجى في مهلك البيد فاحم
وعانقني ما نمت عضب مهنَّد / من البيض لا البيض الحسان النواعم
ولي من رياض القول كلّ حديقة / زها ناظم فيها وأعْجَب ناظم
سقتها يد من ناصر فتفتَّحت / بنوَّار أزهار الكلام كمائم
تترجم عن إحسانه وجميله / فيا حسنَ ما أبدته تلك التراجم
بمتّخذ زرق الأَسنَّة سلَّماً / على المجد والسّحر العوالي سلالم
من العالم العلويّ نفساً وهمَّة / رفيع المباني والأنام دعائم
رزقت من النعماء أرفع سؤدد / من العزّ ما تنحطّ عنها النعائم
فأرغمت آنافاً وأكبتَّ حسَّداً / لأنف الأَعادي حدّ سيفك راغم
أبا فالح سُدْتَ الأُمور بحكمةٍ / وأنت خبيرٌ بالسِّياسة عالم
ورأي يريك الأمر قبل وقوعه / فما ريع ذو لبّ من الأَمر حازم
أمستعصمَ الملهوف ممَّا ينوبه / لك الله من شرّ النوائب عاصم
وترعاك من عين الإِله عناية / تصاحب من صاحبته وتسالم
فمن ناله منك الرضا هو رابحٌ / ومن فاته منك الرضا فهو نادم
رفعت منار المجد فيها وحلَّقت / خوافٍ إلى جوِّ العُلى وقوادم
إليك انتهى الفعل الجميل بأسره / وما تنتهي إلاَّ إليك المكارم
مكارم ترتاح النفوس لذكرها / وفيها الغنى يرجى ومنها الغنائم
غياث غوث كلَّما انهلَّ ساجم / تتابع في آثارها منك ساجم
يميزك الإِقدام والبأس والندى / وما تستوي أُسْدُ الشرى والبهائم
وما قَعَدت عمَّا أمرتَ قبيلةٌ / وأنت عليها بالمهنَّد قائم
وإنَّك لو دمَّرت قوماً بذنبهم / فإنَّك مأمورٌ وما أنتَ آثم
لقد أعرَبتْ عنك الصوارم والقنا / وقد أفصحت شكراً وهنَّ أعاجم
وقد ترجمت عن طول باعك في الوغى / وشاعت وذاعت عنك تلك التراجم
فيا لك من يشقى لديه عدوّه / لك السعد والإِقبال عبد وخادم
وكم لك ما بين الخميسين وقفة / وقد أحجمت عنها الأُسود الضراغم
وردت المنايا والسّيوف مناهل / وما لك في ذاك الورود مزاحم
تركت بها القتلى تمجّ دماؤها / وللطير منها والوحوش ولائم
فللأرض من تلك الدّماء مشارب / وللوحش من تلك اللّحوم مطاعم
بطشت بمن يبغي عليك بكيده / وأنت رؤوفٌ بالرعيَّة راحم
وأبقيت دار المفسدين بلاقعاً / خلا عالم منها وأقوت معالم
وأنصفْتَ بين الناس بالحكم عادلاً / فلا ثَمَّ مظلوم ولا ثَمَّ ظالم
يُمَدُّ عليها منك ظلٌّ مظلِّلٌ / إذا لفحتها بالخطوب سمايم
أعدت شباب الدهر بعد مشيبه / فعاد علينا عهده المتقادم
لئن ذكروا في الجود كعباً وحاتماً / فأنت لهذا العصر كعب وحاتم
وما بَرِحَتْ تنهلُّ جوداً ونائلاً / يمينُك لا ما تستهلّ الغمائم
ولله منها عارض سحّ ممطراً / دنانيرها من قطرها والدراهم
تطوّقني نعماك تترى بمثلها / بأحسن ممَّا طوّقته الحمائم
وكم لي بكم يا آل سعدون مدحة / من القول يستوفى بها الشكر ناظم
إذا أُنْشِدَتْ سرَّت نفوساً وطأطأت / رؤوساً ومالت من رجال عمائم
وإنِّي بكم يا آل سعدون شاعر / وها أنا في وادي ثنائك هائم
بطلعتك الغرَّاء موسم ثروتي / ولي منك في نيل الثراء مواسم
فأنت لعمري للمكارم فاتح / وأنت لعمري للأكارم حاتم
إلى العزّ خوري يا نياقي وأنجدي
إلى العزّ خوري يا نياقي وأنجدي / ويا همَّتي قومي إلى الجود واقْعُدي
فلا عزّ حتَّى أترك النوق ترتمي / بنا وجياد الخيل تكدم باليد
عليها من الفتيان كلُّ مجرَّدٍ / من الضَّيم أمضى من حسامٍ مجرَّد
يذود الكرى عن مقلةٍ طمحت به / إلى شيم برق من فخارٍ وسؤدد
تعوَّد أنْ لا يشرب الماءَ بالقذى / ولم ترضَ نفس المرء ما لم تعوّد
فجرَّدَها مثلَ القسيّ حوانياً / لقطع الفيافي فدفداً بعد فدفد
يبيت الدُّجى ما بين نوم مشرّد / لفقدان من يهوى ودمع مبدَّد
يُعالج همًّا بين جَنْبَيْه للعُلى / ويَحْسِرُ عن باعٍ لأروع أصيد
رفضت الهوى بالكرخ واللَّهو بالدمى / وأعرضتُ عن بيضٍ من الغيد خرَّد
وراح كعين الدِّيك صفواً تديرها / نظيرة قدّ البانة المتأوّد
مورّدة في الكأس بعد مزاجها / كأنْ مزجت من ماء خدٍّ مورّد
تعاطيتها صِرفاً ينمُّ أريجها / عليها فما استغنيتُ عن ريقِ أغيد
وما كانَ باقي اللَّيل إلاَّ كأَنّه / على حَدَق الآفاق آثارُ إثمد
ذكرتك يا ظمياءُ والنار في الحشا / ولولاك تلك النار لم تتوقَّد
وإنِّي إذا مضَّت بقلبي مضاضةٌ / من الوجد داريتُ الأسى بالتجلُّد
وما سرت عمَّن سرت إلاَّ لمطلبٍ / أسُرُّ به صحبي وأكبت حُسَّدي
وأصفَرَ ذي وجهين من غير علَّةٍ / يروح كما راحَ اللَّئيم ويغتدي
على وجهه من خالص اللؤم شاهد / متى استشْهَدَتْهُ رؤية العين تشهد
وشيبة سَوْءٍ أنبت الله شعرها / على عارضَي وغدٍ ومستجهلٍ ردِي
أعرّفه فضلي ويَعْلَمُ أنَّني / أنا الشمس لا تخفى على عين أرمد
فهاتيك أخباري وتلك قصائدي / لها نشرُ طيِّ الذكر في كلِّ مورد
تمزّق أعراض اللِّئام كأنَّها / تصول عليها بالحسام المهنَّد
يروح عليها القوم من نفثاتها / بها السُّمُّ مدحورٌ بخزي مؤبّد
تسير بها الرُّكبان شرقاً ومغرباً / فمن مُنْشِدٍ يشدو بها ومغرّد
تركت لكم أعيان بغدادَ منزلاً / تجور عليه النائبات وتعتدي
ففيم مقامي عندكم ظامئ الحشا / ولا أنا بالواني ولا بالمقيَّد
وإنِّي عزيز النَّفس لو تعرفونني / ولي بينكم ذلّ الأَسير المصفَّد
تمنَّون إذ تعفون عن غير مذنب / فتبَّت يداً مغوٍ لكم غلَّ من يد
ظلمتم عباد الله حين رفعتمُ / أرذالَ قومٍ من خبيثٍ ومن رَدِي
وما البصرة الفيحاء من بعد فعلكم / بها غير أطلال ببرقة ثهمد
رفعتم على السادات منها أراذلاً / لهم في حضيض الذلّ أسوأَ مَقْعَدِ
فعلتم كما تبغون لا فعلَ منصفٍ / وقلتم ولا عن رأي هادٍ ومرشد
هَبوا أنَّكم لا تتَّقوها مآثماً / فهلاّ اتَّقيتم من ملام المفنَّد
بذلتُ لكم نصحي وما تجهلونه / ولكن لما في النَّفس من مترصّد
فقوضت والتقويض عن مثل أرضكم / إذا لم يطب عيشي ويعذب موردي
وقلت لعيسي أخذك الجدّ بالنوى / وإيَّاك بعد اليوم أن تتبغددي
فأوردتها نهر المجرَّة والعُلى / تحدّثني أنْ قَرِّبِ السَّيرَ وابعد
فما أربي من بعد فهدٍ وبندرٍ / من البصرة الفيحاء غير محمَّد
نجيب ابن أنجاب الزهير الَّذي به / أفاخر جمعَ الأَكرمين بمفرد
فتى القوم من يأوي إلى ظلِّ بيته / يعِشْ عيشة من فضله لم تنكّد
فيا أيُّها الظَّامي وتلك شريعة / من الجود فاصدر حيثما شئتَ أوْ رِدِ
رفيع عماد المجد مستمطر الندى / أخو المنهل الصافي وذو المنهل الندي
وما حَمَلَتْهُ غيرُ أُمٍّ نجيبةٍ / وإن كانَ من قوم أغرّ ممجد
لئن قلّد النعماء من كانَ منعماً / فما غيره في الناس كانَ مقلّدي
تسبّب بالإِحسان للحمد والثنا / ومن يتسبَّب للمحامد يُحْمَدِ
إذا نلت منه اليوم سابغ نعمةٍ / ترقَّبت أمثالاً لها منه في غدِ
على سنن الماضيين من غرِّ قومه / بآبائه الغرِّ الميامين يقتدي
هو القوم يروون المكارم عن أبٍ / وجدّ عريق سيِّداً بعد سيِّد
تسودهم نفس هناك أبيَّة / فكانوا إذنْ ما بين نَسْرٍ وفرقد
وهزَّتهُمُ يوم الندى أريحيَّة / كأنْ شربوا من كأس صهباء صرخد
تطرّبهم سجع الصوارم والقنا / بيوم الوغى لا ما ترى أُمُّ معبد
إذا أوعدوا الطاغين بالبأس أرهبوا / وإنْ أحْسَنوا الحسنى فعن غير موعد
كرامٌ إذا استمطرتَ وبل أكفّهم / أراقَتْه وبلاً من لجينٍ وعسجد
يقال لمن يروي أحاديث فضلكم / أعِدْ واستعد ذكر الكرام وورّد
ألَذُّ من الماءِ النمير ادّكارهم / على الكبِد الحرَّى من الحائم الصَّدي
سقاهم وحيَّاهم بصيبه الحيا / وجادهم من مبرق المزن مرعد
فكم تركوا في المادحين أخا ندًى / قديم العُلى يسعى الممجد ممجّد
إذا همَّ لا تثنيه عن عوماته / إلى المجد يوماً حيرة المتردِّد
يرى رأيه ما لا ترى عين غيره / وبالرأي قد يهدى المضلّ فيهتدي
ومن لابسٍ بُرْدَ الأُبوَّة كلَّما / تقادم قالت نفسه ويك جدِّدِ
بَنَوْها ولكن بالسيوف معالياً / فكانت ولكنْ مثل طودٍ موطَّد
وكم بذلوا من أنفَس الماس ما غلا / فلم يرغبوا إلاَّ بذكر مخلَّد
فهذا ابنُ عثمان المهذَّب بعدهم / يشيد على ذاكَ البناء المشيَّد
فلا زالَ محفوظ الجناب ولا رمى / له غرضاً إلاَّ بسهمٍ مسدَّدِ
تَنَقَّلْتَ مثلَ البَدْر يا طلعةَ البَدْر
تَنَقَّلْتَ مثلَ البَدْر يا طلعةَ البَدْر / فمن منزل عزٍّ إلى منزل فخرِ
بأمر وليِّ الأَمر سرت ولم تزل / كما أنت تهوى صاحب النهي والأَمر
دعاكَ إليه فاستجبت كأنَّما / دعاك وزير العصر دعوة مضطرِّ
ومثلك من يُدعى لكلِّ مُلِمَّةٍ / من الدهر مقدام على نوب الدهر
تعدّك للخطب الملوك ذخيرة / وإن الرجال الشوس من أنفس الذخر
فإمَّا إلى حربٍ وقد شبَّ جمرها / لها شرر ترمي به الجمع كالقصر
وإمَّا إلى بأسٍ شديدٍ وقدرة / وإمَّا إلى عالٍ رفيع من القدر
طلعت على بغداد يوماً فشاهدت / بوجهك يا مولى الورى طلعة البدر
تباشرتِ الأَشراف حين تحقَّقَت / قدومك بالإِكرام والنائل الوفر
إذا قيلَ وافى بندر قال قائلٌ / من البشر وافاكم إذَنْ وابلُ القطر
فأغمرتهم بالفضل حتَّى ملكتهم / ببرِّك إنَّ الحُرَّ يُمْلَكُ بالبرِّ
قضت بك أعياد المسرَّة والهنا / وهاتيك أعيادٌ تُعَدُّ من العمر
وشدّ وزيرٌ أزره بك فاغتدى / لعمري قويَّ الأزر منشرح الصدر
ولمَّا نشدت العدل من بعد طيِّه / وأحسنتَ طيَّ الجور في ذلك النشر
ذُكرت لسلطان السلاطين كلّها / وقد قيلَ إنَّ الأُذّنَ تَعْشَقُ بالذكر
فأهدى إلى علياك ما أنت أهله / فقارن بدر التّمِّ بالكوكب الدرّي
وأرغمت آنافاً وأكبتَّ حُسَّداً / وحاقَ بأهل المكر عاقبة المكر
وقد جئت مسرور الفؤاد مؤيّداً / من الله بالتوفيق والفتح والنصر
تجرُّ ذيول الفخر تيهاً على العدى / ألا إنَّ خفض العيش من ذلك الجرِّ
تحفُّ بك الفرسان من كلِّ جانبٍ / وتدعو لك الأَملاك بالسِّرِّ والجهر
ولمَّا رأيت الماء طمَّ على القُرى / وأصبحَ في إفساده أبداً يجري
طغى والَّذي يطغى وقد مدَّ باعه / ليُفْسِدَ أمسى مَدُّه منك في جزر
وما سالَ مثل السَّيل إلاَّ رَدَدْتَهُ / وخَلَّيت منه سائل البحر في مهمهٍ قفرِ
حشرت لسدّ الماء كلَّ قبيلةٍ / لها وقفة ترضيك في وقفة الحشر
تسدُّ ثغوراً لا تُسَدُّ ولم يكنْ / سواك سداد في الحقيقة للثغر
فكيف إذنْ بحرٌ أضرَّ وإنَّما / فَعَلْتَ بهذا البحر فعلك في البرِّ
وما زلت مدعوَّ الجناب لمثلها / فتكشف ما قد حلَّ بالناس من ضُرِّ
تدافع عن مُلك العراق وأهله / مدافعة المغتار عن ربَّة الخدر
يضرب ظباً بيض تأجَّجُ بالرَّدى / وطعنِ قناً سمرٍ أحرّ من الجمر
وأنتم أُباة الضَّيم ما ذلَّ جاركم / ولا نظرتكم أعين الضَّيم عن شزر
لكم واللَّيالي حيثُ تمضي وتنقضي / على كلِّ حالٍ كانَ في العسر واليسر
بيوتٌ على شطِّ الفرات رفيعة / يرى نارها تبدو لمن حلَّ في مصر
ولولا طروق الضَّيف من كلِّ وجهةٍ / لما بنيت إلاَّ على الأَنجم الزهر
وما ضلَّ ساري اللَّيل إلاَّ اهتدى بها / كنور سنا الإِسلام في ظلمة الكفر
إلى الغاية القصوى إلى الجود والنَّدى / إلى منزلٍ رحب إلى نائل وفر
فللضيف فيها مشهد الحجّ في منًى / وللنوق فيها للقِرى مشهد النحر
مكارم قد أورثْتُمُوها قديمةً / وتلك مواريث لآبائك الغرِّ
سلكت بتلك الخيم ما سلكت به / وما سلكت إلاَّ بمسلكها الوعر
تسلُّ السيوف البيض كفك للورى / فكفُّك للجدوى وسيفك للقهر
وعلّمتها ضربَ الرقاب فأصبَحَتْ / تقدُّ رقاب الفاجرين ولا تدري
ملأت فؤاد الضدّ رعباً ورهبةً / وأوَّل ما ترمي أعاديك بالذعر
فهابك من خلَّ العراقَ وراءه / فكيف بمن لا يستنزل عن الوكر
ولم تنج من صمصام صولتك العدى / ولو أنَّها طارتْ بأجنحة النَّسر
لك الله ما شيّدت بيتاً من العُلى / على غير سمر الخطّ والقضب البتر
لك المدح منَّا والثناء بأسره / على أنَّ في الأُخرى لك الفوز بالأجر
على النعم الَّلاتي بلغنا بها المنى / وبيض أيادٍ منك في الأَزمن الغبر
تجلّ عن التعداد إنْ هي أُحصيت / فيا ليت شعري ما أقول من الشعر
عجزت بأن أقضي لها حقَّ شكرها / فليسَ يعني نظمي بذاك ولا نثري
سُؤالُكِ هذا الربعَ أين جَوابُهُ
سُؤالُكِ هذا الربعَ أين جَوابُهُ / ومن لا يعي للقول كيف خطابُهُ
وقفتِ وما يغنيكِ في الدار وقفة / سقى الدار غيث مستهل سحابُهُ
غناؤكِ في تلك المنازل ناظر / بدمع توالى غربُه وانسكابه
إلى طلل أقوى فلم يك بعدها / بمغنيك شيئاً قربه واجتنابه
ذكرتِ كأيام الشبيبة عهده / وهل راجع بعد المشيب شبابه
وقد كانَ ذاك العيش والغصن ناعم / يروق ويصفو كالرحيق شرابه
وجدت لقلبي غير ما تجدينه / أسىً في فؤادي قد أناخ ركابه
يفض ختام الدمع يا ميَّ حسرة / ذهاب شباب لا يرجّى إيابه
ودهرٍ أعاني كل يوم خطوبه / وذلك دأبي يا أميم ودأبه
مسوقٌ إلى ذي اللب في الناس رزؤه / ووقفٌ على الحر الكريم مصابه
وحسبك مني صبر أروع ماجد / بمستوطن ضاقت بمثلي رحابه
يبيتُ نجيَّ الهم في كل ليلة / يطول مع الأيام فيها عتابه
قضى عجباً منه الزمان تجلُّداً / وما ينقضي هذا الزمان عجابه
تزاد عن الماء النمير أسوده / وقد تلغ العذب الفرات كلابه
ألم يحزن الآبي رؤوس تطامنت / وفاخر رأس القوم فيها ذنابه
وأعظِمْ بها دهياء وهي عظيمة / إذا اكتنف الضرغامَ بالذل غابه
متى ينجلي هذا الظلام الَّذي أرى / ويكشف عن وجه الصباح نقابه
وتلمع بعد اليأس بارقة المنى / ويصدق من وعد الرجاء كذابه
ومن لي بدهر لا يزال محاربي / تُفلُّ مواضيه وتنبو حِرابُهُ
عقور على شِلوي يعضُ بنابه / وتعدو علينا بالعوادي ذئابه
رمته الروامي بالسباب مذمَّة / وما ضرّ في عِرضِ اللئيم سبابُه
تصفحت إخواني فلم أر فيهمُ / قويماً على نهج الوفاء اصطحابه
أفي الناس لا والله من في إخائه / تُشدُّ على العظم المهيض عصابه
يساورني كأس الهموم كأنّما / يمجُّ بها السمَّ الزعاف لعابه
وأبعد ما حاولت حرًّا دنوُّه / دنوك مما يرتضي واقترابه
نصيبك منه شهده دون صابه / إذا كانَ ممزوجاً مع الشهد صابه
يريك الرضا والدهر غضبان معرض / وترجوه للأمر الَّذي قد تهابه
ورأيك ليست في المشارع شرعة / ولا منهل عذب يسوغ شرابه
وما الناس إلاَّ مثلما أنت عارف / فلا تطلبنَّ الشيء عز طلابه
بَلَوتُ بهم حلوَ الزمان ومرَّه / فسيّان عندي عذبه وعذابه
كأنّي أرى عبد الغني بأهله / غريب من الأشراف طال اغترابه
يميّزه عنهم سجايا منوطة / بأروع من زهر النجوم سخابه
ثمين لئالي العقد حالية به / من الفضل أعناق الحجى ورقابه
إذا ناب عن صرب الغمام فإنه / إذا لم يصب صوب الغمام منابه
تألق فانهلّت عزاليه وارتوى / به حزن راجيه وسالت شعابه
أتعرف إلاَّ ذلك القرم آبياً / على الدهر يقسو أو تلينُ صلابه
تسربل فضفاض الأبوة كلَّها / وزُرَّت على الليث الهصور ثيابه
ولم ينزل الأرض الَّتي قد تطامنت / ولو أن ذاك الربع مسكاً ترابه
لقد ضربت فوق الرواسي وطنَّبَتْ / على قُلَل المجد الأثيل قبابه
فأصبحتِ الشُّم العرانين دونه / وحلَّق في جوّ الفخار عُقابه
أبى الله والنفس الأبيَّة أن يُرى / بغير المعالي همُّه واكتئابُه
فدانت له الأخطار بعد عتوِّها / وذلّت له من كل خطب صعابه
ولو شاء كشف الضرّ فرّق جمعه / وما فارق العضبَ اليماني قرابه
ومجتهدٍ في كلّ علم أبيّةٍ / فلا يتعداها لعمري صوابه
بفكرٍ يرى ما لا يرى فكر غيره / يشقّ جلابيب الظلام شهابه
مقيم على أنْ لا يزال قطاره / يصوب وهذا صوبه وانصبابه
وإمّا خلا ذاك الغمام فمقلع / وعمّا قليل يضمحل ضبابه
وناهيك بالندب الَّذي إنْ ندبته / كفاك مهمّات الأمور انتدابه
ذباب حسام البأس جوهر عضبه / وما الصارم الهندي لولا ذبابه
عليم بما يقني الثناء وعامل / وداعٍ إلى الخير العظيم مجابه
إذا انتسب الفعل الجميل فإنَّما / يكون إلى رب الجميل انتسابه
هل الفضل والإحسان إلاَّ صنيعة / أمْ الحمد والشكران إلاَّ اكتسابه
وإنّي متى أخليتُ من ثروة الغنى / وأغلق من دون المطامع بابه
بدا لي أن أعشو إلى ضوء ناره / وأصبو إلى ذاك المريع جنابه
فأصدرني عنه مصادر وارد / من اليمّ زخّار النوال عبابه
وأصبحُ مرموق السعادة بعدما / خَلَتْ ثُمَّ لا زالت ملاءً وطابه
إذا ذهب المعروف في كل مذهب / إليك برغم الحادثات مآبه
فلست تراني ما حييت مؤملاً / سواك ولم يعلق بي النذل عابه
ولا مستثيباً من دنيٍّ مثوبةً / حرام على الحرِّ الأبيّ ثوابه
وغيرك لم أرفع إلى شيم برقه / ولا غرّني في الظامئين سرابه
أتى ببراهينٍ غدا كلُّ جاحدٍ
أتى ببراهينٍ غدا كلُّ جاحدٍ / ببرهانه بين البرية مفحما
فألزمه بالحقّ والحقّ قوله / فأسْلَمَ من بعد الجحود وسلّما
فطوراً تراه للأمور مسدّداً / وطوراً تراه للعلوم معلّما
فلله ما صنّفت كل مصنّف / سرى منجداً في العالمين ومتهما
ومن مشكلات بالعلوم عرفتها / فأعربت عما كانَ فيهم معجما
وأبكيت أقلام البراعة والنهى / فأرضيت حد السيف حتَّى تبسما
وما نلت عما شان بالمجد خالياً / وما زلت بالعلم اللّدنيّ مفعما
تفرَّدت في علم وفهم وحكمة / فها أنت والعلياء أصبحت توأما
وإن جئتَنا في آخر الدهر رحمة / إذا عُدَّت الأمجاد كنت المقدما
وحسبك ما في الناس مثلك سيد / أنال مقلاًّ أو تكرّم معدما
وكم نثرت نثراً بلاغتك الَّتي / أردت بها دُرَّ المعالي منظما
وقد أخرستني من علاك فصاحة / ألست تراني أخرس النطق أبكما
متى لاحَ رسمُ الدَّار من طلل قَفْرِ
متى لاحَ رسمُ الدَّار من طلل قَفْرِ / فلي زفرةٌ تذكو ولي عَبْرةٌ تَجري
ذكرت الهوى يوماً بمنعرج اللّوى / ولا بدَّ للمشتاق فيه إلى الذكر
سقى اللهُ عهداً في النعيم وحاجر / وجاد على أرجائها وابلُ القطر
وحيَّى بصَوْب المزن في الحيِّ منزلاً / لي العذر فيه من رسيس الهوى العذري
وأيامنا الّلاتي قَضَتْ باجتماعها / على أنَّها قضي ولم تمض من فكري
خليليَّ ما بي كلَّما هبَّت الصَّبا / تصبَّبَ من عينيَّ ما ليس بالنزر
وإنِّي لمطويّ الضلوع من الجوى / على لاعج بَرحٍ أحَرَّ من الجمر
كأَنَّ التهاب البرق يُبرِزُ لوعتي / ويُبْرِزُ للأَبصار ما كانَ في صدري
ولم أدرِ ما هاجَ الحمامَ بنَوْحه / فهيَّجَ أشجان الفؤاد ولا يدري
كأنِّي به يشكو الفراق على النوى / ولا غابَ عن أنفٍ ولا طار عن وكر
أحبَّتَنا هل تذكرون ليالياً / لنا في الحمى كانت تُعَدُّ من العمر
تطوفُ علينا الكأسُ من كفِّ أغيدٍ / كما ذكر قرن الشمس في راحة البدر
تحدِّثُنا عن نار كسرى لعهده / قديمةُ عهدٍ بالمعاصير بالعصر
فحيَّى بها أحوى من الغيد أبلجٌ / مُذاباً من الياقوت تبسَّم عن درِّ
وقلت لساقيها وريدك بالحشا / فقد زدْتَني بالرَّاح سكراً على سكر
بربِّك هل أَبْصَرْتَ منذ شربتها / ألَذَّ لطيب العيش من قدح الخمر
وندمان صدقٍ تشهد الرَّاح أنَّهم / إذا سكروا أحلى من السكر المصري
هنالك أعطينا الخلاعَةَ حقَّها / وقمنا إلى اللّذَّات نعثر بالسكر
إلى أن بدا للصبح خفقُ بنوده / وطار غراب اللَّيل عن بيضة الفجر
وغارتْ نجوم اللَّيل من حسن معشرٍ / خلائقهم أبهى من الأَنجم الزهر
بَلَوْتُ الليالي عُسْرَةً بعد يسرة / وكم ذقت من حلو المذاق ومن مرِّ
فما أبلتِ الأيام جِدَّةَ عزمتي / ولا أخَذَتْ تلك الحوادث من صبري
إذا لم تكنْ لي في النوائب صاحباً / فما أنتَ من خيري ولا أنْتَ من شرِّي
وليسَ تفي مثل الصوارم والقنا / إذا عبثت أيدي المودَّات بالغدر
إذا أنا أنفَيْتُ الهَوانَ بمنزلٍ / تركت احتمال الضَّيم فيه إلى غيري
وما العزُّ في الدُّنيا سوى ظهر سابح / يقرّب ما ينأى من المهمة القفر
سواءٌ لديه الوعرُ والسهلُ إنْ جرى / وَلَفَّ الرُّبا بالسَّهلِ والسَّهلُ بالوعر
تعوَّد جَوْبَ البيد فاعتاد قطعها / فأنْجَدَ في نجد وأغْوَرَ في غور
عتيقٌ من الخيل الجياد كأنَّه / لشدَّته صخرٌ وما قُدَّ من صخرِ
وناصيته ميمونة منه أعْلَنَتْ / بأنَّ لها فيه مقدمة النصر
وإنَّ جياد الخيل عندي هو الغنى / وليس الغنى بالمال والبيض والصفر
وأشْهَبَ يكسوه الصباح رداءه / كما أَشْرَقَ الإِسلام في ملَّة الكفر
أبى أن يَشُقَّ الّلاحقون غبارَه / فكالبرق إذ يهفو وكالريح إذ تسري
إذا ما امتطاه رفعتٌ وجرى به / رأت أعْيُني بحراً ينوف على بحر
أعَدَّ له عند الشَّدائد عُدَّةً / وأرْصَدَه فيها إلى الكرِّ والفرّ
فتى المجد من أهل الصدارة في العُلى / وليس محلّ القلب إلاَّ من الصدر
تُناظِرُ جدواه السحائب بالندى / وأنَّى له جدوى أنامله العشر
إذا جئته مسترفداً منه رِفْدَهُ / فَنَلْ منه ما تهوى من النائل الغمر
وحسبُك من أيدٍ تدفَّق جَورُها / وناهيكَ من وجهٍ تهلَّلَ بالبشر
كما سَقَتِ المُزنُ الرياض عشيَّةً / فأصبح زهر الروض مبتسم الثغر
بياض يدٍ تندى ومخضرّ مربع / تروق برغد العيش في الخطط الغبر
وما زال موصول الصلات ودأبه / من البرّ أنْ يُسديه برًّا إلى برّ
مكارمه لا تترك المال وافراً / وهل تركت تلك المكارم من وفر
وما ادَّخرت للدهر مالاً يد امرئٍ / يُعدُّ الثناءَ المحض من أنفس الذخر
كما لم يَزَلْ يُرجى لكلِّ ملمَّة / ويعرف فيه الأمن في موطن الذعر
ولا خير في عيش الفتى وحياته / إذا لم يكنْ للنفع يرجى وللضرّ
له المنطق العذب الَّذي راقَ لفظه / رمى كلّ منطيق من الناس بالحصر
فلا ينطق العوراءَ سُخطاً ولا رضًى / قريبٌ من الحسنى بعيدٌ من الهُجْر
سواء إذا أثرى وأملَقَ جودُه / جواد على الحالين في العسر واليسر
صبورٌ على الأيام كيف تقَلَّبَتْ / جليدٌ شديدُ البأس فيها على الدهر
وقد أخْلَصَتْه الحادثات بسبكها / فكان بذاك السبك من خالص التبر
إذا ما حمِدْنا في الرجال ابن أحمد / فعن خالص في الودِّ بالسر والجهر
بعطّر أرجاء القوافي ثناؤه / وربَّ ثناءٍ كانَ أذكى من العطر
نشرنا له الصُّحْفَ الني كانَ طيُّها / على طيب ذات فيه طيّبة النشر
ولي في أبيه قبلَه وهو أهْلُها / محاسنُ أوصاف تضيق عن الحصر
فيا أيُّها المولى الَّذي عمَّ فضلُه / لك الفضل فاسمع إن تكنْ سامعاً شعري
خدمتُك في حُرِّ الكلام مدائحاً / فقال لسان الحال يا لم من حرِّ
وقد راقَ شعري في ثنائك كلُّه / ألا إنَّ بعض الشعر ضربٌ من السحر
فخذها من الدَّاعي قصيدة أخرس / عليك مدى الأيام تنطق بالشكر
تريني لدى علياك ما قد يسرُّني / وترفع قدري فيك يا رفعت القدر
لقدْ خَفَقَتْ في النَّحر ألويةُ النَّصْرِ
لقدْ خَفَقَتْ في النَّحر ألويةُ النَّصْرِ / وكانَ انمحاقُ الشَّرِّ في ذلك النَّحر
وفتحٌ عظيمٌ يعلمُ اللهُ أنَّه / ليستصغر الأَخطار من نوب الدهر
عَلَتْ كلماتُ الله وهيَ عليَّةٌ / بحدِّ العوالي والمهنَّدة البُتْر
تبلَّج دينُ الله بعدَ تَقَطُّبِ / ولاحت أسارير العناية والبشر
محا البغيَ صمصام الوزير كما محا / دُجى الليل في أضوائه مطلع الفجر
وكرّ البلا في كربلاء فأَصْبَحَتْ / مواقف للبلوى ووقفاً على الضّرّ
غداة أبادَتْ مفسدي أهلِ كربلا / وكرَّت مواضيه بهما أيَّما كَرِّ
فدانت وما دانت لمن كانَ قبله / من الوُزَراء السَّابقين إلى الفخر
وما أدركوا منها مراماً ولا مُنًى / ولا ظفِروا منها بلبٍّ ولا قشر
وحذَّرهم من قبل ذلك بطشه / وأَمْهَلَهُمْ شهراً وزادَ على الشهر
وعامَلَهم هذا الوزيرُ بعدله / وحاشاه من ظلمٍ وحاشاه من جور
وأنذرهم بطشاً شديداً وسطوةً / وبالغ بالرُّسْلِ الكرام وبالنّذر
ولو يصبر القرم الوزير عليهم / لقيل به عجز وما قيل عن صبر
وصالَ عليهم عند ذلك صولةً / ولا صولةَ الضرغام بالبيض والسمر
وسار بجيش والخميس عرمرم / فكالليل إذ يسري وكالسيل إذ يجري
وقد أفسدوا شرَّ الفساد بأرضهم / إلى أن أتاهم منه بالفتكة البكر
رمتهم بشهب الموت منه مدافعٌ / لها شررٌ في ظلمة الليل كالقصر
رأوا هول يوم الحشر في موقف الردى / وهل تنكر الأَهوال في موقف الحشر
فدمَّرهم تدمير عادٍ لبَغْيهم / بصاعقةٍ لم تُبْقِ للقوم من ذكر
ألم ترهم صرعى كأَنَّ دماءهم / تسيل كما سالت معتقة الخمر
وكم فئةٍ قد خامر البغيُ قلبَها / على أنَّها بأحبولة الحصر
فراحت بها الأَجساد وهي طريحةٌ / تداس على ذنبٍ جنَتْه لدى الوزر
فإنَّ مرادَ جارٍ على الورى / ولا بدَّ أنْ يجرى ولا بدَّ أن يجري
تجول المنايا بينهم بجنودها / بحيث مجال الحرب أضيق من شبر
تَلاطَمَ فيها الموجُ والموجُ من دمٍ / تَلاطُمَ مَوجِ البحر في لُجَّة البَحر
فلاذوا بقبر ابن النبيّ محمد / فهل سُرَّ في تدميرهم صاحب القبر
فإن تُركوا لا يترك السيف قتلَهم / وإن ظَهَروا باؤوا بقاصمة الظهر
ولا برحت أيَّامه الغرُّ غُرَّةً / تضيءُ ضياءَ الشمس في طلعة الظهر
ولا زال في عيدٍ جديد مؤرِّخاً / فقد جاءَ يوم العيد بالفتح والنصر
نَعَمْ ما لهذا الأمر غيرك صالحُ
نَعَمْ ما لهذا الأمر غيرك صالحُ / وإنْ قيل هلْ من صالحٍ قيل صالحُ
سَعَيْتَ إلى نيل العُلى غيرَ كادحٍ / وغيرك يسعى للعلى وهو كادح
وتاجرت للمجد الَّذي أنت أهلُه / وأنْتَ بهاتيك التجارة رابح
فَهُنِّيتَ من بين الشيوخ بخِلْعَةٍ / شذاها بأقطار العراقين فائح
مطارُ فخار طار في الأرض صيتُه / فأنْتَ مقيمٌ وهو في الأرض سائح
بعلياك قد شدّ الوزارة أزْرَها / وزيرٌ لأبواب الأبوّة فاتح
وإنَّ مشيراً قد أشار بما أرى / مشيرٌ لعمري في الحقيقة ناصح
رأى بابن عيسى بعد عيسى صلاحها / وفي صالح الأعمال تقضى المصالح
ورجح منك الجانب الضخم في العُلى / وفي الناس مرجوح وفي الناس راجح
لعلّ بك النار الَّتي شبّ جمرها / من القوم تُطفى وهو إذ ذاك لافح
وقد طوَّحَتْ من بعد عيسى وبندر / وفَهْدٍ بهاتيك الديار الطوائح
بَكَتْها وقد تبكي المنازل أعْيَنٌ / وناحَتْ على تلك الرسوم النوائح
وكانت أمورٌ قد أصابت فدمَّرت / وما حَسْنَتْ في العين منها المقابح
أمورٌ قضت أنْ لا يرى الأمن قاطنٌ / لديها ولم يفرح بما كانَ نازح
وجرَّت من الأرزاء كلّ جريرة / وسالت ولكن بالدماء الأباطح
وقد جرّدوها بعد آل محمد / مثقَّفةً تدمى وبيض صفائح
وكانت حروب يعلم الله أنَّها / سعيرٌ أهاجَتْه الرياح اللوافح
وما نفعت فيهم نصيحة ناصح / وهل نفعت في الجاهلين النصائح
فذلك مقتول وذلك قاتل / وذلك مجروح وذلك جارح
إلى أن بَلَغْتَ اليوم ما قد بلغته / وما هذه الأقسام إلاَّ منائح
ولاحت لنا منك المعالي بروقها / وبرق المعالي من محياك لائح
لمحنا بك الآمال تجنى ثمارها / كما نتمنّاها فهلْ أنتَ لامح
وما أنت عمّا تبتغيه ببارح / وغيرك عنها لا محالة بارح
وإنْ أحجمَ المقدامُ عن طلب العُلى / فإنَّك مقدامٌ إليها وجامح
وإنَّ غُضَّ طرفٌ عن مكارم ماجد / فلا طرف إلاَّ نحو جدواك طامح
نعم أنتم البحر الخضمُّ لوارد / وأينَ من البحر الخضم الضحاضح
منحت الذين استمطروك مكارماً / وكل كريم بالمكارم مانح
ليأْمَنَ في أيّامك الغرّ خائفٌ / ويصدَح في روض البشارة صادح
فخذها لدى علياك أول مدحة / ولي فيكم من قبل هذا مدائح
ألِّما على لَوْمي وجدًّا مُجَدَّداً
ألِّما على لَوْمي وجدًّا مُجَدَّداً / فإنِّي لأدري ما الضلال وما الهدى
فمن مبلغُ السلوان عنِّي بأنني / فَنيتُ وشوقي لا يزال مُخَلَّدا
عذولي انتصاح منك لا أستفيده / ومن عدَّه عدلاً فقد جار واعتدى
وما كانَ أدرى بالذي قد دَرَيْتُه / وأخطأ ذاك العذل لما تعمّدا
أُعَلِّل نفسي بالعُذَيب وكلَّما / أرَدْتُ به إطفاءَ وَجدي تَوَقَّدا
خليليَّ ضاع القلبُ هل تعرفانه / مشوق فؤادي عندما رحلوا فدى
وما أسفي إلاَّ على عُمْر مغرم / قضاه ولكن في تبعدكم سُدى
ولم تدر أجفاني بكم سنة الكرى / وما زال طرفي في هواكم مسهدا
وآهٍ على يوم قضى الأنس نحبه / توسَّد عرفان الهوى إذ توسدا
ليالي فيها العيش كانَ اخضراره / رقيق الحواشي بالمطالب أوردا
أخلاّي كم جاد الزمان بنَيْلها / وهل كانَ طرف الدهر عنهنّ أرمدا
وأوْرَدَنا صفوَ المنى فكأنَّه / على وجنة الأيام كانَ تورَّدا
قسا قلبكم عني ولا غرو حيث لي / حظوظٌ تعيد الماءَ إذ ذاك جلمدا
وما كنتُ لولا الحظّ أحظى لأنَّني / قدَحْتُ زناد الجدّ فيكم فأصلدا
تمادى مداكم استمرَّ على الجفا / وقد كاد أن يقضي مداكم على المدى
ومَن لعليل أنحفَ السقمُ جسمه / تردّى ولكن من ضنى وجده ردا
وإنَّ اصطباري بعد طول بعادكم / دعا جلداً منه يبين التجلدا
أعيدا لها ذكر الديار لعلها / تبلّغني تلك المعاهد مقصدا
ولما أتَتْ تلك الطلول ورسمها / غدت تشتكي شكوى الفراق كما غدا
أُنادي الحمى بالنوح عن ساكن الحمى / فيا حبّذا لو أنَّه يسمع الندا
تكرُّ به الأشواق من كلّ جانب / إذا كرر الذكرى لديه ورددا
وما مر بالجرعاء إذ عاد ذكره / أعاد عليه وَجْدَه فتجددا
بياض محيّا ذلك العيش بعدكم / فما زال ذاك الوجه أغبَر أسودا
رأى البين مجموعاً على القرب شملنا / فبدَّده منّا النوى فتبدَّدا
شذا ورد ذاك الوصل من روض قربكم / هزار اشتياقي كلما هب غردا
ونشواتكم ما قد أفاق ولا ارعوى / غدا مثل ما أمسى وأمسى كما غدا
وقد جاب وعر الشوق في بيد هجركم / ومن زاد تقواه عن العزل زوّدا
أضِلُّ فأُهدى في هَواكم وينثني / إليَّ هوىً يَهدي عياناً ويهتدى
رشاد عبيد الله للحقّ إنَّه / سنا نور رشدٍ فيه يستأنس الهدى
درى كل علم في الوجود وجوده / ولم تدر يمناه سوى السيف والندى
يحل عقود المشكلات برأيه / إذا أشكل المعنى الدقيق وعقدا
وأحيا دروس العلم في علم درسه / بدت فيه آثار الفضائل مذ بدا
لعمرك فليفخر على السؤدد امرؤ / يرى السؤددَ العلياءَ مجداً وسؤددا
وأفصحَ من نهج البلاغة منطقاً / تخرّ له الأقلام في الطرس سجّدا
به استسهلوا حزن العلوم ووعرها / وأيسرُ شيء عنده ما تشدّدا
إذا أضْرَمَتْ أعداؤه نارَ باطلٍ / أثار عليها الحقَّ يوماً فأخمدا
فلو رام أسباب السماء لنالها / وسار بمضمار المرام وما كدا
وما مال إلاَّ للعبادة والتقى / كأنْ عنه شيطان الوساوس صُفِّدا
وما هو إلاَّ قطب دائرة العلى / إمامٌ لأرباب الطريقة مقتدى
تنيل نوال اليمن يمناه بسطها / وما مَدَّ إلاَّ نحو خالقه يدا
ولم تبلغ الآمال في غير ماله / وفي غير ذاك العذب لا ينقع الصدى
ألا يا سحاباً أغْرَقَ الوفدَ غيثه / لظامي الندى كانت أياديه موردا
فلو حاول المجد الأثيل مقامه / لحاول ذاك المجد بالمجد أمجدا
مكارم طبع في علاه ظهورها / وكان لهاتيك المكارم موعدا
وأنْبتَّ بالتقوى بأحسن منبتٍ / وقد طاب أصلاً مثلما طاب محتدا
يقضي لعمر الله صوماً نهاره / ويحيي لياليه دعاً وتعبُّدا
ولما ادَّعى ما إنْ أتى الدهر مثله / فأتبع فيما يدّعيه وقلدا
وأشرع للشرع الحنيف مناهجاً / قواعدَ دين الله أضحى ممهدا
تصرّفه في باطن الحال باطن / إلى الرشد أصحاب الحقيقة أرشدا
ومتّبع شرعاً لما هو ذاهبٌ / ومَذْهَبُه ينحو طريقة أحمدا
وما كانَ إلاَّ حينَ يُسأل رده / بأسرع من حاك يجاوبه الصدى
وأدرك ممن فضله يملأ الفضا / تعد أياديه بألسنة العدى
ولله فيما قد أنالك حكمة / فأعْدَمَ فيك الجهلَ والعلمَ أوجدا
سَعَيْتَ ويجدي السعد بالسعي ربه / وأصبَحتَ في صدر السعادة أسعدا
فيا زهر روض أنتم زهر كمِّهِ / لقد ماس غصن الفخر فيكم سيّدا
ظهرتم ولا يخفى من الشمس نورها / وحادي انتشار الذكر في ذكركم حدا
إذا ما مضى منكم عن المجد سيّدٌ / أقام لكم في موقف الفخر سيّدا
وذكرك حتَّى يقضي الله أمره / على طول ما طال الزمان تأبَّدا
أبرَّتْ على ما تدعيه يَمينُها / مَتى تقسم الأيام إنَّك مفردا
ولما دعاك الأصلُ يوماً لفرعه / وَرَدْتَ فما أبقيتَ للناس موردا
رواة المعالي عن جنابك أخبروا / حديثاً عن العلياء صحّ وأسْنِدا
ويورد عنك المدح والحمد كلّه / كمالك يروينا كما لك أوردا
غياث وغوث لا يجارى جواده / وملجأ من آويت كنت ومنجدا
ونلت بتوفيق العناية رتبة / عدوَّك يلقى دونها مورد الردى
وحسب الَّذي عاداك فيما يرومه / جعلت عليه ليل هجرك سرمدا
على رغم من عاداك قلت مُؤَرِّخاً / بفتوى عبيد الله لا زال يقتدى
دَعاك أمير المؤمنين وإنَّما
دَعاك أمير المؤمنين وإنَّما / دعا مسرعاً فيما يروم مسابقا
فلَبيْتَه لمَّا دعاك ولم تجد / عن السَّير في تلك الإجابة عائقا
وقدمت للترحال عَزْمَتك الَّتي / تحثّ إلى المجد الجياد السوابقا
على ثقة منه بما أنتَ أهلهُ / وما كانَ إلاَّ في جنابك واثقا
فكان إذا ما اعتلَّ أمرٌ بملكه / رآك طبيباً للممالك حاذقا
برأيٍ إذا هزَّ الأسنَّة واخز / وعزم إذا استلّ الظبا كانَ فالقا
نظرت بنور الله في كل غامض / بعيد المدى حتَّى عرفت الحقائقا
وفيك مع الإقدام واليأس في الوغى / خلائق ما زالت تَسُرُّ الخلائقا
صلابة دين ترغم الشرك أنفه / وتخذل أعلاجاً له وبطارقا
يسرّ بها من كانَ بالله مؤمناً / ويكبت فيها ملحداً ومنافقا
ولا غرو من كانَ الفتوح بوجهه / إذا استفتح الإسلام فيه المغالقا
إذا النقع وأمسى عارضاً متراكماً / وأرسلتِ الشهبُ المنايا صواعقا
تحيل نهار الحرب أسْود حالكاً / وسوسن أوراق الحديث شقائقا
فكم ناطق بالكفر أصبح أخرساً / وكم أخرسٍ بالشعر أصبح ناطقا
جزيت جزاء الخير عن أهل بلدةٍ / ببأسك تكفيها الخطوب الطوارقا
غَرَسْت من الإحسان فينا أيادياً / فأنْبَتْنَ بالذكر الجميل حدائقا
أجَدْتَ نظام الملك حتَّى كأنَّه / من الحسن أضحى لؤلؤاً متناسقا
وفارقتنا بالكرة منا ولم تزل / حميد السجايا مقبلاً ومفارقا
فحقَّ لبغداد البكاء وكيف لا / وقد فارقت فخر الوزارة نامقا
وكنت بنا بَرًّا رؤوفاً ووالياً / عطوفاً وبحراً بالمكارم دافقا
وعوّدنا منك الجميل عوايداً / إذا عَدَّتْ العادات كن خوارقا
فدبَّرت منا رقعة ما تدبرت / وكم فرزنت أيديك فينا بيادقا
وفيما أراك الله إصلاح شأنها / سَدَدْتَ على أهل الفساد الطرائقا
تروق وتصفو إنْ كدرت سريرة / فلو كنت ماءً كنت إذ ذاك رائقا
فسرْ في أمانِ الله من كلّ طارق / مهمٍ فلا تخشى مع الأمن طارقا
إلى ملك تخطى لديه بحظوة / بنيت بها فوق النجوم سرادقا
تكون بمرآى من علاه ومسمع / فتتخذ البشرى رفيقاً موافقا
إذا كنت كنت من سلطاننا بمكانة / فقد أمِنَ السلطان فيك البوائقا
عليك ولا ريب بذاك اعتماده / كما اعتمد المرءُ الجبالَ الشواهقا
عزمت إليه بالرحيل وطالما / قطعت إلى الأمر المهم العوائقا
وشاقك منه حضرة ملكية / وما كنتما إلاَّ مشوقاً وشائقا
ستُرزق من ثمَّ السعادة كلَّها / فَتَحْمد رزاقاً وتشكر خالقا
وفيك مع الإقدام والبأس سطوة / تعيدُ فؤادَ الدهر بالرعب خافقا
فما وجدا السلطان مثلك ناصحاً / ولا وجد السلطان مثلك صادقا
قَدِمتَ قدومَ الخير من بعد غيبةٍ
قَدِمتَ قدومَ الخير من بعد غيبةٍ / كما غابَ بدرٌ ثمَّ أشْرَقَ وانْجلى
وأقبلتَ إقبالَ السَّعادة كلّها / علينا فحيَّا الله وجهك مقبلا
فكنت كصوب المزن صادفَ ممحلاً / وكنَّا بك الظمآن صادفَ منهلا
وشِمْنا سنا برقِ المنى غير خلَّبٍ / تهلَّلَ يمري العارض المتهلّلا
تنقَّلتَ من دارٍ لدارٍ تنقُّلاً / ومن عادة الأَقمار أنْ تنتقلا
وجئتَ إلى بغداد تكشفُ ما بها / من الضُّرِّ حتَّى ترجع الحال أولا
فأهلاً وسهلاً ما أقمتَ ومرحباً / عزيزاً بأكناف المعالي مبجَّلا
بأصدق من وافى من الرّوم لهجة / ومن بعث السلطان عيناً وأرسلا
أمينٌ على العمال تخذلُ ظالماً / وتنصر مظلوماً وتنقذ مبتلى
فقلنا غداةَ استبشر النَّاس كلُّهم / عسى هذه الأَحوال أنْ تتبدَّلا
وفي ضمن لحن القول لولا موانعٌ / دقائق لا تخفى على من تأمَّلا
وكم فرج لله من بعد شدَّةٍ / تعللنا فيه الأَماني تعلُّلا
فنحنُ وأنْ لم يُحسن الكشف حالنا / شتتاً خرقاء واهية الكلا
ومن نظر الأَشياء نظرةَ عارفٍ / رآها لديه مجملاً ومفصَّلا
وحسبُ الفتى ذي اللُّبِّ متن إشارة / يرى شرحها لو كانَ شرحاً مطوَّلا
وما اختصَّك السُّلطان إلاَّ لعلمه / بأنَّك لن تُرشى ولن تتبرطلا
فمن فضله والله يجزي بفضله / علينا أميرَ المؤمنين تفضّلا
لتذهب عنَّا البغيَ جيئة راشد / ونحمد فيه آملاً ومؤمَّلا
وننتظر العقبى فإنَّ وراءها / من اللُّطف ما يحظى به سائرُ الملا
فلا زالَ ظلُّ الله يأتي بعدله / وما ولي الأَحكام إلاَّ ليعدلا
ولم أرَ مثل الفضل يرفع أهْلَه / ولا حلية كالصدق في القول من حُلى
فقل ما تشا والقول في ما تقوله / جليٌّ ويأبى الله أن تتقوَّلا
ودمْ وابقَ واسلمْ ترتقي كلّ منصبٍ / إلى قلّة العلياء تعلو وتوقلا
أُقَلِّبُ طرفي ولا أرى غيرَ منظرٍ
أُقَلِّبُ طرفي ولا أرى غيرَ منظرٍ / متى تختبرهُ كانَ أَلأَمَ مَخْبَرِ
فلم أدرِ والأيامُ ذاتُ تغيُّر / أيذهبُ عمري هكذا بين معشر
مجالسهم عافَ الكريمَ حُلُولُها /
أَسِفتُ على من ليسَ يرجى العودة / وكانَ يُرى عوناً على كلِّ شدَّة
قضى الله أن يقضي بأقرب مدَّة / وأبقى وحيداً لا أرى ذا مودَّة
من النَّاس لا عاش الزَّمان ملولُها /
إذا الحرُّ في بغداد أصبحَ مُبتلى / وعاشَ عزيزُ القوم فيها مذلَّلا
فلا عجبٌ إنْ رمتُ عنها تحوُّلا / وكيفَ أرى بغداد للحرّ منزلا
إذا كانَ مفريَّ الأديم نزيلها /
لقد كنت لم أحْفِل بأَيَّام عرسها / ولم يتبدَّل شهمها بأخسّها
فكيفَ بها إنْ سادها غيرُ جنسها / ويسطو على آسادها ابنُ عرسها
ويرقى على هام السماك ضئيلها /
عَجِبتُ لندبٍ ثابت الجأش مفضلِ / يرى بدلاً من أرضه بمبدّل
ولم يك عن دار الهوان بمعزل / فما منزل فيه الهوان بمنزل
وفي الأرض للحرِّ الكريم بديلها /
سأركلها يا سعد كلّ معدَّة / أجوبُ عليها شدَّة بعد شدَّة
وإن مت ألفي البيد موتة وحدة / فلَلْموتُ خيرٌ أن أُقيمَ ببلدة
يفوق بها الصيد الكرام ذليلها /
فكم قرصتني من عدًى بقوارص / هوابط من أرض المساوي شواخص
ولاقيت صعب المرتقى غير ناكص / وأصعب ما ألقى رئاسة ناقص
مساويه إن عُدَّت كثيرٌ قليلها /
أُنَبّهُ طرفَ الحظّ والحظّ راقد / وأنهض للعلياء والجدّ قاعد
وأنَّى أَسُودُ اليوم والدهر فاسد / وما سادَ في أرض العراقين ماجد
من النَّاس إلاَّ فَدْمُها ورذيلها /
بلاد بقوم قد سَعَوْا في خرابها / فليس شرابٌ يرتجى من سرابها
ولا لكريمِ منزلٍ في رحابها / فسر عن بلادٍ طوّحت لا ترى بها
مقيل كريم للعثار مقيلها /
فليس عليها بعد هذا مُعَوَّلُ / ولا عندها للآملين مؤمَّل
فيالك دار قد نبت بيَ منزل / بها الجود مذمومٌ بها الحرّ مهملُ
بها الشّحّ محمودٌ فهل لي بديلها /
وَرُبَّ أخٍ للمجد في المجد آلفُ / له في ربوع الأَلأَمين مواقفُ
أقولُ له والقول كالسُّمِّ زاعف / ألا يا شقيق النفس عندي صحائفُ
لقومٍ لئامٍ هل لديك قبولها /
صحائف ذي غيظ على الدهر واجب / عليها طوى قسراً جوانح حاقد
وأن لما يبدي لساني وساعدي / سأنشرها والهندوانيّ شاهدي
وأذكرها والسمهريُّ وكيلها /
فمن مبلغٌ عنِّي كلاماً مُلَخَّصاً / أهان به عرض اللئيم وأرخصا
أُناساً يعيشُ الحرُّ فيهم منغَّصاً / ولي كلمات فيه تصدعُ الحصا
إذا حكّموا العضب اليماني أقولها /
فكم مهمهٍ قفرٍ طَوَيْتُ مشافها / بها كلّ هول لم يزل متشابها
وواجهني ما لم يكنْ لي مواجه / عفا الله عنِّي كم أجوب مهامها
من الأرض يستفّ التُّراب دليلها /
طويت قيافيها ذهاباً وجيَّةً / أكانَ عناءً طيّها أم بليَّةً
كمن يبتغيها مُنيةً أو منيَّة / لعلِّي أُلاقي عصبةً عبشميَّةً
فروع مناجيبٍ كرام أُصولها /
إذا نطقوا بالقول فالقول مُفْلِقٌ / وإنْ حاولوا مجداً فعزم محلّق
لهم أرج لم يكتَتَم فهو معبق / ينم بهم مجد رفيع ومنطق
وينبي عن الخيل العتاق صهيلها /
لقد طالما قد بِتُّ أطوي وأنطَوي / علة مضضٍ أمسَتْ على الضَّيم تحتوي
فيا سعد قلْ لي إنْ نصحت فأرعوي / متى يلثم اللبات رمحي وترتوي
سيوفٌ بأَعناق اللئام صليلها /
أَحِنُّ إلى يومٍ عبوسٍ عصبصبِ / يبلّ غليلي منجب وابن منجب
فيا ليت شعري هل أراني بموكب / وحولي رجال من معدٍّ ويعرب
مصاليت للحرب العوان قبيلها /
شفاء لنفسي يا أُميمة حشرجت / أو السَّاعة الخشنا إلى الأمر أحوجت
فهل مثل آساد الشرى حين هيّجت / إذا أوقدوا للحرب ناراً تأجَّجت
مجامرها والبيض تدمى نصولها /
كهولٌ وشبَّانٌ كماة بأيّهم / ظفرنا رأينا كهلهم كفتيّهم
حماةٌ بماضيهم وفي سمهريِّهم / وبالسُّمر تحني البيض شبَّان حيِّهم
وبالبيض تحمي السُّمر قسراً كهولها /
من القومِ ما زالت تطبّق سحبهم / وفي عدم الجدوى تفارط صوبهم
كرامٌ بيوم الجدب يُعرَفُ خصبهم / يهشون للعافي إذا ضاقَ رحبهم
وجوهاً كأسياف يضيء صقيلها /
نماهم أبٌ عالي الجناب سميذع / وعن أصل زاكي العنصرين تفرَّعوا
فإن يدَّعوا العلياء كانَ كما ادَّعوا / إلى خندقٍ ينمى علاهم إذا دُعوا
ومن خير أقيالٍ إذا عُدَّ قيلها /
فمن لي بأبياتٍ يروقك وصفها / يُهان معاديها ويُكرَمُ ضيفها
بحيث العُلى والعزُّ ممَّا يحضّها / وما العزّ إلاَّ في بيوتٍ تلفّها
عذارى وأبكارُ المطيّ حمولها /
تلمّ بها إنْ داهمتها ملمّة / رجال مساعيها إلى المجد جمَّةٌ
وإن هي زمَّتها على السَّير أزمةٌ / تحفّ بها من آل وائل غِلْمَةٌ
لهم صولة في الحربِ عال تليلها /
وإنِّي لأشكو عصبةً ما تطأطأت / لرشد وإنْ تُدعَ إلى الرشد أبطأت
لها الويل قد خَطَّت ضلالاً وأخطأت / إلى الله أشكو عصبة قد تواطأت
على دَخَنٍ بغياً فضَلَّت عقولها /
إلامَ المعالي يملك الرذل رقّها / ويمنعها من ظلمه مستحقّها
ألا دعوةٌ للمجد نَوْفُ صدقها / ألا غيرةٌ تقضي المنازل حقَّها
وتوقظ وسنان التراب خيولها /
عوادي بميدان الوغى لمفاخر / بكلِّ نزاريّ على الموت صابر
إذا أَقْبَلَتْ من كلِّ عوجاء ضامر / عليها رجال من نزارٍ وعامر
مطاعين في الهيجا كريم قتيلها /
إذا نحنُ لم نحْمَدْ بحالِ ذهابنا / إلى شرِّ جيلٍ شرّهم قد أنابنا
فَلِمْ نعاني حزننا واكتئابنا / كفى حزناً أنَّا نعنى ركابنا
إلى معشرٍ من جيل يافث جيلها /
تركت ديار اللَّهوِ والعقل تابعي / وبدَّلْتُ سكناها بسكنى المرابع
وما غرَّني في الكون برق المطامع / إذا كانت العلياء حشو مسامعي
يريني المعالي سفحها وطلولها /
لقد خابَ مسعاها إليهم وبئسَ ما / تقحّمتْ الأَمرَ الخطير تقحّما
تروح رواءً ترتمي أيَّ مرتمى / فترجع حَسْرى ظلّعاً شفَّها الظَّما
فيا ليتها ضَلَّتْ وساءَ سبيلها /
لئن كانَ صحبي كلُّ أروع يجتري / على كلِّ ليث في الكريهة قَسوَر
ترفَّعْتُ عن رذل الصفات مصعّر / فلا ألوي للأَنذال جيدي ومعشري
بهاليل مستن المنايا نزولها /
إذا لم يكن ظلٌّ خليًّا من الأَذى / تلَذَّذْتُ في حَرِّ الهجير تلذُّذا
وبدَّلتُ هذا بعد أن عفته بذا / رعى الله نفسي لم ترد مورد القذى
وتصدى وفي ظلِّ الهجير ظليلها /
يرى المجدَ مجداً من أغار وأنجدا / ولم يُبْق في جَوْب الفدافد فدفدا
إلى أن شكته البيد راح أو اغتدى / ومن رام مجداً دونه جرع الرَّدى
شكته الفيافي وعرها وسهولها /
رجال المعاني بالمعالي منالها / مناها إذا ما حانَ يوماً نزالها
هي المجد أو ما يعجب المجد حالها / وما المجد إلاَّ دولة ورجالها
أُسودُ الوغى والسمهريَّة غيلها /
ديار بها نيطت عليَّ تمائمي / وكان العُلى إذ ذاك عبدي وخادمي
فكيف أرى في اللَّهو لمعة شائم / إذا أَبْرَقَتْ في السّفح صوب الغنائم
وشاقَ لعينِ الناظرين همولها /
يذكرني ذاك العهاد معاهدا / يروقك مرآه إذا كنت رائدا
فكنْ لي على صوْب الدموع مساعدا / متى سمعت أُذناك منِّي رواعدا
تصوب عَزاليها وتهمي سيولها /
ذكرتُ زماناً قد مضى في رحابها / سقته عيون المزن حين انسكابها
لقد شاقني ظبيُ الكناس الَّذي بها / فكم مرَّة في بعدها واقترابها
تشافت من الأرض الجراز محولها /
فأنبتَتِ الخضراءُ محمرَّ وَرْدها / وفاخرت البيداء في وشي بردها
ولما طغت في جَزرها بعد مدِّها / سقى كلَّ أرضٍ صوبها فوق حدِّها
ورواحها عقبى النسيم بليلها /
فيا ليت شعري هل أرى بعد دارها / من العنبر الورديّ مَوْقِدَ نارها
وهل ناشقٌ من رندها وعرارها / على أنَّها مع قربها من مزارها
تلوحُ لعيني في البعاد تلولها /
قضيت بها عيشاً على الرغمِ ناعما / أرى صادحاً في صفحتيه وباغما
فيوقظ من كانَ في الطيف حالما / ولم يستمع فيها عذولاً ولائما
إذا كانت الورقاء فيه عذولها /
فكم راكب فوق الكُمَيْتِ وسابقِ / بحَلبَة مجراه غدا غيرَ لاحق
إذا لمعت في اللَّيل لمعة بارق / يذرّ عليه بالسنا ضوء شارق
كما ذرَّه مصباحها وفتيلها /
فكن مسعدي يا سعد حين انقضائها / متى نفرت جيرانها من فنائها
وأقْفَرَ ذاك المنحنى من ظبائها / وحلَّ سوادٌ في مكان ضيائها
وما أُعْطِيَتْ عند التوسُّل سولها /
فما العيش إلاَّ مُنْيَةٌ أو مَنِيَّة / به النفس ترضى وهي فيه حريَّة
فهذي برود نسجها سندسيَّة / وما النفس إلاَّ فطرة جوهريَّة
يروق لديها بالفعال جميلها /
ففيها يكون المرء شهماً معظما / لدى كلّ من لاقاه بغدو مُكَرَّما
فهذا تراه بالفخار معمَّما / إذا المرء لم يجعل حلاها تحلّما
فقد خابَ مسعاها وضلَّ مقيلها /
فألطف آثار الحبيب طلولها / وأنفسُ أطرار السيوف نصولها
فهذي المزايا قلَّ من قد يقولها / وأحسن أخلاق الرجال عقولها
وأحسن أنواع النياق فحولها /
كمال الفتى يحلو بحسن صفاته / فيزهو لدى الأَبصار لطف سماته
يفوق الفتى أقرانه في هباته / وهل يقبل الإِنسان نقصاً لذاته
إذا كانَ أنوار الرجال عقولها /
فلا العرض من هذا الفتى بمدنَّس / إذا حلَّ في ناد بخيرٍ مؤسَّسِ
وهذا الَّذي قد فازَ في كلِّ أنفَس / فكم أثْمَرَتْ بالمجد أغصانُ أنفسِ
إذا ما زكت أعراقها وأُصولها /
يُؤَرِّقُني في ذكرهم حين يعرض / نسيمُ الصَّبا يسري أو البرق يومضُ
أحبَّةَ قلبي صدُّوا وأعرضوا / ويوحشني من بالرَّصافة قوّضوا
ولي عبرات في الديار أجيلها /
أرى جاهلاً قد نال في جهله المنى / كذا عالماً عانى على علمهِ العَنا
وذلك من جور الزَّمان وما جنى / ومن نكد الأيام أَنْ يُحرَمَ الغنى
كريمٌ ويحظى بالثراء بخيلها /
أراني وأنياقي لإلفٍ وصاحبي / إلى جانب أصبو وتصبو لجانب
فما بالنا لم نتَّفق في المذاهب / تَحِنُّ إلى أرض العراق ركائبي
وصحبي بأرض الشام طابَ مقيلها /
فهل تسمح الأيام لي برجوعها / فأحظى بأحبابٍ كرامٍ جميعها
لقد عاقني عنها نوًى بنزوعها / وأخَّرني عن جلّق وربوعها
علائق قد أعيا البخاتي حمولها /
لقد عادت الأيام تزهو بوصلها / وإشراق محياها وأبيض فعلِها
تذكَّرتها والعين غرقى بوبلها / وعاوَدَني ذكرى دمشق وأهلها
بكاء حمامات شجاني هديلها /
شجتني وما قلب الشّجيِّ كقلبها / ولم تحكِ من عينيّ منهلّ صوبها
فما برحت من شجوها أو لجّها / تردِّد ألحاناً كأَنَّ الَّذي بها
من الوجد ما بي والدموع أُذيلها /
منازل أشواقي ومنشا علاقتي / وسكر صباباتي بها وإفاقتي
حَلَفْتُ يميناً صادقاً جهد طاقتي / لئن بلَّغتني رمل يبرين ناقتي
عليَّ حرام ظهرها ومشيلها /
ولم أنسَ لا أنسِيتُ في كلِّ ضامر / وقوفي على ربع الظمياء داثر
بحسرةِ ملهوفٍ وصفقة خاسر / وكم لي على جيرون وقفة حائر
له عبرات أغْرَقَتْهُ سيولها /
ألَمْ تنظرِ الأَرزاء كيفَ تعدَّدَتْ / وساعدت النحسَ الشّقيَّ وأسعدت
قعدنا وقامت أرذلونا فسُوِّدَتْ / وكم باسقاتٍ بالرّصافة أقعدت
على عجزها حيث استطال فسيلها /
لقد نالها دنياً دنيٌّ تجبَّرا / فتاهَ على أشرافها وتكبَّرا
وكانَ أذلَّ العالمين وأحقرا / لحى اللهُ دنياً نالها أحقرُ الورى
وتاهَ على القومِ الكرام فسولها /
لعلَّ خطوباً قد أساءَت تسرُّني / عواقبها حتَّى أراها بأعيُني
وإنِّي على وهني لما قد أمضَّني / سأحمل أعباء الخطوب وإنَّني
لأنتظر العقبى وربِّي كفيلها /
بكتْ بدمٍ من بعد عيسى وبندر
بكتْ بدمٍ من بعد عيسى وبندر / عيونُ ذوي الحاجات من كلِّ معشر
وأهرقت الدمع الغزير عليهما / لواعج حزن في الجوانح مضمر
فلم تبق منه زفرة ما تأجَّجت / ولا عبرة من مقلة لم تحدّر
أقول لركب راح يرتاد منزلاً / لربع على نهر المجرّة مقفر
سرى ضارباً في الأرض ما بين منجد / يخدّ أخاديد الفلاة ومغور
أقيموا على قبر ثوى فيه بندر / صدور المطايا ما ثوى قبر بندر
ولا تسأموا من واكف الدمع وافرجوا / من الحزن مبيض الدموع بأحمر
ولا تندبوا غير المكارم والعلى / لعالٍ كما صدر القناة مشهر
بكيت فأكثرت البكاء وحقّ لي / بكائي على وفد من العز مكثر
وإنِّي لمعذور إذا ما بكيته / بأكثر من قطر الغمام وأغزر
ولي عَبرة لم ترقا عند ادّكاره / كما لي فيه عبرة المتفكر
وهيهات أنْ أسلو يوماُ وإنّني / خلا منه يوماً خاطري وتذكري
حسامٌ صقيل المتن أُغمِدَ في الثرى / ووارى ترابُ الأرض طلعة نيّر
وقد كانَ لم يحجب سناه بحاجب / ولم تستتر أضواؤه بمستّر
فوا أسفي إنْ كانَ يغني تأسُّفي / وما حَذَري إنْ كانَ يجدي تحذري
وكنت أراني في النوائب صابراً / فأعدَمني صبري فأنى تصبّري
وإنِّي لمقبول المعاذير في الأسى / ومن يعتذر مثلي إلى الصبر يُعذر
لقد ضقت ذرعاً بعد فقدان باسل / من الصيد مفتول الذراع غضنفر
وما سرّ نفسي بعده ما يسرّها / ولا راق ما قد راق شيء لمنظري
فيا عبراتي كلّ آن تحدّري / ويا نار أحشائي عليه تسعّري
فقد غاض بحر كلَّما مدّ راحة / إلى الوفد فاضت منه خمسة أبحر
فتسخر من وبل السحاب أكُفُّه / بأبرعَ من وبل السحاب المسخّر
إلى الله خطب كل يوم يعاد لي / برزءٍ من الأرزاء يقطع إبهري
مصابٌ أُصيبَتْ فيه آل محمد / برغم العوالي من وشيج وسمهري
أصيبَتْ بقوم ما أُصيبَتْ ولم تصب / به مُضَرُ الحمرا ولا آل حميرَ
أرتنا المنايا كيف تُصمي سهامها / وكيف تصول النائبات وتجتري
ولو أنَّه يُفدى فَدَتْهُ أماجدٌ / ترى الموت إلاَّ فيه أربحَ متجر
ولو أنَّه يدعو الكمأة لنصره / عليها أجابته بنصرٍ مؤزر
ولكنه اغتالته إذ ذاك غيلةً / ولم تمتنع عنه بجند وعسكر
خذي من تشائي بعد أخذك بندراً / من الناس من قد شئته وتخيّري
فما كانَ مفقود تشق جيوبها / عليه المعالي يوم مجد ومفخر
سقاك الحيا المنهلُّ يا قبر بندر / وحيّاك مُهراقُ الغمام الممّطر
سألتك والأجفان يرفضّ ماؤها / عن الضيغم العادي فهل أنت مخبري
تدلّى عقيراً فيك والحتف صارم / لعمري متى يُعقَرْ به الليث يُعقر
محاسنُ ذاك الوجه كيف تغيّرت / وكان على الأيام لم تَتَغيَّر
وكان يلاقي ضيفه متهلّلاً / بوجه صباحٍ بالمحاسن مسفر
وقد نُكّرت من بعد علمي بأنها / معارف للمعروف لم تتنكر
مضى لا مضى إلاَّ على عفور ربه / ومسرح جنات ومورد كوثر
فهل وَدَّعَتْه المشرفيّة والقنا / وناحت عليه البيض في كل محضر
لِمَن ترك الخيل الجياد كأنها / عرائس ما زُفَّت لغير مظفر
صواهل يعشقن الطراد بموقف / تبيع الردى فيه الكماة وتشتري
دعوناه للجدوى مراراً فلم يجب / دعاءً لنا عن عزّة وتكبّر
وكان من الداعي بمرآى ومسمعٍ / وفي منظر مما يروق ومخبر
قريب من الحسنى مجيب لمن دعا / زعيم بأخذ الفارس المتجبر
تراه سلانا بعد هذا بغيرنا / بأرغد عيشٍ أم بأكرم معشر
ألم يَدْر أنَّ المُلك أُهمل بعده / ليس سوى فهد له من مدبر
وأنَّ بني العلياء ضاقت صدورها / لفقدان ذاك السيّد المتصدر
ومن نَظَرَ الأيام معتبراً بها / رآها بعين الذاهل المتحير
تحذّرنا صرف المنون نزولها / وتنذرنا في كلّ يوم بمنذر
ونغتر بالآمال لا في سرابها / شراب ولا منها ورود لمصدر
ونبكي على الدنيا على غير طائل / وما أحدٌ من أهلها بمعمَّر
نؤمّل فيها أنْ يدومَ لنا بها / حياة وما دامت لكسرى وقيصر
ونطمع منها بالمحال ولم تكن / أمانيُّنا إلاَّ أحاديث مفتري
وهذي هي الآجال قد قُدّرت لنا / ولم يَنَل الإنسان ما لم يُقدَّر
ولا بد أن يُمشى بنا فوق أرْبَعٍ / إلى حفرة لا مشيةَ المتبختر
ولو أننا كنّا بقصرٍ مشيّدٍ / وحصنٍ حصينٍ بالحديد مسوّر
وإنَّ المنايا كائناتٌ لوقتها / إذا قُدّمت للمرء لم تتأخر
ولا وَزَرٌ مما قضى الله عاصم / ولا يتّقى منه بدرع ومغفر
على أنها الدنيا إذا ما صفا لنا / بها العيش شابت صفوَه بمكدّر
ومن ترك الدنيا رآها بعينه / قصاصة ثوب أو قلامة أظفُر
لِيَهْنِك يا نحير أهلِ زمانِهِ
لِيَهْنِك يا نحير أهلِ زمانِهِ / ويا كاملاً عنه غدا الطرف قاصرا
يا منبعاً للجود والفضل والندى / ومن لم يزل بحراً من العلم زاخرا
ويا من يحلّ المشكلات بذهنه / وأفكاره رأياً تحير البصائرا
بطفل زكيّ قد أتاك وإنّما / يضاهيك بالأخلاق سرًّا وظاهرا
وبشرتني فيه فقلت مؤرخاً / بمولد عبد الله نلت البشايرا