سأَبكي وأَستبكي عليك المعاليا
سأَبكي وأَستبكي عليك المعاليا / وأَسْكُبُ من عيني الدموعَ الجواريا
وأصْلى لظى نار الأَسى كلَّما أرى / مكانك ما قد كانَ بالأَمس خاليا
وإنْ لم يكنْ يُجدي البكاءُ ولم يَعُدْ / عليَّ الأَسى من ذلك العهد ماضيا
ومن حقّ مثلي أن يَذوبَ حشاشة / من الحزن أو يبكي الدِّيار الخواليا
خَلَتْ من أبي محمود دار عهدتها / تُضيء بها أرجاءها والنَّواحيا
تَنَوَّرها من كلّ فجٍّ مؤمّلٌ / وطارق ليلٍ يبتغي العزَّ راجيا
على ثقةٍ بالنَّيْل ممَّا يرومُه / يُعاني السّرى ليلاً ويطوي الفيافيا
إذا بلغتْ آلَ الجميل ركابه / فقد فازَ بالجدوى ونالَ الأَمانيا
ولمَّا مضى عبد الغنيّ مضتْ به / صنايع برٍّ تستفاض أياديا
مضى أيُّها الماضي بك الجود والنَّدى / وأصبَحَ روض الفضل بعدك ذاوِيا
لئنْ كنتُ أغدو من جميلك ضاحكاً / لقد رُحْتُ أُلفى موجع القلب باكيا
وقد كنتُ ألقى الخير عندًك كلّه / إلى أن قضى الرَّحمن أنْ لا تلاقيا
فقدماك فقدان الغَمامة أقلَعْتْ / وقد ألْبَستْ برد الرَّبيع اليمانيا
وكانَ مرادي أن أكون لك الفدى / ولكنْ أراد الله غير مراديا
على هذه الدُّنيا العفا بعد باسلٍ / عقير المنايا يعقر اللَّيث جاثيا
ولو أنَّ قَرماً يُفتدى من مَنِيَّةٍ / ويمضي بما يفدي من الموت ناجيا
فَدَتْكَ صناديدُ الرِّجال وأرْخصَتْ / نفوساً أهانَتْها المنايا غواليا
لقيْتُ بك الأَيَّام غرًّا فأصْبَحَتْ / بفقدك يا شمس الوجود لياليا
وما كنتُ أخشى أن أُراعَ بحادثٍ / يجُرُّ إليَّ القارعات الدواهيا
وفي نظرٍ من عين لطفك شاملي / لقد كنتُ مرعِيًّا وقد كنتَ راعيا
وكنتُ إذا يَمَّمْتُ جودك ساخطاً / على الدَّهر أمضي من جميلك راضيا
أمُرُّ على ناديك بعدك قائلاً / سُقِيتَ الحيا المنهلَّ بالوبل ناديا
وأَذكرُ ما أوْلَيْتَني من صنايعٍ / من البرّ معروفاً وما كنتُ ناسيا
وكنتُ متى أسعى إليك بحاجةٍ / حَمِدْتُ لدى علياك فيك المساعيا
فيا جَبَلاً ساروا به لضريحه / يُطاول بالمجد الجبال الرَّواسيا
إلى جنَّة الفردوسِ والعفو والرّضى / وفي رحمة الرَّحمن أَصْبَحتَ ثاويا
تَبَوَّأْتَ منها مقعدَ الصّدق مُكْرَماً / ونلْتَ مقاماً عند ربّك عاليا
وغُودِرْتَ في دار النَّعيم مخلَّداً / وفارقْتَ إذ فارقت ما كانَ فانيا
أناعٍ نعاه معْلِناً بوفاته / أَسْمَعْتَ أم أَصْمَمْتَ ويحكَ ناعيا
شققت قلوباً لا جيوباً وأَذْرَفَتْ / على الوَجَنات المرسلاتِ دواميا
وأسْرَعْتَ إحراقَ القلوب صوادياً / وعاجَلْتَ إهراقَ الدموع سواقيا
رُوَيْدَك ما أَبقيتَ بالجود مطمعاً / ولا لذوي الحاجات في النَّاس راجيا
نَعَيْتَ إلى العلياء أفلاذ قلبها / وأدْمَيْتَ منها مهجةً ومآقيا
وممَّا يُريعُ الرُّوح قولك بعده / قريب من الإِحسانِ أصبح نائيا
فيا ليتني ذُقْتُ المنيَّة قبله / ولم أرَ فيه ما يشيب النَّواصيا
صُروف المنايا العاديات كأَنَّها / تخالُ الكرام الأَنجبين أعاديا
قضى الله بالأَمر الَّذي قد قضى به / وكانَ قضاء الله في الخلق جاريا
أُقَلِّبُ طرفي بالرِّجال وأَغتدي / لنفسي بنفسي خاطباً ومناجيا
تبدَّلتِ الشُّمُّ العرانين والتَوَتْ / بهمْ بدهًى دهياء تُصْمي المراقيا
ولم يبقَ في بغدادَ مَن لو فقدتُه / أُسَيْتُ له أَو كانَ للحزن آسيا
لقد زالت الشّمُّ الرَّواسي فلم نبلّ / إذا زلزلتْ بعد الجبال الرَّواسيا
سُقِيتَ الغوادي طالما قد سَقَيْتَني / على ظمأ من راحتيك الغواديا
وحيَّاك منهلٌّ من المُزن رائحاً / وحيَّاك منهلٌّ من المُزن غاديا
ترَحَّلتَ عنَّا لا ملالاً ولا قِلًى / وهل يعرف السلوانُ بعدك ساليا
وحال الثَّرى بيني وبينك بالرَّدى / فما تُدْرَكُ الآمالُ إلاَّ أمانيا
كأَنَّك لم تولِ ولم تُنِلْ / جزيلاً ولم تُطلق من الأَسر عانيا
عزاءً بني عبد الغني فإنَّكم / فقَدْتُمْ به ظلاًّ على الخلق ضافيا
ودِرعاً حَصيناً يعلمُ الله أنَّه / مدى الدَّهر لم يبرح من الدَّهر واقيا
بنى لكم المجدَ الأَثيلَ الَّذي بنى / ولا تهدمُ الأَيَّام ما كانَ بانيا
إذا بَزَغَتْ منه نجومُ مناقبٍ / أُباهي بساريها النُّجوم السَّواريا
لِمَنْ أَنظمُ الشّعر الَّذي دقَّ لفظُه / ورَقَّ أساليباً وراقَ معانِيا
وما كانَ يحلو لي القريض ونظمه / إذا لم يكنْ في ذكره الشّعر حاليا
وأُقسِمُ لو لامستُ قبرَك فالغنى / وحقّك مرجوُّ الحصول به ليا
أَخَذْتَ المزايا والمكارم كلّها / جميعاً فما أبْقَيْتَ للنَّاس باقيا
ويا آخر القوم الكرام لعصرنا / مَضَيْتَ ولمْ يُعْقِب لك الدَّهر ثانيا
يُراعُ بك الخطبُ المهولُ وتُنْتَضى / على حادث الأَيَّام عضْباً يمانيا
وكم نعمةٍ أوْلَيْتَنيها وحَسرةً / غَدَوْتُ بها من لوعة البين شاكيا
إذا نثرت عيني عليك دموعَها / نظَمتُ لأحزاني عليك القوافيا
وقد كنتُ أشتاق المدائح قبلها / وبعد لا أشتاق إلاَّ المراثيا