المجموع : 3
إذا ما الفتى في دهره أحسن الظنّا
إذا ما الفتى في دهره أحسن الظنّا / فما أدرك المغزى ولا فهم المعنى
وما الحزم إلا أن نرى الدهر هاجماً / فنبنيَ من تدبيرنا دونه حصنا
وما الدهر إلا مبهرِ في طباعه / يغرّر بالأقوام يفتنهم فَتنا
يروع بنيه صائلاً بنباته / فقد ضلّ مَن من دهره يطلب الأمنا
يذفّ عليهم بالظبي من خطوبه / فكم جدعت أنفاً وكم صلمت أذنا
وما شهبه إلا مخالب كيده / تمدّ بجوف الليل دامية حجنا
إذا ما تشممت الزمان وطبعه / تشمّمت من أعماق طينته نتنا
إليك فتى السعدون جئت مهنّئاً / بما نلته عند الإله من الحسنى
إذا ما دممنا الدهر يوماً وأهله / فإنك من تلك المذمّات مستثنى
أتى يومك الدامي بذكراك حافلا / فجدّد في كل البلاد لنا حزنا
ففي مثل هذا اليوم بتّ مضرّجاً / وبتنا نحاكي في مداعمنا المزنا
وفي مثل هذا اليوم في حفرة البلى / جعلنا بك الآمال مدفونة هنّا
عشيّةً أطلقت المسدّس ناره / على قلبك الخفّاق من يدك اليمنى
فللّه نار قد بردت بحرّها / وإن سال منها دمعنا بالجوي سخنا
لئن أفقدت بالموت قلبك نبضه / فكم أنبضت بالحزن أفئدةً منّا
وكم أنطقت دمع المحاجر بالأسى / على أنها بالهول أخرست اللسنا
فيا طلقةً ريع العراق بصوتها / فبانت به الآفاق عابسةً دكنا
وردّد مجرى الرافدين لصوتها / صدى الحزن من أقصى العراق إلى الأدنى
لقد جمع الأموال باسمك معشر / لتخليدهم ذكراك في معهد يبنى
وما علموا أن المباني كلّها / وإن قويت تفنى وذكرك لا يفنى
وأعظم تخليداً لذكراك منهم / فعائلك الغرّاء والخلق الأسنى
سعيت إلى استقلال قومك مخلطصاً / وما كنت في يوم على القوم ممتنّا
وقعت بأعباء السياسة ناهضاً / يهمّة لاوانٍ ولا ناكصٍ جبنا
وأبديت في تلك المواقف كلّها / أصالة رأيٍ قط لم يعرف الأفنا
فإن كنت لم تنجح فليس لعلّةٍ / سوى أن خصم القوم في كيده افتنّا
زكت لك نفس بين جنبيك حرّة / فلا أظهرت كبراً ولا أضمرت ضغنا
لنا المثل الأعلى بحلمك والنّدى / فكم بهما أثنى عليك الذي أثنى
فأحنف ربّ الحلم بالحلم فقته / وفي الجود قد فقت ابن زائدة معنا
ألست الذي قدم رام قتلك قاتل / فأطلقته عفواً وأوسعته مَنّا
سيبقى على الأيام ذكرك خالداً / به صحف التأريخ قاطبةً تعنى
فيا بطلاً بالنفس ضحّى وإنما / بذلك لاستقلالنا سنّةً سنّا
فعلّمنا أنّ التفادي واجب / على كل قوم حاولوا شرف المغنى
سنسعى إلى ما قد سعيت من العلا / بصادق عزم ينكر الضعف والوهنا
وإنا لقوم مستقلّون فطرةً / إذا أنكر استقلالنا منكر ثرنا
فلو جعلت تبراً سبيكاً بيوتنا / ولسنا بحكام أبينا بها السكنى
يهون علينا في السياسة أننا / نصلّب في الأعواد أو ندخل السجنا
ولسنا نبالي دون أحياء مجدنا / أعشنا على وجه البسيطة أم مُتنا
إذا أدرك المجد المؤثّل معشر / أُحاد فأنّا نحن ندركه مثنى
نفوساً ورثناها كباراً أبيةً / أبت في الدنى أن تحمل الضيم والغبنا
أما آن أن تُنْسى من القوم أضغان
أما آن أن تُنْسى من القوم أضغان / فيُبنَي على أسّ المؤاخاة بنيان
أما آن يُرمَى التخاذُل جانبا / فتكسبَ عزاً بالتناصُر أوطان
علام التعادي لأختلاف ديانة / وأن التعادي في الديانة عُدوان
وما ضَرَّ لو كان التعاوُن ديننا / فتَعْمُرَ بلدان وتأمنَ قطّان
إذا جمعتنا وحدة وطنيّة / فماذا علينا أن تَعَدَّد أديان
إذا القوم عَمَّتْهم أمور ثلاثة / لسان وأوطان وباللَّه إيمان
فأيّ اعتقادٍ مانعٌ من أخوّة / بها قال أنجيل كما قال قرآن
كتابان لم يُنزلهما اللَّه ربنا / على رُسْله إلاّ ليَسعَد أنسان
فمن قام باسم الدين يدعو مُفّرِقاً / فدعواه في أصل الديانة بُهتان
أنَشقى بأمر الدين وهو سعادة / إذاً فإتباع الدين يا قوم خُسران
ولكن جهل الجاهلين طَحا بهم / إلى كل قول لم يؤيّده برهان
فهامُوا بتَيْهاء الأباطيل كالذي / تخَبَّطَه من شدة المَسّ شيطان
مَواطنكم يا قوم أُمّ كريمة / تدُرّ لكم منها مدى العمر ألبان
ففيِ حضنها مهدٌ لكم ومَباءةٌ / وفي قلبها عطف عليكم وتَحْنان
فما بالكم لا تُحسنون وواجب / على الابن للام الكريمة أحسان
أصبراً وقد أمسَى العدوّ يُهينها / أما فيكم شَهْم على الام غَيْران
أجل أنكم تأبى الحياة نفوسُكم / إذا لم يكن فيها على المجد عُنوان
ألستم من القوم الذين عَلاؤُهم / تَقاعس عنه الدهر وأنحطّ كيوان
نمَتْكم إلى المجد المُؤثَّل تغلبٌ / كما قد نمتكم للمكارم غَسّان
فلا تُنكروا عهد الأخاء وقد أتت / تصافحكم فيه نزار وعدنان
أجبْ أيها النَدْب المسيحيّ مسلماً / صفا لك منه اليوم سرٌّ وأعلان
فلا تَحرِما الأوطان أن تتحالفا / يداً بيدٍ حتى تؤكَّد أيمان
ألا فانهضا نحو العِدي وكلاهما / لصاحِبه في المأزِق الضَنْكِ معوان
وقولا لمن قد لام صَهْ وَيْك أننا / على حال في المواطن أخوان
فمَنْ مبلغُ الأعداءِ أن بلادنا / مَآسِد لم يَطرُق َذراهنّ سرحان
وأنّا إذا ما الشّر أبدى نُيوبه / رددناه عنا بالظُبي وهو خَزيان
سنَستَصرخ الآساد من كل مَربض / فتمشي إلى الهَيْجاءِ شيب وشُبان
أسود وغىً تأبى الحياة ذَمِيمةً / وتلبس بالعزّ الرَدىَ وهو أكْفان
مَقاحِيم تَصْلَى المَعمَعان مُشِيحةً / إذا أحتَدَمت في حَوْمة الحرب نيران
وتكسو العَراء الرَحب مسْح عجاجة / يَمُجّ بها السيفُ الرَدى وهو عُريان
سننهض للمجد المخلَّد نهضة / يقرّ بها حَوران عيناً ولُبنان
وتعتزّ من أرض الشَآم دمشقها / وتهتز من أرض العراقَيْن بغدان
وتطرَب في البيت المقدَّس صخرة / وترتاح في البيت المحرَّم أركان
وتَحسُن للعُرب الكرام عواقب / فيحمَدها مُفتٍ ويشكر مطران
ولو أنصفتنا ساسة الغرب لأغتدت / دمشق لها من ساسة الغرب أعوان
ورقّت قلوب للعراق وأهله / وأصغت إلى شكوى فلسطين آذان
ولكنهم رانت عليهم مطامع / فأمسَوْا وهم صُمٌّ عن الحق عُميان
لقد قيل أن الغرب ذو مدنيّة / فقلت وهل معنى التمدن عُدوان
وأيّ فَخارٍ كائنٌ في تمَدُّن / إذا لم يقُم في الغرب للعدلِ ميزان
إذا كانت الأخلاق غير شريفة / فماذا عسى تُجْدي علوم وعِرفان
بنفسي أفدي في العراق مَنابتاً / يفوح بها شِيحٌ ويَعبَق حَوْذان
رياض رَعَتْها النائبات بأذْؤب / من الجَور فأرتاعت ظباء وغِزلان
لقد كان فيها الرَنْد والبان زاهياً / فأصبح لارند هناك ولا بان
وأصبح مَرْصوداً بها كل مَنْهَل / عليه من التَرْنيق بالظلم ثعبان
وظلّ ابنها عن كل حَوْض مُحَلأً / يَحُوم على سَلساله وهو عطشان
سأبكي عليها كلما هبّت الصَبا / فمالت بها من حول دجلة أغصان
ومَن ذَرَفت آماقه الدمعَ لؤلؤاً / ذرفت عليها أدمُعي وهي مَرْجان
بكت في ظلام الليل تندب أهلها
بكت في ظلام الليل تندب أهلها / بصوت له الصخر الأصمَ يَلين
وباتت وقد جلّ المُصاب حزينةً / لها في مناحى الغُوطتين أنين
تئن وقد مدّ الظلام رِواقه / وخيّم صمت في الدجى وسكون
إذا هي مدّت في الدُجُنّة صوتها / تَميد له في الغوطتين غصون
وتلهب منه في الفضاء شرارة / فتُبصرها في الرافدين عيون
وتَهبو له في ساحل النيل هَبوة / أبو الهول منها واجد وحزين
ومن بعد وهن أشرق البدر طالعاً / فأسفر منها عارض وجبين
فأبصرت منها الوجه أزهر مشرقاً / بخديه سر للجمال مصون
جمال بديع بالجلال متَّوج / له سبب في المكُرمات متين
وبَرقَعَها حزن فكان لوجهها / مكان من الحسن المَهيب مكين
فتاة جَثَت في الأرض تبكي وحولها / صريع على وجه الثرى وطعين
فضمت إلى الصدر اليدين وعينها / تقاذفُ منها بالدموع شؤون
وقد شَخَصت نحو السماء بطرفها / لها كلَّ آن زَفرة وحنين
وما أنس لا أنس العشّية أنها / تورّمَ منها بالبكاء جفون
وإن غزير الدمع خدّد خّدها / فلاحت من الأشجان فيه فتون
ولما انقضى صبري تراميت نحوها / كما ترتمي بالعاصفات سَفين
وقلت لها مَن أنت رُحماك إنني / لك اليوم خِلٌ صادق وأمين
فقالت وقد ألقت إليّ بنظرة / عن القصد فيها مُعرب ومُبين
أنا البلدة الثكلى دمشق ابنة العلا / أما أنت في مغنى دمشق قَطين
ألم تر أبنائي يُساقون للردى / فمنهم قتيل بالظُبى وسجين
فأين أباة الضيم من آل يعرب / ألم يأتِ منهم ناصرٌ ومُعين
فقلت لها لبَّيك يا أُمّ إنهم / سيأتيك منهم بارزٌ وكمين
سندرك فيك الثأثر من أنفس العدى / ونُوقِد نار الحرب وهي زَبون
فهذي دمشق يا كرام وهذه / أحاديث عنها كلهن شُجون