القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : مَعرُوف الرُّصافِيّ الكل
المجموع : 15
قرأت وما غير الطبيعة من سفر
قرأت وما غير الطبيعة من سفر / صحائف نحوي كل فن من الشعر
أرى غرر الأشعار تبدو نضيدوً / على صفحات الكون سطراً على سطر
وما حادثات الدهر إلاّ قصائد / يفوه بها للسامعين فم الدهر
وما المرء إلا بيت شعر عروضه / مصائب لكن ضربه حفرة القبر
تنظّمنا الأيام شعراً وإنّما / ترّد المنايا ما نظمن إلى النثر
فمّنا طويل مسهب بحر عمره / ومنّا قصير البحر مختصر العمر
وهذا مديح صيغ من أطيب الثنا / وذاك هجاء صيغ من منطق هجر
وربّ ينام في المقابر زرتهم / بمنهل دمع لا ينهنه بالزجر
وقفت على الأجداث وقفة عاشق / على الدار دارس الطلل القفر
فما سال فيض الدمع حتى قرنته / إلى زفرات قد تصاعدن من صدري
أسكان بطن الأرض هلاّ ذكرتم / عهوداً مضت منكم وأنتم على الظهر
رضيتم بأكفان البلى حللاً لكم / وكنتم أولي الديباج والحلل الحمر
وقد كنتم تؤذي الحشايا جنوبكم / فكيف رقدتم والجنوب على العَفر
ألا يا قبوراً زرتها غير عارف / بها ساكن الصحراء من ساكن القصر
لقد حار فكري في ذويك وإنه / ليختار في مثوى ذويك أو لو الفكر
فقلت وللأجداث كفي مشيرة / ألا أن هذا الشعر من أفجع الشعر
وليل عدافىّ الجناحين بته / أسامر في ظلمائه واقع النسر
وأقلع من سفن الخيال مراسياً / فنجري من الظلماء في لجج خضر
أرى القية الزرقاء فوقي كأنها / رواق من الديباج رصع بالدر
ولولا خروق في الدجى من نجومه / قبضت على الظلماء بالأنمل العشر
خليليّ ما أبهى وأبهج في الرؤى / نجوماً بأجواز الدجى لم تزل تسرى
إذا ما نجوم الغرب ليلا تغورت / بدت أنجم في الشرق أخرى على الأثر
تجوّلت من حسن الكواكب في الدجى / وقبح ظلام الليل في العرف والنكر
إلى أن رأيت الليل ولّت جنوده / على الدهم يقفو أثرها الصبح بالشقر
فيالك من ليل قرأت بوجهة / نظيم إليها في نثر أنجمه الزهر
وقلت وطرفي شاخص لنجومه / ألا أن هذا الشعر من أحسن الشعر
ويوم به استيقظت من هجمة الكرى / وقد قدّ درع الليل صمصامةُ الفجر
فأطربني والديك مشجٍ صياحه / ترنّم عصفور يزقزق في وكر
ومما ازدهى نفسي وزاد ارتياحها / هبوب نسيم سجسجٍ طيب النشر
فقمت وقام الناس كل لشأنه / كأنا حجيج البيت في ساعة النَّفر
وقد طلعت شمس النهار كأنّها / مليك من الأضواء في عسكر مجر
بدت من وراء الأفق ترفل للعلا / رويداً رويداً في غلائلها الحُمر
غدت ترسل الأنوار حتّى كأنّها / تسيل على وجه الثرى ذائب التبر
إلى أن جلت في نورها رونق الضحا / صقيلاً وفي بحر الفضاء غدت تجري
وأهدت حياةً في الشعاع جديدةً / إلى حيوان الأرض والنبت والزهر
فقلت مشيراً نحوها بحفاوة / إلا أن هذا الشعر من أبدع الشعر
وبيضة خدر أن دعت نازح الهوى / أجاب ألا لّبيك يا بيضة الخدر
من اللاء يملكن القلوب بكلمة / ويحيين ميت الوجد بالنظر الثزر
تهادت تريني البدر محدقةً بها / أوانس إحداق الكواكب بالبدر
فللّه ما قد هجِنَ لي من صبابة / ألفت بها طيّ الضلوع على الجمر
تصافح إحداهّن في المشي تربها / فنحر إلى نحر وخصر إلى خصر
مررنَ وقد أقصرت خطوي تأدّباً / وأجمعت أمري في محافظة الصبر
فطأطأنّ للتسليم منهنَ أرؤساً / عليها أكاليل ضفرن من الشعر
فألقيت كفّي فوق صدري مسلمّاً / وأطرقت نحو الأرض منحني الظهر
وأرسلت قلبي خلفهنّ مشيعاً / فراح ولم يرجع إلى حيث لا أدري
وقلت وكفي نحوهنّ مشيرة / ألا أن هذا الشعر من أجمل الشعر
ومادة نسج الدمقس غطاؤها / بمجلس شبان هم أنجم العصر
رقى من أعاليها الفنغراف منبراً / محاطاً بأصحاب غطارفة غر
وفي وسط النادي سراج منور / فتحسبه بدراً وهم هالة البدر
فراح بإذن العلم ينطق مقولاً / عرفنا به أن البيان من السحر
فطوراً خطيباً يحزن القلب وعظه / وطوراً يسرّ السمع بالعزف والزمر
يفوه فصيحاً باللغى وهو أبكم / ويسمع ألحان الغنا وهو ذو وقر
أمين أبي التدليس في القول حاكياً / فتسمعه يروي الحديث كما يجري
تراه إذا لقنته القول حافظاً / تمرّ الليالي وهو منه على ذكر
فيالك من صنع به كل عاقل / أقر لآديسون بالفضل والفخر
فقلت وقد تمت شقاشق هدره / ألا أن هذا الشعر من أعجب الشعر
وأصيد مأثور المكارم في الورى / يريك إذا يلقاك وجه فتى حر
يروح ويغدو في طيالسة الغنى / ويقضي حقوق المجد من ماله الوفر
تخوّنه ريب الزمان فاولعت / بإخلاقها ديباجتيه يد الفقر
فأصبح في طرق التصعلك حائراً / يجول من الاملاق في سمل طمر
كأن لم يرح في موكب العزّ راكباً / عتاق المذاكي مالك النهي والأمر
ولم تزدحم صيد الرجال ببابه / ولم يغمر العافين بالنائل الغمر
فظل كئيب النفس ينظر للغنى / بعين مُقِلٍّ كان قس عيشة المثري
إلى أن قضى في علة العُدم نحبه / فجّهزه من مالهم طالبو الأجر
فرحت ولم يحفل بتشييع نعشه / أشيعه في حامليه إلى القبر
وقلت وأيدي الناس تحثوا ترابه / ألا أن هذا الشعر من أحزن الشعر
ونائحة تبكي الغداة وحيدها / بشجو وقد نالته ظلماً يد القهر
عزاه إلى إحدى الجنايات حاكم / عليه قضى بطلاً بها وهو لا يدري
فويل له من حاكم صُبَ قلبه / من الجور مطبوعاً على قالب الغدر
من الروم أما وجهه فمشوّه / وقاح وأما قلبه فمن الصخر
أضرّ بعفّ الذيل حتى أمضّه / ولم يلتفت منه إلى واضح الغدر
تخطّفه في مخلب الجور غيلةً / فزجّ به من مظلم السجن في القمر
تنوء به الأقياد أن رام نهضةً / فيشكو الأذى والدمع من عينه يجري
تناديه والسجان يكثر زجرها / عجوز له من خلف عالية الجدُر
بنيّ أظنّ السجن مسّك ضّره / بنيّ بنفسي حلّ ما بك من ضرّ
بنيّ استعن بالصبر ما أنت جانياً / وهل يخذل الله البريء من الوزر
فجئت أعاطيها العزاء وادمعي / كأدمعها تنهلّ منّي على النحر
وقلت وقد جاشت غوارب عبرتي / ألا أن هذا الشعر من اقتل الشعر
لعمرك ما كل انكسار له جبر
لعمرك ما كل انكسار له جبر / ولا كل سّر يستطاع به الجهر
لقد ضربت كفّ الحياة على الحِجا / ستاراً فعِلم القوم في كنهها نزر
فقمنا جميعاً من وراء ستارها / نقول بشوق ما وراءك يا ستر
حكت سرحة فنواء نُبصر فرعها / ولم ندرِ منها ما الأنابيش والجذر
وقد قال بعض القوم إن حياتنا / كليلٍ وإن الفجر مطلعه القبر
وروح الفتى بعد الردى إن يكن لها / بقاء وحسّ فالحياة هي الخُسر
وإن رقيت نحو السماء فحبّذا / إذا أصبحت مأوىً لها الأنجم الزهر
وأعجب شأن في الحياة شعورنا / وأعجب شأن في الشعور هو الحجر
وللنفس في أفق الشعور مخايل / إذا برقت فالفكر في برقها قطر
وما كل مشعور به من شؤونها / قدير على إيضاحه المنطق الحر
ففي النفس ما أعيا العبارة كشفُه / وقصّر عن تبيانه النظم والنثر
ومن خاطرات النفس ما لم يقم به / بيان ولم يَنهض بأعبائه الشعر
ويا ربّ فكرٍ حاك في صدر ناطق / فضاق من النطق الفسيح به الصدر
ويا ربّ فكر دق حتى تخاوصت / إليه من الألفاظ أعينها الخزر
أرى اللفظ معدوداً فكيف أسومه / كفاية معنّى فاته العدّ والحصر
وافق المعاني في التصور واسع / يتيه إذا ما طار في جوّه الفكر
ولولا قصور في اللغى عن مرامنا / لما كان في قول المجاز لنا عذر
ولست أخُص الشعر بالكَلمِ التي / تُنظّم أبياتاً كما ينظم الدرّ
وذاك لأن الشعر أوسع من لغى / يكون على فعل اللسان لها قصر
وما الشعر إلا كلّ ما رنّح الفتى / كما رنّحت أعطافَ شاربها الخمر
وحرّك فيه ساكنَ الوجد فاغتدى / مهيجاً كما يستنّ في المرح المُهر
فمن نفثات الشعر سجع حمامة / على أَيْكة يُشجي المشوق لها هدر
ومن شذرات الشعر حوم فراشة / على الزهر في روض به ابتسم الزهر
ومن ضحكات الشعر دمعة عاشق / بها قد شكا للوصل ما فعل الهجر
ومن لمعات الشعر نظرة غادة / بنجلاء تسبي القلب في طرَفْها فتر
ومن جمرات الشعر رنّة ثاكل / مفجّعة أودى بواحدها الدهر
ومن نفحات الشعر ترجيع مطرب / تعاور مَجرى صوته الخفض والنبر
وإن من الشعر ائتلاق كواكب / بجنح الدجى باتت يضاحكها البدر
وإن لريحانيِّنا شاعرّيةً / من الشعر فيها أن يقال هي الشعر
وما الشعر إلا الروض أما أميننا / فريحانه والخلق منه هو النشر
وإن لم يكن شعري من الشعر لم يكن / لعمرُ النهى للشعر عند النهى قدر
حياة الورى جسر مديد وإنما
حياة الورى جسر مديد وإنما / عليه الورى يمشون مشية عابر
وللموت كسر ليس يمكن جبره / بلفّ ضمادِ أو بشدّ الجبائر
وقتل الردى قتل جبار فلم تكن / لتدُرك فيه ثأرها نفس ثائر
فإنّ منايانا سهام عوائر / وكيف اثئار في السهام العوائر
أرى الناس طّراً في الردى غير أنهم / ثَووا بين مقبورٍ هناك وقابر
وما الموت إلاّ هوّةٌ أدلج الورى / إليها بمسودّ الدُّجنُة كافر
فهم أبداً يسّاقطون لقمرها / تساقط عميٍ في عماق الحفائر
أرى كل حيّ في الحياة ممُثلاً / رواية رؤيا من كتاب المقادر
رواية رؤيا قد جرت في ديارنا / فجائعها حتى انتهت في المقابر
لقد قدّم الموت الحياة أمامه / نذيراً ومن يُنذر فليس بغادر
فلا عجبْ أنا نرى كل ساعةٍ / أكفّ المنايا داميات الأظافر
تفكّرت في كنه الحياة فلم أكن
تفكّرت في كنه الحياة فلم أكن / لأزداد إلاّ حيرةً في تفكري
وكم بتّ فيها أخبط الليل رامياً / إليها بلحظ الطارق المتنوّر
فلا أهتدي من أمرها لمقدّم / ولا أنتهى من أمرها لمؤخّر
على أنني مهما تقدّمت نحوها / رجعت رجوع الناكص المتقهقر
وهبها كما قد قيل أحلام نائم / أما في بني الدنيا لها من معبّر
تأمّلت آثار الحياة فلم يلح / لعينيّ منها وجه ذاك المؤثّر
سوى أنني آنست شعلة قابس / توقّد في مستن هو جاء صرصر
فبينا سناها يبهج العين لامعاً / أتته كقطع الليل هبوة معصر
فما هي إلا خبوةٌ ترتمي بها / إلى ظلمات صبحها غير مسفر
كذلك محيي الدين إذ غاله الردى / فأطفأ منه نيًرا أيّ نيّر
عليك العفا بيروت هل لك بعدما / قضى فيك محيي الدين من متصبّر
فتىً كان ركناً فيك للعلم والحجا / وغرّ القوافي والكلام المحبّر
فقدنا به صلت الجبين مهذّباً / كريم سجايا النفس عفّ المؤزّز
لقد عاش شيخاً في العلوم مقدّماً / فما ضرّه أن مات غير معمّر
وما مات من أبقى له طيّب الثنا / لدى الناس من بادٍ ومن متحضر
نعاه لي الناعي فكان كأنه / لدى نعيه أهوى إليّ بخنجر
ولو لم يكن شدّي الحيازيم دونه / خررت كما خرّ الصريع لمنخر
خليليّ عوجا بي على قبر ماجد / بيروت يحوي كل فضل ومفخر
قفا نحتقر دمع العيون تجلّةً / لمن فيه من ذاك الجليل الموقّر
ونتدب في ملحوده المجد والعلا / ونسقيه غيث الدمع من كل محجر
عسانا بذا نقضي له بعض حقّه / وإن جلّ أن يقضى بدمع محقر
مضى عبد وّهاب الهبات لربّه
مضى عبد وّهاب الهبات لربّه / فللهّ من ماض إلى ربّه حرّ
مضى وهو محمود الخصال مخلّفاً / له عندنا آثار أخلاقه الغرّ
مضى وله في كل قلب مكانةٌ / تديم له ذكراه بالحمد والشكر
كذلك كّنا معه قبل وفاته / نبجّله في السرّ منّا وفي الجهر
وما زادنا إلاّ أسىَ بفراقه / فأمسى الأسى فينا له مالئ الصدر
إذا ما ذكرناه تفوح خلاله / فننشق من تذكاره أطيب النشر
ونلجأ عند الأدّكار إلى البِكا / ونفزع من بعد البكاء إلى الصبر
أخا سالم ما زلت عندي سالماً / وإن كان منك الشخص غيّب في القبر
تمثّلك الذكرى لعينَّى جالساً / تحدثّنا عّما أهمّ من الأمر
وتمزح طوراً ثم تنصاع ذاهباً / إلى الجدّ تغري بالحقيقة من تغري
فنغضب أحياناً ونطرب تارة / وأنت على الحالين مبتسم الثغر
وأنشدك الشعر الحقيقي تارة / فتطرب من ذكر الحقيقة في شعري
طواك الردى عنّي وشخصك لم يزل / بذكراك بعد الطيّ متصل النشر
فما أنت ميتاً إذ خيالك سانح / مدى العمر نصب العين في سانح الفكر
ولا عجب إن الحياة خيالة / فلا فرق عندي بين شخصك والذكر
سأنثر دمعي فيك نثر لآلىءٍ / وأنظم شعري في رثائك من درّ
لعلّي بذا أقضي إخاءك حقّه / وإن كان لاُ يقضى بنظم ولا نثر
بكى الفضل لما أن قضى نحبه جبر
بكى الفضل لما أن قضى نحبه جبر / وليس لكسر الموت في طبّنا جبر
طوى الموت من جبر بن ضومط فاضلا / لغرّ المساعي كان في عيشه نشر
مضى بعدما أمضى حياةً سعيدة / تبسم فيها العلم والفضل والفخر
وخَلف آثاراً خوالد بعده / يطيب له مدّ الزمان بها ذكر
على اللغة الفصحى أياديه جمّةٌ / وآثاره في نشر آدابها غر
وما كان يبدي الرأي فيها مقِلّداً / ولكن له الإبداع والفكرة البكر
وما كان في استقرائه العلم جامداً / ولكنه في العلم كان له فكر
يشقّ حجاب المشكلات برأيه / كما شقّ بردّ الليل مذ طلع الفجر
ومن شك فلينظر بكلّ مدينة / تلاميذه من بعده فهم كثر
ليبصر منهم من حجاه مثقّفٌ / ومن لفظه درّ ومن علمه بحر
رزئناه في كلّية العلم هادياً / يضيء به للعلم في أفقها بدر
سيبكيه في كلية العلم منبر / ويرثيه من أبنائها النظم والنثر
فواجعنا في ذي الحياة كثيرةٌ / وأفجعها أن يفقد العالم الحبر
ألا إنما هذي الحياة رواية / يمثلها في كل يوم لنا الدهر
ولو لم تكن للفاجعات فصولها / ممثّلةً ما كان آخرَها القبر
كتبت لنفسي عهد تحريرها شعرا
كتبت لنفسي عهد تحريرها شعرا / وأشهدت فيما قد كتبت الدهرا
ومن بعد اتمامي كتابة عهدها / جعلت الثريا فوق عنوانه طُغرى
وعلّقته كي لا تَناوّلَه يدٌ / بمنبَعَث الأنوار من ذروة الشعرى
لذاك جعلت الحق نصب مقاصدي / وصيّرت سرّ الرأي في أمره جهرا
وجرّدت شعري من ثياب ريائه / فلم أكْسُه إلا معانَيه الغُرّا
وأرسلته نظماً يروق انسجامه / فيحسبه المصغي لانشاده نثرا
فجاء مضيئاً ليله كنهاره / وإن كان بعض القوم يزعُمُه كفرا
اضّمنه معنى الحقيقة عارياً / فيحسّبه جُهالها منطقاً هُجرا
ويحمله الغاوي على غير وجهه / فيُوسعني شتماً وينظرني شزرا
رويدك أن الكفر ما أنت قائل / وأن صريح العُرف ما خِلتًه نُكرا
هل الكفر إلا أن ترى الحق ظاهراً / فتضرب للإنظار من دونه سترا
وأن تُبصر الأشياء بيضاً نواصعاً / فتُظهرها للناس قانية حمرا
إذا كان في عُري الجسوم قباحةٍ / فأحسن شئ في الحقيقة ان تَعرى
فيُبصرها من مارست عينه عمىً / ويسمعها من كابدت أذنه وَقرا
أحبّ الفتى أن يَستقلّ بنفسه / فيُصبِحِ في أفكاره مطلقاً حرّا
وأكره منه أن يكون مُقلِّداً / فيُحشَرَ في الدنيا اسيراً مع الأسرى
وما هذه الأوطان إلاّ حدائق / بها تُنبت الأفكار من أهلها زهرا
وما حُبّها إلا لأجل تحرّر / يكون إلى العَلياء بالناس مُنْجَرّا
وما حسنها إلاّ بأنّ سماءها / تضاحك من أحرارها أنجماً زُهرا
إذا كان في الأوطان للناس غاية / فحّرية الأفكار غايتها الكبرى
فأوطانكم لن تستقلّ سياسة / إذا أنتم لم تستقلّوا بها فكرا
إذا السيف لم يَعضُده رأيٌ محرَّر / فلا تأملنْ من حدّه ضربة بكرا
سواء على الإنسان بعد جموده / أحلّ بقفر الأرض أم سكن المصرا
إذا لم يَعش حرّاً بموطنه الفتى / فسمّ الفتى ميْتاً وموطنه قبرا
أحرّيتي إني اتخذتكِ قِبلةً / أوجّه وجهي كل يوم لها عشرا
وأمسك منها الرُكَنَ مستلماَ لهُ / وفي ركنها استبدلت بالحَجَر الحِجْرا
إذا كنت في قفر تخذتك مؤنساً / وإن كنت في ليل جعلتك لي بدرا
وإن نابني خطب ضممتك لاثماً / فقبّلت منك الصدر والنَحرَ والثغرا
وإن لامني قوم عليك فإنني / لملتمس للقوم من جهلهم عذرا
أمارِس دهراً من جديدَيّ داهرا
أمارِس دهراً من جديدَيّ داهرا / وما زال ليلي بالعراقَين ساهرا
أبى الحق إلاّ أن أقوم لأجله / على الدهر في كل المَواطن ثائرا
وأن أتمادَى في جدال خصومه / وأقرعَ منهم بالبيان المُكابرا
وإني لأهوى الحق كالطِيب ساطعاً / وكالريح هَبّاباً وكالشمس ظاهرا
ستَبقى لنفسي في هواه سَريرة / إذا الدهر أبْلى من بنيه السرائرا
وتَكره نفسي أن أكون مخادعاً / لأدرك نفعاً أو لأدفع ضائراً
ومن أجل مقتي للمخانيث أنكرت / يدي أن تُحَلّىَ في الجنان أساورا
وما العَجز إلا أن أكون مُكاتِما / إذا ما تَقاضتني العلا أن أجاهرا
وما أنا ممّن يُبْهِم القَول لاحناً / فيُضمرَ فيه للجليس الضمائرا
ولولا طُموحي في الحياة إلى العلا / سكنت البوادي واجتنبت الحَواضرا
يقولون لي في مصر للعلم نهضة / تُفَتِّق أذهاناً وتجلو بصائرا
وإن بها للعلم قَدراً وحُرمة / وإن بها للحق عوناً وناصرا
وإن لأهل العلم فيه نوادياً / وإن لأهل الفضل فيها دساكرا
ألم تر أن القوم في كل مَحفِل / بها رفعوا للقائلين المنابرا
وقد ضربوا وعداً لتكريم شاعر / تملّك صِيتاً في الأقاليم طائرا
هو الشاعر الفحل الذي راح شعره / بانشاده في البَرّ والبحر سائرا
فلو قلتَ بعض الشعر في يوم حَفْلهم / تَشُدّ به منَا لمصر الأواصرا
فقلت أجل والشعر ليس بمُعجزي / ولن تَعدَموا مني على الشعر قادرا
ألا أن شوقي شاعرٌ جِدُ شاعر / يفوق الأوالي بل يَبُزّ الأواخر
تَمَلّك حرّ الشعر فهو رَقيقه / وقام عليه بالذي شاء آمرا
إذا رام جَزْلاً منه أنشد زاخِراً / وأن رام سَهلاً منه أنشد ساحرا
فلا عجب من أهل مصر وغيرهم / إذا عقدوا منهم عليه الخناصرا
بَنى لهم مجداً رَفيعاً بشعره / لذا جعلوا حسن الثناء وكائرا
ولكنني قد أنظر الحفلة التي / تُقام له ذا اليومَ في مصر ساخرا
إذا احتفلت مصر بشوقي فمالها / تُقيم على الأحرار في العلم حاجرا
فقد أسمعتنا ضَجّة أمطرت بها / عليّاً وطه حاصباً مُتطايرا
فما بال هذا عُدَّ في مصر مارقاً / وما بال هذا عدّ في مصر كافرا
إذا لم تك الأفكار في مصر حرّة / فليس لمصر أن تُكَرّم شاعرا
أيُرفِع قَدْر العلم يَنطِق ناظماً / ويُوضَع قدر العلم ينطق ناثرا
ويَختَص بالتبجيل من جاء مُنشداً / ويُقذَف بالتَجْهيل من جاء فاكرا
ألا أن هذا الشعرِ ليس بطائل / إذا كان عمّا يبلغ العلم قاصرا
كما أن هذا العلم ليس بنافع / إذا لم تكن فيه النفوس حرائرا
وتكريم ربّ العشر ليس بمفخر / لمن كان عن حرّية الفِكر جائرا
وإلاّ فعصر الجاهلية قبلنا / له السَبق في تكريم من كان شاعرا
هو الدهر لم يترك مَشَنَّ غِواره
هو الدهر لم يترك مَشَنَّ غِواره / على سابق من ليله أو نهاره
يثير غبار الحادثات بكَرِّه / وهل نحن إلاّ من مُثار غباره
وكم عِبَر مطويّة في صورفه / فهل من مُجيل فيه طرف اعتباره
خليليّ أن الأرض غربال قُدرة / تجمّعت الأحياء بين اطاره
تَميد به كفّ الزمانِ تحرّكاً / لمَحْوِ ضعيف أو لأثبات فاره
فيبقى به الأقوى قرين ارتقائه / كما يسقط الأوهى رهين اندثاره
فلا عيش في الدنيا لمن لم يكن بها / قديراً على دفع الأذى والمكاره
لعمرك ما هذه الحياة بملبَس / لمن حيك من عجز نسيج شعاره
ولكن لمن أمسى بأيْد وقوّة / يجرّ على الأيام فضلَ ازاره
أرى الشمس يُخفي ضوءُها كل شارق / وإن كان ينبو الطَرْف عن مستناره
وما ذاك إلاّ أنّها في تَّلَهُّب / يموج بنور ساطعَ وقْد ناره
فلم يستطع نجم طلوعاً تجاهها / إذا لم يَعُذْ بالليل غبَّ اعتكاره
كذاك ضعيف القوم أن كان جاره / قوياً يكن شِلواً أكيلاً لجاره
وما الليث لولا بأسه في عرينه / بأشرفَ من ضبّ الفلا في وجاره
ومن غاوره اليام غيرَ مُدجَّج / فلا يطعمَنْ في مَغنَم منَ مَغاره
ومن لم يُهِن صَرْف الزمان برحلة / تُهِنْهُ صروف الدهر في عُقر داره
وما شرفُ الدرِ الثمينِ فريدُه / إذا هو لم يَبْرَح بطون مَحَاره
أرى كل ذي فقر لدى كل ذي غنىً / أجيراً له مستخدَماً في عَقاره
ولم يعطه إلاّ اليسير وإنما / على كدّه قامت صروح يَساره
ويلبس من تذليله العزّ ضافياً / وينظره شزراً بعين احتقاره
يَشُدّ الغنى أزر الفتى في حياته / وما الفقر إلا مكسرٌ في فقاره
وليس الغنى إلاّ غنى العلم أنه / كنور الفتى يجلو ظلام افتقاره
ولا تحسَبنّ العلم في الناس مُنْجياً / إذا نكَّبَت أخلاقهم عن مناره
وما العلم إلاّ النور يجلو دجى العمى / ولكن تَزوغ العين عند انكساره
فما فاسد الأخلاق بالعلم مُفْلِحاً / وإن كان بجراً زاخراً من بحاره
سل الفلك الدوّار عن حركاته / فهل هو فيها دائر باختياره
وهل هو في هذا الفضاء مسافر / له غاية مقصودة من سِفاره
وهَبْنا جهلنا بدأه من تقادم / فهل يدرك العقل انتهاء مداره
متى ينجلي ليل الشكوى عن النُهى / وترفع كفُّ العلم مُرْخى ستاره
ألا وَرْيَ في زند الزمان فنهتدي / بسقط ضئيل من سقيط شراره
أرى الدهر ليلاً كلّه غيرَ مُبصر / وإن كان في رَأد الضحا من نهاره
وأهليه ساروا خابطين ظلامه / وإن ركبوا في السير متن بخاره
لعمرك أن الدهر يجري لغاية / فإن شئت أن تحيا سعيداً فجاره
وها هو ذا يعدو فيبتدر المدى / وينهب أعمارَ الورى في ابتداره
لقد فاز من بارى جديده جدّةً / وخار الذي في جدّة لم يباره
وليست حياة الناس إلاّ تجِدّداً / مع الدهر في إيباسه واخضراره
وما الناس إلاّ الماء يحييه جَرْيُه / ويُرديهُ مكث دائم في قراره
لك الخير هل للشرق يقظة ناهض / فقد طال نوم القوم بين دياره
ألم تر ان الغرب أصلت سيفه / عليهم وهم لاهون تحت غِراره
وبادرهم كالسيل عند انحداره / وهم في مهاوي غفلة عن بِداره
أما آن للساهين أن يأبهو له / وقد أصبحوا في قبضةٍ من اساره
تراهم جميعاً بين حيران واجمٍ / وآخر يُطري ماضياً من فَخاره
حَبَبْت العلا منذ الصبا حبّ شاعر
حَبَبْت العلا منذ الصبا حبّ شاعر / وقمت إليها ساعياً سعيَ قادر
أأقدِر فيها أن أصيخ للأئم / وقد ملكت مني جميع المشاعر
تقول ابنة الأقوام وهي تلومني / وأدمعها رَقْراقة في المحاجر
إلى كم تُجدّ البَيْن عنّي مسافراً / أما تستلِذّ العيش غير مسافر
وأسكتها عنّي نشيج فلم تزل / تردّده منها بأقصى الحناجر
إلى أن تفاني الصبر فافترّ مَدمعي / كمدمعها عن لؤلؤ مُتناثر
ولا غروَ أن أبكي أسىً من بكائها / فأعظم ما يشجي بكاء الحرائر
وقلت لها أني امرؤ لي لُبانة / مَنوط مداها بالنجوم الزواهر
تعوّدت أن لا أستنيم إلى المني / وأن لا أرى إلاّ بهيئة ثائر
وأن أُمضِيَ الهمّ الذي هِو مُقلقي / بطيّ الفيافي أو بخَوْض الدياجر
أما تَرَيِنّ الوجه مني شاحباً / لكثرة ما عرّضته للهواجر
ولست أبالي أنني عادم الغنى / إذا كان جَدّي في العلا غير عائر
ذريني أزُرْ في هَضْب لُبنان أربعاً / تعالت بحيث العزّ مُرخَى الضفائر
بحيث أرى تلك الليوث خوادراً / تسارق ألحاظاً عيونَ الجآذر
ليوث إذا ما عَبَّست في مُلِمَّة / تبسّمَت الدنيا تبّسُم ناصر
وألقت جُيوش الفاخرين سلاحها / إذا خفقت راياتها بالمفاخر
فأكرم بلبنان مَقَرّاً لِنابهٍ / ومأوىً لمنكودٍ ومَهدىً لحائر
ألا إنما لبنان في الأرض عاهل / تَبّوَأ عرشاً من جليل المآثر
وزحلة في لبنان تاج لرأسه / قد أزدان من أبنائها بالجواهر
وما هي إلا روضةٌ أنبتت له / أزاهير من تلك الحسان الغرائر
أزحلة إني تارك فيك مهجتي / تُعاطيك منَ بعدي محبّة شاكر
فتشكرك الشكر الذي أنتِ أهله / طَوالَ الليالي خالداً في الدفاتر
وفاء أمرىء ما عوّد الغدرَ نفسه / ولا وَدّ إلاّ مخلصاً في الضمائر
ومن عجب أن الشُوَ يعر لامني / ببيروت لوم الشاتم المتجاسر
ومَن كان مثلي شاعراً لا تَسُوءُه / مقاذعةٌ جاءته من متشاعر
على أنني من عاذريه وأن يكن / لي الحق في عذري له غير عاذر
وكم في رُبا لبنان من ذي فصاحة / مُجيدٍ بيوم الحفل قَرْع المنابر
ومن أهل آداب كشارقة الضحى / ومن أهل علم كالبحار الزواخر
وبيضاء أغناها عن الحلي ثغرها
وبيضاء أغناها عن الحلي ثغرها / بسِمطَيْن من درّ مضيئين في الثغر
إذا ابتسمت في ظلمة الليل أشرقا / فعُدنا من الآمال في أنجم ُزهر
نرى وجهها بدراً محاطاً من السَنى / بصبحَيْن من ثغر وضيءٍ ومن نحر
يذكرني من مطلع الشمس شعرُها / ذوائبَ تُرخَى من أشعّتها الصفر
تراءت فأما نفسها فحزينة / وأما مُحيّاها فكالكوكب الدرّي
بدت في ِحداد ترسل الطرف وانياً / يُغَضّ على وجد ويُفتح عن سحر
رأيت بها بدراً تردّى ُدجُنّةً / غداة أُميط السجف من جانب الخِدر
فكانت لها سود الجلابيب ِحليةُ / ولا عجبٌ أن الدجى من حِلى البدر
تَبَسَُّ حيناً ثم تُجهش بالبكا / فمن لؤلؤٍ تُبدي ومن لؤلؤ تُذري
كأن تلاميح الأسى في جبينها / بقايا ظلام الليل في غُرّة الفجر
وكم أبصرت عيناي لما تنهّدت / تموُّح بحر الحب من عاصف الهجر
فقد كان منها الصدر يعلو ويرتمي / فيبعث بي شجواً يموج به صدري
ومما شجا نفسي ذُبول بخدّها / كما ذبلت في بيتها باقة الزهر
ولما أنقضى صبري وقفت تجاهها / اُسائل عما ناب من نُوَب الدهر
فقالت وقد ألقت على الصدر كفّها / تشدّ ضلوعاً ينطوين على جمر
لك الخير من حرّ يسائل حرّة / شَكَت هجر بعل لم يكن بالفتى الحرّ
سقاني بكأس الحب حتى شرِبتها / ولم أدر أن الحب ضرب من الخمر
فلما رآني قد سكِرت بحبّه / صحا قلبه من حيث لم أصحُ من سُكري
ألا أن قلبي اليوم إذ مسّه الجَوى / وإذا مال بعلي في هوايَ إلى الغدر
ليَفزَع ممن يدّعي الحبَّ قلبُه / كما فزِعت قُمريّة الروض من صقر
على أن قلبي لم يعُد عنه صابراً / ألا لا أمال اللّه قلبي إلى الصبر
إذا شرقت شمسي تناسيت ذكره / وأن جنّ ليلي بتّ منه على ذُكر
وأني على ما نابني من جفائه / لأقنع منه بالخيال الذي يَسري
ولما شكت لي حُرقةً في فؤادها / ترقرق دمع العين في خدّها يجري
أرى قَطَراتِ الدمع في وَجَناتها / فأحسبها الياقوت رُصّع بالدرّ
هنالك ألقت راحتَيْها بوجهها / تُكَفكِف أسراباً من الدمع بالعشر
وقالت وقد كان النَشيج يصدّها / عن القول إلاّ عن كلام لها نَزر
سأحمل ما قد حَمَّلَتني يد الهوى / من الوجد حتى يحملوني إلى القبر
فقلت أما واللّه لو أن لي يداً / على كل حكم جاء من ظالم الدهر
لشدّدت في زجر المحبّين أن جَفَوْا / وعاقبت منهم من يميل إلى الهجر
تبلَج أفق الشرق من بعدما اغبرّا
تبلَج أفق الشرق من بعدما اغبرّا / وكشّر عن صبح الأمانيَ مفتّرا
ولو كان صبحاً ناصع اللون سرّني / وبرّد حرّاً كان في كبِدي الحرّى
ولكنه صبح يلوح لناظري / بحاشية الزرقاء كالدم محمرّا
أراه كوجه الغادة الخَود راقني / بحسن ولكن قد تجهّم وازورّا
لمحت تباشير المنى من خلاله / ضئالاً كمهوك غدا يشتكي الضُرّا
ولم أدرِ لما استبهمت اخرياته / أ أطمع أم أستشعر اليأس مضطرّاً
ولو كنت أدري ما وراء احمراره / لسَرّى عن النفس الكئيبة ما سرّى
ولكنّه ورّى عواقب أمره / فزادت شكوك النفس من أجل ما ورى
يُهامسني بالوعد قولاً مجمجماً / كأن هو يخشى أن أذيع له سرّا
وإني لأخشى أن أكون بوعده / وإن أسفرت أوصاحه الغُرّ مغترّا
وما كل صبح يرتجي الناس خيره / ولا كل ليل مظلم يُضمر الشرّا
فإن كنت يا صبح الأمانيِّ صادقاً / بوعد فحيّا الله طلعتك الغرّا
خليلي هل من عاذرٍ في قصيدة / أقول بها حقاً وإن قلته مُرّا
أرى هَبوة سوداء في الجوّ أسبلت / حجاباً بآفاق العراقَيْن مُمترّا
وأرخت بأرض الشام منها على الرُبا / سدولاً بها جوّ السماء قد اغبرّا
ومدّت على بيروت منها غَيابةً / بها عاد وجه الأفق أسفع مُكدرّا
وما هي إلاّ عارض من تناكر / به مربَع الآمال أقفر واقَورّا
ترى القوم فيه نَوؤهم متخاذل / وآمالهم أمست كتيبتها فُرى
عجبت لقوم أصبحوا يُنكروننا / وقد عرَفونا في الزمان الذي مَرا
همو أسمعونا نعرة عربية / فدوّى صداها في المسامع مُصطرّا
فكم من خطيب قام فيها مثرثراً / فطرّى لنا من يابس القول ما طرّى
وكم شاعر قد أرخص الشعر دونها / وكم قلم فوق الطروس بها صرّا
وكنا أجبناهم إليها إجابةً / بها قد تركنا جانب الدين مزورّا
رجاء اتحاد في طريق سياسة / تعُمّ مراميها بني يعرب طُرّا
فمذ حان أن يخضلّ غصن اعتزازنا / ويرتع بعد اليبس رطباً ويخضرا
نصبنا خياشيم الرجاء لريحهم / فهّبت لنا نكباء عاتية صرّا
لعمري لقد ساء الكرام ابن غانم / بباريس إذ قد قال ما يُخجل الحرا
نفى عن مناميه العروبة وادّعى / جُزافاً وخلّى منهج القوم وابترّا
وهل حسِبوا أن العروبة في الورى / من العَرّ حتى أنكروا ذلك العرّا
كأن لم يقم من بينهم ناعرٌ بها / ولم يك ضرّانا بها أمسَ من ضرّى
فما أحد منهم وفى بعهوده / ولا أحد منهم بما قال قد برّا
وكان غروراً كل ما حالفوا به / وشرّ الحليفَين الذي خان أو غرّا
وعاد الذي كنا نؤمَل مُنهم / إلى غير ما كنّا نؤمل منجرّا
وقد صوَّحت تلك الأمانيّ كلها / فحاكت نبات الأرض إذ هاج مصفرّا
وأصبح فينا شامتاً كل من غدا / لأبناء قنطوراء يغضب ممقرّا
خطاب يهودا قد دعانا إلى الفكر
خطاب يهودا قد دعانا إلى الفكر / وذكَّرنَا ما نحن منه على ذُكر
ومجَّد ما للعُرب في الغرب من يدٍ / وما لبني العباس في الشرق من فخر
لدى محفِل في القدس بالقوم حافلٍ / تبَّوأه هرير صموئيل في الصدر
دعاهم رئيس القدس ذو الفضل راغب / إليه فلَبَّوْا دعوة من فتىً حرّ
فأمسَوْا وفي ليل المحاق اجتماعهم / يحفّون من هرير صموئيل بالبدر
فياليلة كادت وقد جَلَّ قدرها / تكون على علاّتها ليلة القدر
ولما تناهى من يهودا خطابه / وقد سرّنا من حيث ندري ولا ندري
تصّدى له هرير صموئيل ناطقاً / بسحر مقال جلّ عن وصمة السحر
فصدّق ما للعرب من تالد العلا / وما لهم في العلم من خالد الذكر
وزاد بأن أوما إلى ما لصنعهم / على صخرة البيت المقدس من أثر
وقال وقد أصغى له القوم إننا / سنَرْأب ما أثأتْه منكم يد الدهر
ونُنْهضكم في منهج العلم نهضةً / مقَوّمةً مَا اعْوَجّ فيكم من الأمر
فكانت لهذا القول في القوم هِزّةٌ / سروريّة من دونها هزّة السكر
حنانَيْك يا هربر صموئيل كم لنا / على الدهر من حق مضاع ومن وِتْر
لنا قلَب الخَؤون مِجَنّه / وكرّ علينا لابساً جلدة النمر
وأغرى بنا الأحداث مُبْتكِراً لها / فلم يأتنا إلا بحادثة بِكر
وقد أفنَت الأيام كل عَتادنا / سوى ما ورثنا من إباءٍ ومن صبر
فلسنا وإن عضّت بنا اليوم نابُها / نقرّ على ذلّ وننقاد عن ذُعر
فَمن سامَنا قسراً على الضيم يلقَنا / مصاعيب لا تُعطي المقادة بالقسر
لنا أنفس تحيا بثروة عزّها / وإن نشأت بين الخَصاصة والفقر
إذا نحن عاهدنا وفَيْنا ولم نكن / إذا ما ائتُمنّا جانحين إلى الخَتْر
فإن شئت يا هربر صموئيل فاختبر / خلائق منا لا تميل إلى الغَدْر
وعَدَت فأمسى القوم بين مشّكِك / ومنتظر الإنجاز منشرح الصدر
فكذّب وأنت الحرّ مَن ساء ظنّه / فقد قيل إن الوعد دّين على الحرّ
ولسنا كما قال الألى يُتهِموننا / نُعادي بني اسرال في السرّ والجهر
وكيف وهم أعمامنا وإليهم / يمت بإسماعيل قِدماً بنو فهر
وإني أرى العُربيَّ للعرب ينتمي / قريباً من العِبريّ يُنمى إلى العِبر
هما من ذوي القُربى وفي لغتَيْهما / دليل على صدق القرابة في النَجْر
ولكننا نخشى الجلاء ونتّقي / سياسة حُكم يأخذ القوم بالقهر
وهل تثبت الأيام أركان دولة / إذا لم تكن بالعدل مشدودة الأزر
وها أنا قبل القوم جئتك معلناً / لك الشكر حتى أملأ الأرض بالشكر
هو النصر معقود برايتنا الحمرا
هو النصر معقود برايتنا الحمرا / على أنه في الحرب آيتنا الكبرى
حليفان من نصر مبين وراية / به وبها نعلو على غيرنا قدرا
لئن أدبر الطليان عند كفاحنا / فإن لهم في بطش شُجعاننا عذرا
فإنا لقوم إن نهضنا لحادث / من الدهر أفزعنا بنهضتنا الدهرا
ندُك هضاب الأرض حتى نثيرها / غُباراً على أعدائنا يكثح الذعرا
ونأكل مُرّ الموت حتى كأننا / نَلوك به ما بين أضراسنا تمرا
فسل جيش كانيفا بنا كيف قَوَّمت / شِفار مواضينا خدودهم الصُعرا
وكيف هزمناهم فَولَّوْا كأننا / وإياهم أسد الشَرى تَطرد الحُمرا
وكم قد نثرنا بالسيوف جماجماً / نظمنا بها فوق الثرى للعدى شعرا
وما جزعي للحرب يَحمَى وطيسها / ولكن لأرواح بها أزهقت صبرا
لك الله يا قتلى طرابلس التي / بها حكَّم الطليان أسيافهم غدرا
أداموا بها قتل النفوس نكايةً / إلى أن اصاروا كل بيت بها قبرا
ولما أحاط المسلمون بجيشهم / فعاد الفضاء الرحب في عينه شِبرا
تقهقر يبغي في الديار تحصُّناً / فقرَّبها من خشية الموت واستذرى
وأصبح ينكي أهلها من تغيُّظ / فيقتلهم صبراً ويُرهقهم عسرا
فأوسعهم بالسيف ضرباً رقابَهم / وآنافَهم جَدعاً وأجوافهم بَقرا
وما ضرّ كانيفا اللعين لو أنه / تقحمّ في الهيجاء عسكرنا المجرا
أيُحجم عنا هارباً بعُلوجه / ويبغي بقتل الأبرياء له فخرا
وهل حسِبوا قتل النساء شجاعة / وقد تركوا عند الرجال لهم ثأرا
لقد شجُعوا والموت ليس له يد / ولم يَشجُعوا والموت يطعنهم شزرا
يعِزّ على أسيافنا اليوم أنها / تقارع قوماً قرعهم بالعصا أحرى
ولم تك لولا الحرب تعلو سيوفنا / رءوسا نرى ملء القحوف بها عهرا
ومن مبكيات الدهر أو مضحكَاته / لدى الناس حرٌّ لم يكن خصمه حرا
لئن أيها القتلى أريقت دماؤكم / فما ذهبت عند العدى بعدكم هدرا
سنثأر حتى تسأم الحرب ثأرنا / ونقتل عن كل امرئ أنفساً عشرا
وإني لتغشاني إذا ما ذكرتكم / لواعج حزن ترتمي في الحشا جمرا
على أن قرص الشمس عند غروبها / يذكرني تلك الدماء إذا احمرّا
فأبكي تجاه الغرب والبدر لائح / من الشرق حتى أُبكي الشمس والبدرا
ويا أهل هاتيك الديار تحيّةً / توفّيكم الشكر الذي يرأس الشكرا
فقد قمتم للحرب دون بلادكم / تذودون عن أحواضها البغي والنُكرا
وثرتم أسوداً في الوغى يعرُبيّةً / غدا كل سيف في براثنها ظُفرا
تراها لدى الحرب العوان مُشيحةً / تُهَمهم حتى تُنطق الفتكة البكرا
ولو أن كَفّي تستطيع تناوُشاً / فتبلغُ في أبعادها الأنجم الزُهرا
لرتّبت منها في السماء قصيدة / لكم واتخذت البدر في رأسها طُغرى
وخلّدتها آياً لكم سَرمديّةً / مدائحها تستوعب الكون والدهرا
يقولون إن العصر عصر تمّدن / فما باله أمسى عن الحق مُزورا
إلى الله أشكو في الورى جاهليّة / يَعدّون فيها من تمدّنهم عصرا
أتتنا بثوب العلم تمشي تبختُراً / إلى الخير لكن قد تأبّطت الشرا
فلا تلتَمِظ في مدحها متمطِّقاً / فإن أظهرت حلواً فقد أبطنت مرا
لقد ملك الإفرنج أرض مراكش / وقد ملكوا من قبلها تونس الخضرا
ففاجأنا الطليان من بَعد مُلكهم / لكي يسلبونا في طرابلس الأمرا
وقالوا ألم تأت الفرنجة تونسا / وهذي جيوش الإنكَليز أتت مصرا
فخلُّوا لنا ما بين هذي وهذه / وإلاّ قسرناكم على تركها قسرا
فقلنا لهم إنا أحقّ بمُلكها / فقالوا ولكن زند قُوّتنا أورى
أهذا هو العصر الذي يدّعونه / فسحقاً له سحقاً ودفراً له دفرا
خليليّ قوما بي لنشهد للربا
خليليّ قوما بي لنشهد للربا / بجانبَي البسفور مشهد اسرار
أجيلاً معي الأفكار فيها فإنها / مجال عقول للأنام وأفكار
خليليّ أن العيش في ماء شرشر / إذا الشمس تستعلي وفي ماء خنكار
سفوح جبال بعضها فوق بعضها / مكلّلة حافاتهنّ باشجار
يروق بجنبيها خرير مياهها / ويشجى بقطريَها ترنّم أطيار
ويجري النسيم الرطب فيها كأنه / تبختر بيضاء الترائب معطار
معاهد زرها قي الهواجر تلقها / موشحة فيها برقة أسحار
نزلنا بها والشمس من فوق أرسلت / على منحنى الوادي ذوائب أنوار
وقد ظلّ من بين الغصون شعاعها / يوقّع دينارً لنا جنب دينار
كأنّ التفاف الدوح بينها / جيوب من الأنوار زرًت بأزرار
تميل إذا هبّ النسيم غصونها / فتأتي بظلّ في الجوانب موّار
ترانا إذا ما الطير في الودح غرّدت / نميل بأسماع إليها وأبصار
رياض تنسّمنا بها الريح ضحوةً / فنمّت لنا من طيبهنّ بأسرار
يلوح بها ثغر الطبيعة باسماً / فيفترّ منها عن منابت أزهار
مشاهد في تلك الربا ومناظر / تجلت على أطرافها قدرة البارى

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025