دعوتَ خيالي فاستجابتْ خواطري
دعوتَ خيالي فاستجابتْ خواطري / وحدَّثني قلبي بأنكَ زائرِي
عشيَّةَ أغرى بي الدُّجى كلَّ صائحٍ / وكلَّ صدىً في هَدأةِ الليلِ عابرِ
أقولُ مَنِ السَّاري وأنت مُقاربي / وأهتفُ بالنجوى وأنتَ مُجاورِي
أحسُّكَ مِلءَ الكون رُوحاً وخاطراً / كأنَّك مبعوثُ الليالي الغوابرِ
ومثَّل لي سمعي خُطاكَ فخِلتُها / صَدَى نبأٍ من عالم الغيبِ صادرِ
سوى خطراتٍ من بنانٍ رفيقةٍ / طَرَقْتَ بها بابي فهبَّتْ سرائرِي
عرفتُكَ لم أسمعْ لصوتِكَ نبأةً / وشمْتُكَ لم يَلمحْ محيَّاكَ ناظرِي
أرى طَيْفَ معشوقٍ أرى روحَ عاشقٍ / أرى حُلمَ أجيالٍ أرى وجهَ شاعرِ
إليْكَ ضِفافَ النيل يا روحَ حافظ / فجدِّد بها عهدَ الأنيسِ المُسامرِ
وساقِط جَنَاها من قوافيكَ سلسلاً / رخيماً كأرهامِ الندى المتناثرِ
سرَت فيه أرواحُ النَّدامى وصفَّقتْ / كؤوسٌ على ذكرِ الغريب المسافرِ
نَجيَّ الليالي القاهريَّات طُفْ بها / خيالةَ ذكرى أو عُلالة ذاكرِ
وجُزْ عَالمَ الأشباح فالليل شاخصٌ / إليكَ وأضواءُ النجومِ الزَّواهرِ
وطالِعْ سماءً في مَعَارجِ أُفقها / مَرحت بوجدانٍ من الشِّعر طاهرِ
وسَلسَلتْ من أندائها وشُعاعِها / جَنى كرْمةٍ لم تحوِها كفُّ عاصرِ
تدفقَ بالخمر الإلهيِّ كأسها / فغرَّدَ بالإلهام كلُّ مُعاقرِ
على النيل روحانيةٌ من صفائها / ولألاءُ فجر عن سنا الخُلد سافرِ
فصافحْ بعينيك الديار فطالما / مددتَ على آفاقِها عين طائرِ
وخذ في ضفافِ النهر مسراك واتَّبعْ / خطى الوحي في تلك الحقول النواضرِ
حدائقُ فرعونَ بدفاقِ نهرها / وجنَّتهُ ذاتُ الجنى والأزاهرِ
وفي شُعَبِ الوادي وفوقَ رماله / عصِيُّ نبيٍّ أو تهاويلُ ساحرِ
صوامِعُ رُهبان محاريبُ سُجَّدٍ / هياكِلُ أربابٍ عروشُ قياصرِ
سَرى الشعرُ في باحاتها روحَ ناسكٍ / وترديد أنفاس ونجوى ضمائرِ
وهمسَ شِفاهٍ تثمَلُ الروح عندهُ / وتسبحُ في تيهٍ من السِّحر غامرِ
هو الشعر إيقاع الحياة وشدوُها / وحُلْمُ صِباها في الرَّبيع المباكِرِ
وصوتٌ بأسرارِ الطبيعةِ ناطقٌ / ولكنه روحٌ وإبداعُ خاطرِ
ووثبةُ ذِهنٍ يَقنصُ البرقَ طائراً / ويغزو بروجَ النَّجْمِ غيرَ مُحاذِرِ
فيا دُرَّةً لم يحوِها تاجُ قيصر / ولا انتظمتْ إلَّا مفارقَ شاعرِ
تألَّه فيكِ القلبُ واستكبرَ الحِجى / على دَعَةٍ من تحْتها روحُ ثائرِ
إذا اعترضَ الجبَّارُ ضوءَكِ شامخاً / تلقَّيتهِ كبْراً ببَسْمَةِ ساخرِ
لمستِ حديدَ القَيْدِ فانحلَّ نظمهُ / وأطلقتِ أسرَى من براثِن آسِرِ
وما زِدْتِ في الأحداثِ إلَّا صلابةً / إذا النَّارُ نالتْ من كِرام الجواهرِ
يزينُ بكِ الرّاعي سقيفةَ كُوخِه / فتخشَعُ حَيرَى نيِّراتُ المقاصرِ
أضاعوكِ في أرضِ الكنوز وما دَروْا / بأنكِ كنزٌ ضمَّ أغلى الذَّخائرِ
وهُنتِ على مهدِ الفنونِ وطالما / سموتِ بسلطان من الفنِّ قاهرِ
إذا افتقدَ التاريخُ آثار أمَّةٍ / أشرْتِ بما خلَّدتِه من مآثرِ
سلاماً سلاماً شاعرَ النيلِ لم يزلْ / خيالُكَ يَغشَى كلَّ نادٍ وسامرِ
وشعرك في الأفواهِ إنشادُ أمةٍ / تغنَّتْ بماضٍ واستعزَّتْ بحاضِرِ
هتفتَ بها حيَّا فلا تألُ خالداً / هُتافكَ وانفضْ عنكَ صمْتَ المقابرِ
صدَاكَ وإن لم تُرسلِ الصوتَ مالئٌ / سماعَ البَوادي والقُرى والحواضرِ
وذِكراكَ نجْوى البائسين إذا هَفتْ / قلوبٌ وحارت أدمُعٌ في المَحَاجرِ
يَدُلُّ عليكَ القلبَ أنَّاتُ بائسٍ / ونظرةُ محزونٍ وإطراقُ سادِرِ
وما أنتَ إلَّا رائدٌ من جماعةٍ / توالوا تِباعاً بالنفوسِ الحرائرِ
صَحَتْ بادياتُ الشرقِ تحتَ غُبارِهم / على شدْوِ أقلام ولمعِ بواترِ
وفي القِمَمِ الشَّماءِ مِنْ صَرَخاتهم / صدَى الرعدِ في عَصفِ الرياح الثَّوائرِ
يُضيئونَ في أفقِ الحياةِ كأنَّهم / على شطِّها النَّائي منارةُ حائرِ
فيا شاعراً غنَّى فرَقَّ لشجوِهِ / جَفاءُ اللَّيالي واعتسافُ المقادرِ
لكَ الدهرُ لا بل عالمُ الحسِّ والنُّهَى / خميلةُ شادٍ آخذٍ بالمشاعرِ
فنمْ في ظلال الشَّرقِ واهنأ بمضجَعٍ / نديٍّ بأنفاسِ النَّبيِّينَ عاطرِ
ووسِّدْ ثراهُ الطُّهرَ جَنبَكَ وانتظِم / لِداتكَ فيه فهوَ مهْدُ العَبَاقرِ